فلنصرع الفقراء
مصدر المقال: بلال فضل هل نصرع الفقراء؟[1] |
كلما جاءت سيرة (ثورة الجياع) وكثيراً ما تجيء هذه الأيام، أتذكر الشاعر الفرنسي العظيم شارل بودلير وحكايته مع الشحاذ المصفوع التي رواها في قصيدة بعنوان (فلنصرع الفقراء Assommons les Pauvres !)، ضمّها ديوانه الشهير (سأم باريس). ونشرت بعد وفاته في ديوان "قصائد قصيرة نثرية Petits poèmes en prose"، عام 1869.
ستكشف قراءة الديوان لك أنه على أيام بودلير أيضاً، وفي تلك السنين من القرن التاسع عشر، انتشرت تلك الكتب التي تبيع للناس الأوهام، وتصور لهم إمكانية جعلهم "سعداء وحكماء وأغنياء في أربع وعشرين ساعة"، وانتشارها الكبير جعل شارل بودلير يقرر الاعتزال في غرفته لمدة أسبوعين، محاطاً بتلك الكتب المليئة بخزعبلات (مقاولي السعادة العمومية)، محاولاً التهام واستيعاب نصائحهم للفقراء بأن يكونوا عبيداً، ومحاولتهم إقناع الفقراء في نفس الوقت بأنهم جميعاً "ملوك غير متوجين"، وهو تناقض جعل بودلير يعيش في حالة تشارف البلاهة على حد تعبيره.
لم تنجح تلك الكتب الكاذبة الرديئة في إقناع بودلير بشيء، لكنها ألهمته من حيث لا تحتسب، فبدأ يحس ببذرة غامضة محبوسة في أعماق قلبه، لفكرة تسمو على كل مأثورات العجائز التي كان يتصفحها، لكنها لم تكن سوى فكرة غامضة، جعلته يخرج من غرفته بظمأ عظيم إلى الهواء الطلق، ظمأ أرجع الفضل فيه "لما تخلفه القراءات الرديئة من مذاق مشبوب يولد الحاجة إلى الانتعاش"، وفي طريقه لدخول إحدى الحانات، مد له شحاذ بقبعته وهو يوجه إليه واحدة من "تلك النظرات التي لا تُنسى، والتي يمكن أن تقلب العروش، لو كان للروح أن تُزعزع المادة، ولو كان لنظرة منوم مغناطيسي أن تنضج الكُروم". لم يتوقف بودلير كما يروي في قصيدته عند ذلك الحد، بل قام بطرح العجوز المتهالك أرضاً، وقام بتسديد ركلة إلى ظهره، كانت قوية بما يكفي لتحطيم عظامه
سمع بودلير صوتاً يوشوش في أذنه، صوتاً يعرفه جيداً، "صوت ملاك طيب أو شيطان طيب يصحبني في كل مكان"، فتذكر على الفور سقراط الذي كان له شيطان طيب، لكن شيطان سقراط لم يكن يتجلى له إلا من أجل النهي والتحذير والمنع، أما شيطان شارل بودلير الطيب ـ أو ملاكه الطيب فهو لم يحدد نوعه بعد ـ فقد كان يقدم له النصح والاقتراح والإقناع. كان شيطان سقراط تحريمياً، أما شيطان شارل فقد كان شيطاناً توكيدياً عظيماً، شيطاناً يسعى إلى الفعل ويهدف إلى الصراع، ولأنه كذلك فقد وسوس لشارل بودلير خلال وقوفه إلى جوار الشحاذ قائلاً: "لا يتساوى مع غيره إلا من يستطيع البرهنة على ذلك، ولا يستحق الحرية إلا من يعرف الفوز بها".
في ثوان كان لوسوسة شارل بودلير شيطان مفعول السحر، فقد قفز من فوره على الشحاذ، وبضربة واحدة من قبضته، أغلق للشحاذ عيناً، سرعان ما أصبحت منتفخة مثل كرة من قوة الضربة المباغتة، ثم كسر شارل بودلير أحد أظافره، وهو يقوم بتهشيم سنّتين من أسنان الشحاذ، ولأنه لم يكن لديه القدر الكافي من القوة الجسدية، بسبب ممارسته للقليل من الملاكمة، لم يتمكن من صرع الشحاذ العجوز بالسرعة التي كان يتمناها، ولذلك فقد أمسك بودلير بالشحاذ من ياقة ثوبه، وقبض على عنقه، وراح يضرب رأسه بقوة في الحائط، وبالطبع لم يكن ليفعل ذلك إلا بعد أن قام بمسح المنطقة المحيطة بلمحة عين، وتأكد أنه في تلك الضاحية المهجورة سيكون لوقت كافٍ بمنأى عن منال أي فرد من رجال الشرطة. ولم يتوقف بودلير كما يروي في قصيدته عند ذلك الحد، بل قام بطرح العجوز المتهالك أرضاً، وقام بتسديد ركلة إلى ظهره، كانت قوية بما يكفي لتحطيم عظامه، ثم واصل الاستماع إلى وساوس شيطانه، فالتقط غصن شجرة كان مرمياً على الأرض وضرب الشحاذ بقوة عنيدة تليق بطباخ يريد تليين شريحة لحم صلبة القوام.
لم تستمر تلك الحفلة الوحشية إلى الأبد، لأن شارل بودلير كان سعيداً حين جرب فرحة الفيلسوف الذي يتحقق من امتياز نظريته، حدث ذلك حين وقعت المعجزة، ورأى ذلك الهيكل العظمي العتيق وهو يستدير نحوه، ويتشامخ بحيوية لم يخطر له على بال، أنها يمكن أن توجد في ذلك الجسم الخرب، وصوب نحو بودلير نظرة كراهية بدت له أخيراً فأل خير، قبل أن يقفز نحو بودلير وينهال عليه ضرباً، فيورِّم له عينيه الاثنتين، ويهشم له أربع أسنان، ثم يلتقط غصن الشجرة نفسه الذي تعرض للضرب به، فيوسعه به ضرباً مبرحاً، وهو ضرب لم يؤلم بودلير كثيراً، فقد كان في غاية السعادة، لأنه بفضل علاجه الحيوي، أعاد للشحاذ الكبرياء والحياة.
أرسل شارل بودلير إلى الشحاذ إشارات واضحة ليدرك أنه حقق الانتصار، فيتوقف عن ضربه، وحين نهض بودلير من رقدته على الأرض بعد كل ما تعرض له من ضرب، قال للشحاذ بسعادة بالغة: "سيدي أنت ندُّ لي، فلتمنحني شرف اقتسام محفظتي معك، وتذكر أنك ما إذا كنت حقاً محباً للبشر، فينبغي عليك أن تطبّق على جميع إخوانك ـ عندما يطلبون منك صدقة ـ النظرية نفسها التي كنت آسفاً على تجريبها فوق ظهرك"، فأقسم له الشحاذ إنه وعى نظريته وإنه سينفذ نصائحه. كانت الحكاية هكذا دائماً وستظل: يراهن الطغاة على تحويل الناس إلى مسوخ لا مبالية، ويحلم الشعراء بانتفاض الناس يوماً ما، حين يفيض بهم الكيل من فرط ما تعرضوا للصفع والتنكي
لا زلت أذكر كيف أثارت تلك الفكرة الشيطانية "الطيبة" الكثير من الفزع، حين حدثت عنها حضور ندوة عن الفقراء والعمل الخيري، شاركت فيها قبل ثورة يناير بسنوات، وكنت وقتها قد قلت إن العمل الخيري الذي كانت تشجعه حكومة مبارك، يضر بالفقراء بل وبالمجتمع كله، لأنه يؤخر لحظة مواجهته الحقيقية لمشاكله، ويساعد على تسكين آلام مرض سرطاني ينخر في جسد المجتمع، وحين سألني أحد الحاضرين غاضباً عما إذا كنت أطالب بتقليص العمل الخيري، قلت له إنني لا أملك إجابة قاطعة عن سؤاله، وإنني في الحقيقة كنت أتمنى تطبيق فكرة بودلير، لكنني أدرك استحالة ذلك في مجتمعنا الذي يحب المسكنات وأنصاف الحلول، وبالطبع لم أكن أنا ولا السائل ولا الحضور، نتصور أننا سنشهد الأيام التي سيتعرض الفقراء فيها للصفع والركل والتنكيل دون رحمة، مثلما يحدث الآن في عهد عبد الفتاح السيسي الذي رقص ملايين الفقراء طرباً بقدومه، ورأوا فيه المخلص والمنقذ.
في الحقيقة، لم تكن فكرة بودلير أكثر من أمل طيب لشيطان يكره الموات والاستسلام، في أيام لم يكن فيها رصاصات حية ومطاطية وقنابل مسيلة للدموع وعساكر أمن مركزي وغيرها من المستحدثات التي تجعل الفقير يفكر ألف مرة قبل أن يرد الصفعة لمن يقوم بصرعه، وتجعل اللا مبالاة هي سلاحه الوحيد للبقاء على قيد الحياة، تلك اللا مبالاة التي أبدع شارل بودلير نفسه في وصفها في إحدى قصائد ديوانه ـ الذي أبدع الشاعر الكبير رفعت سلام في ترجمته ـ والتي حملت عنوان (لكل شخص مسخه)، حين وصف لقاءً متخيلاً بأناس محنيين، يحمل كل منهم على ظهره مسخاً ثقيلاً، مثل جوال دقيق أو فحم، وحين سأل أحدهم إلى أين يمضون؟ فأجابه أنه لا يدري شيئاً لا هو ولا الآخرين، لكنهم يمضون بالبديهة إلى مكان ما، ما داموا مدفوعين إلى السير بفعل ضرورة قاهرة.
لم يكن يبدو على أحد من أولئك السائرين، الانزعاج من الحيوان الضاري المعلق في رقبته والملتصق بظهره، بل كان يعتبره جزءاً من نفسه، ولم يكن يظهر على وجوههم المكدودة والمتجهمة أي أثر لليأس، بل كانوا تحت قبة السماء الكئيبة، وبأقدامهم المغروسة في تراب الأرض الموحشة، يمضون بالسحنة المستسلمة لمن حُكم عليهم بالأمل دائماً، وحين صمم الشاعر على رغبته في فهم ذلك المسير الأبدي، سرعان ما غلبته بدوره الللا مبالاة القاهرة، فأصبح مثقلاً بوطأتها، بأكثر مما كانوا هم أنفسهم مثقلين بوطأة مسوخهم الفادحة.
للأسف، كانت الحكاية هكذا دائماً وستظل: يراهن الطغاة على تحويل الناس إلى مسوخ لا مبالية، ويحلم الشعراء بانتفاض الناس يوماً ما، حين يفيض بهم الكيل من فرط ما تعرضوا للصفع والتنكيل، وما بين رهانات الطغاة وأحلام الشعراء، تتوقف صورة المستقبل على طبيعة الأمل الذي يحلم به الناس، هل هو أمل بعدالة آجلة لن تحل إلا في الآخرة التي تهون أحلامها عليهم آلام الصفع، أم أمل بعدالة عاجلة يمكن أن يصنعوها بأيديهم، فقط لو أدركوا أنهم أقوى من جلاديهم، ليتوقفوا عن تصدير أقفيتهم للصفع.
الجملة الأخيرة في القصيدة، حـُذِفت قبل النشر، لوفاة پرودون في 1865، وكانت: "ما رأيك أيها المواطن پرودون؟ "
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الهامش
- ^ بلال فضل (2018-07-30). "هل نصرع الفقراء؟". صحيفة العربي الجديد.
المصادر
- شارل بودلير: الأعمال الشعرية الكاملة ـ ترجمة وتقديم رفعت سلام ـ دار الشروق.