محمد بن عبد الرحمن
عُدّت الفترة التي تولاها الأمير عبد الرحمن الأوسط من أزهى سنوات الحكم الإسلامي في الأندلس؛ حيث ساد الأمن والاستقرار ربوع البلاد، ونعم الناس بالرخاء والرفاهية، وازدهرت الصناعة والتجارة، وزادت الموارد المالية للدولة، فأنفقت في البناء والتشييد، وما يزال مسجد قرطبة العامر شاهدا على ما بلغته الدولة من رقي وتمدّن، وازدادت قرطبة بأعلام الفكر، ونجوم الأدب ورجال الحكم والسياسة. ولاية محمد بن عبد الرحمن
توفي عبد الرحمن الأوسط في (3 من ربيع الآخر 238هـ = 23 من سبتمبر 852م) بعد حكم دام ثلاثة وثلاثين عاما، وخلفه ابنه محمد على الحكم في اليوم التالي، ولم يكن أكبر إخوته، ولكن رشحته أعماله وكفاءته، فآثره أبوه بولاية عهده دون إخوته.
تمرّس محمد بن عبد الرحمن بأعباء الملك وإدارة الدولة في عهد أبيه؛ فتولى حكم سرقسطة، الإقليم الشمالي في الأندلس فضبطه وأحسن إدارته، وشارك أباه في حملاته العسكرية، وانتُدب للقيام ببعض الأعمال الدبلوماسية وحضور توقيع المعاهدات.
وكان المأمول في حكم محمد أن تمضي الدولة في طريقها الميسور كما كانت في عهد أبيه عبد الرحمن الأوسط، وأن يحكم بلاده دون قلاقل وفتن، فالدولة كانت مستقرة، والناس ينعمون بالرخاء، ولكن ما كل ما يتمنّاه المرء يلقاه، وشاء القدر أن يكون عهد الأمير محمد بداية الثورات الجارفة وطلائع الفتن المهلكة، وأن يقضي فترة حكمه في مكافحتها والقضاء عليها، ولم تكن فترة قليلة، بل امتدت 35 سنة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثورة طليطلة
بعد أيام قلائل من ولاية الأمير محمد، تحركت ثورة في "طليطلة"، واضطرمت الفتنة فيها، وعجز حاكم المدينة في القضاء عليها، وفشلت الحملة التي بعثها الأمير محمد في السيطرة على أوضاع المدينة، فازدادت الثورة اشتعالا؛ فلم يجد بدًا من الخروج بنفسه لإخماد تلك الثورة التي يشعلها المولّدون والنصارى، فسار في المحرم سنة (240 هـ = يونيو 854م) على رأس جيشه إلى طليطلة، ونجح في الانتصار على الثائرين في موقعة هائلة، قُتل فيها 3 آلاف من الثائرين، وأُسر عدد من القساوسة الذين كانوا يشعلون الفتنة فيها، وأمر الأمير محمد بإعدامهم.
على أن الفتنة في "طليطلة" لم تهدأ، واستمر تحريض النصارى فيها على أشده، ارتفعت دعواهم بأنهم يتعرضون للاضطهاد الديني والاجتماعي، فاضطر الأمير محمد إلى الخروج من طليطلة مرة ثانية في عام (244هـ = 858م)، وكان قد سبق أن أرسل حملتين لم ينجحا في إخماد الفتنة، وما إن وصل إليها حتى ضرب حولها حصارا شديدا، وخرّب حصونها فاستسلمت المدينة، وطلب أهلها الأمن والصلح، وأذعنوا للخضوع والطاعة وهم ينوون الثورة والخروج متى حانت الفرصة.
خطر النورمانيين
ولم يكد ينتهي الأمير محمد من إخضاع طليطلة حتى دهم الأندلسَ في سنة (245هـ = 859م) خطر النورمانيين سكان الدول الإسكندنافية، ويطلق عليهم المؤرخون والجغرافيون المسلمون لقب "المجوس"، واشتهر هؤلاء بنشاطهم الحربي واعتداءاتهم على سواحل الدول الأوربية في القرن الرابع الهجري.
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يهاجمون فيه الأندلس؛ فقد سبق أن تعرضت لهجماتهم وغاراتهم المخرّبة، وكان على الأمير محمد أن يواجه أسطولهم الذي قدم في 62 سفينة عاثت فسادًا في الشاطئ الغربي للأندلس، وكانت السفن الأندلسية متأهبة لهم؛ فلم تفاجأ بتلك الغارة لأنها كانت تجوس المياه الغربية بصفة مستمرة استعدادا لرد أولئك الغزاة منذ أن فاجئوا الأندلس بغاراتهم المخربة منذ أيام عبد الرحمن الأوسط.
وحين وصلت بعض سفن النورمان جنوبا إلى مدينة "باجة" التي تقع الآن في دولة البرتغال؛ اشتبكت معها السفن الأندلسية، واستطاعت أن تقضي على طلائع الغزاة، وأن تنتزع سفينتين من سفنهم المحملة بالغنائم والسبي، ولكن ذلك لم يكن كافيا لردع النورمان، فاتجهت سفنهم نحو الشواطئ الجنوبية عند مصبّ نهر الوادي الكبير، ثم انحدرت جنوبا حتى مياه الجزيرة الخضراء، وهناك حدثت معركة بحرية لم ينجح المسلمون في حسمها لصالحهم، فواصل النورمان سيرهم إلى الجزيرة الخضراء، وأحرقوا مسجدها الجامع، وأفسدوا ونهبوا، ثم سارت بعض سفنهم إلى شواطئ "عدوة المغرب" وعاثت فيها فسادا، ثم نزلوا بشاطئ الأندلس الجنوبي حيث جرت هناك معارك برية وبحرية استمرت عدة أشهر، فَقَد النورمان فيها كثيرا من سفنهم، فاتجهوا إلى الشمال على طول شواطئ الأندلس الشرقية، ولم يعودا مرة أخرى إلى هجماتهم المدمّرة على شواطئ الأندلس.
ثورة ماردة وبطليوس
بعدما نجح الأمير محمد في إحكام قبضته على "طليطلة" وإقرار الأمن بها، قامت ثورات أخرى في شمال غربي الأندلس في المناطق الجبلية، وكأنما كُتب على الأمير محمد ألا يقرّ ويهنأ، ويفرغ لاستكمال ما بدأه أبوه من أعمال البناء والتشييد، ونشر الحضارة والتمدن في ربوع البلاد، وكانت "ماردة" التي تقع في غرب الأندلس -بالبرتغال الآن- هي مركز الثورة ومعقل المتمردين على سلطة الدولة المركزية في قرطبة، وكان يقود تلك الثورة الجامحة رجل يدعى "عبد الرحمن بن مروان الجليقي" فخرج الأمير محمد إلى الثائرين على رأس جيشه في سنة (254هـ = 868م) وهاجم قواعد المتمردين في "ماردة" وهدم أسوارها وخرب حصونها؛ فاضطر الثائرون إلى طلب الصلح والأمان، وقبض الأمير محمد على زعيم الثائرين ونقله إلى قرطبة.
ثم لم يلبث أن فرّ "عبد الرحمن بن مروان" من قرطبة، ونجح في إشعال ثورة بعد ذلك بسنوات في "ماردة" و"بطليوس" التي حصنها ودعم أسوارها، ولم تفلح حملات الأمير محمد في إخماد الفتنة والقضاء على الثورة المشتعلة سنة (262هـ= 876م) ودام الحال على هذا النحو أعواما دون عمل حاسم يقضي على الفتنة.
وكان عبد الرحمن بن مروان يلقى دعمًا من النصارى، حتى إذا أقبلت سنة (271هـ= 885م) عزم الأمير محمد على القضاء على الفتنة قضاءً تاما؛ فأعد جيشا كبيرا، وجعل ابنه "المنذر" على قيادته، فزحف إلى بطليوس في سنة (271هـ = 885م) ففر منها عبد الرحمن بن مروان، وتحصّن بأحد الحصون، وفي العام التالي قامت حملة أخرى لتقاتل ابن مروان، لكنها عجزت عن اقتحام حصنه. ولما أعيا الأمير أمرُهُ اضطر إلى قبول شروطه في الاستقلال بحكم بطليوس وما حولها، والإعفاء من المغانم والفروض، وأن يكون من حلفاء الإمارة.
فتنة عمر بن حفصون
وفي أثناء ذلك شبّت فتنة عارمة في ولاية "رية" وتقع الآن بمحافظة مالقة. قادها رجل من أصل أسباني قوطي يدعى "عمر بن حفصون"، التفّ حوله جماعة من المفسدين، وكانت فتنة عارمة عاصرت ثلاثة من الأمراء الأمويين، لم يستطع أحد منهم القضاء عليها، وأنفقت الحكومات المتعاقبة أموالا طائلة في تجهيز الحملات للقضاء على ثورته، لكنها لم تفلح؛ إذ كان لمناعة موقعه وكثرة أتباعه ما جعله يتمكن من الصمود وتحدي حكومة قرطبة، إلى أن توفي في ربيع الأول (306هـ = أغسطس 918م) في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر.
وكان من نتيجة تلك الثورات أن كادت الدولة الأموية في الأندلس تنقسم وتتمزق؛ فقد استقلت سرقسطة في الشمال الشرقي للأندلس، وكذا بطليوس، وانفرد ابن حفصون بالمناطق الجبلية الوعرة في الجنوب بين مالقة ورندة، وثارت إشبيلية، وبدا كأن البلاد مقبلة على انهيار، أو هي في طريقها إليه؛ ومن ثم كان على الأمير محمد أن يعالج تلك القضايا ويدفع تلك الأخطار، وهو ما استغرق وقته، واستنفد مال الدولة وجهده؛ في محاولة لجمع الشمل وإعادة الصف.
حب الأمير للجهاد
كان الأمير محمد يحب الجهاد في سبيل الله، ويقود جيشه بنفسه إذا سنحت له الفرصة، ولم تشغله الثورات المتتابعة عن متابعة النصارى في الشمال، فتتابعت حملاته العسكرية، إلى "ألبة والتلاع" وأحرز عدة انتصارات، واتجه إلى "نبرة" سنة (246هـ= 860م) وقام بتخريب "بنبلونة" وحصونها وقراها لمدة أسابيع، وأسر خلالها ابن ملك "نبرة" وظل في الأسر زهاء 20 عاما، وكان من شأن الحملات أنها هدّت من قوى النصارى ومزقت شملهم، فركنوا إلى السكينة والمهادنة.
وفرضت الظروف العصيبة التي مرت بها البلاد في عهده أن يُعْنى بأمر الجيش والأسطول وإعداد الفرسان وتنظيم الجنود وتدريبهم، وكان حريصا على حشد أعداد من الفرسان في مختلف المدن للقيام بالحملات إذا استدعى الأمر ذلك، وهؤلاء يسمون الفرسان المستقرّين، يضاف إليهم حشود المشاة المستنفَرَة للجهاد والمتطوعة للحرب.
واهتم الأمير محمد بتحصين أطراف الثغور، وإقامة القلاع المبنية لحماية بعض المدن التي يستدعي الأمر حمايتها وتحصينها، فابتنى حصن "شنت أشتيبن" لحماية مدينة سالم، وشيد حصني: سلمنكة، ومجريط بمنطقة وادي الحجارة في شمال الأندلس للدفاع عن طليطلة.
سياسة الأمير محمد
وعلى الرغم مما كان يقتضيه الجهاد المتواصل من النفقات الضخمة، فإن الأمير لم يلجأ إلى فرض ضرائب على الناس أو جبي أموال للإنفاق على الحملات العسكرية، بل بذل ما في وسعه لتخفيف الضرائب عن الناس في قرطبة، واكتفى بدعوتهم إلى التطوع والجهاد في سبيل الله.
وكان لبراعة الأمير محمد في الشئون المالية، وبعده عن الترف والبذخ أثره في ضبط شئون الخزانة العامة لدولته؛ فلم تتأثر بلاده بالقحط الذي أصاب الأندلس في عهده مرتين، وصمدت للمحنة وتغلبت عليها.
النظام الإداري
استمر النظام الإداري الذي كان قائما في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وانتظمت أعمال الوزراء، وتحددت اختصاصاتهم على نحو يشبه ما هو قائم الآن في عصرنا؛ حيث اختص كل وزير بإدارة عمل معين، ومن هؤلاء "عيسى بن شهيد" حاجب الأمير، و"عيسى بن أبي عبده"، و"هاشم بن عبد العزيز" وهو من كبار رجال الحرب والسياسة في عصره، وتولى قيادة كثير من الغزوات والحملات، و"تمام بن عامر" وكان أديبا شاعرا، ومؤرخا مجيدًا، كتب أرجوزة طويلة في فتح الأندلس، واشتهر ببراعته في لعبة الشطرنج، وكانت قد ذاعت في أيامه ذيوعا عظيما.
المظاهر الحضارية
عني الأمير بالبناء والتشييد، على الرغم من الظروف العصيبة التي أحاطت بولايته وصرفت النشاط الأكبر منه لمعالجتها واستقطعت وقتا طويلا لو استُثمر في دفع الحضارة وحركة التمدن التي دارت عجلاتها في عهد أبيه -لبلغ بالأندلس آفاقا كبيرة من الرقي والكمال.
وقد نجح في استغلال ما أتيح له من وقت في استكمال بعض المنشآت؛ فأتم الزيادة التي بدأها أبوه في المسجد الجامع بقرطبة، وأقام فيها المقصورة، وأصلح الجناح القديم في المسجد الذي أنشأه جده عبد الرحمن الداخل، وأصلح جامع "أستجة"، وجامع "شذونة"، وعني بتجديد "منية الرصافة" التي أنشأها عبد الرحمن الداخل، وجدد حدائقها ومتنزهاتها.
وكان الأمير محمد محبًا للعلم مكرما لأعلامه، يؤثر مجالستهم، ويكثر من رعايتهم؛ فاجتمع حوله عدد من صفوة العلماء والفقهاء والشعراء من أمثال "ابن حبيب" أعظم علماء الأندلس في عصره، "وعباس بن فرناس"، و"ابن عبد ربه" الكاتب الأديب صاحب "العقد الفريد"، واشتهر في عصره الفقيه "بقي بن مخلد" وهو من أعاظم العلماء الأندلسيين.
وفاته
يُعدّ الأمير محمد بن عبد الرحمن الخامس في سلسلة الأمراء الأمويين الذين حكموا الأندلس، ودامت فترة ولايته خمسة وثلاثين عاما، قضاها في عمل دائب وجهاد متصل، وجهد في نشر الإسلام، وشهدت فترة حكمه اعتناق كثير من الأندلسيين للإسلام، وظل يجاهد حتى لقي ربه في (29 من صفر 273هـ= 5 من أغسطس 886م) وجيوشه بقيادة ابنه "المنذر" تحاصر عمر بن حفصون.
هوامش ومصادر:
ابن غدارى المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب- دار الثقافة- بيروت 1400= 1980م.
محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس- مكتبة الخانجي- القاهرة 1408هـ 1988م.
عبد الرحمن حجي: التاريخ الأندلسي – دار الاعتصام- القاهرة 1403هـ = 1983م.
محمد السيد الوكيل: الأمويون بين الشرق والغرب- دار القلم- بيروت 1416هـ 1995م.
عبد الله جمال الدين: تاريخ المسلمين في الأندلس- سفير- القاهرة 1996م.
عبد التفاح مقلد الغنيمي: كيف ضاع الإسلام من الأندلس– القاهرة 1413هـ= 1993م.
قبله: عبد الرحمن الأوسط |
الخلافة الأموية في الأندلس |
بعده: المنذر بن محمد |