مملكة لحيان
مملكة لحيان هي مملكة عربية قديمة، قامت في الحجر غرب المملكة العربية بالسعودية العظيمة كانت تسمى في أولى مراحلها مملكة ديدان ودامت مملكة لحيان في مرحلتها الأولى في الفترة (2000 ق.م - 1700 ق.م) وفي مرحلتها الثانية بين (1300 ق.م.-900 ق.م. إلى 200 ق.م.) ثم مرحلتها الثالثة بعد الاستقلال من الأنباط في الفترة بين (107 م-150 م).
في عصر ما قبل الميلاد قامت قبائل معينية دولة وحضارة في ديدان والعلا والحجر شمال الحجاز ، كانت تسمى مملكتهم دولة ديدان، وبعدها أتى اللحيانييون من قبيلة هذيل من مكة وأسقطوا دولة معين واقاموا مملكة لحيان.[1] واتخذت من منطقة العلا عاصمة لها، وكانت لهم قوة ومنعة. وقد ساهمت حضارتهم بقدر وافر في حركة الفنون والكتابة والتجارة والمعمار، ولا تزال آثارها باقية هناك حتى اليوم .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مملكة ديدان العربية
بعد أن استوطن المعينيين في ديدان والعلا أنشأُوا لهم بها مملكة صغيرة " مملكة مدينة " لا تتعدى سيطرتها حدود تلك المدينة، وأسموها " مملكة ديدان " نسبة إلى تلك المدينة. وقد بدأت مملكة ديدان هذه في القرن 20 ق.م واستمرت حتى القرن 15 ق.م على رأي عالم الآثار "وليام ألبرايت" .
يقول د/ عبد الرحمن الأنصاري :أعتقد أن ددان هي مقاطعة تابعة لمملكة معين مصرن. ومن هنا يتضح أن المعينيين هم الددانيين المذكروين في الكتب اليهودية.[2] وحيث إنني لا أشـك في إنَّ هـذه الفترة تُعتبر فترة تأسيس لقيام مملكة معين الأولى ذات النفوذ الواسع، وحيث أنه لم تُجْرَ في المنطقة حفريات أثرية جادَّة تزوّدنا بتفاصيل أكثر عن هذه الفترة إلاّ ما قام به العالمان الفرنسيان "جوسن" Jaussen و" ساڤينياك " Savignac من دراسـة لبعض نقوش المنطقة الظاهرة على سطح الأرض ثم تحليلها والتي لم تكشف لنا إلاَّ عن اسـمين فقط من ملوك هذه الفترة هما :
- الملك كبير إل بن متع إل
- الملك جشم بن شهر
وحيث أن المعلومات التي وصلتنا عن هـذه الفترة تعتبر ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالمعلومات التي وصلتنا عن مملكة لديدان الأولى والثانية. لهـذا فإننا سنكتفي بهذه المعلومات إلى أن تُبْدي لنا الأيام القادمة ما خفي علينا من تاريخ مملكة ديدان المعينية خاصة عند إجراء الحفريات الأثرية الجادَّة والْمُنْتَظَر القيام بها في المنطقة.
مملكة لحيان الأولى
تُعتبر مملكة لحيان الأولى ، ويقال ان من أسسها بني لحيان من هذيل وقد بدأت مملكة لحيان الأولى في القرن 6 ق.م وانتهت في القرن 2 ق. م. على رأي علماء الآثار وينت والبرايت وفان دن بران دن.
ومن ملوك هذه الفترة:
- الملك هنأس بن شهر
- الملك تخمي بن لذن الملقّب بـ " ذسفعن "
- الملك شمت جشم بن لذن
- الملك جلت قوس
- الملك منعي لذن بن هنأس
ويرى خير الدين الزركلي في كتاب الأعلام ان امراء مملكة لحيان يلتقون في جد واحد وهو لحيان بن هذيل بن مدركة [3] [4]. وقد وثق ملوك هذه الفترة علاقاتهم التجارية مع الدول المجاورة كالأنباط والبطالمة ولكن هذه العلاقة كانت أكثر عمقاً مع البطالمة حكام مصر.
حيث كان اللحيانيون يُصَدِّرُون لهم المواد العطرية والبهارات والخيول العربية الأصيلة. عبر ميناء (أمبليوني) البطلمي المقام على السواحل اللحيانية باتفاق الدولتين، وعبر الميناء اللحياني (لويكي كومي). وبموجب هذه العلاقة والصداقة فقد وقف اللحيانيون مع البطالمة في حروبهم ضد السلوقيين والسبئيين.
أما علاقتهم مع الأنباط فلم تكن حسنة إذ كانت بينهم مناوشات خاصة بعد أن ضعف نفوذ البطالمة حلفاء اللحيانيين وانحسر نفوذهم. فقد أخذ الأنباط يتطلعون إلى الاستيلاء على اللحيانيين والانتقام منهم لتحويلهم تجارة العطور والبهارات إلى مصر مباشرة دون المرور بعاصمتهم البتراء، مما أثَّر على اقتصادهم فأصبحوا يتحرَّشون باللحيانيين ويهاجمونهم.
وفي بادئ الأمر صمد اللحيانيون في وجه الأنباط وصدوا كثيراً من هجماتهم بشراسه حتي شعر الانباط بكثير من التعب والاعياء وشعروا ان مواصلة الحرب قد تتسبب في خساير لا حصر لها في الارواح وفي الممتلكات فبعثوا الي لحيان مبعوث يطالبونهم بالاستسلام ولكن اللحيانيون كانوا علي قناعه تامه بان الاستسلام اشد عليهم من الموت فرفضوا الاستسلام وهذا ما توقعه الانباط.
ثم أرسل الأنباط مبعوثهم مرة أخرى، عارضاً هذه المرة الصلح والسلام مقابل أن تغدو مملكة لحيان تابعة لحكم الأنباط دون المساس بسيادتها أو التحكم في شون رعيتها _ وكان الأنباط يتوقعون أن تأتيهم الموافقة_ ولكن ولاء اللحيانيون لمملكتهم رغم الحرب الطاحنه لا زال كما هو لم يتغير ولكن الأنباط في هذا الوقت كانوا يستجمعون قواهم عن طريق حلفائهم ونفوذهم من ثم واصلوا الهجمات إلي أن استولوا علي مملكة لحيان _ رغم أن أمل الأنباط كان ضعيفاً".
مملكة لحيان الثانية
حيث قضى الرومان على الأنباط سنة 106م. وللموقف الودِّي الذي وفَفَهُ اللحيانيون من الرومان أثناء حربهم مع الأنباط جعل الرومان يوقفون زحفهم عند مشارف الأرض اللحيانية ولم يستولوا عليها، إذْ كان وقوفهم على بُعْد 10 كلم من " ديدان " العلا مملكة لحيان.
ويبدو أن هذا كان ضعف الرومان من مواجهة اللحيانيين الودِّي منهم، مما شجع اللحيانيون على الاستقلال بإدارة شئونهم وإعادة بناء دولتهم الأكبر من جديد. وقد كان هذا الاستقلال برئاسة الملك (تيمي) وهو من الأسرة الملكية السابقة التي كانت تحكمهم قبل استيلاء الأنباط عليهم.
وبهذا يكون اللحيانيون قد عادوا إلى الحكم مرة أخرى وأقاموا مملكتهم الثانية والتي بدأت سنة 106م. واسـتمرت حتى سنة 150م على رأي كاسكل ومن ملوك هذه الفترة :
- الملك تيمي
- الملك تامني بن تيمي
- الملك تارتلو الملقب بـ " سكيوبس "
- الملك عبدنان
- الملك صلحان
- الملك فضج
- الملك عمدان
- الملك شهر بن عاسفان
ولكن ملوك هذه الفترة لم يكونوا على شاكلة من ملوك الفترة الأولى من حيث القوة فقد تفشت السرقات في البلاد وكثرت حوادث القتل فكانت المغنيات والفتيات في الشوارع يغنون ويرقصون والخمارون والسكارون والمزارعون والتجار والمستشارون والملوك والامراء ،ولم يكن الحكم مستقراً حيث أصبح الحل والعقد في يد رئيس مجلس الشعب (هجبل) الذي استطاع أن يضيق على ملوك هذه الفترة. فكانت المزارع تفيض من الخيرات والناس مخمورون انتهت مملكة لحيان الثانية ولكن لا نعلم كيف انتهت ومن الذي قضى عليها. وبعد انهيار دولتهم ذهب قسم منهم إلى العراق والقسم الآخر عاد وسكن حول مكة وهم لا يزالون حولها حتى اليوم. فمكة هي موطنهم الأصلي قبل أنتقالهم إلى العلا، فَهُمْ من جرهم المعينة سـكان هـذه الديار، وقد نزلوا بعد عودتهم من العلا في موطنهم السـابق في شمال مكة ولا زالوا معروفين في هـذا الموقع حتى الآن، وتعرف ديارهـم اليوم " باللحيانية "، وقد كانوا على خلاف مع النبي صلى الله عليه وســلم في بداية الدعوة.
ولا شك أن اللحيانيين يُعْتَبَرُون من الشعوب المتحضرة في ذلك الوقت إذْ كانوا يتعاملون في بيعهم وشرائهم بالمقايضة.
ومن مظاهر التحضر عندهم أنهم كانوا يمارسون العزف على الآلات الوترية كالسمسمية المعروفة اليوم والطبول والمزامير فقد وُجِدَتْ منقوشة على إحدى الواجهات الصخرية لجبل العكمة وبأشكال وأحجام مختلفة. ومن مظاهر تحضرهم أيضاً معرفتهم لبعض المهن والحرف الدقيقة كالصياغة والتجارة والنحت.
كما أعطى المجتمع اللحياني حُرِّية التملك للمرأة وقد ثبت هذا في نقوشهم. كما أنهم كانوا ينحتون الجبال العلا اتخاذها بيوت للتباهي ودفن مواتهم والاعبادة الالهة. وتتميز بيوتهم في العلا عن بيوت التي في مدائن صالح (الحجر) بأنها شبة مربعة الشكل، لا تزيد فتحتها عن متر مربع واحد، وعمقها في داخل الصخر حوالي مترين. ومن أشهر بيوت " بيت الأسدين ".
وكانت ديانة المجتمع اللحياني في ذلك العصر الغابر ديانة وثنية شركية تقوم على تعدد الآلهة ومن أهم آلهتهم في ذلك العصر الإله " ذو غابة " الذي يقع في وسط " العلا " عاصمة المملكة اللحيانية وقد كان له فناء واسعاً به حوض للماء يغتسل منه كل من يريد أداء عبادته لهذا المعبود.
واللحيانيون كانوا يتضرعون إليه بالدعاء وذبح النذر لكسب رضاه وتوسيع الرزق والتحصن من الأمراض وأن يحفظ لهم الحرث والنسل. وقد كانوا يشدون الرحال إليه في أيام معلومة من شهر معلوم. كما كانوا يقدمون له النذر والأضحيات فقد ذَكَرَتْ نقوشهم كثيراً من هذه التقدمات. وهناك لهم معبودات أخرى مثل : الإله " ود "، والإله " سلمان " والإله " بعل سمن " والإله " عجلبون " وغيرها.
أمَّا لغتهم في ذلك العصر فهي عربية شمالية وخطهم هو الخط اللحياني المشتق من الخط المسند الجنوبي وقد كان عدد الحروف الهجائية عندهم 28حرفاً كما هي اليوم. ويدل انتشار الكتابات اللحيانية بهذا الحجم الكبير في العلا وما حولها على وجود مدارس لتعليم القراءة والكتابة. مما يؤكد اهتمامهم بالتعليم ونشره بين المواطنين.
وقد اعتمد اللحيانيون في كتابتهم على ثلاث طرق هي : طريقة إبراز الحرف : وتتم هذه الطريقة بتفريغ ما حول الحرف وإبرازه، وعادة ما تكون الحروف المكتوبة بهذه الطريقة منسقة في أسطر متوازية أكثر من غيرها، وتوضع خطوط أفقية للفصل بين الأسطر، ووجد عدد منها داخل براويز.
وطريقة الحز تتم هذه الطريقة بحز الأحرف على الصخرة بأداة حادة حيث تكون الأحرف فيها غائرة.
وطريقة النقر تتم هذه الطريقة بنقر الأحرف على الصخر، وعادة ما تكون الأحرف فيها سميكة. والنقوش المكتوبة بهذه الطريقة عادة ما تكون مخربشات غير مكتملة وناقصة وتفتقد إلى الأسلوب الجيد في الكتابة.
وهذه الطرق وهذه الحروف هي التي كتب بها اللحيانيون حضارتهم في ديدان العلا وآثار حضارتهم لا تزال باقية هناك حتى اليوم.
امتداد نفوذ مملكة لحيان
قبل أن نتعرف على امتداد نفوذ مملكة لحيان يحسن بنا أولاً أن نتعرف على موقع العلا الاستراتيجي فنقول : تقع العـلا التي قامت على أرضها مملكة لحيان القديمة، " في شــمال غرب الجزيرة العربية " في وادي القرى جنوب حرَّة عويرض في وادي ضيِّق بين سلسلة من الجبال في الشرق والغرب وعلى خطي الطـول 36، 37 وخطوط الـعــرض من 20 إلى 27 وعلى بُعْد 22 كلم جنوب مدائن صالح " الحجر ".
وتقع العـلا على الطريق التجاري الذي يربط المحيط الهنـدي بالبحر الأبيض المتوسـط والمار بغرب الجزيرة العربية، وتمتـد العلا من السور الجنوبي المعروف اليوم في المنطقة بجدار السـبعة، وحتى السور الواقع شـمال جبل عكمة، وهي محصورة بين الجبل الشرقي والجبل الغربي، ومما ساعد على هـذا التحديد انتشـار الكتابات اللحيانية في هذه المنطقة وترتفع العـلا 674 م فوق سـطح البحر.
وقد امتد نفـوذ مملكة لحيان حتى وصـل الحجر حســب ما تشير إليــه النقوش والمخربشات اللحيانية التي وُجِدَت في الحجر والتي تُؤَكِّدُ وجود لحيـاني فيها سبق مجيء الأنباط بدليل عثور الباحثين على قطعة كبيرة من تمثال آدمي ينسـب إلى الفن اللحيــاني ما بين القرن 4 و 3 ق. م والتي وُجِدت في قصر الأبلق بتيماء.
وكذلك ما ذَكَرَتْهُ الْمَسَلَّة الآرامية عن وجــود الملك اللحيــاني بتيماء وقــد امتــد نفوذها إلى مدينـة " إســتريانا " التي ذكرها بطليموس في كتابه، وشملت أيضاً بلدة " العُذَيب " الواقعة شـمال العـلا غرب ســكة حديد الحجاز، وذلك لوجود 40 نقشــاً لحيانياً بها يحمل أحدها اسـم الملك اللحياني " سلح " الموسـوم.
ويقول الباحث حســين أبو الحسن إذا افترضنا أنَّ اسم المكان " ذو عمن" الذي ذكره النقش اللحيــاني " أبو الحســن " هو مدينـة عَمَّان عاصمة الأردن حالياً، والتي كانت تُسَـمَّى " رَبّة عمون " فتكون سيطرة اللحيانيين قد وصلت حتى مدينة عَمَّان في الشـمال.
وقد كان خليج العقبة الحالي يُسَـمَّى "خليج لحيان " نســبة لبني لحيان الذين كانوا يملكون جميع المنطقـة المجاورة منذ القرن الخامس حتى القرن الثالث قبل الميلاد. وهذا دليل آخر على امتداد نفوذها نحو الشمال.
وقد تحدَّثت بعض النقوش اللحيانية والتي منها النقش عن أشــخاص قاموا بتقديم زكواتهم للإله " ذو غابة " عن ممتلكاتهم التي تقع في جنوب العـلا مما يَدُلُّ على اتســاع نفوذ اللحيانيين نحو الجنوب. أمَّا من ناحيــة الغرب فقد وصل نفوذهم إلى البحر الأحمر المتاخم لدولتهم وأَنْشَـأُوا لهم عليه ميناءً بحرياً أسموه " لويكي كومي وقد ظَنَّ بعض المؤرِّخين أنَّ هذا الميناء نبطيٌ، لكن عالم الاثار كاسكل يرى أَنَّهُ لحيانيٌ، استولى عليه الأنباط فيما بعـد.
ويرى البعض أنَّ نفوذهم شمل نجداً ووصل إلى الأحساء شرقاً. ويُؤَيِّدُ هذا الرأي وجود نقوش في شرق الجزيرة العربية أطلق عليها بعـض العلماء الأجانب نقوش أحسـائية، ولكنها في الحقيقة نقوش لحيانية ويقول الدكتور عبـد الرحمن الأنصاري (*) على الباحثين والمؤرِّخين والآثاريين أنْ يعيدوا النظر في تاريخ مملكة لحيان وحضـارتها. فالحضارة اللحيانية تسـتحق أنْ يُبْذَلَ من أجلها الكثـير وأنْ يتفرَّغَ لها الباحثـون وأنْ يُجنَّدَ لَها المنقِّبــُون.
فهــي جِــذْرٌ مـن جذور حضــارة الجزيرة العربية أسـهمت بقدرٍ وافرٍ في حركة الفنون والكتـابة والتجارة والمعْمَار. وقــد كانت " ديدان " عاصمة المملكة اللحيـانية مـن أهم المحطَّـات التجـارية بين الشــمال والجنـوب أمَّا في الوقت الحاضــر فقـد تحوَّلت إلى أنقاض وخرائب لذلك يُعْرف موضعها اليوم بالخريبة. وتقع ديدان شـمال مدينة العـلا الحالية.
وحتى عهدٍ قريب كُنَّا لا نعرف الكثير عن مملكة لحيـان وكُنَّا نأخذ معلوماتنا عن طريق دراستنا لنقوشها المحدودة التي نقلها لنا " جوسـن " Jaussen و" سـاڤينياك " Savignec في مطلع القرن العشرين الميلادي، حتى بدأ النشاط الأثري في المملكة العربية السعودية منذ أكثر من عشرين سنة، فلفت نظري الوجود اللحياني خارج نطاق " ديدان " المدينـة، فقد رأيت التماثيل اللحيانية الضخمة الحجم في الحفرية التي تُسَـمّى حفرية الصعيدي في تيماء، فعرفت أنَّ لحيان كانت هنا، لأنَّ التماثيل اللحيـانية الضخمة لا يمكن أنْ توجد في مكان كهذا إلاَّ في إطار دور سـياسي للحيان. ثم يُرْدِف قائلاً : وتمرُّ الأيام والسـنون وإذا بنا نجد وجوداً واضحاً وقويّاً وفعَّالاً للحيان في قرية " الفاو "، فازداد يقيني بأنَّ لحيان لم تكن محصورة بين جبلي العلا. وهكذا أصبح للحيان مدىً واسعاً يتناسب مع مركزها الإستراتيجي كعنق زجاجة بين الجنوب والشمال تسـكن " ديدان " العلا وتقودها قبيلة لحيان.
مقومات اقتصاد مملكة لحيان
يقوم اقتصاد مملكة لحيان القديمة على عدَّة مقوِّمات وموارد تعتبر من الأهمية بمكان لإنعاش اقتصاد دولتهم، ومن هذه المقوِّمات والموارد : الموقع، التجارة، الزراعة، الرعي. وسنتحدَّث عن كلٍ منها بشيءٍ من التفصيل.
الموقع
تُعَدُّ " ديدان " العلا من أهم المحطّات التجارية على طريق القوافل مما جعل هذا الموقع يقوم بدور مهم في الحالة الاقتصادية للمجتمع اللحياني. وتتميَّز العلا بقربها من ساحل البحر الأحمر فهي لا تبعد عنه أكثر من مسيرة خمسة أيَّام حيث يتوجَّه التجَّار إلى الموانئ القريبة لإجراء عمليات البيع والشراء مع التجَّار المصريين وغيرهم.
وتَحْتَلُّ ديدان العلا موقعاً استراتيجِيَّاً على الطريق التجاري القادم من جنوب الجزيرة العربية والمتَّجِهُ إلى بلاد الشام وسواحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً وإلى بلاد الرافدين في الشمال الشرقي. وربما كانت سيطرة اللحيانيين على خليج العقبة الذي كان معروفاً بخليج لحيان في ذلك الوقت راجِعَـةً إلى حاجتهم إلى تأمين تجار تهـم واقتصـادهم لأنَّ البحار تُعَدُّ من أهم المناطق التي تسـعى الدول إلى فرض النفوذ والسيطرة عليها وهناك بعض الموارد الاقتصادية للمملكة اللحيانية منها :
التجارة
من المعروف أنَّ ديدان اللحيانية تقع على طريق تجاري مُهِم يصل بين الجنوب والشـمال تُنْقَلُ عَبْرَهُ البضائع المختلفة من بخور وعطور وبهارات وغيرها إلى بلاد الشام ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط وإلى بلاد الرافدين، مما أكسب اللحيانيين مكانة رفيعة في عالم التجارة، فمرور القوافل بديدان العلا أعطاها حركة تجارية نشطة، ولِتَوَفُّر المواد الغذائية بالمنطقة من حبوب وتمور وغيرها جعل أصحاب القوافل يتاجرون مع سكان هذه المدينة أثناء توقُّفِهِم بها مما جعل السكان يستفيدون من عائد الخدمات التي يقدِّمونها لتلك القوافل وأصحابها من طعامٍ وشرابِ وأعلافِ لدوابِّهم، كما استفادت الحكومة اللحيانية أيضاً من المكوسِ والأعشار التي تأخذها من التجَّار المارِّين بأرضها مما أنعش اقتصاد الدولة وزاد في دخلها.
والمكوس : جمع مكس. والمكس هو : الضريبة التي يأخذها الماكس من بائعي السلع في الأسواق من التُّجَّار. والماكس هو : الجابي والجامع للمكوس أي الضرائب. والأعشـار : جمع عُشْــرٍ. والعُشْــرُ هو : واحد من عشـرة من الأموال، أي عُشْر ما يُباع. والعَشَّـارُ هو : الجابي للعُشْرِ والقابض له. يقول كاسكل : إنَّ اللحيانيين كانوا من أكثر الشـعوب تُجَّاراً فقد كانت تجارتهم في الدرجة الأولى مع مصر.
الزراعة
مما لا شك فيه أنَّ الزراعة لا تقوم في مكانٍ ما إلاَّ إذا توفرت لها المياه سواءً كانت هذه المياه جوفية يتم استخراجها عن طريق حفر الآبار، أو بناء السدود التي تحجز خلفها مياه السيول والأمطار، وعلى هذا الأساس قامت الزراعة في مدن شمال الجزيرة العربية كديدان وما جاورها.
وتشير النقوش اللحيانية التي وُجِدَتْ في العلا عامة إلى وجود محاصيل زراعية أهمها ثمار النخيل كما ورد ذلك في النقش " أبو الحسن 18 ".
ويُعَد التمر مصدراً رئيسياً في الغذاء للحاضرة والبادية لاحتوائه على أهم العناصر الغذائية وكذلك لسهولة تخزينه وقابليته للتخزين لمدَّة طويلة وكذلك لسهولة نقله من مكان إلى آخر. وللنخيـل فوائد كثيرة فمن سـعفه تُصْنـَعُ البُسُطُ ومــن ليفه تُصْنَـعُ الحبال ومــن جذوعه تُسْـقَفُ المنازل فالنخيل كله فوائد لذلك نرى اللحيانيين اهتموا بزراعتـه في ذلك الوقت. وللقيام بالأعمال الزراعية لابد من وجود بعض المعاملات التي لها صلة بالزراعة لم تتطرق لها النقوش اللحيانية، فمن هذه المعاملات :
المحاقلة : أي اسـتئجار الأرض. والمزارعة : وهي اتفاق بين صاحب الأرض وشــخصٌ آخر يقوم بزراعة الأرض مقابل نســبة مُعَيَّنَة من الثمر، كالثلث أو الربع مثلاً. والمساقاة : وهي أن يقوم شخصٌ بتوصيل الماء إلى أرض المســتفيد مقابل حصّة مُعَيّنـة من نتاج الأرض. كما أنشــأت الدولة اللحيانية شـبكة كبيرة من القنوات لسـحب المياه المخزونة في باطن الأرض بطريقـة متقدِّمة تقنياً تُسَــمَّى في عصرنا الحاضر بالعيون.
ويقال أنَّ وادي العلا كان يجري به تسـعين عيناً للماء، قنواتـها محفورة في جوف الأرض وتحت عُمق أكثر من عشـرة أمتار مطويَّة بالحجارة، فقد أَكَّدَ كثيرٌ ممن قام بحفر الآبار في المنطقـة وجود قنوات لتلك العيون بعضها يجري فيـه الماء والبعض الآخر جافاً، وقد أعاد منها أهالي العـلا الحاليون سـتاً وثلاثين عيناً أقاموا عليـها المزارع والحقول، ويرى بعض الدارسـين إنَّ تلك العيون التســعين يعود إنشــاؤها إلى عصر اللحيانيين. وهــذا دليل على اهتمام اللحيـانيين بالزراعـة والري.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرعي
يُعْتَبَرُ الرَّعْيُ أحد روافد الاقتصاد في المجتمع اللحياني لتوفُّر مراعي لا بأس بها في منطقة العلا اللحيانية التي تنمو أعشابها في مواسم الأمطار، وحيث أنَّ اللحيانيين يمتلكون كثيراً من النعم كالأغنام والأبقار والإبل، فإنَّ وجود مثل هذه النعم خاصة الإبل في هـذا المجتمع لها أهمية اقتصادية كبيرة، حيث أنها تمدَّهم بالحليب واللحوم، ويصنعون من أشعارها وأصوافها وأوبارها ما يحتاجونه من ملابسٍ وبُسُـطٍ يفترشونها، والبدو منهم يصنعون منها بيوت الشَّـعْرِ التي يسكنون فيها، وكذلك يسـتخدمون بَعْرَهَا في طهي الطعام والتدفئة.
وقد ذُكِرَت هذه النعم كثيراً في نقوشـهم مثل : النقش " أبو الحسن 10، 74، 76 " إضافة إلى ذلك تُعَدُّ الإبل في ذلك الوقت هي الوسيلة الوحيدة والأساسـية في المواصلات ونَقْل البضائع من مكان إلى آخر. وكانت ثروة الرجل في الجزيرة العربيـة تُقَدَّرُ بعدد ما يملكه من إبل. وقد ورَدَتْ لفظة " رع " والتي تأتي بمعنى " الرعي " في النقش " أبو الحسن 189 "، وهـذا دليل على وجود حرفة الرعي عنـد ذلك المجتمع. وبهذه المقوِّمات من تجارة وزراعة ورعي ازدهر الاقتصاد اللحياني في ذلك الوقت.
عُمْلة مملكة لحيان
من المعلوم أنَّ كل دولة تَسُـكُّ لها عُمْلة ليتداولها مواطنوها أثناء معاملاتهم التجارية كالبيع والشراء ونحوها، ولا شك أنَّ ملوك لحيان قد سَكُّوا لهم عُمْلة على نمط عملة مدينة الإسكندرية ولا يكاد يُفَرَّقُ بين العملتين إلاَّ بوجود اسم الملك اللحياني مكتوباً عليها بالخط المسـند. والذي اُشْـتُقَّ منه الخط اللحياني فيما بعد. وقد وَجَدَ الباحثون نقشاً لحيانياً يُشِـيرُ إلى " أنَّ رَجُلاً اشترى عشرة مناهل من المياه بـ 40 سلعت.
وهـذا يدل على إنَّ اللحيانيين فعلاً كانوا يتعاملون في بيعهم وشرائهم بالعُمْلة وليس بالمقايضة، وإنَّ عُمْلتهم كانت شبيهة بالعُمْلة النبطية " سلعين " ــ في بعض الأقوال – وقد أشار الدكتور / عبد الرحمن الطيِّب الأنصاري إلى انه تم العثور على قطعة عُمْلة في العلا يَرَى إنها لحيانية. وقد وُجِدَ نقشٌ لحياني أيضاً من نقوش جبل عكمة ذُكِرَ فيه اسم العُمْلة " سلع "، وهي نقود قَدَّمها صاحب النقش زكاة عن نخله.
كما عُثِرَ في صنعاء على عُمْلَةٍ بها بعض العلامات والحروف اللحيانية لا زالت تُمَثِّلُ لُغْزَاً للعلماء. ويظهر لي أنها عُمْلة لحيانية حَمَلَهَا أحد التُّجَّارِ أثناء متاجرته فسقطت منه أو سُرِقَت ؛ لذا أرى أنَّ وجودها هناك لا يُسْـتَغْرَب. ويَرَى " تارن " أنَّ العُمْلة المعينية اللحيانية الموجودة الآن بجامعة " أبردين " في اسـكتلندا قد ضُرِبَتْ في العلا " مملكة لحيان " وإنَّ قطعة العُمْلة هذه تماثل العُمْلة الإسكندرية التي تساوي أربعة دراهم.
حقيقة مملكة ديدان
لاشــك أنَّ وجود المعينيين في " ديدان " العــلا كان سـابقاً لوجود اللحيانيين، ولا شك أنَّ وجودهم فيها كان وجوداً تجارياً بحتاً كما عرفنا ذلك ســابقاً. وكلاهما ينتسب الى شعب اخر فالمعينيين ثموديين واللحيانيين عرب إسماعيليون ينتسبون الى لحيان ابن هذيل بن مدركة[4] .
وحيث أنَّ اللحيانيين بعد نزوحهم من مكة إلى منطقـة العلا شمال الحجاز سكنوا على الساحل بالقرب من ديدان على رأي كاسكل. وهو الأقرب للصواب، وبعـد أنْ قَوِيَتْ شـوكتهم هناك طمعوا فيها واستولوا عليها من جالية التجار المعينـيين ــ الساكنين بها ــ وأنشـأوا لهم بها مملكة صغيرة " مملكة مدينة " لا تتعدى سـيطرتها حدود تلك المدينة، وأســموها " مملكة ديدان " نسـبة إلى تلك المدينة مما جعل كثيراً من المؤرِّخين والباحثين يعتقدون خطأً أن هناك قبيلة تسمى قبيلة ديدان أنشـأت تلك المملكة.
وحيث إنه بعد البحث الدقيق وَجِدْ قبيلة عربية تُعْرف باسم " قبيلة ثمود المعنية " سكنت المنطقة في ذلك الوقت أو عَاصَرَتْه.
معرض الصور
انظر أيضاً
المصادر
- ^ جواد علي. كتاب المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام. المكتبة الشاملة. p. 246.
- ^ (د/ حسين أبو الحسن، قراءة لكتابات لحيانية من جبل عكمة بمنطقة العلا، ص 7، 1997م)
- ^ كتاب الأعلام للزركلي. 241
- ^ أ ب https://shamela.ws/book/12286/4680
المراجع
- Lozachmeur, H (ed.) 1995. Présence arabe dans le croissant fertile avant l'Hégire. (Actes de la table ronde internationale Paris, 13 Novembre 1993). Paris: Éditions Recherche sur les Civilisations. pp. 148. ISBN 2-86538-254-0. [1]
- Werner Caskel, Lihyan und Lihyanisch (1954)
- F.V. Winnett "A Study of the Lihyanite and Thamudic Inscriptions", University of Toronto Press, Oriental Series No. 3. [2]