يحيى بن هبيرة الشيباني
يحيى بن محمد بن هُبَيْرة، الذُّهْلي الشَّيباني، أبو المظفَّر عون الدين، يرتفع نسبه إلى عدنان (499-560 هـ/1105-1165م)، كان من خيار الوزراء العلماء وأحسنهم سيرة في الدولة العباسية. وكان فقيه حنبلي، أديب.
ومن أشهر تلاميذه ابن الجوزي، وقد جمع بعض فوائده، وما سمعه منه في كتاب المقتبس من الفوائد العونية. كان ابن هبيرة عالمًا عابدًا تولى الوزارة للمقتفي لأمر الله والمستَنْجد، فنهض بها بحكمة وكفاية مع العبادة والورع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النشأة
ولد بقرية دُوربني أَوْقَر وهي تابعة لبلدة دجيل التي تقع على بعد ما يقرب من ثلاثين كيلو متراً من بغداد.
كان أبوه رجلاً فقيراً يعمل في حراثة الأرض، إلا أنه كان يحث ولده على تحصيل العلم وإدراك الفوائد، فأخذ يتردد وهو صغير إلى بغداد ويحضر مجالس العلم فيها. ثم ما لبث أبوه أن مات مخلفاً ولده يكابد الفاقة وشظف العيش، فاضطر إلى العمل والاشتغال في شتى الخدمات طلباً للرزق وستراً للعوز، ومع ذلك لم تفتر همته في تلقي العلم ومجالسة الفقهاء والأدباء، وسماع حديث رسول الله ، فحصَّل من كل فن طرفاً، وختم القرآن الكريم بالقراءات والروايات، وتعلم النحو، واطلع على أيام العرب وتاريخهم، وحفظ أقوال البلغاء، وأتقن صناعة الإنشاء، وتبحر في فنون الأدب وعلوم اللغة حتى صار من وجهاء عصره وأكابر زمانه. ومن جملة أساتذته وشيوخه أبو منصور الجواليقي، وابن أبي يعلى الفراء، ومحمد بن يحيى الزبيدي وغيرهم.
توليه الوزارة
وفي أثناء ذلك كان يحيى بن هبيرة يتصل بالخليفة العباسي المقتفي لدين الله (530-555هـ) بقصد العلم واكتساب المعرفة، إذ كان هذا الخليفة عالماً أديباً دمث الأخلاق كامل السؤدد، فعرف قدر ابن هبيرة وصلاحه، فجعله مشرفاً على المخازن، ثم ولاه في سنة 542 هـ رياسة «ديوان الزمام». وما زال يترقى في المناصب حتى سلمه في سنة 544 هـ الوزارة ولقبه بـ«عون الدين» فكان شامة بين الوزراء لعدله وورعه وحسن مناصحته وبعده عن الظلم.
وبعد وفاة السلطان السلجوقي مسعود بن محمد سنة 547هـ أخذ الولاة السلاجقة يتطاولون على الخليفة المقتفي، ويفتكون في نواحي العراق. فقد استولى والي بغداد على مدينة الحلة ولكنه سرعان ما فرَّ عنها إلى تكريت بعد أن هزمه الوزير عون الدين ابن هبيرة الذي لم يستول على الحلة فحسب، بل استولى أيضاً على الكوفة وواسط. ولما أنفذ السلطان محمد بن محمود السلجوقي جيشاً إلى واسط لاستخلاصها أسرع الخليفة المقتفي بنفسه إلى نجدة وزيره، فاضطرت جيوش السلطان إلى التقهقر، وحاصر الخليفة مدينة تكريت سنة 548هـ، ولكنه ارتد عنها. على أنه بعد ذلك استطاع أن يهزم والي بغداد بالقرب من بعقوبة كما هزمه الوزير ابن هبيرة بالقرب من واسط.
وفي سنة 553هـ حاصر السلطان محمد بن محمود مدينة بغداد، مما جعل الخليفة المقتفي يجدُّ في التصدي له، فقام وزيره عون الدين بن هبيرة في هذا الأمر المقام الذي يعجز عنه غيره، فقمع هذه الحملات السلجوقية، وأبدى من الحنكة العسكرية ما جعل له اليد الطولى في تدبير الدولة وضبط المملكة، حتى استقرت الخلافة في العراق كله.
وتوفي المقتفي لدين الله سنة 555هـ، فخلفه ابنه المستنجد بالله، وكان يعرف قدر الوزير ابن هبيرة وحسن تصرفه بالأمور، فأقرَّه في الوزارة، ورفع منزلته، وقال كما كان يقول أبوه المقتفي: «ما وَزَر لبني العباس كيحيى بن هبيرة في جميع أحواله».
كان ابن هبيرة مع انشغاله بأمـور الدولـة وشؤون الوزارة مكرماً للعلم والعلماء، يعقد في داره مجالس للمناظرة يحضرها الفضلاء على اختلاف فنونهم، ويُقرأ عنده الحديث الشريف عليه وعلى الشيوخ بحضوره، فيستفيد منهم ويستفيدون منه.
وكان إلى ذلك شديد التحفظ والورع، فقد امتنع حين ولاه المقتفي الوزارة من لبس خلعة الحرير وحلف أنه لايلبسها. كما منع الناس أن ينادوه بـ«سيد الوزراء» لأن الله تعالى سمى هارون أخا موسى وزيراً. وكان يقول: «والله لقد كنت أسأل الله الدنيا لأخدم بما يرزقنيه العلم وأهله». ومن أقواله أيضاً:
- «احذروا مصارع العقول عند التهاب الشهوات».
وكان حنبلي المذهب، شديداً في اتباع السنَّة وسِيَر السلف. وقد بنى في قرية الدُّور التي ولد فيها جامعاً ومنارة، ثم أصبحت هذه القرية تعرف فيما بعد بـ دُور الوزير عون الدين.
كتبه
أما حصيلة علومه فقد أودعها في عدد من المؤلفات، نذكر منها: كتاب «العبادات» في الفقـه على مذهـب الإمـام أحمد بن حنبل، وأرجوزة في «المقصور والممدود» و«المقتصد» في النحو، واختصر كتاب «إصلاح المنطق» لابن السِّكِّيت. ولكـن أشـهر كتبه «الإفصاح عن معاني الصحاح» في شرح صحيحي البخاري ومسلم، وقد تكلم فيه على معنى الفقه، وأوضح مسائله المتَّفَق عليها والمختلَف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين. وهذا الكتاب صنَّفه في ولايته الوزارة، واعتنى به، واستدعى أئمة المذاهب من البلدان النائية لمشاورتهم فيه بحيث أنفق على ذلك 113 ألف دينار، فكان يشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم.
وصنّف كتبًا، منها: الإيضاح والتبيين في اختلاف الأئمة المجتهدين؛ الإفصاح عن معاني الصحاح؛ المقتصد في النحو؛ العبادات في الفقه على مذهب أحمد.
وفاته
توفي عون الدين يحيى بن محمد ابن هُبَيرة في بغداد مسموماً من دواء سقاه إياه الطبيب إثر مرض ألـمَّ به، فحملت جنازته إلى جامع القصر وصلي عليه، ثم حمل إلى مدرسته التي بناها للحنابلة بباب البصرة، فدفنه تلميذه الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، وغلِّقت يومئذٍ أسواق بغداد، ورثاه الشعراء بمراثٍ كثيرة.
وقد تسلم ابنه محمد بن يحيى بن هبيرة الوزارة بعد وفاة أبيه، وكان فاضلاً شاعراً خبيراً بالأدب والحديث النبوي، إلاّ أنه حُبس لأمر لم تفصح عنه المصادر التاريخية، ولم يُعلم خبره بعد الحبس.
المصادر
للاستزادة
- ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (دار الكتب المصرية، 1935م).
- ابن خلكان، وفيات الأعيان (بيروت 1972م).
- اليافعي، مرآة الجنان (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت 1970م).