معاهدة ڤردون
التاريخ | أغسطس 843 |
---|---|
الموقع | ڤردان على الموز |
المشاركون | لوثير الأول، لويس الألماني، شارل الأصلع |
النتائج | الأراضي المقسمة من الامبراطورية الكارولنجية إلى ثلاث ممالك؛ والإرث والنزاعات المتأثرة بذلك في اوروبا الغربية حتى القرن العشرين. |
معاهدة ڤردان Treaty of Verdun، الموقعة في أغسطس 843، كانت أولى المعاهدات التي قسّمت الامبراطورية الكارولنجية إلى ثلاث ممالك بين الأبناء الثلاثة الأحياء للملك لويس الورع، ابن وخليفة شارلمان. المعاهدة وُقعت في ڤردان على الموز لتنهي الحرب الأهلية الكارولنجية التي دامت ثلاث سنوات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية
وأصدر شارلمان في عام 787 إلى جميع أساقفة فرنسا ورؤساء أديرتها "توجيهات لدراسة الآداب"، يلوم فيها رجال الدين على ما يستخدمونه من "اللغة الفظة" و "الألسنة غير المهذبة" ويحث كل كنيسة ودير على إنشاء مدارس يتعلم فيها رجال الدين على السواء القراءة والكتابة. ثم أصدر توجيهات أخرى في عام 789 يدعو فيها مديري هذه المدارس أن "يحرصوا على ألا يفرقوا بين أبناء رقيق الأرض وأبناء الأحرار، حتى يمكنهم أن يأتوا ويجلسوا على المقاعد نفسها ليدرسوا النحو، والموسيقى، والحساب". وفي عام 805 صدرت تعليمات أخرى تهيئ لهذه المدارس تعليم الطب، وتعليمات غيرها تندد بالخرافات الطبية. ومما يدلنا على أن أوامره لم تذهب أدراج الرياح كثرة ما أنشئ في فرنسا وألمانيا الغربية من مدارس في الكنائس والأديرة؛ فلقد أنشأ ثيودولف أسقف أورليان مدارس في كل أبرشية من أسقفيته، رحب فيها بجميع الأطفال على السواء، وحرم على القساوسة الذين يتولون التدريس أن يتناولوا أجوراً، وذلك أول مثل للتعليم العام المجاني في تاريخ كله. ونشأت مدارس هامة، متصلة كلها تقريباً بالأديرة، في خلال القرن التاسع في تور، وأوكسير، وبافيا، وسانت جول، وفلدا، وگنت وغيرها من المدن. وأراد شارلمان أن يوفر حاجة هذه المدارس إلى المعلمين، فاستقدم العلماء من أيرلندة، وبريطانيا، وإيطاليا، ومن هذه المدارس نشأت في المستقبل الجامعات الأوربية.
على أننا يجب أن لا نغالي في تقدير القيمة العقلية لذلك العهد. فلقد كان هذا البعث المدرسي أشبه بيقظة الأطفال منه بالنضوج الثقافي الذي كان قائماً وقتئذ في القسطنطينية، وبغداد، وقرطبة، فلم يثمر هذا البعث كتاباً كباراً من أي نوع كان. وكتابات ألكوين الشكلي مملة، مقبضة، خانقة؛ وليس فيها ما ينفي عنه تهمة التحذلق والتباهي بالعلم، وتدل على أنه إنسان لطيف يستطيع أن يوفق بين السعادة والتقي؛ وليس فيها ما يدل على هذا وينفي ذاك إلا بعض وسائله وأبيات من شعره. ولقد أنشأ كثير من الناس أشعاراً في أثناء هذه النهضة العلمية القصيرة الأجل، منها قصائد ثيودولف التي فيها قدر كاف من الجمال على طريقتها الضعيفة الخاصة بها. غير أن الأثر الأدبي الخالد الوحيد الذي خلفه ذلك العهد هو الترجمة المختصرة البسيطة لشارلمان التي كتبها اجنهارد. وهي تحذو حذو كتاب ستونيوس حياة القياصرة، بل الكتاب الأول ليقتطف بعض فقرات من الثاني يصف بها شارلمان. على أننا يجب أن نغفر كل شيء للمؤلف الذي يصف نفسه في تواضع جم بأنه "همجي، لا يعرف إلا قليلاً من لسان الرومان"، وما من شك رغم هذا الاعتراف في أنه رجل عظيم المواهب، لأن شارلمان عيّنَه أستاذاً اقصره، وخازناً لبيت ماله، واتخذه صديقاً مقرباً له، واختاره ليشرف على الكثير من العمائر في حكمه الإنساني العظيم، ولعله قد اختاره لتخطيطها.
وشيدت قصور للإمبراطور في أنجلهيم ونجمجين، وأقام في آخن عاصمته المحببة القصر والكنيسة الصغيرة الذائعي الصيت الذين تعرضا لأكثر من ألف من الأخطار وظلا قائمين حتى دمرتهما قنابل الحرب العالمية الثانية. وقد أقام المهندسون المجهولون تلك الكنيسة على نمط كنيسة سان فيتال برافنا وهي التي أقيمت على غرار الكنائس البيزنطية السورية؛ فكانت النتيجة أن وجدت كنيسة شرقية جانحة في الغرب. وقد أقيمت فوق البناء المثمن قبة مستديرة، وقسم البناء من الداخل عدة أقسام بطابقين من عمد مستديرة "وزينت بمصابيح من الذهب والفضة، وحظارٍ، وأبواب من البرونز المصمت، وأعمدة وبوارق جيء بها من روما ورافنا"، وينقش فسيفسائي ذائع الصيت في القبة.
وكان شارلمان سخياً غاية السخاء على الكنيسة، ولكنه مع هذا جعل نفسه سيدها، واتخذ من عقائدها ورجالها أدوات لتعليم الناس وحكمهم. وكانت كثرة رسائله متعلقة بشئون الدين، فكان يقذف الفاسدين من موظفيه والقساوسة الدنيويين بعبارات مقتبسة من الكتاب المقدس؛ وإن ما في أقواله من القوة لينفي عنه مظنة أن تقواه كانت خدعة سياسية. فقد كان يبعث بالمال إلى المسيحيين المنكوبين في البلاد الأجنبية، وكان يصر في مفاوضاته مع الحكام المسلمين على أن يراعوا العدالة في معاملة رعاياهم المسيحيين. وكان للأساقفة شأن كبير في مجالسه، وجمعياته، ونظامه الإداري، ولكنه كان ينظر إليهم، رغم احترامه الشديد لهم، على أنهم عماله بأمر الله، ولم يكن يتردد في أن يصدر أوامره لهم، حتى في المسائل المتعلقة بالعقائد أو الأخلاق. ولقد ندد بعبارة الصور و التماثيل حين كان البابوات يدافعون عنها، وطلب إلى كل قس أن يبعث إليه بوصف مكتوب لطريقة التعميد في أبرشيته، ولم تكن توجيهاته للبابوات أقل من هداياه لهم، وقضى على ما يحدث في الأديرة من تمرد، ووضع نظاماً للرقابة الصارمة على أديرة النساء ليمنع "الدعارة، والسكر، والشره" بين الراهبات. سأل القساوسة في أمر وجهه لهم عام 811 عما يقصدون بقولهم إنهم ينبذون العالم على حين "أننا نرى" بعضهم يكدحون يوماً بعد يوم بجميع الوسائل، ليزيدوا أملاكهم، فتارة يتخذون التهديد بالنار الأبدية وسيلة يستخدمونها لأغراضهم الخاصة، وتارة يعدون الناس بالنعيم السرمدي لهذه الأغراض نفسها، وطوراً يسلبون السذج أموالهم باسم الله أو اسم أحد القديسين، ويلحقون بذلك أعظم الضرر بورثتهم الشرعيين". على أنه رغم هذا قد أبقى لرجال الدين محاكمهم الخاصة، وأمر بأن يؤدي إلى الكنيسة عشر غلة الأرض، وجعل لرجال الدين الإشراف على شئون الزواج، والوصايا، وأوصى هو نفسه بثلثي ضياعه لأسقفيات مملكته(37)، ولكنه كان يطلب إلى الأساقفة بين الفينة والفينة أن يقدموا "هبات" قيمة لتساعد على الوفاء بنفقات الحكومة.
وقد أثمر هذا التعاون الوثيق بين الكنيسة والدولة فكرة من أجلّ الأفكار في تاريخ الحكم: ألا وهي استحالة دولة شارلمان إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي تستند إلى كل ما كان لروما الإمبراطورية والبابوية من هيبة، وقداسة، واستقرار. ولقد كان البابوات من زمن طويل يستنكرون خضوع أقاليمهم إلى بيزنطية التي لا تصد عنها غارة ولا تقر فيها أمناً، وكانوا يشاهدون خضوع البطارقة المتزايد إلى إمبراطور القسطنطينية ويخشون أن تضيع حريتهم هم أيضاً. ولسنا نعرف من الذي لاحت له فكرة تتويج شارلمان إمبراطوراً رومانياً على يد البابا أو منذا الذي وضع خطة هذا التتويج، وكل ما نعرفه أن ألكوين، وثيودولف وغيرهما من الملتفين حوله قد تناقشوا في إمكانه، ولعلهم هم الذين خطوا فيه الخطوة الأولى، أو لعل مستشاري البابا هم الذي فكروا في هذا الأمر. وقامت في سبيل تنفيذه صعاب شديدة: فقد كان إمبراطور الروم يلقب وقتئذ بلقب الإمبراطور الروماني، وكان أحق الناس من الوجهة التاريخية بذلك اللقب، ولم يكن للكنيسة حق معترف به في حمل الألقاب أو نقلها من شخص إلى آخر، ولربما كان منح اللقب لشخص منافس لبيزنطية سبباً في إشعال نار حرب عاجلة عوان بين المسيحيين في الشرق وإخوانهم في الغرب، حرب تترك أوربا المخربة غنيمة سهلة للفتوح الإسلامية. غير أن الأمر قد سيره بعض التيسير إن إيريني جلست على عرش أباطرة الروم (797)، فقد قال البعض وقتئذ إنه لم يعد هناك إمبراطور روماني، وإن الباب أصبح مفتوحاً لكل من يطالب باللقب، فإذا ما نفذت هذه الخطة الجريئة قام مرة أخرى إمبراطور روماني في الغرب، تقوى به المسيحية اللاتينية وتتوحد، فتستطيع مقاومة انشقاق بيزنطية وتهديد المسلمين ولعل ما في اللقب الإمبراطوري من رهبة وسحر يمكن أوربا الهمجية من أن تعود أدراجها خلال القرون المظلمة وترث حضارة العالم القديم وثقافته وتنشر المسيحية في ربوعه.
وحدث في السادس والعشرين من ديسمبر عام 795 أن اختير ليو الثالث بابا؛ ولم يكن شعب روما يحبه، وكان يتهمه بعدة فعال خبيثة، ثم هاجمه العامة في الخامس والعشرين من إبريل عام 799، وأساءوا معاملته، وسجنوه في دير. لكنه هرب من سجنه، وفر إلى شارلمان في بادربورن وطلب إليه أن يحميه. وأحسن الملك استقباله، وأعاده إلى رومة مع حرس مسلح، وأمر البابا ومتهميه أن يمثلوا أمامه في تلك المدينة في العام المقبل. ودخل شارلمان العاصمة القديمة بموكب فخم في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 800، واجتمعت في أول ديسمبر جمعية من الفرنجة الرومان، واتفقت على إسقاط التهم الموجهة إلى ليو إذا ما أقسم يميناً مغلظة على أنه لم يرتكبها. وأقسم ليو اليمين وتهيأت السبيل إلى إقامة احتفال فخم بعيد الميلاد. فلما أقبل ذلك اليوم ركع شارلمان للصلاة أمام مذبح القديس بطرس بالعباءة اليونانية القصيرة والصندلين، وهما اللباس الذي كان يرتديه كبراء الرومان، ثم أخرج ليو على حين غفلة تاجاً مطعماً بالجواهر ووضعه على رأس الملك. ولعل المصلين كانوا قد علموا من قبل أن يفعلوا ما توجبه عليهم الشعائر القديمة التي يقوم بها كبراء الشعب الروماني لتأييد هذا التتويج، فنادوا ثلاث مرات: "ليحي شارل الأفخم، الذي توجه الله إمبراطوراً عظيماً للرومان لينشر بينهم السلام!". ومسح رأس الملك بالزيت المقدس، وحيا البابا شارلمان ونادى به إمبراطوراً وأغسطس، وتقدم إليهم بمراهم الولاء التي ظلت محتفظاً بها للإمبراطور الشرقي منذ عام 476.
وإذا جاز لنا أن نصدق اجنهارد، فإن شارلمان قد قال له إنه ما كان ليدخل الكنيسة لو أنه عرف أن ليو ينوي تتويجه إمبراطوراً. ولربما كان قد عرف الخطة بوجه عام، ولكنه لم يرض عن السرعة التي تمت بها والظروف المحيطة بها وقت إتمامها؛ ولعله لم يكن يسره أن يتلقى التاج من البابا، فيفتح بقبوله منه باباً للنزاع الذي دام قروناً طوالاً بين البابا والإمبراطور، وأيهما أعظم مكانة وأقوى سلطاناً: المعطي: أو آخذ العطية؛ ولعله فكر أيضاً فيما سوف يجره ذلك من نزاع مع بيزنطية في المستقبل. ثم أرسل شارلمان عدة رسائل وبعوث إلى القسطنطينية يريد بها أن يأسو الجرح الذي أحدثته هذه الفعلة، وظل زمناً طويلاً لا ينتفع بلقبه الجديد؛ حتى كان عام 802 فعرض الزواج على إيريني ليكون ذلك وسيلة يجعل بها لقبيهما المشكوك فيهما شرعيين(39)، ولكن سقوط إيريني عن عرشهما أفسد هذه الخطة اللطيفة. وأراد بعد ذلك أن يقلل من خطر هجوم بيزنطية عليه فوضع خطة لعقد اتفاق ودي مع هارون الرشيد، وقد أيد هارون ما نشأ بينهما من حسن التفاهم بأن أرسل إليه عدداً من الفيلة ومفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس. وردّ الإمبراطور الشرقي على ذلك بأن شجع أمير قرطبة على عدم الولاء لبغداد، وانتهى الأمر في عام 812 حين اعترف إمبراطور الروم بشارلمان إمبراطوراً نظير اعترافه بأن البندقية وإيطاليا الجنوبية من أملاك بيزنطية.
وكان لتتويج شارلمان نتائج دامت ألف عام، فقد قوى البابوية والأساقفة إذ جعل السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، وأتاحت حوادث عام 800 لجريجوري السابع وإنوسنت الثالث أن يقيما على أساسها كنيسة أقوى من الكنيسة السابقة، وقوت شارلمان على البارونات الغضاب وغيرهم لأنها جعلته ولياً لله في أرضه، وأيدت أعظم التأييد نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، ووسعت الهوة بين الكنيسة اليونانية والكنيسة اللاتينية، لأن أولاهما لم تكن ترغب في الخضوع إلى كنيسة رومانية متحالفة مع إمبراطورية منافسة لبيزنطية. ولقد كان استمرار شارلمان في اتخاذ آخن لا روما عاصمة له شاهداً على انتقال السلطة السياسية من بلاد البحر المتوسط إلى أوربا الشمالية، ومن الشعوب اللاتينية إلى التيوتون. وأهم من هذا كله أن تتويج شارلمان أقام الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملياً وإن لم يقمها من الوجهة النظرية. وكان شارلمان ومستشاروه يرون أن سلطته الجديدة إحياء للسلطة الإمبراطورية القديمة، على أن الصبغة الجديدة الخاصة بهذا النظام لم يعترف بها إلا في عهد أتو الأول، كما أنها لم تصبح "مقدسة" إلا حين ضم فردريك باربروسا لفظ مقدس إلى ألقابه في عام 1155. وجملة القول أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة كانت-على الرغم من تهديدها للعقول والمواطنين-فكرة نبيلة، وحلماً من أحلام الأمن والسلام، وعودة للنظام والحضارة إلى عالم أنقذ من براثن الهمجية، والعنف، والجهل.
وأصبحت المراسيم الإمبراطورية تكتنف الإمبراطور في المهام الرسمية، فكان عليه أن يلبس أثواباً مزركشة، ذات مشبك ذهبي، وحذاءين مرصعين بالجواهر وتاجاً من الذهب والجوهر، وكان على زائريه أن يسجدوا أمامه لقبلوا قدمه أو ركبته، هذا ما أخذه شارلمان عن بيزنطية وما أخذته بيزنطية عن طيسفون. غير أن اجنهارد يؤكد لنا أن ثيابه-إذا استثنينا ما ذكرناه عنها آنفاً-لم تكن تختلف إلا قليلاً عن ثياب الفرنجة العادية: كانت تتألف من قميص من التيل، وسروال قصير لا شيء تحته، ومن فوق القميص والسروال القصير قناء من الصوف ربما كانت له أهداب من الحرير، وجورب طويل مربوط بشريطين يغطي ساقيه وحذاءين من الجلد في قدميه، وكان يضيف إليها في الشتاء معطفاً ضيقاً من جلود ثعلب الماء أو الفنك ، وكان يحتفظ بسيف إلى جانبه لا يفارقه أبداً. وكان طول قامته ست أقدام وأربع بوصات، وكانت بنيته تناسب مع هذا الطول. وكان أشقر الشعر، شفذ العينين ، أشم الأنف، له شاربان وليست له لحية "جليلاً مهيب الطلعة على الدوام". وكان معتدلاً في طعامه وشرابه، يمقت السكر أشد المقت، جيد الصحة على الدوام مهما تعرض لتقلبات الجو ومهما قاسي من الصعاب. وكثيراً ما كان يخرج للصيد أو يمارس ضروب الرياضة العنيفة على ظهور الخيل، وكان سبّاحاً ماهراً، يحب الاستحمام في عيون آخن الدفيئة. وقلّما كان يدعو الناس إلى الولائم، لأنه كان يفضل الاستماع إلى الموسيقى أو قراءة كتاب في أثناء الطعام. وكان يعرف قيمة الوقت كما يعرفها كل عظيم. وكان يستقبل زائريه ويستمع إلى قضاياهم في الصباح وهو يرتدي ثيابه أو يلبس حذائيه.
وكان من وراء مهابته وجلاله عاطفة قوية وهمة عالية، ولكنه كان يسخّر عاطفته وهمته لتحقيق أغراضه ويوجههما بذكائه وثاقب بصره. ولم تستنفد حروبه التي تربى على نصف المائة قوته وحيويته. وكان إلى هذا كله شديد العناية بالعلوم والقوانين، والآداب، وعلوم الدين لا تفتر حماسته لها على مر السنين، وكان يسوئه أن يبقى جزء من الأرض لم يستول عليه أو أي فرع من فروع العلم لم يضرب فيه بسهم. وكان شريف النفس من بعض الوجوه، وكان يزدري الخرافات، ويحرّم أعمال المتنبئين أو العرّافين، ولكنه صدّق كثيراً من الأعاجيب الأسطورية، وبالغ في مقدرة الشرائع على إصلاح أخلاق الناس وعقولهم. ولقد كان لهذه السذاجة النفسية بعض المحاسن: لقد كان في تفكيره وحديثه صراحة ونُبل قلَّما نراهما في رجال الحكم.
وكان يسعه أن يكون قاسياً إذا تطلبت سياسة الدولة القسوة، وأشد ما كانت قسوته فيما بذله من جهود لنشر الدين المسيحي، ولكنه مع هذا كان عظيم الرأفة، كثير الإحسان، وفياً مخلصاً لأصدقائه، ولقد بكى بالدمع عند وفاة أولاده، وبنته، والبابا هدريان. ويرسم لنا ثيودولف في قصيدة له عنوانها "حكم شارل" صورة لطيفة للإمبراطور في بيته، فيقول إنه إذا قدم من أعماله أحاط به أبناؤه، فيخلع عنه ابنه شارل عباءته، ويأخذ ابنه نويس سيفه، وتعانقه بناته الست، ويأتين له بالخبز، والخمر، والتفاح، والأزهار، ويدخل الأسقف ليبارك طعام الملك، ويقترب منه ألكوين ليبحث معه ما لديه من الرسائل، ويهرول إجنهارد الضئيل الجسم هنا وهناك كأنه نملة، ويأتيه بكتب ضخمة. وقد بلغ من حبه لبناته أن أقنعهن بعدم الزواج، وقال إنه لا يطيق فراقهن، ومن أجل هذا أخذن يواسين أنفسهن بالارتماء إلى أحضان العشاق وجئن بعدة أبناء غير شرعيين(42). وقد قابل شارلمان هذه الأعمال منهن بنفس سمحة، لأنه هو نفسه قد جرى على سنة أسلافه، فاتخذ له أربع أزواج واحدة بعد الأخرى، وأربع عشيقات أو حظايا. ذلك أن حيويته الموفورة جعلته شديد الإحساس بمفاتن النساء، وكانت نساؤه يؤثرن أن يكون للواحدة منهن نصيب منه على أن يكون لها رجل آخر بمفردها. وقد ولدت له نساؤه نحو ثمانية عشر من الأبناء والبنات منهم أربعة شرعيون. وغض من في حاشيته ومن في روما من رجال الدين أبصارهم عن تحلل رجل مسيحي مثله من قيود الأخلاق المسيحية.
وكان شارلمان وقتئذ على رأس دولة أعظم من الإمبراطورية البيزنطية لا يعلو عليها في عالم الرجل الأبيض إلا دولة الخلفاء العباسيين. ولكن كل توسع في حدود الإمبراطوريات أو العلوم يخلق مشاكل جديدة. فلقد حاولت أوربا الغربية أن تحمي نفسها من الألمان بإدماجهم في حضارتها؛ غير أن ألمانيا كان عليها في هذا الوقت أن تحمي نفسها من أهل الشمال ومن الصقالبة؛ وكان الملاحون من أهل الشمال قد أنشئوا لهم مملكة في جتلندة قبل عام 800 م وأخذوا يغيرون على سواحل فريزيا. وأسرع إليهم شارل من روما، وأنشأ الأساطيل والقلاع عند الشواطئ والأنهار، وأقام حاميات في الأماكن المعرضة للأخطار، ولما أغار ملك جتلندة على فريزيا عام 810 صُدَّ عنها، ولكن شارلمان هاله أن يشهد من قصره في نربونة بعد قليل من ذلك الوقت، إذا جاز لنا أن نصدق أخبار راهب سانت جول، سفن القراصنة الدنمرقيين في خليج ليون. ولعله قد تنبأ، كما تنبأ دقلديانوس من قبل، بأن إمبراطوريته الواسعة في حاجة إلى الدفاع السريع عنها في عدة مواضع في وقت واحد، فقسمها في عام 806 بين أولاده الثلاثة-بيبين، ولويس، وشارل. ولكن بيبن توفي عام 810، وشارل في عام 811، ولم يبق من هؤلاء الأبناء إلا لويس، وكان منهمكاً في العبادة انهماكا بدا معه أنه غير خليق بأن يحكم عالماً مليئاً بالاضطراب والغدر. غير أن لويس رغم هذا قد رفع باحتفال مهيب في عام 813 من ملك إلى إمبراطور ونطق المليك الشيخ قائلاً: "حمداً لله يا إلهي إذ أنعمت عليَّ بأن أرى بعين ولدي يجلس على عرشي".
وبعد أربع سنين من ذلك الوقت أصيب الملك الشيخ وهو يقضي الشتاء في آخن بحمى شديدة نتج عنها التهاب البلورة، وحاول أن يداوي نفسه بالاقتصار على السوائل، ولكنه توفي بعد سبعة أيام من بداية المرض بعد أن حكم سبعاً وأربعين سنة وعاش اثنتين وسبعين (814)، ودفن تحت قبة كتدرائية آخن، مرتدياً أثوابه الإمبراطورية. وما لبث العالم كله أن أسماه كارولس ماجنس أو كارل در جروس أو شارلمان (أي شارل العظيم)، ولما حل عام 1165 ومحا الزمان جميع ذكريات عشيقاته ضمته الكنيسة التي أحسن إليها الإحسان كله في زمرة الصالحين المنعمين.
انظر أيضاً
الهامش
وصلات خارجية
- Media related to معاهدة ڤردون at Wikimedia Commons