نظرية العقل المجتمعي
(ملاحظة هامة:هذه إحدى النظريات الرئيسية الثلاث، للمفكر العراقي علاء الدين صادق الأعرجي، وهي: نظرية العقل المجتمعي، ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل ونظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة. وقد شرح الأعرجي هذه النظريات بالتفصيل في ثلاثة كتب هي :
1-أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل بحث في تشريح العقل العربي الممزق بين سطوة الماضي وضرورات الحاضر طبعة خامسة مزيدة https://drive.google.com/file/d/0B7-yP9NKQgUrZHdPdlZCSUtPYTg/view?usp=sharing
2- الأمة العربية بين الثورة والانـقراض بحث في نظرية "العقل المجتمعي العربي" تفسيراً لأزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي طبعة ورقية أولى صدرت في الديوانية/العراق من دار "نيبور بـ " 480صفحة. ثم طبعة إلكترونية ثانية صدرت في لندن من مؤسسة " إي – كتب، الرابط: https://drive.google.com/file/d/0B7-yP9NKQgUrR1lITUlkNmUyWjA/view?usp=sharing
3- الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارةالزائفة
دراسة لتفسير الصراع بـ " نظرية العقل المجتمعي"
طبعة ورقية أولى صدرت بـ 202صفحة،
ثم طبعة إلكترونية ثانية ، وكلاهما من مؤسسة أي -كتب
الرابط:
https://drive.googm/file/d/0B7-yP9NKQgUrb2tvN3NmUjFqUms/view?usp=sharing
وقد اقتبس كاتب هذه المادة، المذكورة أدناه، من كتاب الأعرجي الثاني"الأمة العربية بين الثورة والانقراض"، وذلك من الصفحات ابتداءمن 178 وما بعدها، الطبعة الورقية الأولى، 2015. علماً أن كاتب المادة أدناه،قد قسّمها بكفاءة عالية في عناوين مناسبة فرعية:
تعربف العقل المجتمعي يمكن القول إنَّ "العقلَ المجتمعيّ"، هو سلطةٌ خفيَّةٌ اعتباريَّةٌ سائدة، تتحكَّمُ بسلوكِ أفراد الوحدة المجتمعيَّة وتصرُّفاتهم، من حيث لا يشعرون، في الغالب، وتتحكَّم بالتالي باتِّجاهاتِ تلك الوحدة أو المجتمع ككلّ وبمسيرتِه التاريخيَّةِ والتطوُّريَّةِ والحضاريَّة. وتتكوَّن بنْيةُ هذه السلطة من مزيجٍ مُتَفاعلٍ ومتكاملٍ لمنظومةٍ واسعةٍ من القِيَمِ والمعارف والمبادئ والمفاهيم والأعراف والأفكار والعقائد، بما فيها الإيديولوجيَّات، والتطلُّعات إلخ... السائدة في ذلك المجتمع، والتي تشكَّلت تبعًا لصَيرورتِه التاريخيَّة وظروفِه الجغرافيَّة. ولئن تُعتبَر معظمُ كوامنِ العقل المجتمَعيّ جزءًا من اللاشعور الفرديِّ بالنسبة للأكثريَّة الساحقة من أعضاءِ المجتمع، فإنَّ هناك عدداً من هؤلاء الأعضاء قادرين على إدراك تلك الكوامن، كما سأُوضِحُ ذلك في حلقةٍ قادمة، أي إنَّ العقلَ المجتمعيَّ قد يكون لاشعوريًّا أو شعوريًّا، تَبعًا لِمدى وعي الناس، أو عدمِ وعيِهم لوجود سُلطتِه. وهكذا فالعقلُ المجتمعيُّ قد يتقاطعُ أو يترابطُ مع مفاهيم "اللاوعي الثقافيّ" و"اللاشعور الجَمعيّ"، و"الوَعي الجَماعيّ"، التي يقول بها بعضُ المفكِّرين، أو يختلفُ عنها أو يتجاوزها.3 وهكذا فإنَّ تسميةَ هذا المفهوم بـ"العقل المجتمعيّ" كانت مقصودة، باعتبار أنَّ هذا العقلَ يتعلَّقُ بـ" الوحدة المجتمعيَّة" التي تتميَّزُ بهذا "العقل"، كسلطةٍ مستقلَّةٍ عن إرادة أعضائها، أو عقولِ الأفراد الذين يُكوّنوها. لذلك ابتعَدْنا عن "النعوت" السائدة أو السابقة كـ"العقل الجَماعيّ أو الجَمعيّ"، لأنَّ مدلولاتِ هذه الصفات غيرُ مرتبطةٍ بدِقَّة بوحداتٍ مجتمعيَّة مُعَيَّنة بالذات، بل بالمجتمع كمفهوم عامّ، فضلاً عن مفاهيمِها الهُلاميَّة السائبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خضوع أعضاء الوحدة المجتمعية إلى العقل المجتمعي
ويسري مفهومُ العقلِ المجتمعيّ هذا، كما نرى، على جميع الوحداتِ المجتمعيَّة البشريَّة، في كافَّة الحِقَبِ التاريخيَّة، ويختلف باختلافِها، بِحُكمِ ما يحملُه تاريخُ كُلِّ وَحدةٍ من تجاربَ ومُلابسات، عـند تشكُّلِها الأوَّل، منذُ أقدمِ العصور، وخلال تخلّـقِها عبرَ الأزمان، وتفاعُلِها مع الظروف والأحداث، حتَّى يومِنا هذا. وكما يحملُ العقلُ اللاشعوريُّ في الإنسان العاديّ انطباعاتِه ومكبوتاته ورغباتِه، كذلك فإنَّ "العقل المجتمعيّ"، الذي يرتبطُ بكلِّ وحدةٍ من وحداتِ المجتمع، كبيرها وصغيرها، باعتبارِها وحداتٍ مُستقلَّةً ومُتميِّزة، كما أسلَفْنا، يحمل ما يُشابِهُها أو يوازيها ويُناظرُها. وتدخل فيه المعتقداتُ والقِيَمُ والتقاليدُ وقواعدُ السلوك... السائدة في تلك الوحدة المجتمعيَّة التي يفرضُها ذلك "العقلُ المجتمعيّ" على أفرادِ "المجتمع"، دونَ وعيٍ منهم، في الغالب. (سنستخدم لفظةَ "المجتمع" للدلالةِ على "الوحدة المجتمعيَّة"، بدلاً من تكرارِها). وهكذا فإنَّ الفردَ العاديّ يظلُّ عادةً بعيدًا جِدًّا عن تصوُّر وجود هذه السلطة (العقل المجتمعيّ)، ولكنَّه، مع ذلك، يخضعُ لمعاييرِها ومفاهيمِها، بل قد يُدافع عنها بحماسةٍ وتفانٍ، أحيانًا، باعتبارِها تُمثِّل قِيَمَه الذاتيَّة التي اختارَها بِمَحضِ إرادتِه، لا باعتبارِها مفروضةً عليه من جانب تلك السلطة القاهرة، وذلك بِصَرف النظرِ عن كونها صحيحةً أم لا، مناسبةً أو صالحةً له ولمجتمعِه، بل يتبعها أحيانا ويطبقها مهما كان ضررُها كبيرا له ولمجتمعه، بوعيٍ أو بدون وعْي.(أنظر مثال القتل غسلا للعار المذكور أدناه).
السلطة الحاكمة تحمي العقل المجتمعي
ومن جِهةٍ أُخرى، تقومُ غالبًا في المجنمع سلطةٌ بشريَّةٌ حاكمةٌ أو مُتحكِّمة فيه، إمَّا بِشَكلٍ مُباشر أو غير مباشر، تحمي سلطةَ العقل المجتمعيّ السائد وتدعمُها وتُغذِّيها، بل تعاقبُ مَن يخرجُ عليها، خاصَّةً لأنَّ مصالحَ تلك الطبقة الحاكمة أو المُتَحَـكِّمَة في المجتمع وامتيازاتها ترتبط بسُلطةِ العقل المجتمعيّ. ومِثالُها سلطة وُجهاء قُرَيش، قبل الإسلام، التي كانت تحرس ذلك العقلَ المجتمعيّ السائدَ قبل الإسلام، وشبيهتُها سلطةُ الكنيسة المسيحيَّة في القرون الوسطى، ومعظمُ السلطات العربيَّة الحاكمة أو السلطات الثيوقراطيَّة الإسلاميَّة المعاصِرة التي تدَّعي أنَّها وحدها تملكُ الحقيقةَ الأَزَليَّةَ المطلَقة، فتُلجِمُ الأفواهَ وتُكبِّل العقول، وتستبدُّ في اتِّخاذِ القراراتِ والأحكام، كما يحدث اليوم في كثيرٍ من المجتمعاتِ الإسلاميَّة. الأمرُ الذي أدَّى، بين عوامِلَ أُخرى، إلى ما وصلَت إليه الأُمَّةُ العربيَّة والمجتمع الإسلامي من وَضعٍ يزدادُ تدهورًا يومًا بعد يوم.
أعضاء الوحدة المجتمعية يرفدون العقل المجتمعي
وفي الوقتِ الذي يُسيطرُ فيه "العقلُ المجتمعيّ" على عقولِ الناس العاديِّين، أو يُؤثِّرُ فيها، على الأقلّ، من حيثُ لا يدرون، في الغالب، يقوم هؤلاءُ الناس، من جِهَتِهم، بِتَغذية العقلِ المجتمعيِّ من خلالِ اتِّباع موجِباته، وتعظيم قِيَـمه باعتبارها قِيمَهم، وتعزيزِ مفاهيمِه باعتبارِها مفاهيمَهم، الأمرُ الذي يؤَدِّي إلى زيادةِ سيطرتِه ونفوذِه. فالشاعرُ العربيُّ المعاصِر أَو المثقَّفُ الذي وصفَ النساء بـ" أوعِية الصديد"، مثلاً، لا يختلفُ كثيرًا عن الرجل العامِّيِّ الجاهل الذي كنتُ أسمعهُ، في بغداد، يتعوَّذُ عندما يأتي على ذكرِ زوجتِه، فيقول مثلا: "حرمتي، أجلَّكَ الله" ، أو"تكرم، حرمتي..."، كما لو أنَّه يقول: "تكرم، حماري..."، كما يدعو زوجتَه بـ"هَايّـشْتي" أي "بَقَرَتي". فكِلا الرجُلَين خاضعٌ للعقلِ المجتمعيِّ من جهة، ومُعَزِّز لنفوذِه وسيطرتِه وقِيَمِه التقليديَّة في تحقيرِ المرأة واعتبارِها متاعًا من أمتعة الرجل، من جهة أخرى. وهكذا فالعلاقة بين سلطة العقلِ المجتَمَعيّ والجماعةِ الخاضعةِ له علاقةٌ متبادلةٌ ومتضامِنة ومتكاملة.
المتميزون يثورن على العقل المجتمعي
وعلى صعيدٍ آخر، قد يحصلُ تأثيرٌ معاكِس، أو انقلابٌ من جانبِ المجتمع على عقلِه المجتمعيِّ الحاكم. ويُمكنُ أن يتحقَّقَ ذلك إمَّا فجأةً، بمُبادرةِ بعض مِمَّن يتمتَّعون بالنظرِ الثاقبِ والفكرِ المُتوَثِّب والإرادةِ الحديديَّة، كالأنبياء والعباقرة الذين يتمرَّدون على العقلِ المجتمعيّ، كما ثارَ الرسولُ محمَّد على قِيَمِ مُجتمعِه ومُعتقداتِه؛ أو على نحوٍ تدريجيّ، نتيجةَ تطوُّرٍ فكريٍّ وثقافيّ، ومن ثـَمَّ علميّ وفلسفيّ، فسياسيّ واقتصاديّ وحضاريّ، يحملُ لواءَه كذلك عددٌ من المفكِّرين والعلماء، كما حدثَ مثلاً أثناء النهضةِ الأوربيَّة منذ القرن الرابعَ عشر، التي بدأت على يد كوبرنيكس وغاليلي، ومرت بفرنسيس بيكون ورينية ديكارا ونيوتن ودارون، وتمخصت هن أينشتاين ومحمد عبد السلام وغيرهم الكثير، وهذا على صعيد التطور التدريجي أو غير المباشر؛أما على الصعيد المباشرن فقد تحدث بشكل ثورةٍ شعبيَّة، مثل ما حدث أثناء الثورة الفرنسيَّة وما أعقَبَها من تغَيُّرٍ في بنية النظامِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ في فرنسا وغيرها من البلدان الأوربيَّة. مع ملاحظة أنَّ الثورةَ الفرنسيَّةَ نفسَها كانت مُحصَّلةً لتراكُماتٍ اجتماعيَّةٍ وحركةٍ ثقافيَّةٍ واسعة، بدأت تباشيُرها قبل اندلاعِ الثورة بِعِدَّةِ عقود، خاصَّةً من خلالِ حركة "الموسوعيِّين" Encyclopédistes Les.
تطور العقل المجتمعي وتغيره
إِنَّ مِثلَ هذه الحركات الجماعيَّة والفرديَّة يُمكنُ أن تُعدِّلَ أو تُغيِّرَ من طبيعة العقل المجتمعيّ الشيءَ القليلَ أو الكثير، تبَعًا لشِدَّةِ اندفاعِها ومدى تأثيِرها في جماهيرِ الشعب، فضلاً عن حُسنِ تصرُّفِ قادتِها، وقوَّةِ الطرفِ الآخر، الذي يسهرُ على حمايةِ العقلِ المجتمعيِّ والمحافظةِ على محتوياتِه، ومدى سُلطتِه وشِدَّةِ مُقاومتِه، وعواملَ أخرى مُتعدِّدَة. وهكذا يُمكنُ أن يتغيَّرَ ذلك العقلُ المجتمعيُّ ليعودَ إلى مُمارَسةِ سُلطتِهِ الجديدة بناءً على هذا التعديل أو التغيير، حتَّى يتهيَّأَ له مَن يُعدِّله مرَّةً أخرى، وهَلُمَّ جرًّا. أمَّا إذا لم يتهيَّأْ له ذلك فإنَّه يظلُّ مُحافظًا على قِيَمِهِ إلى ما شاء الله. وهنا يكمنُ السِرُّ، على الأرجح، في تقدُّمِ الأُمَم أو تخلُّفِها وظهورِ الحضاراتِ لدى بعض الشعوبِ وتدهوُرِها وانهيارِها لدى شعوبٍ أُخرى. وهنا أيضًا يكمُنُ سرُّ تدَهوُرِ الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّة وفَشَلُ حركاتِ النهضة العربيَّة.
محاولات تطوير العقل المجتمعي لدى العرب
وعلى صعيدِ الأُمَّةِ العربيَّة، قد تُدركُ فئةٌ قليلةٌ من أعضاءِ المجتمعِ المُتَنَوِّرين والمفكِّرين سلطةَ العقلِ المجتمعيِّ العربيِّ السلبيَّة (لأَنَّ فيه قِيَمًا إيجابيَّةً أيضًا)، وتأثيرَها الهدَّام على ذلك المجتمع وعلى مستقبلِه ومصيرِه، فتشرع في نقدِه ومناقشةِ مُحتوياتِه، ونَبْشِ كهوفِه، واستكشافِ مجاهلِه، وفَضْحِ أدرانِه؛ فتشنُّ "السلطةُ المسؤولةُ عن حمايتِه" الحربَ على تلك الفئة، فتُصفِّيها أَو تَقضي عليها اقتصاديًّا أَو مِهَنيًّا أو اجتماعيًّا. والأمثلةُ عديدةٌ على ذلك ابتداءً من طه حسين والشيخ علي عبد الرازق وانتهاءً بِلويس عوض وفرج فودة وجمال حمدان وعلي الوردي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم. وهناك في نفسِ الوقت أضعافُ هؤلاء، أو رُبَّما أكثر مِمَّا نتصوَّر من الأشخاص المُفَكِّرين المجهولين الذين يظلّون محتفظين بِصَمتِهم خوفًا من اتِّهامِهم بالكُفر أَو الإلحاد أو العَمالة أَو حتَّى العَلمانيَّة (التي أصبحتْ تُشكِّلُ سُبَّةً تضارع الكُفر عند البعض)، أو غير ذلك من التُّهَمِ العديدة، التي قد تُؤَدِّي بالمفكر إلى نفْسِ المصير، أو أكثر. وقد يُغمضُ العديدُ من الكُتَّاب والمفكِّرين المعروفين عيونَهم عن تلك الجوانبِ السلبيَّة في ذلك العقل لِنَفسِ السبب (انظر المثالَ الواردَ في الفقرة 6 من"دراسة حالة واقعيَّة" أدناه)، أو يكتفون بالتلميحِ تاركين للآخرين القراءة ما بين السطور. وهذه النقطةُ كانت من أدهى العِلَلِ التي أَدَّت بنا إلى ما نحنُ فيه.
سكوت العديد من المثقفين عن سلطة العقل المجتمعي الغاشمة
وعلى نفسِ الصعيد، قد تدرِكُ نسبةٌ مُعيَّنةٌ من الناسِ ضَغطَ سُلطةِ العقلِ المجتمعيّ، وبعضَ قِيَمِها غير الملائمة أو الضارَّة، ولو بِقَدْرٍ من السطحيَّة والغموض، ولكنَّها تظلُّ خاضعةً لها، دون اعتراض، إمَّا نِفاقًا أو "تَقِيَّة"، أو خوفًا من عقابِ السلطةِ الحاكمةِ الفِعليَّة، أَو تحاشيًا للعقوبةِ الاجتماعية، أو خليطًا من جميع هذه الأسباب. وبعضُ تلك القِيَم التي يفرضُها العقلُ المجتمعيُّ قد تكونُ بعيدةً جدًّا عن التعاليمِ الدينيَّة، بل مُنافِية لها تمامًا، فضلاً عن مُخالفَتِها للقوانينِ الوَضعيَّة. ومع ذلك تكونُ سائدةً وفاعلةً ومحتَرَمة،لأن العقل المجتمعي يرقى على جميع هذه التشريعات. وكمثال على أهمية العقل المجتمعي وتجاوزه لكل التشريعات الدينية والوضعية نقدم مثالا واقعيا لظاهرة معروفة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فيما يلي:
== سُلطةُ العقلِ المجتمَعيِّ وتجلِّياتُها في جرائمِ الشرَف:
دراسةُ حالةٍ واقعيَّة
تُشَكِّلُ ظاهرةُ "القَتل غسلاً للعار" (أو ما يُسَمَّى بجرائمِ الشرف)، المعروفة والمألوفة في العراق، وفي جميع البلدان العربيَّة تقريبًا، مِثالاً صارِخًا عن مدى سُلطةِ "العقلِ المجتمعيّ" على الأفرادِ والجماعات، وعلى أحكامِ القانونِ والشريعة، بِصَرفِ النظر عن ضررِها المُباشر وغير المباشر. فعندما كنتُ طالبًا في كُلِّـيَّة الحقوق، في بغداد، أثارَت اهتمامي هذه الجريمةُ البَشِعَة التي ذهب ضحيَّتَها ربَّما مئاتُ الألوف من الفتياتِ البريئات لمُجَرَّد الشُّبهة، في الغالب، في الوقت الذي تكادُ ترفعُ فاعلَها إلى مصافِّ الأبطال في ذلك المجتمع، ولاسيَّما في الأوساط الريفيَّة والمدينيَّة الفقيرة، خاصَّةً عندما لاحظْتُ أنَّ القانونَ الجنائيَّ العِراقيّ كان يُعاقبُ مرتَكِبَها بالسجن البسيطِ لِفَترةٍ تتراوحُ بين ستَّة أشهر وثلاث سنوات. وخلال بحثي المُلِحّ عن أبعاد هذه الظاهرة، علمتُ من أحَدِ ضُـبَّاطِ الشرطة، وهو من زملائي السابقين، أَنَّ الجاني كان يسلِّمُ نفسَه عادةً للشرطة، وهو يشهرُ خنجرَه الذي ما يزالُ يقطرُ دمًا، تُحيطُ به كوكبةٌ من أعيان "المحلـّة" ورجالِها الأَشِدَّاء، فيُسْتَقْبَلُ بحفاوةٍ وترحيبٍ من جانبِ ضُبَّاطِ مركز الشرطة، ويُقَدَّم له الشاي، أَي يُعامَلُ كبَطلٍ مِغوار قامَ بواجبٍ "مُقَدَّس". ولسان حالِهم يقول: لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى حتَّى يُراقَ على جوانبِـهِ الدَّمُ
زيارة القتلة الأبطال
لذلك قمتُ بزيارةِ بعضِ المسجونين بهذه الجريمة، الذين كانوا يحظَون بمُعاملةٍ خاصَّةٍ من جانب إدارةِ السجن والسجَّانين، وباحترامٍ شديدٍ من جانبِ بقِيَّةِ المسجونين. وكنتُ أعرفُ أحدَهم شخصيًّا، منذ كنتُ ألهو معه ومع أُختِه "الضحيَّة"، في سنِّ الطفولة في الشارع. فقال لي، بكُلِّ فخرٍ وكبرياء وشَمَمٍ، وبِلَهجةٍ خطابيَّة: "قتَلتُها، لأغسِلَ شرَفَ العائلة بدَمِها، وأُنقِذَ العائلةَ من عارِها." وكأنَّه أرضى ضميرَه ومجتمعَه وأُسرتَه. كما كان يتوقَّعُ أن أحترِمَه، وأُهنِّئَه على شجاعَتِه، كما يفعلُ الآخرون. وعندما قلتُ له إنَّ عملَه هذا مُخالفٌ للشريعةِ الإسلاميَّة، تميـَّزَ غيظًا وكاد يضربُني، لولا حماية ضابط السجن. ثُمَّ عرَّفَني الضابطُ على سَجينٍ آخَر بِنَفسِ الجريمة، نالَ قِسطًا من التعليم. فلاحظْتُ مدى عذابِه النفسيِّ وشعورِه العنيف بالذنب، منذ اللحظاتِ الأُولى من المُقابَلَة. سألتُه: لماذا فَعَلتَها إذاً؟ قال ما معناه: "الناس، الناس هم الذين دفعوني إِلى ذلك، وإِلاَّ فسأكونُ مُحتَقَرًا ومنبوذًا، وعُرضَةً للتَّهكُّمِ والعارِ الدائم، أنا وجميع أفراد أسرتي. وقد حثَّني والدايَ على ذلك، باعتباري مسؤولاً كأخٍ أكبر. ومع كُلِّ ذلك، فقد طُلِّقَت أختي الكُبرى، لأَنَّ سُمْعةَ زوجِها قد تلوَّثَت، بسبب العار الذي لَحِقَ بِسُمْعَةِ أُختِها وأُسرتِها، سواء حقًّا كان ذلك أو باطلاً."
دلائلُ تحليليَّةٌ لهذه الحالة
نَستنتجُ من هذه الواقعةِ عدَدًا من النتائجِ الجديرةِ بالإمعانِ والتأَمُّل. وأرجو أن يُلاحظَ القارئُ أنَّ هذه النتائجَ لا تنطبِقُ على هذه الحالة الواقعيَّة، وحسب، بل تسري على عديدٍ من الحالاتِ الأُخرى المُشابِهَة، ليس بالضرورةِ في مظهرِها العنيف، ولكنْ في خصائصِها الأخرى. وسَنُورِدُ أمثلةً على بعضِها في سِياقِ هذا البحث. ونعودُ إلى تحليلِ هذه الحالةِ وتفسيرِ بعض دلالاتِها العميقة وتجذيرهاِ، ومنها:
- السلطةُ التي تتمتَّعُ بها قِيَمُ "العقل المجتمعيّ" الفاعلة تُشَكِّلُ قُوَّةً طاغِيةً لدى الجماعة والفرد. فهي تغسلُ دماغَ الفردِ العاديِّ فيَمتثِلُ لها بشَكلٍ لاشعوريّ، لا باعتبارِها موجِبات يفرضُها ذلك المجتمع، بل باعتبارِها إرادتَه الخاصَّة، واختيارَه الحرّ، خاصَّةً إذا كان اتِّباعُ تلك القِيَم يُكسبُه الاحترامَ والتقديرَ من أفراد المجتمع الخاضعين لِنَفسِ قِيَمِ "العقل المجتمعيّ" تلك. وهذا التحليلُ ينطبقُ على حالةِ السجينِ الأوَّل، بوَجْهٍ خاصّ، ويسري على مُعظمِ أفرادِ المجتمع.
- أمَّا السجينُ الثاني فإِنَّ سُلطةَ ذلك "العقل المجتمعيّ" تَنطبِقُ عليه بشكلٍ أكثرَ جلاءً وقسوة. فمع أنَّهُ استطاع أَن يُحكِّمَ "عقلَه الفاعل"، فيكتشف أَنَّ ما يأمرُ به "العقلُ المجتمعيّ" المُستبِدّ هو أمرٌ غيُر مناسِب، بل خاطئٌ وفاحش، فقد قرَّر، بعد مُعاناةٍ نفسيَّةٍ وعقليَّةٍ عنيفة، أَنْ يَخضعَ لأوامره مُكرَهًا، فيرتكب تلك الجريمة النكراء، وإلاَّ سيكون عُرضةً للعارِ والاحتقار، كما هو واضحٌ من كلامِه، ومعروفٌ في مِثلِ هذه المجتمعاتِ الخاضعة لقِيَمِها الثقافيَّة المُتَمَركِزة في عقلِها المجتمعيّ.
- معظمُ هذه القِيَم المخزونة في العقل المجتمعيِّ تتجاوزُ تعاليمَ الدين والشرائعِ المعروفة، بل تتعارَضُ معها. فهذه الجريمة التي اقتَرَفها كلٌّ من المجرمَين، بسبب الشُّبهة وكلام الناس، مثلاً، مُخالفةٌ تمامًا للشريعة الإسلاميَّة. ومعروفٌ أَنَّ جريمةَ الزِّنا تتطلَّبُ شرعًا أربعةَ شهودٍ من الذكور الراشدين، يحضرون واقعةَ العمَلِ الجِنسيِّ المباشر، ولا يكتفون بِأيِّ بديلٍ آخر. فإذا ثبتَ ذلك بِدونِ أدنى شكّ، فإِنَّ العقوبةَ تَقَعُ على الرجلِ والمرأةِ على السواء، من جانبِ أُولي الأمر، لا من جانب أسرة الجاني.
- بعضُ قِيَمِ "العقل المجتمعيّ" قد تَنحدرُ من عصورٍ قديمة، مثل هذه القيمة التي قد تعودُ إلى العصورِ المُظلِمة بما فيها العصر الجاهليّ، وخاصَّةً على صعيدِ النظرةِ الدُّونيَّة إلى المرأة (وسأوضِحُ ذلك أكثر في الفقرة 8 أدناه). ومع ذلك، من المُهِمِّ جدًّا أَن نُلاحظَ هنا أَنَّ العقلَ المجتمعيّ يخزنُ في جُعبتِه عددًا هائلاً من القِيَمِ الباقيةِ في ذاكرتِه منذُ عصورٍ مختلفة، قد تكون سحيقةً في القِدَم. لذلك نُشيرُ إلى أَنَّ العقلَ المجتمعيَّ يحملُ تاريخَ المجتمع وتراثَه، بما فيه الحَسَن والسيِّئ، كما سأُفَصِّلُه في الحلقةِ التالية .
- يسكتُ رجالُ الدين غالِبًا عن مِثلِ هذه القِيَمِ ويتسامحون معها لأَنَّهم خاضعون هم أَنفسُهم لسُلطة "العقلِ المجتمعيّ" المُتَغلِّبة والسائدة، شأْنُهم شأنُ الآخرين. وقد سأَلتُ مرَّةً أَحدَ رجالِ الدِّين في كربلاءَ عن ظاهرةِ "ضرْبِ الجسد وتعذيبِه" في ذكرى واقعةِ كَرْبَلاء، جزَعًا على مقتلِ الإمام الحُسَين بن علي ّ ، بما فيه لَطْمُ الخدود والصدور وضرْبُ النُّحور والظهور بالأيادي والسلاسِلِ الحديديَّة، و"التطبير" ( أَي تجريح الجِباه بالسيوف، فتسيلُ الدماءُ ويفارقُ بعضُهم الوعْيَ أَو الحياةَ أَحيانًا)، وسكوتُهم عن هذه العادة التي تتعارَضُ مع تعاليمِ الشريعةِ وروحِها التي تمنَعُ تعذيبَ النفسِ الإِراديّ، فأَجابَ قائلاً ما معناه: "نحنُ نعتقدُ أَنَّ الحِرْصَ على استِعادةِ ذكرى سيِّدِ الشُّهداء الحُسَين بن عليّ، عليه السلام، فرضٌ مُستَحَبٌّ بل واجب، لأَنَّ سيِّدَنا الحُسَين قد ضحَّى بحياته في سبيلِنا ومن أَجلِ إِحقاقِ الحقِّ، وفي مُواجهةِ الظُّلمِ والفسادِ وتطبيقِ الشريعة كما كانت في عصر الخُلفاءِ الراشدين، وإعادةِ الخلافة إِلى أَهلِها. أَمَّا تعذيبُ النفسِ فنحنُ لا نُقِرُّه، ولكنَّنا نتفهَّمُ مثلَ هذه العاداتِ المُتَوارَثة التي لا يُمكِنُ مجابهتُها." وهذا مِثالٌ آخر على مدى سُلطة "العقلِ المجتمعيّ" القاهرة، وسيطرتِها على الخاصَّةِ أَيضًا. ويُمكِنُ تفسيرُ هذه العادة أيضًا بمُحاولةِ جَلدِ الذات، نتيجةَ الشعور بالذَّنب والتقصيرِ في القيام بالواجب، أَو للتعبير عن أَحزانٍ مكبوتة نتيجةَ تسلُّطِ الحاكم وقَهرِه؛ لذلك فإِنَّ هذه المناسَبةَ تُشَكِّلُ فُرصةً للإِعرابِ عن تلك المكبوتات بالإضافةِ إِلى الاحتجاجِ على النظام القائِم. وقد تختلِطُ جميعُ هذه الدوافع وتتفاعَلُ مع ذكرياتِ العقل المجتمعيّ عن وقائع هذه المجزرة الفظيعة والمُحزِنة، لِتُشَكِّلَ رُؤًى ملحميَّةً ومأساويَّةً مُؤَثِّرَةً في مُخيّلة الإنسان وعواطفِه وعقلِه الباطن والواعي.
- يسكتُ المثقَّفون والمفكِّرون، غالبًا، عن مُعالَجةِ أَمثالِ هذه القِيَم، أَي القتل غَسْلاً للعار، مثلاً، لأَنَّها من قَبيل المُحرَّمات، التي تُعتَبر، هي الأخرى (أَي المحرَّمات) من جُملةِ مُكوِّناتِ "العقل المجتمعيّ"، أَي من المسلـَّمات (لاحِظ الترابطَ المُتبادَل والمُعقَّد بين المحرَّمات والمسلَّمات، وكِلاهُما من مُحتوياتِ ذلك العقلِ المجتمَعيّ). ومن جِهةٍ أُخرى، فإِنَّ مُعظمَ المُفَكِّرين أَنفُسِهم خاضعون لسُلطة "العقلِ المجتمعيّ": إِمَّا بِشَكلٍ شعوريٍّ، حينَ يتجنَّبونَ عَمْدًا الخوضَ في مسائلِ المُعتقَداتِ الدينيَّة والقِيَمِ الجنسيَّة للمرأة والرجل وتأْثيرِها في تكوينِ العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، أَو بِشَكلٍ لاشُعوريّ، حين يتجنَّبون تِلقائيًّا التعرُّضَ لتلك المسائل، أَو يُدافعون عنها باعتبارِها قِيَمًا مُقدَّسةً لا يجوز مَسُّها، لذلك يتحاشونَ الخوضَ فيها. وكِلا هذين النوعَينِ من المفكِّرين خاضعٌ للعقلِ المجتمعيّ، الأَوَّل بِوَعيِه والثاني بدونِ وَعيِه. مثلاً: لاحَظْنا أَنَّ كاتِبًا كبيرًا وأُستاذًا جامعيًّا معروفًا، عاشَ في أَمريكا ودرَّس في جامعاتِها، لم يتعرَّضْ لهذه القيمةِ المعروفةِ والمُنتشرةِ على نِطاقٍ واسع، في كتابِه المهمّ الموسوم بـ"المجتمع العربيّ في القرن العشرين"، الذي يتجاوزُ ألفَ صفحة.5 وهكذا يُعبِّرُ العالِمُ النفسانيُّ علي زيعور عن هذه الظاهرةِ حينَ يصِفُ" اللاوَعْيَ الثقافيّ العربيّ بالمقموعِ والتجاربِ الدفينة، بالمستور والغرفةِ المُظلِمة، بالممنوعِ فتحُه، والذي لا يصحُّ شهودُه أو النظر فيه."6
- تعكسُ هذه القيمة، في "العقلِ المجتمعيّ" السائدِ لدَينا بالإضافةِ إلى قِيَمٍ أُخرى كثيرة، مظهرًا من مظاهرِ وضعِ المرأة في مركزٍ أَدنى من الرجل، على جميع المُستوَيات. فللرجلِ، مَثلاً، الحقُّ في مجتمعنِا أَنْ يُمارسَ الجنسَ بدونِ قيْدٍ تقريبًا، قبل الزواجِ وبعدَه، أَحيانًا، وفي مُعظَم الأوساط. ولا توجَدُ أَيَّةُ عُقوبةٍ تَقعُ على الرجل يفرضُها المجتمَعُ أَو القانون، من جرَّاءِ ذلك. والأَدهى أَنَّ هذا الحقَّ مُخالِفٌ تمامًا للشريعةِ ويستحقُّ "الحدّ"، ومع ذلك فالرجلُ الذي يُمارسُه كان يُعتَبرُ، على الأَقلّ في مجتمعِنا العراقيّ الذي نشأتُ فيه، "سَبـعًا"، أَي أَسدًا. وهو وصفٌ يدلُّ على الجرأةِ والشطارةِ والحذاقةِ والفحولة، وجميعُها قِيَمٌ يحترمُها العامَّةُ والخاصَّةُ، أَي إنَّها تُشكِّلُ جزءًا من "العقلِ المجتمعيّ" السائد. وكان ذلك الرجل (الجاني الأوَّل) الذي قتَلَ شقيقتَه غسْلاً للعار معروفًا بأَنَّه يُمارِسُ الجنسَ غير المشروع واللواط، ويُعتَبر "سبع المحلـّة" لهذا السبب.
- ظلَّت نظرةُ "العقل المجتمعيّ" للمرأةِ دونيَّة، كما كانت في الجاهليَّة: )وإذا بُشِّر أَحدُهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مُسْوَدًّا وهو كظيم.(7 وهذا الأَمر ما يزالُ سائدًا في مجتمعاتِنا. فالحالاتُ التي أعرفُها في العراق كثيرةٌ جدًّا، تَصِلُ إِلى حَدِّ أَنَّ والدتي كانت تُصرِّحُ أَنَّها تذهبُ لعيادة المرأة النفساء، لمُواساتِها إذا ولَدَت أُنثى، ولِتهنئتِها إذا وَلَدَت ذَكَرًا. وكَم عَرفْتُ من حالاتٍ ضَرَبَ الزَّوجُ فيها الأُمَّ لأَنَّها ولدَت أُنثى أُخرى، أَو طلَّقَها بِسَببِ ذلك. بل وصلَتْ، كما كنتُ أَسمعُ في طفولتي وصِبايَ، إِلى حدِّ قِيامِ الأُمِّ بِخَنق مولودتها البريئة، أَو الامتناعِ عن إرضاعِها حتَّى الموت، بعد الولادة مُباشرةً، لتحمِيَ نفسَها من الطلاق أو الضَّرب، ورُبَّما تَيَمُّنًا بِبَعض الأمثالِ الشعبيَّةِ السائدة، في كثيرٍ من الأوساطِ العربيَّة، مثل "موتُ البنات من المكرُمات"، و" لو ماتَت أُختُك انستَر عِرضُك"، أو "ولَدٌ مجنون ولا بُنيَّة خاتون"، أو "هَمُّ البنات حتى الممات." كما وصلَتْ إِلى حدِّ أَنَّ بعضَ الآباء الذين يـُبلَّغون بِجِنس الوَليد قبل الولادة، كما هو معروف اليوم، يُـقدِمون على دَفْع الزوجة، طوعًا أَو كُرهًا، إلى الإجهاض، في حالةِ العلم بأَنَّ الوليدَ سيكون أُنثى، كما علِمْتُ من إِحدى الطبيباتِ العراقيَّاتِ مؤَخَّرًا. لذلك أصبحَتْ هذه الطبيبة تمتنعُ عن إبلاغِ ِجِنسِ الوليد إلى الزوجَين. وقد أَكَّدَ تقريرُ الأُمم المتَّحدة الأخير أَنَّ مِن أَهمِّ أسبابِ تَخلُّفِ العرب هو وضعُ المرأة في المجتمع العربيّ في مركزٍ أدنى.8
نخلصُ من كلِّ ذلك إِلى أَنَّ هناك عشراتٍ بل رُبَّما مئاتٍ من أمثال هذه القِيَمِ التي تكمنُ في "العقل المجتمعيّ". ونحنُ نرى أَنَّها تُشكِّلُ جُزءًا مُهِمًّا من التراثِ العربيِّ الإسلاميّ، ليس بوجهه الناصع، بل بوجهه الكالح . وقد انحدَرَت هذه القِيَمُ إِلينا من عصورٍ تاريخيَّةٍ سابقة، وخاصَّةً الفترات المظلمة. لذلك نتَّفقُ مع محمَّد عابد الجابريّ الذي يقول إِنَّ التراثَ هو "كلُّ ما هو حاضرٌ فينا أو معَنا من الماضي."9 كما نُشير إِلى أَنَّ "العقلَ المجتمعيّ" يحتفِظُ في اللاشعور بتَجارِبَ وانطباعاتٍ لأَحداثٍ أغفلَها التاريخُ أَو نسِيَها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقييم القيـّم
ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ الحكمَ على مِثلِ هذه القيم، أو تقييمَها، يرتبطُ هو الآخر بـ"العقل المجتمعيّ"، أَي ينبغي أَن لا نُقَيِّمَها استنادًا إِلى أَحكامِنا الخاصَّة، بل في ضوءِ الأَوضاع والشروط التي يُحدِّدُها "العقل المجتمعيّ" نفسُه، في إِطارِ زمانِها ومكانِها (يختلفُ العقلُ المجتمعيُّ تَبعًا لاختلافِ الشعوبِ وتَبعًا للزمان، كما سأوضِحُه فيما بعد). ومع ذلك، فإِنَّ هذا لا يعني الامتناعَ عن نَقْدِ تلك القِيَمِ وتحليلِها وتأْصيلِها وتنظيرِها، كما فعَلنا في الحالةِ المدروسة أَعلاه. أَي إنَّنا نحرص على قراءةِ مفرداتِ التراث بمنهجيَّةٍ علميَّةٍ تُلزِمُنا على وضْعِها في إِطارِها الصحيح، سواءٌ من جهةِ انتسابِها إِلى الماضي وفَهمِها على هذا الأساس، من ناحية، أَو من جهة ارتباطِها بنا باعتبارِنا آخِرَ وَرَثَتِها الذين لهم الحقُّ في فَهمِها وعَقلَنَـتِها وتَـبْـيِئتِها لأَوضاعِنا ومفاهيمِنا واحتياجاتِنا الراهنة، من ناحيةٍ أُخرى. ولعلَّ الجابريّ قد عبَّرَ عن هذا المعنى الذي نريدُه بتطبيق قراءةٍ عصريَّةٍ للتراث "تهدفُ إلى جَعلِ المقروء مُعاصِرًا لنفسِه على صعيدِ الإشكاليَّة النظريَّة والمُحتوى المعرفيّ والمضمونِ الإِيديولوجيّ، أَي قراءته في محيطِه الاجتماعيِّ التاريخيّ، من جهة، وفي ذات الوقتِ جَعله مُعاصِرًا لنا، من جهةٍ أُخرى، على صَعيدِ الفَهم والمعقوليَّة." ويرى أَنَّ هذا هو المعنى الحقيقيّ والعميق لـ"الاجتهاد"كما مارَسَه كِبارُ العلماء المسلمين. وبالمقابل يرفضُ الجابري"القراءة التراثيَّة للتراث التي تجرُّ إلى القراءة التراثيَّة للعصر: قراءة عصرِنا بنَفسِ تراثِنا أَو بتُراثٍ آخَر وثقافةٍ أُخرى." 10
قيـّم طالحة وقيم صالحة
وعلى صعيدٍ آخر، فإِنَّ دراسةً قيِّمةً مُعَيَّنةً بارزةً، كالتي قُمنا بها آنفًا، لا تعني الحُكمَ على جميع قِيَمِ "العقل المجتمعيّ" العربيّ أَو الإسلاميّ (وهنا يجب أَن نُفرِّقَ أيضا بين الإسلام كنَصٍّ وشريعةٍ معروفة، والإسلام كمُمارسَةٍ مألوفة) بِنَفسِ المعيار الذي يوحي للقارئ بسَلبيَّةِ هذه القيمة التي جئنا بها كمِثالٍ فقط. أَي إنَّ العقلَ المجتمعيّ العربيّ أَو الإِسلاميّ حافلٌ بالقِيَمِ الإيجابيَّة أَو السلبيَّة، كغيرِه من العقول المجتمعيَّة، لأَيَّةِ أُمَّةٍ أُخرى. ولكنَّ القيمَ السلبيَّةَ تطغى على القِيَم الإيجابيَّة وتخنقُها في هذا العصر الذي نواجِهُ فيه أَخطرَ التحدِّيات التي يُمكِن أَن تقضِيَ على البقيَّة الباقية من كيانِ الأُمَّة ووجودها المادِّيِّ والحضاريّ. لذلك فإِنَّ من جُملةِ أَهدافِنا من هذا البحث الكشَفَ عن القِيَمِ السلبيَّة وتجذيرَ أُصولِها، التي قد لا تكونُ لها علاقةٌ بتُراثِنا العربيِّ أَو الإِسلاميِّ الحضاريّ، بُغيَةَ فضْحِها ورفضِها ومُحاربتِها. ومن جهةٍ أُخرى، نُحاولُ تلمُّسَ القِيَم الإِيجابيَّة لِبَثِّ روحٍ جديدةٍ فيها أو تحيـينِها أَو نقدِها، للانطلاقِ منها إِلى حداثةٍ تعترفُ بِهُويَّتِنا وتُراعي ثقافتَنا، لا حداثة تحذو حَذْوَ الحداثة الغربيَّة، "حذو النَّعل للنَّعل"، كما تقول العرب. وذلك عن طريق استخدامِ "العقل الفاعل"، في نقدِها، بنَفسِ القَدر الذي يُمكنُ أَن ننقدَ فيه "العقلَ المجتمعيّ" الغربيّ، فيما يتعلَّقُ مثلاً بِنَظريَّات "التفوُّق الحضاريّ العِرقيّ" وما يتبَعُها من نهجِ مدّ "السيطرة والنفوذ" أَو"العَولَمة" ونظريَّة "نهاية التاريخ" ونظريَّة "صراع الحضارات" إلخ... أقول نقدَها أَو تفنيدَها— ولا أقولُ رفضَها— بِنَفسِ الروح الموضوعيَّة والمنهجيَّة العلميَّة التي ننقدُ بها تُراثَنا وعقلَنا المجتمعيّ، كما سيأتي تفصيلُه في حلقةٍ قادمة.
فهم التراث من خلال فهم العقل المجتمعي
المهمُّ أَن نُشَدِّدَ، في إِطارِ بحثنا الراهن، على أَنَّ فهمَنا العميقَ للعقلِ المجتمعيِّ العربيّ يُساعدُ على فَهْمِ التراث: أَي كيف وَرِثْنا هذه القِيَمَ والأَعرافَ والمُعتقدات؟ ومتى ولماذا؟ وهل ترتبط بأُصولٍ معقولةٍ ومقبولة؟ فإِنْ تجلَّت لنا أُصولُها وفصولُها وأسبابُ وجودها، فإِنَّنا قد نتمكَّنُ من الحُكمِ عليها، وبالتَّالي التمسُّكِ بها أو نَبذِها، عن طريق استخدام "العقل الفاعل"، الذي نعتبرُه القاضي الصارمَ الذي يجرؤ على محاكمةِ "العقل المُنفَعِل" وبالتالي العقل المجتمعيّ، كما سأَشرحُ ذلك في بحثٍ آت.
وفضلاً عن ذلك، فإِنَّ التنقيبَ العميقَ في العقلِ المجتمعيِّ العربيِّ والإسلاميّ لاستكشافِ ما يحتويه من أدرانٍ خبيثةٍ وبقايَا جواهرَ نظيفة قد يُثيُر فُضولَ الآخرين، وخاصَّةً الباحثين، لإِنعامِ النظر في أُصولِه واستكشافِ مِصداقيَّته وأَهمِّـيَّته وآثاره وأَبعاده، بُغيةَ الإسهام في نَقْدِه أَو تعديلِه أَو تشذيبِه، بِغَرضِ توجيه مجتمعنا إلى الطريق المناسِب والصحيح لِدخولِ القرنِ الحادي والعشرين، الأمرُ الذي نعتمدُ عليه في إنقاذ هذه الأُمَّةِ من هذه الغمَّة.
لماذا أغفل العقل المجتمعي العربي قيـّم التراث الحسنة
وفي أَثناءِ حفريَّاتِنا العميقةِ في العقلِ المجتمعيِّ العربيِّ الراهن، سنتساءَل لماذا لم يتضمَّنْ ذلك العقل بعضًا من القِيَمِ الإيجابيَّةِ التي يَحفلُ بها التراثُ العربيُّ الإسلاميّ، نظريًّا وعَمَليًّا، من أمثال: "اطلبوا العِلمَ من المهدِ إلى اللحد"( حديث)، و"اطْلبوا العلمَ ولو في الصين"(حديث)، و"العلمُ مقرونٌ بالعمل، فمَن عَـلِمَ عَمِلَ. والعلمُ يهتفُ بالعمل، فإِن أَجابَه وإِلاَّ ارْتحل" (الإمام علي)ّ ، و"متى اسْتَعبَدتُم الناس وقد ولَدَتهم أُمَّهاتُهم أَحرارًا (الخليفة عمر) و"أَمرُهُم شورى بينهم" (آية)، ولماذا لم تتطوَّر تلك الشورى بعد النهضة الأخيرة، لِتُصبحَ عمليَّةً ديمقراطيَّةً تتضمَّنُ الانتخاباتِ الحرَّة وفَصْلَ السلطاتِ الثلاث واستقلالَها وتوازُنَ صلاحيَّاتها إلخ؟... وكلُّ هذه الإيجابيَّات وغيُرها تُشكِّلُ جُزءًا من التراث الإسلاميّ، كما إنَّها أصبحت جزءًا مهمًّا من أركانِ الحَداثة. لذلك قال الشيخُ محمد عبده قولتَه الشهيرة، بعد زيارته للغربِ المسيحيّ: "وجدْتُ إسلامًا بلا مُسلمين، وأَجِدُ هُنا مُسلمين بلا إِسلام."
المصادر
الأعرجي،علاء الدين صادق كتاب" الأمة العربية بين الثورة والانقراض" ابتداء من صفحة 178، الطبعة الورقية الأولى،2015 .