قضية تاڤورا
قضية تاڤورا كانت فضيحة سياسية في البلاط البرتغالي في القرن 18. فالأحداث التي بدأت بمحاولة اغتيال الملك جوزيه الأول من البرتغال في 1758 انتهت بالإعدام العلنبي لجميع أفراد عائلة تاڤورا وأقاربهم في 1759. ويفسر بعض المؤرخين القضية كلها بأنها كانت محاولة من رئيس الوزراء سباستياو ده ملو (لاحقاً مركيز پومبال) للحد من السلطات المتنامية للأسر الأرستقراطية القديمة.
خامر الناس بعض الشك في أن جوزيه الأول سيؤيد وزيره ماركيز پومبال في هجومه على اليسوعيين، ولكن تحولاً فجائياً في الأحداث دفع الملك تماماً إلى صف بومبال. ذلك أن جوزيه كان في ليلة الثالث من سبتمبر 1758 قافلاً إلى قصره القريب من بليم من لقاء غرام سري مع مركيزة تاڤورا في أغلب الظن(16). وقبيل منتصف الليل انبعث ثلاثة رجال مقنعين من عقد قناة وأطلقوا النار على المركبة دون أن يصيبوا هدفهم. وأطلق السائق لجواده العنان، وما هي إلا لحظة حتى انطلقت رصاصتان من كمين آخر، وأصابت الأولى السائق والأخرى الملك في كتفه وذراعه اليمينين. وقررت محكمة تحقيق لاحقة أن كميناً ثالثاً أعده أفراد من آل طابوره كان ينتظر المركبة على مسافة أبعد على الطريق العام إلى بيليم. ولكن جوزيه أمر السائق أن يحيد عن الطريق الرئيسي ويقصد بيت جراح الملك، الذي ضمد جراح الرجلين. ولعل الأحداث التالية التي أحدثت ضجة في جميع أرجاء أوربا، كانت تختلف كل الاختلاف لو نجح الكمين الثالث في الاغتيال المبيت.
وتصرف بومبال بتدبر ودهاء. فنفيت إشاعات الهجوم رسمياً، وعزى اعتكاف الملك المؤقت إلى كبوة كباها، وظل جواسيس الوزير ثلاثة أشهر يجمعون الأدلة. فوجدوا رجلاً يشهد بأن أنطونيو فريرا استعار بندقية منه في 3 أغسطس وردها إليه في 8 سبتمبر. وقيل أن رجلاً قال أن فريرا استعار مسدساً منه في 3 سبتمبر ورده بعد أيام. وقال الشاهدان أن فريرا في خدمة دوق أفيرو وشهد سلفادور دوراو؛ وهو خادم في بيليم، بأنه في ليلة الهجوم، بينما كان في لقاء خارج بيت أڤيرو، سمع عفواً أفراداً من أسرة أڤيرو عائدين من مغامرة ليلية.
وأعد بومبال لقضيته في حيطة وجرأة. فضرب صفحاً عن الإجراء الذي يتطلبه القانون، والذي كان سيحاكم الأشراف المشبوهين أمام محكمة من كبار النبلاء؛ ومحكمة كهذه لن تدينهم أبداً. وبدلاً من هذا، أصدر الملك في 9 ديسمبر مرسومين، وكان هذا الإصدار أول كشف علني عن الجريمة: فعين المرسوم الأول الدكتور بدور جونزالڤيس پريرا قاضياً يرأس محكمة خاصة بقضايا الخيانة العظمى، وأمره الآخر بأن يميط اللثام عن المسئولين عن محاولة قتل الملك ويقبض عليهم ويعدمهم. وخول جونزالڤيس پريرا]] سلطة إغفال جميع الأشكال المألوفة للمحاكمات، وأمرت المحكمة بتنفيذ أحكامها يوم إعلانها. وأضاف بومبال إلى المراسيم بياناً رسمياً علق في جميع أرجاء المدينة، يروي أحداث 3 سبتمبر، ويعد بمكافأة أي شخص يقد الأدلة التي تعين على القبض على القتلة.
وفي 13 ديسمبر قبض 13 موظفاً حكومياً على دوق أڤيرو، وعلى ابنه المركيز جوفيا البالغ من العمر ستة عشر عاماً، وعلى خادم أنطونيو فريرا، وعلى مركيزي طابوره الأب والابن، وعلى المركيزة طابوره الأم، وعلى كل خدم الأسرتين، وعلى خمسة نبلاء آخرين. وطوق الجند في ذلك اليوم جميع الكليات اليسوعية، وأودع السجن مالاجريدا واثنا عشر آخرون من زعماء اليسوعيين. وتعجيلاً للفصل في الأمر، أباح مرسوم ملكي صدر في 20 ديسمبر (بخلاف ما جرى عليه العرف في البرتغال) استعمال التعذيب لاستخلاص الاعترافات من المتهمين. وفحص خمسون سجيناً بالتعذيب أو التهديد بالتعذيب. وورطت عدة اعترافات دوق أڤيرو، واعترف هو نفسه بذنبه تحت وطأة التعذيب، واعترف أنطونيو فريروا أنه أطلق النار على المركبة، ولكنه أقسم أنه لم يكن يعلم أن ضحيته المحتمل هو الملك. وتحت وطأة التعذيب عرض عدة خدم تلك الأسرة بجملتها للخطر، واعترف المركيز الابن باشتراكه، أما المركيز الأب الذي عذب حتى كاد يلفظ أنفاسه فقد أنكر أنه مذنب. وكان بومبال ذاته يحضر فحص الشهود والمسجونين. وكان قد أمر بتفتيش البريد، فزعم الآن أنه وجد ضمنه أربعاً وعشرين رسالة كتبها دوق أفيرو، وعدة أفراد من آل طابوره، ومالاجريدا وغيره من اليسوعيين، لإحاطة أصدقائهم أو أقربائهم في البرازيل بالمحاولة الفاشلة، واعدينهم بمزيد من الجهود لقلب الحكومة. وفي 4 يناير 1759 عين الملك الدكتور اوزيبيو تاڤاريس دي سكوبرا للدفاع عن المتهمين. ودفع سكوبرا بأن الاعترافات التي انتزعت تحت التعذيب عديمة القيمة في الدلالة على الجريمة، وأن جميع النبلاء المتهمين يستطيعون إثبات غيابهم ليلة الجريمة. على أن المحكمة قضت بأن الدفاع غير مقنع، ورأت أن الرسائل المعترضة صحيحة وأنها تؤيد الاعترافات، وفي 12 يناير حكمت المحكمة بأن جميع المتهمين مذنبون.
وأعدم تسعة منهم في 13 يناير في ميدان بيليم العام، وأول من تقرر إعدامه كان مركيزة طابوره الأم. فانحنى الجلاد ليوثق قدميها وهي على المقصلة فدفعته قائلة "لا تمسني إلا لتقتلني"(18) وبعد أن أكرهت على رؤية العدة التي سيموت بها زوجها وابناها-وهي دولاب التعذيب، والمطرقة والحطب-ضرب عنقها. وحطم ولداها على الدولاب ثم شنقا، وظلت جثتاهما على المشنقة حين صعد إليها دوق أڤيرو ومركيز طابوره الأب. وذاقا مرارة الضربات المحطمة ذاتها، وترك الدوق ليطول عذابه حتى تم إعدامه آخر المتهمين-وهو أنطونيو فريرا الذي أحرق حيا. ثم أحرقت جميع الجثث وذر رمادها في نهر تاجه. ومازال الجدل قائماً في البرتغال حول هؤلاء النبلاء، هل تعمدوا حقاً قتل الملك الأم لا؟ هذا مع التسليم بعدائهم لبومبال.
أكان اليسوعيون ضالعين في تلك المحاولة؟ لم يكن هناك في أن مالاجريدا في غضباته المضربة كان قد تنبأ بسقوط وبموت الملك وشيكاً،(19) ولم يكن هناك شك في أنه هو وآخرون من اليسوعيين كانوا قد اجتمعوا مرات بأعداء الوزير من الأشراف. وكان قد دل ضمناً على علمه بمؤامرة ما بكتابته إلى إحدى نبيلات البلاط يرجوها أن تنبه يوسف إلى الحذر من خطر وشيك. فلما سئل وهو في السجن كيف علم بهذا الخطر أجاب في "كرسي الاعتراف"(20). وفي غير هذا (كما يقول مؤرخ من خصوم اليسوعيين) "ليس هناك دليل إيجابي يربط اليسوعيين بهذا الاعتداء". ولكن بومبال اتهمهم بإثارة حلفائهم بوعظهم وتعاليمهم إثارة دفعتهم إلى محاولة الاغتيال. وأقنع الملك أن الموقف يتيح للملكية الفرصة لتعزيز قوتها إزاء الكنيسة. وعليه ففي 19 يناير أصدر يوسف مراسيم بضم جميع ممتلكات اليسوعيين في المملكة، وبإلزام جميع اليسوعيين بيوتهم أو مدارسهم حتى يفصل البابا في التهم الموجهة إليهم. واستعمل بومبال أثناء ذلك مطبعة الحكومة ليطبع-ويوزع عماله على نطاق واسع في الداخل والخارج-كراسات تبسط الحجج التي تدين الأشراف واليسوعيين، وكانت هذه فيما يبدو أول مرة استخدمت فيها حكومة من الحكومات المطبعة لتفسر تصرفاتها للأمم الأخرى. وربما كان لهذه المنشورات بعض الأثر في المعاونة على طرد اليسوعيين من فرنسا وأسبانيا.
وفي صيف 1759 استأذن بومبال كلمنت الثالث عشر في تقديم اليسوعيين المعتقلين للمحاكمة أمام محكمة الخيانة العظمى، وزاد بالاقتراح بأن يحاكم جميع الكنسيين المتهمين بجرائم ضد الدولة، منذ الآن، أمام البابا بعزم الملك على طرد اليسوعيين من البرتغال، وأعربت عن الأمل في أن يوافق الباب على هذا الإجراء باعتباره إجراء تبرره تصرفاتهم، وضرورياً لحماية الملكية. وصدمت هذه الرسائل كلمنت، ولكنه خشي أن قاومها صراحة أن يقنع بومبال الملك بقطع الصلات جميعها بين الكنيسة البرتغالية والبابوية. وتذكر ما فعله هنري الثامن من إنگلترة، وكان يعرف أن فرنسا أيضاً تزداد عداء لجماعة اليسوعيين، ففي 11 أغسطس بعث بالإذن بمحاكمة اليسوعيين أمام المحكمة المدنية، ولكنه قصر بوضوح موافقته على تلك الحالة بعينها. ثم وجه إلى الملك نداء شخصياً يدعو للرأفة بالقساوسة المتهمين، وذكر جوزيه بإنجازات هذه الطائفة الماضية، وأعرب عن رجائه بألا يؤخذ جميع اليسوعيين البرتغاليين بجريرة فئة قليلة منهم.
ولكن نداء البابا فشل. ففي 3 سبتمبر 1759-وكان اليوم ذكرى الاغتيال المبيت-أصدر الملك مرسوماً ضمنه قائمة طويلة بجرائم منسوبة لليسوعيين، وأمر بما يأتي:
"إن هؤلاء الرهبان، نظراً إلى فسادهم وسقوطهم المؤسف بعيداً عن رهبنتهم المقدسة، ولما أصابهم عن عجز واضح عن العودة إلى شعائرها بسبب هذه الرذائل البشعة المتأصلة، يجب أن ينفوا نفياً حقيقياً فعلاً ... وأن يحاكموا ويطردوا من جميع أهلاك جلالته، باعتبارهم عصاة سيئي السمعة وخونة، وأعداء، اعتدوا على شخصه الملكي وعلى مملكته ... ويقتضي الأمر ألا يقبلهم أي شخص كائناً ما كانت مكانته أو وضعه في أي
من ممتلكاته وألا يتصل بهم بتاتاً سواء بالحديث أو المراسلة، وإلا كان جزاؤه الموت الذي لا رجوع فيه.
واستثنى من المرسوم اليسوعيين الذين لم ينذروا أنفسهم النذر الوثيق للرهبنة، والذين يجب عليهم أن يلتمسوا إعفائهم من نذورهم الأولية. وصادرت الدولة ثروة اليسوعيين كلها، ومنع المنفيون من أن يأخذوا معهم غير ملابسهم الشخصية(23). واقتيدوا من جميع أرجاء البرتغال في مركبات أو سيراً على الأقدام إلى سفن أقلتهم إلى إيطاليا. وتم رحيلهم على هذا النحو من البرازيل وغيرها من الممتلكات البرتغالية. ووصلت أول شحنة من المنفيين إلى تشيفيتافكيا في 24 أكتوبر، ورثى لحالهم حتى ممثل بومبال هناك. كان بعضهم ضعيفاً لكبره، وبعضهم يكاد يتضور جوعاً، وبعضهم مات في الطريق. ورتب قائد الجماعة، لورنتسو ريكي، استقبال الأحياء منهم في بيوت يسوعية في إيطاليا، وشارك الأخوة الدومنيكان في استضافتهم. وفي 17 يونيو 1760 أوقفت الحكومة البرتغالية العلاقات الدبلوماسية مع الڤاتيكان.
وبدا نصر بومبال نصراً مؤزراً، ولكنه كان عليماً بأنه نصر لا تحبه الأمة، وأفضى مع الشعور بعدم الأمان إلى توسيع سلطته إلى الدكتاتورية الكاملة، فبدأ حكماً من الاستبدادية والإرهاب حتى عام 1777. وكان جواسيسه يبلغونه بكل ما يكشفونه من ألوان المقاومة لسياساته أو أساليبه، وسرعان ما اكتظت سجون لشبونة بالمسجونين السياسيين. وقبض على الكثيرين من الأشراف والكهنة لاتهامهم بمؤامرات جديدة على الملك، أو باشتراكهم في المؤامرة القديمة. وأصبحت قلعة جنكيرا، المتوسطة الموقع بين لشبونة وبيليم، سجناً خاصاً للأشراف زج فيه كثير منهم حتى قضوا نحبهم. وفي سجون أخرى أودع اليسوعيون المجلوبون من المستعمرات والمتهمون بمقاومة الحكومة-وظل بعضهم نزيلها تسعة عشر عاماً.
أما گابرييل مالاگريدا فقد ظل يذوي في سجنه اثنين وثلاثين شهراً قبل أن يمثل أمام المحكمة. وسلى الشيخ سجنه بتأليفه كتاب "حياة القديسة حنه البطولية، أم مريم، أملتها القديسة حنه ذاتها للأب المبجل مالاگريدا"، وصودر المخطوط بأمر بومبال، وقد وجد فيه عدة سخافات يمكن أن توصف بالهرطقة: فقد قال مالاجريدا أن القديسة حنة حبل بها كما حبل بمريم، دون أن تلوثها الخطيئة الأصلية، وأنها كانت تتكلم وتبكي في بطن أمها. وبعد أن عين بومبال أخاه پول ده كارڤالو رئيساً لديوان التفتيش في البرتغال، أمر بأن يستدعى مالاجريدا للمثول أمامه، وكتب بيده ورقة اتهام تتهم اليسوعيين بالجشع، والرياء، والدجل، وانتهاك المقدسات، وبتهديدهم الملك بالتنبؤ مراراً بموته. وإذ كان مالاجريدا-الذي بلغ الآن الثانية والسبعين-قد أصبح نصف مخبول لشدة ما كابد من عذاب، فقد أخبر قضاة التفتيش بأنه تكلم مع القديس إگناتيوس لويولا والقديسة تريزا. وأراد قاضٍ منهم أن يوقف المحاكمة إشفاقاً على الشيخ، فنـُحـِّيَ بأمر بومبال. وفي 12 يناير 1761 حكمت المحكمة المقدسة بأن مالاجريدا مذنب بالهرطقة، والتجديف، والضلال، وبخداع الشعب بما زعم من إعلانات إلهية له. ومد في أجله ثمانية شهور أخر. وفي 20 سبتمبر سيق إلى المشنقة في البراسا روسيو، فشنق، وأحرق مشدوداً إلى خازوق. وقال لويس الخامس عشر معقباً بعد سماعه بالإعدام "لكأني أحرقت الشيخ المخبول نزيل مستشفى البتيت (ميزون) الذي يزعم أنه الله الأب(26). وكان رأي ڤولتير في الحادث وهو يسجله "أنه حماقة وسخف مقرونان بشر غاية في البشاعة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
طالع أيضاً
- A-dos-Ruivos — The village where the Távora family took refuge when they were being persecuted by the Marquis of Pombal.
- شجرة عائلة أسرة تاڤورا
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.