مئة عام من الرسم الحديث
مئة عام من الرسم الحديث One hundred years of modern painting (صدر 1960) كتبه جوزف-إميل مولر وفرانك إلگار تحت عنوان «مئة عام من الرسم الحديث» تنطلق هذه الدراسة، من الانطباعية مروراً بالرمزية والنابية والوحشية والتكعيبية والمستقبلية والتعبيرية والدادائية والسوريالية، وتنتهي بالتجريدية. ولعل الكاتبين حين أفردا في دراستهما صفحات مميزة للانطباعية والتجريبية، قصَدا (وإنْ جاءَ الحديث عن الاثنتين متباعداً) الإحاطة الشاملة بهاتين الحركتين الفنيتين بُغية كشف تأثيرهما الكبير اللافت على معظم المتذوقين، وبصماتهما الواضحة على نتاج معظم الرسامين الجدد، ولتأكيد أن لهاتين الحركتين مؤسسين، وفيهما مبدعون اعتبروا بحق «أساتذة عظاماً» و«رواداً في مسيرة التطور الفني»، كما جاء في التوطئة (ص13). وقد يكون أهم فصول الكتاب وأشملها، ما يحمل اسم «الانطباعية» وهو ما سأتناوله في هذه المقالة.
يرى المؤلفان أن جيل الانطباعيين ولد فيما بين 1830-1840م. وعلى الرغم من اختلاف أفراده في الأمزجة والتدريب والخلفيات، كانوا يتمتعون باندفاع قوي في التفرّد والإخلاص. وفدوا جميعهم إلى باريس في 1860م، فنشأت بينهم صداقة متينة، غير أن ذلك لم يمنعهم من الانقسام في تكوينهم إلى مجموعتين: الأولى انتسب أعضاؤها إلى الأكاديمية السويسرية وتركّزت حول بيسارو، والثانية إلى معهد «استوديو غلير» وتركّزت حول مونيه.
تمتّع «استوديو غلير» بسمعة طيبة مذ تحرّر من الأساليب الصارمة في التدريس، وخفض الأجر الذي يتقاضاه من طلابه. إضافة إلى المناخ الطبيعي الهادئ المحيط الذي شجّع أكثر من خمسمائة فنان على الدراسة في هذا المعهد. حتى مونيه نفسه لم يتردّد في الانضمام إليه مع عدد من أصدقائه الجدد أمثال: بازل وسيسلي ورنوار. وبقي هؤلاء الفنانون على اتصال مستمر بأصدقائهم في الأكاديمية السويسرية بناء على رغبة مونيه وبازل. وفي 1864م، أقفل المعهد نهائياً، فانتقل مونيه ورفاقه إلى غابة «فونتنبلو»، وبدأوا يرسمون في الهواء الطلق، ناقلين عن الطبيعة ما يعجبهم.
تأثر «انطباعيو المستقبل» قبل حرب 1780م، بكوربيه وبودان وجو نكند وكورو ودوبيني، خصوصاً بعدما عملوا مع هؤلاء في باريس، وفي غابة فونتنبلو على ساحل المانش. واعتبر العام 1863م علامة مميّزة في تاريخ الرسم، فإن كاستنباري الذي كتب عن اللوحات في «الصالون» الباريسي، حاول تقييم ما وصفه بـ: «الاتجاهات الحقّة التي سلكها الفن في عصره»، أو بتعبير أدق «التحوّل من الواقعية الدرامية التي تلعب بالعواطف إلى الطبيعة المتحرّرة مؤشراً كافياً إلى الموقع التاريخي الذي ملأه مانيه، والانطباعيون الجدد بازاء كوربيه».
في العام نفسه، توفي دولاكروا بعد أن أثّر كثيراً في الانطباعية، وتحلّى التأثير في ما وصفه سيزان بأنه «أجمل ملوّن في فرنسا».
بعد تنقلات، أقام مونيه وزملاؤه على ضفاف نهر السين، واتخذ أسلوبهم شكله الثابت الأصيل من «إيل دو فرانس» إلى ساحل البحر، ومن غابة فونتنبلو، إلى شواطئ بحر المانش، واكتسبوا رسومهم وألوانها البرّاقة من هذه المشاهد البهيجة الممتعة، واعتُبر تالياً هذا المكان المقرّ الدائم القديم لرسّامي الألوان المائية الإنجليز، وللرومانسيين أمثال: ديلاكروا وهيوي وفلير وأسابي ودوبري، وكان كوربيه يزوره في أوقات مختلفة.
وما لبث أن هجر مونيه ورفاقه هذا المكان حين ازدهرت مدرسة «البار بيزون» وأصبح السين والساحل النورماندي مركزهم المفضّل للرسم في الطبيعة في الأعوام 1858-1870م.
في هذه الأجواء وُلدت الانطباعية، والفضل الأكبر - كما يلفت الكاتبان - ليوجين بودا الذي استضاف مونيه وكوربيه وبودلير وجو نكند وعدداً من المهتمين، الذين فتحوا عيونهم على اللون السحري للضوء والماء. من هنا، كتب بودان في سيرته الذاتية: «كل ما قيل عنّي لا يؤهّلني أن أكون في مصاف المواهب البارعة اليوم، لكني أستطيع القول إنني واحد من هؤلاء المبدعين، كان لي تأثير نسبي في الحركة التي قادت الرسامين إلى دراسة حقيقة ضوء النهار، وإلى التعبير عن مشاعرهم إزاء المظاهر المتباينة للسماء بأمانة تامة. مع أن بعض هؤلاء (كلود مونيه، مثلاً) تجاوز ما استطعته أنا، بفضل انسياقهم الجريء وإخلاصهم الفذّ لأمزجتهم الخاصة» (ص18).
رأى كاستنباري في مطلع 1863م، أن عظمة جونكند في الانطباع الذي يولّده رسمه وصُوره في الاستوديو، أعمال مكثّفة ومتشابكة. إلا أنها بقيت ضمن الإطار الرومانسي الواقعي، وكانت لوحاته المائية متميّزة بلمسة حرّة، سريعة، مشرقة، مستمدة من الحياة المعيشة مباشرة. أما إدمون غونكور فقال في أحد مقالاته عام 1871م: «إن ما يدهشني هو التأثير الذي تركه جونكند، فكل المشاهد الطبيعية التي نراها اليوم أوحى بها هذا الرسام. إنها تستعير سماواته وأجواءه ومرابضه ما من مشهد أكثر وضوحاً من مشاهده، ومع ذلك يبدو أن لا أحد يذكر هذه الحقيقة».
يلفت الكاتبان مولر وإيلغر إلى أن وعي المشهد، كان حاداً ذلك الوقت، وما يبدو اليوم لنا طبيعياً وضرورياً كان يعتبر (لاسيّما في الفن) بدعة ثورية في أواسط القرن التاسع عشر، حين كانت التقاليد الموروثة راسخة منذ القدم. وقد تولّد هذا الوعي نتيجة الإحساس المرهف للماضي، ولمظاهر الحياة الجديدة التي شرعت تزحف على المدينة باطراد، بسبب الثراء الذي رافق التقدم الحضاري والصناعي (ص19). غير أن التفجّرات الشعرية المتعاقبة والمتسارعة بدأت ما بين 1860و1861م. من خلال لوحة مانيه المسمّاة «حفلة موسيقية في قصر تويلري» حيث تدل على جرأة صاحبها في اختيار الموضوع، كما تبرز الانسيابية الحية الموجزة لضربات الفرشاة المتناغمة تناغماً كلياً، والطريقة الحديثة في الرؤية، المتسّمة بالتلقائية في الاستجابة. لقد عرّى مانيه العرف الفني الذي طالما أشار إليه بودلير، و«كان الفن الذي جاء بعده وأطلق عليه الرسم الحديث، هو، في الواقع، الرسم الصادق الأمين لذلك العصر». (ص19).
احترف الفنانون مونيه ورنوار وبازل، في بادئ الأمر، رسم القوام الإنساني في الهواء الطلق في الأعوام 1865-1868م، تحت التأثير الضاغط لكوربيه ومانيه. وكانت مواضيعهم الأولى كرسّامين رومانسيين، وتالياً ضمن مدرسة «الباريزون» المستقلة، وبقيت غابة فونتنبلو الخلفيّة المفضّلة للتجارب الانطباعية الأولى، ورائدها المتميّز مونيه الذي وصفه يونيلو فينتوري بـ«الموجّه الأول للانطباعيين». وبتنامي حركة الرسم في الهواء الطلق، بدأ ظلّ الشمس، وكأنه طَوْع أصابعهم الرشيقة. من هذا المنطلق، هلّل الانطباعيون (في مقدمتهم كوربيه) للتأثيرات الخلاّبة التي يمكن استخلاصها من الأشكال اللطيفة والألوان البرّاقة للنساء المتأنقات في ضوء الشمس.
اعتبر المؤلفان الانطباعية غزْواً للضوء الذي أضحى مع الوقت قاعدة أساسية في الرسم. وكان ميدان تطوّرها الرئيسي المناظر الطبيعية، حيث تتلاشى التحديدات في تقلّبات الجوّ الحادة المتعاقبة. غير أن التجربة مع الضوء واللون لن تكون كل شيء في الحركة الانطباعية. فقد ولدت الدراسات الشاملة المحيطة بالقوام البشري «مشكلات عدة للشكل والفضاء والتكوين، وسعت لإيجاد الحلول لها. وثمرة ذلك نشوء طريقة جديدة لرؤية العالم، عزّزت من جرأتها الموجة التي صاحبتها آنئذٍ بيوع المطبوعات اليابانية وتطوّر التصوير الفوتوغرافي» (ص29).
سعت الثورات الفنية، خلال نحو من قرن، إلى استعادة مواقعها، مركّزة على أساليب متينة موروثة، تزاوج بين البدائية والعراقة. وكان لسحر الفن الياباني تأثير على الانطباعيين نظراً لحيويته وعفويته الزخرفية، وطريقته المثيرة في تشطير العالم المرئي وفق التناغم اللوني والخطّي، وتحوّلاته المفاجئة في تناقضات النور والعتمة. وكان الدور الذي لعبه التصوير الفوتوغرافي عاملاً مهماً في ترك أثر (غير مقصود) في الواقع لأن عدسة الكاميرا توجّه وتدار كما يشاء حاملها وفقاً لأذواقه وأفكاره. وظهرت أولى اللقطات الفوتوغرافية نحو عام 1862م، والتصوير الجوي والمناظر شبه المجسّمة في العامين اللاحقين.
والمقارنة بينهما وبين اللوحات المعاصرة آنئذٍ، تمدّنا بمعرفة كاملة للظواهر الضوئية المتعددة. إذ عجّلت الكاميرا في النمو الطبيعي للأسلوب الانطباعي، كما عزّزت هذا النمو، ورسّخت النظرة التحليلية تجاه العالم المرئي.
يخلصُ الكاتبان من حديثهما عن الانطباعية، إلى أن المجموعتين المبكرتين اللتين تكوّنتا في كل من «استديو غلير» و«الأكاديمية السويسرية» تقابلان تماماً فرعي الانطباعية البارزين في أرجنتوي وبنتوا، «إحداهما رؤيوية وكونية، في نظرتها، مأخوذة بسحر المياه المترقرقة والأضواء المتلألئة، وثانيتهما رعوية وأرضية ينحصر اهتمامها بالقيم البنّاءة، ومخلصة في روحيتها».
«مئة عام من الرسم الحديث» كتاب نقدي شامل ودراسة قيّمة، فيها بحث دءوب. وليس غريباً، إذا اعتمدناها بيبلوغرافيا فنية، نفيد منها في حركتنا الثقافية العربية.