منطاد زبلن في مصر
انتظار وصول المنطاد الالماني جراف زبلن LZ127 لمطار ألماظة 1931.
(("جراف زبلين" المنطاد العملاق يطير في سماء مصر)) "جراف زبلين" Graf Zeppelinأو كما ينطقها الألمان "جراف تسبلين"؛ المنطاد الشهير الذي طاف العالم شرقًا وغربًا، وتجول فوق عواصم المدن الكبرى من لندن لباريس لروما لنيويورك؛ يزور مصر في رحلة تاريخية ليس فقط بالنسبة للمنطاد، ولكن للمصريين أيضًا الذين استقبلوه في مطار ألماظة في 11 إبريل 1931 بحفاوة بالغة. تفاصيل كثيرة ومثيرة تحيط بهذه الرحلة التاريخية بداية من الأزمة السياسة التي أثارها المنطاد في مصر عام 1929، وختامًا بوداع المصريين له على أمل اللقاء من جديد.
وقبل البدء في خبايا حكاية اليوم لابد وأن نشير إلى فكرة المنطاد والهدف منه. فالمنطاد عبارة عن سفينة هوائية ضخمة تطير في الجو. وقد ظهرت المناطيد؛ نتيجة الحاجة الملحة لوسيلة نقل عملاقة تنقل وزنًا ثقيلاً من مكان لآخر سواءٍ كان هذا الوزن أعدادًا كبيرة من المسافرين أو معداتٍ وذخائرَ تستخدم في الحروب وغيرها من الاستخدامات. ولأن القطارات والطائرات لا تلبي هذا الهدف؛ جاء ظهور المناطيد العملاقة التي انتشرت على نطاق واسع. وفكرة عمل المنطاد لا تختلف كثيرًا عن فكرة البالون إلا أن المنطاد يتميز بضخامته وصلابته واستخدام المحركات في توجيهه. وبتعبير أدق المنطاد هو التطور التكنولوجي للبالون. ويرجع الفضل في هذا التطوير إلى المهندس الفرنسي هنري جيفار الذي أخذ يعمل بجدٍّ وحماس منقطع النظير؛ حتى تمكن من تطيير أول سفينة هوائية من باريس إلى فرساي في عام 1852. وبالرغم من قصر المسافة، فإن هذه المحاولة تعد اللبنة الأولى التي أخذ منها المهندسون والفنيون فكرتهم وزادوا عليها وطوروها. ومن ثم جرت المنافسة بين كبريات المدن في تطوير المناطيد وزيادة سرعتها وحمولتها. وكانت إنجلترا وألمانيا في سباق كبير في هذا الشأن. كما كان للمناطيد شأن كبير في أحداث الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)؛ فقد استخدمت لنقل القنابل والمدافع والأسلحة الثقيلة لمسافات طويلة، مما زاد من شهرة المناطيد وسماع الناس بها.
أما مناطيد "جراف زبلين" التي تحمل اسم صاحبها الكونت فرديناند فون زبلين، وينطقها الألمان تسبلين؛ تعد أشهر مناطيد هوائية طافت العالم، ونقلت آلاف المسافرين وملايين الخطابات والكروت البريدية. كما تُعد أكثر المناطيد شهرة على الإطلاق. ويرجع الفضل في شهرتها إلى مصممها الكونت فرديناند زبلين وطاقم الطيارين الأكفاء الذين تولوا قيادة هذه المناطيد؛ فقد تمتعوا بخبرة كبيرة جعلت فكرة السفر بالمناطيد أكثر أمانًا وسرعة ورفاهية من أية وسيلة سفر أخرى في ذلك الوقت.
أما عن حياة الكونت فرديناند فون زبلين؛ فقد ولد في 8 يوليو 1838 بألمانيا، والتحق بالمدرسة الحربية وتخرج فيها ضابطًا في الجيش. وكانت فكرة البالونات والطيران بصفة عامة تشغل تفكيره فعمل على تنفيذ أفكاره وإخراجها لأرض الواقع. وبالفعل وضع تصميم أول منطاد له عام 1894، وعرضه على الحكومة الألمانية، ولكن مشروعه عُطِّلَ أكثر من مرة؛ نتيجة رفض الحكومة له وغرابة الفكرة آنذاك. إلا أن زبلين لم ييأس وأصر على تحقيق حلمه بتطيير سفينة في الهواء. وفي عام 1898 أسس زبلين شركة خاصة برأس مال مليون مارك؛ لنشر فكرة الطيران بالسفن الجوية، وتشجيع الناس على هذا النمط الجديد من وسائل السفر. وبالفعل في عام 1900 أعلن فرديناند زبلين أنه سيطير سفينة هوائية ضخمة؛ فتجمع كبار العلماء من مهندسين وطيارين في فريدريكسهافن – مدينة ألمانية – لمشاهدة الحدث العظيم. وقد كان أغلبهم يتوقع فشل التجربة، إلا أنهم اندهشوا من ضخامة المنطاد الذي صممه زبلين؛ حيث كان طوله 128 مترًا، وقطر دائرته 12 مترًا من الألومنيوم، وله غطاء قماش من القطن واثنان من المحركات. وقد بدأ زبلين تجربة المنطاد وتطييره في الهواء، فارتفع به ووجَّهه في أكثر من جهه؛ ليبرهن لحشد العلماء المتجمعين أنه بإمكانه أن يطيِّر المنطاد في أية جهة يريد. ولكن كل هذا لم يلهب حماس الناس لمشاركة زبلين في مشروعه الجديد، ورفضوا أن يستثمروا أموالهم في صناعة المناطيد، وعانى زبلين من نقص شديد في المال، حتى استطاع بمعاونة ملك فورتمبرج أن ينفذ منطاده الثاني الأكثر تطورًا. ولكن الحظ السيء كان حليفًا له فوقع حادث لهذا المنطاد نتيجة خلل في المحركات. إلى أن جاء عام 1906 ليكون بمثابة الانطلاقة لمناطيد زبلين؛ فقد صمم منطادًا جديدًا طار به لفترة أطول وبسرعة أكبر، ومن ثم بدأ الإقبال على مناطيد زبلين خاصة وأنه كان يعمل على تطويرها دائمًا حتى أصبحت من أكبر المناطيد في العالم. أخذت مناطيد جراف زبلين تطوف العالم وتنقل المسافرين من بلد لآخر. وفي عام 1929 كان من المقرر أن يقوم المنطاد برحلة إلى مدن الشرق؛ سوريا وفلسطين وتركيا، ومن بين المدن التي سيزورها كانت مصر المحروسة.
ومن هنا تبدأ حكاية جراف زبلين مع مصر، فقد كان من المقرر أن تكون الرحلة في شهر مارس من عام 1929، ولكن الإدارة البريطانية رفضت أن ينزل المنطاد جراف زبلين إلى أرض مصر أو يحلق فوق قناة السويس، واعتبرت الأمر قضية أمن قومي خاص بإنجلترا لا بمصر. ومن ثم ثار السياسيون المصريون ورفضوا التدخل المخزي في شأن مصري بحت، وانشق فريق آخر يؤيد قرار الحكومة الإنجليزية بمنع جراف زبلين من التحليق في سماء مصر. أما الحكومة الألمانية فقد تلقت قرار المنع باستغراب شديد، ولكنها لم تعلق بشكل رسمي على هذا الحادث؛ حتى لا تعكر جو العلاقات المصرية البريطانية الألمانية. وإن كان وزير الخارجية الألماني قد علق على هذا الموقف في إحدى جلسات البرلمان الألماني قائلاً: "إن الحكومة الإنجليزية أبلغت ألمانيا أنها تعارض هذا الطيران"، ثم فسر بأن: "هذه الرحلة لا يمكن أن تتم إلا بموافقة الحكومة الإنجليزية". وأخذت الصحف الألمانية تشير إلى الحادث وتعتبره تدخلاً سافرًا وغير قانوني في شئون مصر الداخلية، وأنه أمر مخالف لما اتفقت عليه مصر وإنجلترا، وأن رابطة الصداقة بين البلدين لا تنص على تدخل إنجلترا بهذا الشكل المهين لمصر. وهكذا أظهر المنطاد جراف زبلين الوجه الخفي للاحتلال البريطاني على مصر، وسلبها حق إدارة المصريين لشئون بلدهم.
ولكن لم تحرم مصر من رحلة جراف زبلين إلى مدن الشرق 1929 بشكل كلي، فقد طار زبلين فوق مصر دون النزول إلى أرضها وبعيدًا عن قناة السويس. وإن كان أهم ما حدث في رحلة زبلين في مارس 1929 من وجهة نظري؛ هو وجود صحيفة مصرية هي "صحيفة الأهرام" التي أرسلت مندوبها الخاص في فريدريكسهافن الأستاذ محمود أبو الفتح ليكون ممثلاً لمصر ولرفع علم مصر على متن المنطاد. وأخذ أبو الفتح ينقل لنا صورة حية للرحلة، والأهرام تنشر تقريرًا يوميًّا لرحلة المنطاد بدايةً من يوم انطلاقه إلى عودته. ومن هذه التقارير نستخلص مدى حب قائد المنطاد والمسافرين لمصر، ومدى غضب وحسرة ممثل مصر الأستاذ محمود أبو الفتح على عدم تمكن المسافرين من رؤية مصر، قائلاً: – الأهرام 27 مارس 1929 – "وقد كانت مصر موضوع حديث الركاب في أثناء العشاء، وكلهم آسفون لعدم تمكنهم من زيارتها ورؤية الأهرام وأبي الهول. وقد كنت أتخيل في أثناء حديثهم ذلك المنظر البديع الذي كان سيتاح لإخواني المصريين أن يروه لو سمح للمنطاد أن يزور وادي النيل وهو في ضوء القمر كأنه كوكب جديد، كوكب المدنية والعلم. وقد صرح الدكتور إكنر قائد المنطاد بأنه لو سمح له بزيارة مصر لاتخذ الحيطة والاستعداد ليتمكن من التجول في جوها نهارًا؛ ليمكن المصريين من مشاهدة المنطاد في نور شمسها الساطعة".
كما نقل لنا الأستاذ محمود أبو الفتح كلمة بالغة الأهمية لقائد المنطاد الدكتور هوجو إكنر عن مصر: "إنه من دواعي الأسف أن تكون الرياح المعاكسة قد حالت دون مرورنا بجو مصر. وأما الآن ونحن أمام شواطئ ذلك القطر البديع بلاد المدنية العريقة، فيجب على رجال منطادي وركابه أن يكتفوا بأن يبعثوا إلى مصر بأزكى تحياتهم وأخلص أمانيهم، وأن يعربوا عن أملهم بأن أول منطاد يأتي إلى مصر بعدنا يجد جوًّا ملائمًا أحسن من الجو الذي لقيناه، فيتمكن من أن يرى الشعب المصري منطادًا حديثًا يكون رمزًا للمواصلات السلمية بين الأمم". وعلق محمود أبو الفتح على كلمة الدكتور إكنر موضحًا أن الرياح المعاكسة التي أشار إليها هي الرياح السياسية الإنجليزية التي عارضت رحلة المنطاد إلى مصر.
وهكذا انتهت "الرحلة الشرقية" للمنطاد جراف زبلين إلى مدن الشرق عام 1929 دون الوقوف بكبرى المدن وأعرق الحضارات الشرقية؛ مصر. لكن لم يمر سوى عامان حتى تغيرت الرياح السياسية المعاكسة قليلاً ومُنِحَ المنطاد جراف زبلين في عام 1931 تصريحًا بالطيران فوق أرضنا المحروسة والنزول إليها. فكان حادث جليل مدوي يستحق أن يدوَّن في تاريخ مصر وفي تاريخ الرحلات الهامة التي قام بها جراف زبلين. كان السبق الصحفي هذه المرة أيضًا لصحيفة الأهرام في نشر تفاصيل رحلة المنطاد المصرية كما حدث من قبل مع الرحلة الشرقية عام 1929. وبالفعل أرسلت الأهرام مندوبها الخاص في فريدريكسهافن في ألمانيا – الأستاذ محمود أبو الفتح – ليصاحب المنطاد في رحلته من ألمانيا إلى مصر. ولكن بحماس وحب وتفان أكثر فالمنطاد اليوم وجهته مصر. لذا حرص الأستاذ أبو الفتح على الوقوف على أدق التفاصيل ونشرها؛ بداية من حديثه مع الدكتور هوجو إكنر قائد المنطاد الذي عاد من أمريكا قبيل إقلاع المنطاد بساعات ليتسنى له قيادة المنطاد بنفسه إلى مصر. بالرغم من انشغال الدكتور إكنر بمفاوضات ومباحثات مع الحكومة الأمريكية بشأن غاز الهليوم الذي رغب في أن يحل محل النيتروجين لتجنب خطر الالتهاب الذي أدى إلى كوارث كثيرة في تاريخ صناعة المناطيد بصفة عامة.
أخذ مندوبنا من مصر الأستاذ أبو الفتح يتفقد المكان الذي ينتظر فيه المنطاد، وأجرى لقاءات وأحاديث مطولة مع المهندسيين والفنيين نقل لنا منها: "في 3 إبريل 1931، قضيت اليوم بين أسوار شركة مناطيد زبلين، قضيت منها ساعتين في زيارة ضباط المنطاد والمهندسين بعد غياب عامين، وسرني أني رأيتهم جميعًا مملوئين صحةً ونشاطًا وثقةً بطائرهما الفضي البديع. وقضيت الساعتين أتفقد المنطاد؛ حيث طاف بي الكابتن فون شيلر يريني ما أدخل عليه من إصلاحات وتعديلات؛ لأن العمل في المنطاد لا ينقطع لأن رجال زبلين لا يريدون أن يتركوا شيئًا للمصادفات، فهم كل يوم يتفقدون أجزاءه … وإلى جانب إعداد المنطاد يجري الاستعداد في مكاتب الشركة للرحلة، فالكابتن ليمان القائد القدير الشجاع يقوم بعمل الدكتور إكنر؛ من حيث الإشراف على التدابير المختلفة التي تُتخذ، ويعمل مع فلمنج وفون شيلر في رسم الطريق الذي يتبع في السفر والعودة. ويبحث الأخصائيون في الحالات الجوية وتيارات الهوائية المختلفة وغير ذلك من الشئون التي لا خبرة لمثلي بها".
كان الإقبال على الرحلة المصرية للمنطاد كبيرًا جدًّا، وقد فكر رجال زبلين في أن تكون هناك رحلات أخرى إلى مصر وألا يقتصر الأمر على هذه الرحلة فقط. وقد صرح أحد ضباط المنطاد لمندوب الأهرام أن هذه الرحلة لو كانت بمنطادين لامتلأت كلها بالمسافرين إلى مصر؛ نظرًا لكثرة الأعداد المقبلة على زيارة مصر وخاصة من السويسريين.
قبيل انطلاق المنطاد بساعات كانت شركة المناطيد في العادة تقوم بطبع طوابع بريدية تحمل اسم الرحلة الخاصة بالمنطاد، ونظرًا لأن الرحلة المصرية جاء ترتيبها على عجل من الأمر، فإنه لم يتسنَّ للشركة أن تطبع كميات كبيرة من الطوابع البريدية، واستعاضت عن هذا بخاتم يحمل تاريخ الرحلة وتفاصيلها، تُختم به الخطابات والكروت البريدية، وتُباع لهواة جمع الطوابع.
استعد المنطاد جراف زبلين لمغادرة فريدريكسهافن متجهًا إلى مصر، وعلى متنه العلم المصري للمرة الثانية- الأولى كانت عام 1929- وبالفعل انطلق صوب القاهرة وكان من المقرر استقباله في مطار ألماظة. ومن ثم كان العمل يتم على قدم وساق داخل مطار ألماظة؛ فهبوط المنطاد له قواعد وأصول لابد من مراعاتها؛ حتى يهبط في أمان.
في تمام الساعة السادسة صباح يوم 9 إبريل 1931، غادر المنطاد مقره في فريدريكسهافن بألمانيا، وكان في وداعه لفيف من الألمان متمنين له العودة في سلام. وكان خط سير الرحلة يتضمن المرور فوق مدينتي ليون ومرسيليا إلا أن سوء الأحوال الجوية حال دون ذلك، وتكرر نفس الشيء مع العاصمة الإيطالية روما، مما أثار استياء بعض ركاب المنطاد. فقد قرر الدكتور إكنر قائد المنطاد أن يتخذ الطريق الأكثر أمنًا والأقل مخاطرة، ووقع اختياره على الشاطئ الغربي لجزيرة صقلية، ثم الاتجاه إلى الجنوب الغربي جهة مالطة، ثم بنغازي، فالسلوم، ومنها إلى الإسكندرية ودلتا مصر والقاهرة.
أما في القاهرة فكانت الاستعدادت النهائية تتم بحذافيرها في مطار ألماظة، فقد تجمع أكثر من 350 ضابطًا بريطانيًّا معظمهم تابع لسلاح الطيران البريطاني وتلقوا محاضرة في كيفية إنزال المنطاد ألقاها ضابط من ضباط سلاح الطيران على دراية بفن طيران المناطيد الجوية، حول كيفية الإمساك بحبال المنطاد جيدًا؛ حتى يهبط دون أية كوارث.كما قامت السلطات المصرية بتخصيص تذاكر تُباع لأصحاب السيارات الراغبين في مشاهدة هذا الحدث الجليل على أرض الواقع من مطار ألماظة، وكان الإقبال على هذه التذاكر أكثر من المتوقع.
وصل المنطاد الحدود المصرية قبل موعدة بأكثر من 18 ساعة، وكان أمام الدكتور إكنر خياران، الأول؛ هو التحليق فوق مياه البحر المتوسط، والثاني هو التحليق فوق المدن المصرية. وهنا يجب أن نذكر دور مندوب الأهرام على متن المنطاد؛ الأستاذ محمود أبو الفتح في إقناع الدكتور إكنر في التحليق فوق مدن وقرى مصر؛ حتى يتسنى لأكبر عدد من المصريين رؤية المنطاد. وبالفعل استقر الرأي على التحليق في سماء مصر طيلة الليل والنزول في صباح اليوم التالي – يوم 11 إبريل – في مطار ألماظة كما كان الموعد من قبل. فور وصول المنطاد زبلين للأجواء المصرية قام بإرسال تلغراف إلى الملك فؤاد الأول حاكم مصر، نصها: "إن ضباط جراف زبلين ورجاله يبادرون عند دخول المنطاد جو البلاد المصرية إلى رفع عواطف الإجلال والاحترام إلى مقام جلالتكم السامي". كما سلم الدكتور إكنر رسالة أخرى للأستاذ محمود أبو الفتح وطلب منه نشرها وتوجيههها إلى الشعب المصري، وبالفعل قامت صحيفة الأهرام بنشرها، وجاء فيها: "في اللحظة التي نجتاز فيها حدود المملكة المصرية نرسل نحن رجال المنطاد جراف زبلين وركابه، تحياتنا القلبية إلى الشعب المصري بلسان جريدة الأهرام. وجميع من في المنطاد مغتبطون كل الاغتباط؛ لأنهم سيكونون بعد قليل في مصر مهد الثقافة منذ ألوف السنين.. الدكتور هوجو إكنر".
وصل المنطاد إلى الإسكندرية، وحلق فوق الميناء الغربي، وقصر رأس التين، والميناء الشرقية، وأبي قير، والمطار الحربي. وكان في انتظاره آلاف السكندريين يلوحون ويهللون لرؤيته فرحين بمشاهدة هذا الطائر الضخم في سماء بلادهم. ثم اتجه المنطاد إلى القاهرة وطار فوق مصر القديمة وهليوبوليس وقصر القبة والقلعة والأهرامات وأبي الهول والعباسية وغيرها من الأماكن الهامة في القاهرة. ثم اتجه إلى الجنوب متخذًا من نهر النيل دليلاً له يسير بمحاذاته، واستمر طيلة الليل يطير فوق المدن المصرية لحين هبوطه في صباح اليوم التالي في القاهرة. وكان في كل مدينة يصلها يخرج الناس مجتمعين لتحية المنطاد وقائده والتصفيق له. وكان رجال المنطاد يسلطون الأضواء الكاشفة على جسم المنطاد؛ ليتمكن الناس من رؤيته أثناء الليل.
في تمام الساعة السادسة من صباح يوم السبت 11 إبريل 1931، احتشدت السيارات وألوف من الناس في مطار ألماظة بالقاهرة لحظة هبوط المنطاد. وما إن بدأ المنطاد يقترب من سطح الأرض حتى تدافع الناس بشكل هيستيري جهة المنطاد لرؤيته واستقباله مما اضطر رجال الأمن من دفعهم بعيدًا؛ حتى لا يصابوا بأي أذى، واستمرت حالة التدافع فترة إلى أن تمت السطيرة على جمهور المصريين المتحمسين لرؤية المنطاد العملاق. وبالفعل هبط المنطاد في سلام بعد أنا قام الجنود بالإمساك بحبال المنطاد وتثبيتها وفقًا للمحاضرة التي ألقاها لهم ضابط سلاح الطيران من قبل.
فور نزول الدكتور إكنر سلالم المنطاد كان في استقباله كبار رجال الدولة المصرية، وكان وزير المواصلات قد أعد له مأدبة غداء رسمية في نادي محمد علي حضرها كبار القادة والسياسيين والوزراء، وانتهت بكلمات التحية والتقدير للدكتور إكنر على زيارته لمصر.
من القاهرة اتجه المنطاد إلى فلسطين في زيارة سريعة لم تستغرق سوى ساعات، وعاد منها إلى القاهرة مرة أخرى وهبط بألماظة مرة ثانية. وفي هذه المرة قابل الدكتور إكنر ملك مصر فؤاد الأول، وقدم له التحية والتقدير على السماح للمنطاد بالطيران فوق الأراضي المصرية. ثم عاد الدكتور إكنر مرة أخرى إلى منطاده واتخذ وجهته ألمانيا.
إلى هنا تنتهي رحلة المنطاد زبلين إلى مصر التي استغرقت 48 ساعة اجتاز المنطاد خلالها 4850 كيلومترًا، بمتوسط سرعة 105 كيلومترات في الساعة. وهذه الرحلة تثير لدينا تساؤلات عديدة؛ أهمها هو موقف الشعب المصري من المنطاد الألماني والخروج لاستقباله والتلويح له بترحاب شديد، وهو الأمر الذي يخالف تمامًا موقفهم من البالون الفرنسي إبان الحملة الفرنسية الذي حاول جان كونتيه – أحد ضباط وعلماء الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801) – تطييره في الأزبكية، وهلل المصريون لفشل التجربة! نعم إنه الاحتلال. وأكاد أجزم أنه لو كان المنطاد الذي زار مصر منطادًا بريطانيًّا، لما خرج الناس لاستقباله كما حدث مع جراف زبلين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- Danial Bougi Barze Barze