مداريات حزينة
مداريات حزينة عنوان شاعري ورومانسي لكتاب في اثنولوجيا الأعراق والشعوب؟! في هذا الكتاب يسرد الباحث الانتروبولوجي المعروف كلود ليفي شتراوس المولود في باريس 1908 ذكريات رحلته (رواية رحلات كما يصفها) في جزر الانتيل وقبائل البرازيل في الثلاثينات 1934 ـ 1938 من القرن الماضي فيجد مادة غزيرة وغنية بـ(شعرية المعرفة) كما يصف الكتاب فيصل دراج وهو ما دفع غير المختصين الاحتفاء به حين ظهر 1955 وما دفع أيضا أكاديمية غونكور أن تتمنى لو كان رواية كي تتوجه بجائزتها الشهيرة له. مداريات حزينة عنوان رواية كان قد بدأ بها، كتب منها ثلاثين صفحة منها ثم اخذ هذا السفر اسمها. الكتاب بحث وحفر في عادات الشعوب (البدائية). البدائي مصطلح يأخذ به شتراوس بسبب تواتره استعمالا لا تقييماً، فهو لا يعني المدني ضد البدائي، وهو ما بدا في كتابه السابق (الفكر المتوحش) وكذلك في كتابه الأشهر (العرق والتاريخ) الذي أصبح من النصوص الكلاسيكية التي تندد بالعنصريات ويدعو إلى حوار الثقافات وإلى تمنيع الثقافات ضد الزوال والابتلاع . شتراوس المتحرر من المركزية الأوربية كثيراً ما يشير إلى أمرين لا يمجدان فكرة التقدّم: أولهما نزعة المساواة لدى الشعوب البدائية التي تأمر الزعيم أن يتساوى مع غيره و(تمنع عن غيره رغبة الفروق) وثانيهما العلاقة المتلازمة بين التقدّم والاستغلال التي تضع مجموعة في خدمة أخرى.[1]
السلطة السياسية لدى قبائل النامبيكورا ليست وراثية، أو موضوع تنافس فعندما يشيخ الرئيس يختار خليفته والاختيار مسبوق باستطلاع للرأي العام فالوريث المعين هو الأكثر قبولا لدى الأكثرية وليس من النادر أن يصطدم منح السلطة برفض عنيف من المنتخب. والرؤساء أميل إلى الشكوى لأعبائهم الثقيلة من الفخر بمناصبهم، مسؤولية الملك (السير في المقدمة في الحروب). البلاد المتقدمة لا تبدي مثل هذا الثبات في الفلسفة السياسية. والرئيس (أوليكانده) معناه من يوحد ومن يضم، فالعقل البدائي واع لظاهرة الرئيس بوصفه سبباً في رغبة الجماعة في تكونها كجماعة وليس كحاجة لسلطة مركزية الهيبة الشخصية هي أساس سلطته، مسؤولياته كبيرة، التراضي قاعدة أساسية في اختياره، الرئيس يصون الشرعية، ولا يملك قوة قمعية، وليس بوسعه التخلص من المشاغبين، الكرم صفة أساسية لدى أكثرية الشعوب البدائية، ولدى الزعيم مع إن الممتلكات بسيطة: أدوات صيد أو طبخ وزينة. يقول شتراوس الذي كان يهدي شيوخ الجماعات والقبائل (نادراً ما كانت الهدايا تبقى في أيديهم) فالرئيس في حالة فقر دائم. رفض العطاء في هذه البدائية الديموقراطية يؤدي إلى حجب الثقة بالرئيس، المهارة هي الصفة الفكرية للكرم فالزعيم هو الذي يحضر السهام والذي يصنع كرة المطاط للمناسبات وعليه أن يجيد الرقص والغناء لتسلية الجماعة، ويجب أن تكون له معرفة واسعة بالأراضي وحدودها وبقاع الصيد وغيض الأشجار المثمرة وفترات الجني… تعدد الزوجات مكافأته الوحيدة وتعويضه الأخلاقي والعاطفي عن الواجبات الثقيلة، الزوجة الاولى دورها معتاد (الشؤون المنزلية) الزوجات الأخريات شابات وسيمات، تدعوهن الزوجة الأولى (بناتي) واجبهن ترفيه الزعيم عاطفياً أو وظيفتهن الصداقة الغرامية مع الزعيم، كما يشاركن ببعض الأعمال الذكورية مثل استقبال الضيوف، العلاقة بين الزوجة الأولى والزوجات الصبايا يسودها وئام، الشابات يحترمن الكبرى، والكبرى، بشيء من السلطة، تغض النظر عن لعبهن مع الزعيم. يؤدي احتكار الزعيم للنساء إلى التعذيب الإجباري للشباب، الذين يصيرون ضحايا زواجه من الكثيرات. المشكلة تحل بما يشبه العلاقات المثلية والتي يسمونها (الحب الكاذب). تعدد الزوجات يجري نوعا من المصاهرة ويوفر (الأمن الجماعي) بين الرئيس والقبيلة، الرئيس يجد أنموذجه في أب رمزي. روسو الذي أظهر حدساً عميقاً برؤيته حول (العقد الاجتماعي) بوصفه مواقف وعناصر ثقافية وليست تكوينات هامشية… النامبيكورا يختلفون عن (التوبي كاواهيب) الذين يجمع رئيسهم بين السلطتين الزمنية والروحية. التوبي كاواهيب لا يخفون أسماءهم، كما يفعل النامبيكورا، التي لها معاني ثمار أو حيوانات، الرئيس يمارس احتكاراً على نساء المجموعة، الزوجة الرئيسة تساعد زوجها أكثر من الأخريات، وترافق زوجها في تنقلاته وتساعده في استقبال الضيوف. الأطفال لا يميزون بين ثدي وآخر، يعوض امتياز الرئيس في تعدد الزوجات بإعارته نسائه للضيوف والأصحاب، تخفيف التفاوت بين عدد الذكور والإناث يتم تجاوزه بوراثة الرجل لامرأة أخيه، المثلية منكرة عند التوبي كاواهيب، الرئيس عندهم فرح دائماً، والرئاسة وراثية شتراوس الذي يغلب الأخلاقي على الأكاديمي يرثي ثقافة محتضرة فتنت أوروبا ويدافع عن التنوع الثقافي والإنساني وينكر المراتب البشرية ويستمر في المقارنة بين البدائي والمدني لصالح الأولى ويبدي انزعاجه الشديد من المذكرات التي يرويها مبشر أميركي بروتستانتي1948 عن قبائل النامبيكورا ووصفه لهم بألفاظ القذارة والأمراض والعفونة وقلة التهذيب والوحشية واليأس والكراهية (أما أنا فأرى أن الأمراض أدخلها الرجل الأبيض وهي التي أهلكت القسم الأكبر منهم) ويصفهم بالتعاون والتعاطف ورغم الفقر والبؤس وعدم وجود أي كساء ـ سوى شريط على الخصر ـ فمجتمعهم حي بالهمسات والضحكات… يحضن بعضهم بعضا تشوقاً إلى وحدة مفقودة و(يخفي لطفاً بلا حدود ورضا حيوانياً ساذجاً يشكل التعبير الأكثر تأثيراً وصدقاً عن الحنان الإنساني… مجتمعهم بسيط بحيث لم أجد فيه سوى بني الإنسان). هذه مقاطع من آراء شتراوس في (الفلسفة السياسية) البدائية. كتابه يحوي حدوساً في الاقتصاد والعلاقات الأسرية والعمارة، والحياة والموت، وطقوس الدفن والصيد البدائية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .