پان (رواية)
پان Pan هي رواية صدرت في 1894 من المؤلف النرويجي كنوت همسون. وقد كتبها أثناء اقامته في باريس وفي كريستيانساند، النرويج، وقد تأثر فيها همسون مباشرة بأعمال فيودور دوستويڤسكي. وتظل واحدة من أشهر أعماله حتى اليوم.
تتألف رواية «بان» من قسمين أساسيين، أولهما يتألف من مجموعة من الفصول القصيرة المتلاحقة التي تبدو على شكل مقتطفات من ذكريات الملازم توماس غلاهن، الذي يروي لنا هنا حقبة من حياته أمضاها في أقصى الشمال النروجي نحو عام 1855... أما القسم الثاني فيقدم إلينا على شكل حكاية تتحدث عن موت الملازم نفسه في الهند نحو عام 1861، علماً أن من يروي لنا هذه الحكاية، إنما هو الشخص الذي علينا ان نفترض انه هو قاتل الملازم.
إذاً، فنحن هنا، وعلى الأقل في القسم الأول من الرواية، أمام ما يبدو لنا أقرب الى أن يكون كتاب ذكريات لا حكاية فيه ولا أي شيء من هذا القبيل، بل بالأحرى، صورة لمجموعة من المشاعر والأحاسيس وضروب الإثارة يعيشها الرجل، صيغت في قالب شاعري بالكاد يبدو عليه انه يروي أحداثاً. كل ما في الأمر هنا ان الكاتب يضعنا على تماس مباشر في صدد علاقة الانسان بالطبيعة ومخلوقاتها البكر، وصولاً الى علاقته بالمرأة التي تبدو هنا مندفعة غرائزية أكثر مما تبدو مخلوقا عقلانيا. ومن الجلي هنا ان اطلالة الكاتب - من خلال شخصيته الرئيسة - على الطبيعة هي اطلالة تمت بصلة قرابة الى جان - جاك روسو، وإن كانت تبدو أكثر منه رومانسية.
وقد لاحظ النقاد دائماً كيف ان قوة هامسن في تعبيره عن الطبيعة وعلاقة بطله بها، حينما كان يمارس الصيد في الشمال النروجي، تبدو واضحة، على عكس ما هي الحال بالنسبة الى وصف هامسن للحياة الاجتماعية من خلال الكثير من النماذج البشرية التي يعايشها الملازم في مناطق الصقيع تلك. ان هذه النماذج تبدو في نهاية الأمر كاريكاتورية ولكأن الكاتب أراد منها أن تظهر على تناقض تام مع فطرية الطبيعة وبدائية العناصر غير الاجتماعية. وحتى إدواردا فتاة المنطقة وابنة أحد تجارها، والتي يفترض ان تكون بينها وبين الملازم علاقة حب، نجهل تماماً ما إذا كانت مغرمة به... وكأن الكاتب أراد في نهاية الأمر ان يحيط كل ما له علاقة بحياة بطله ومشاعره بنوع من الضباب، حتى من دون أن يزعم في نهاية الأمر ان بطله هو حقاً ابن من أبناء الطبيعة: ان الملازم كما يبدو لنا هنا، هو أشبه برجل ضائع مصاب بداء عصره: الكآبة، لذلك يحاول ان يبحث في الحياة الطبيعة عن ترياق لحاله، من دون أن يبدو عليه انه مؤمن تماماً بما يفعل أو بجدوى الترياق.
غير ان هذا «البرود» كله سرعان ما يخلي المكان لعالم أكثر رحابة ودفئاً، اذ تنقلنا الرواية من صقيع شمال النروج الى حرارة الهند وحياتها الصاخبة. لكن المؤلم بالنسبة الى الملازم المسكين، هو أنه لن يستمتع أبداً، وكما كان يتوقع، بمثل ذلك الدفء، ذلك انه هنا، حينما تبدأ الصفحات الأولى من القسم الثاني، يكون قد مات قتلاً، وها هو الرجل الذي قتله يحكي لنا الحكاية، بادئاً من وصول الملازم الى الهند، راغباً بعدما خبر الحياة في أقاصي شمال المعمورة، ان يجرب الحياة في مجاهل الشرق الساحر. وهنا، في هذا القسم، يكمن ضعف الرواية في عجز الكاتب عن التوغل الى نفسية بطله بعدما كان عالج تلك النفسية في شكل جيد في القسم الأول، حيث يبدو لنا وكأن الحياة والطبيعة والكائنات كلها انما وضعت لكي تكشف دواخل الملازم... وتتمحور من حوله. هنا تنعكس الآية، يبدو الملازم نفسه وكأن لا وجود له في الرواية إلا لكي يبرر رسم أجوائها. وتفنّن كنوت هامسن في سحر قرائه بوصفه الساحر لأجواء الشرق. واللافت هنا ان الملازم غلاهن الذي تنتهي حياته في الهند بمقتله، يبدو واضحاً لدينا انه هو الذي سعى الى تلك النهاية، وربما دبرها أيضاً... غير ان الكاتب يعجز عن اقناعنا بالأسباب التي حدت ببطله الى أن يصر على أن تكون تلك نهايته. صحيح انه مكتئب ولا يجد حلولاً لمعضلاته الداخلية، لكن سياق العمل لم يهيئنا لأن نتقبل نهايته تلك: النهاية التي تقول لنا انه رغب في أن يُقتل مهما كان الثمن، وأن رفيق سفره هو الذي قام بالمهمة - ولنتذكر هنا ان هذا الرفيق هو الذي يروي لنا أحداث هذا القسم كلها، مفسراً مبرراً، رابطاً الأمر بشيء من الغيرة يتعلق بالخلاسية ماگي التي تتسبب في ذلك كله.
ولكن مهما كان من شأن هذه الأبعاد في الرواية، فإن المهم فيها يظل شخصية الملازم نفسه: انه فتى من فتيان نهاية القرن التاسع عشر، تتغلب عليه الكآبة والعبثية ولا يجد ترياقاً له حتى في توجهه الى نوعي الطبيعة اللذين يتوجه اليهما. انه يعيش حياة عبث ويموت موت عبث. ومن هنا كان ان فتنت هذه الشخصية القراء عند تلك الحقبة الزمنية الشائكة، تماماً كما ستفعل شخصية مارسو في رواية «الغريب» لكامو، بعد ذلك بعشرات السنين. وفي هذا الاطار قد يمكن القول ان هامسن، أكثر مما خلق رواية أو أجواء هنا في «بان» خلق شخصية شديدة الحداثة، فائقة الدلالة.
إذاً، رواية «بان» استهوت السينمائيين دائماً، وحتى منذ كانت السينما لا تزال صامتة، إذ ان أول اقتباس سينمائي لها كان في العام 1922 في ألمانيا على يد أولاف نيورد. أما آخر اقتباس فكان قبل نحو عقد من الزمن من الآن، على يد المخرج النروجي هننگ كارلسن. غير ان السينمائيين لم يكونوا وحدهم من أحب هذه الرواية... فهناك القراء أيضاً، والقراء في لغات عالمية شتى، إذ ان «بان»، ومنذ صدورها للمرة الأولى عام 1894، لاقت رواجاً كبيراً وترجمت الى الكثير من اللغات، وربما عاد سبب ذلك الى أن الرواية، حتى وإن كانت انطلقت من بيئتها الاسكندينافية المحلية، وصلت في أجوائها الى الشرق الساحر، فغاصت فيه، من طريق بطلها الذي كان يمكن اعتباره صورة ما للمؤلف.
رواية پان حمل آخر اقتباس سينمائي لها عنوان «الريشات الخضر».
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الهامش