تفكيك اوروپا العثمانية/ثورة الصرب
Serbian Revolution | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|
جزء من Modern Serbia | |||||||
| |||||||
المتحاربون | |||||||
Serbian revolutionaries Volunteers from Habsburg Empire Russian Empire |
الدولة العثمانية First French Empire | ||||||
القادة والزعماء | |||||||
Karađorđe Petrović Miloš Obrenović Mateja Nenadović Veljko Petrović Stanoje Glavaš |
Sultan Selim III Marashli Pasha Sultan Mahmud II ناپليون بوناپرت | ||||||
القوى | |||||||
80,000 Serbs[بحاجة لمصدر] | 300,000 Ottomans[بحاجة لمصدر] | ||||||
الضحايا والخسائر | |||||||
5,000 Serbs[بحاجة لمصدر] | 75,000 Ottomans[بحاجة لمصدر] |
الثورة الصربية أو صربيا الثورية« تشير إلى الثورة الاجتماعية للأمة و الشعب الصربي ،وقد حدثت ما بين 1804 و 1835. في الجزء الأول من هذه الفترة 1804 حتي 1815 ،
تميز النضال العنيف من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية بإثنين من الانتفاضات المسلحة التي وقعت. في فترة لاحقة من (1815-1835) حيث شهدت توحيدا سلميا للسلطة السياسية في صربيا المستقلة حديثا ، وبلغت ذروتها في الاعتراف بالحق في توريث الحكم من قبل قائمة الملوك الصربيين في عام 1830 و 1833 واعتماد أول دستور مكتوب في عام 1835. هذا المصطلح اخترعه المؤرخ الألماني الشهير ليوبولد فون رانكه في كتابه الثورة الصربية , و طبع في عام 1829.[1] هذه الأحداث واكبت بزوغ صربيا الحديثة. [2]
وتلك الفترة قد قسمت على النحو التالي :
- الانتفاضة الصربية الأولى (1804-13) ، بقيادة كارادورده بيتروفيتش
- Hadži تمرد برودان (1814)
- انتفاضةالصربية الثانية (1815) تحت ميلوش اوبرنوڤيتش
- الاعتراف الرسمي بالدولة الصربية (1815-1833)
الفصل الثاني: ثورة الصرب
كانت باشاوية بلجراد (الصرب) مركزاً لأول ثورة ناجحة قامت بها شعوب البلقان ضد السلطة العثمانية, وكانت مشكلاتها الإدارية في نهاية القرن الثامن عشر في مختلف المجالات تعكس مشكلات أنحاء الإمبراطورية تحت حكم السلطان سليم الثالث. وكانت الصرب خلال القرن الثامن عشر مسرحاً لمعارك متكررة بين النمسا والدولة العثمانية بين أعوام 1716-1718, 1737-1739, 1788-1791 ارتبط خلالها مصير الصربيين بمصير أسرة الهابسبورج التي تحكم النمسا ذلك أن تلك المعارك وما ارتبط بها من فوضى واضطراب دفعت مجموعات كبيرة كم الصربيين إلى الهجرة إلى المناطق النمساوية في البلقان وخاصة في جنوب المجر. وكانت أكبر هجرة جماعية ضمت حوالي سبعين ألف صربي قد حدثت زمن البطريرك أرسينيه الثالث Arsenije عام 1690 جعلت من سرمسكي كارلوفيتش Sermski Karovci مركزاً دينياً وثقافياً للصربيين وهو أمر له مغزاه. وعلى هذا بقى الصربيون في مملكة النمسا في ظروف مواتية ساعدتهم أكثر على الإتصال الوثيق بالأحداث التي تقع في بلادهم (الصرب) عن بعد. وكان لابد أن يكون لهم تأثيراً مهماً على الحركة القومية وعلىالتنمية الثقافية إدارة دولة الصرب القومية في القرن التاسع عشر.
والواقع أنه أثناء تلك الحروب كانت حكومة النمسا تباشر فعلياً أمور الصرب من الناحية الإدارية وهو أمر لم يكن محل ترحيب من غالبية الصربيين بسبب نشاط الكنيسة الكاثوليكية النمساوية في بلادهم وهم (الصربيون) من الأرثوذكس بصصرف النظر أن الصرب شأن النمسا تعارض الحكم العثماني. وكانت الكنيسة الكاثوليكية بموافقة حكومة النمسا تعمل على تحويل الصربيين إلى الكاثوليكية عكس الدولة العثمانية الت يتحاول عملياً تحويل إلى الإسلام. وهكذا لم يكن إحلال لورد إقطاعي مسيحي كاثوليكي نمساوي حل أحد الأعيان المسلمين أمراً مغرياً للصربيين أو هدفاً سياسياً يسعون له ذلك أن الإستقلال كان يمثل الأولوية بالنسبة لهم.
على كل حال . . كانت النتيجة الرئيسية لحالة الحرب على الحدود طوال تلك السنوات أ، الصربيين اكتسبوا خبرة القتال فقد اشتركوا في كثير من المعارك كعساكر نظامية في جيش النمسا أو في جماعات فدائية غير نظامية, أو في وحدات خاصة بهم وتحت قيادة ضباط منهم. وأكثر من هذا أنهم كانوا يتولون وظائف إدارية عليا في بلادهم أثناء الإحتلال النمساوي لها أكثر مما كانوا يحصلون عليه وهم تحت الحكم العثماني. وكانت الخبرة التي حصلوا عليها من حرب 1788-1791 ذات قيمة إذ التحق كثير منهم في الفرق العسكرية النمساوية غير النظامية حيث تحملوا في الواقع العبء الرئيسي في المعارك. وأثناء تلك الحرب اقم كوكا انديلكوفيتش Koca Andjlkovic بثورة لم تنجح عرفت بثورة كوكا. ورغم أن الصربيين لم يجنوا فوائد فورية من اشتراكهم في الأعمال العسكرية وغيرها إلا أنها دربت قادتهم جيداً وجعلتهم يثقون في قدراتهم أكثر وأكثر.
غير أن سنوات تعاون الصربيين مع النمسا كانت مخيبة لآمالهم فقد شعروا أن النمسا لم تفي بوعودها تجاههم, وأن شروط الصلح لم تجلب لبلادهم أية ميزات أو مكاسب. ورغم أن حدود النمسا ظلت أمراً يهم الصربيين بحكم القرب من بلادهم, إلا أن قادة الصرب اتجهوا إلى طلب المساعدة من روسيا التي سارعت بتقديمها عبر الدانوب عندما لم تساندهم النمسا, وفي الوقت نفسه ظلت هجرة اللاجئين من الإضطهاد العثماني تتدفق على النمسا والبلاد التابعة لها.
على كل حال فإن صلح سيستوفا في 1791 وصلح ياصي في 1792 كما سبقت الإشارة أعطيا للسلطان سليم الثالث فترة للتفكير في إصلاح شؤون الإمبراطورية والحاصل أن رغبته في تحقيق أوضاع سليمة وقانونية تطابقت مع رغبة رعاياه من الصربيين, ذلك أنه بعد فترة الخراب والتدمير التي احدثتها الحرب كان الصربيون يمانعونن في قبول استمرار الحكم العثماني في مقابل حصولهم على حقوق الحكم الذاتي وضمان تهدئة الأحوال في الريف. غير أن لم يكن ممكناً تحقيق الإصلاح المطلوب بمرعفة الحكومة المركزية ذلك أنه بتوقف الحروب وجدت الإنكشارية والفرق العسكرية غير النظامية نفسه دون عمل ومن ثم انقلبوا على أهل الريف وأعملوا فيهم الإستغلال وافترسوهم ووقعت القرى في قبضة رجال تلك العصابات الذين حولوا أراضيها إلى مقاطعات خاصة. وانضمت مجموعات أخرى إلى الأعيان الثائرين وإلى عصابات قطاع الطرق وأعملوا السلب والنهب في المسالمين من المسلمين والمسيحيين على حد سواء وتحت تلك الظروف افقت مصالح الحكومة المركزية ومصالح الرعايا المسيحيين حيث لم يكن أحدهما يقبل تحمل استمرار تلك الأوضاع.
ولقد حاول السلطان سليك الثالث الذي كان متهماً بتلك المشكلات توفيق أوضاع الصربيين وتخفيف سوء الأحوال القائمة فبادر أولاً بتعيين رجال للإدارة المحلية لهم صلاحيات التعامل مع الرعايا وقمع العناصر الخارجة على القانون, وثانياً أصدر ثلاثة فرمانات في سنوات 1793, 1794, 1796 أعطت الصربيين ما كانوا يتطلعون إليه. ولقد حددت هذه الإجراءات علاقات الصربيين بالحكومة العثمانية, فقد حصلو على حقوق واسعة وكثيرة فيما يتعلق بالحكم الذاتي المحلي, وأصبح باستطاعتهم جمع ضرائبهم بمعرفتهم, وحمل السلاح, وتكوين ميلشيات, كما تقرر تصحيح عيوب نظام الجفلك. ولقد أصبحت هذه الفرمانات تشكل البرنامج السياسي لزعماء الصرب في السنوات التالية. ولو كان قدر لهذه الفرمانات أن تطبق لكان من المحتمل تأجيل ثورة الصرب القومية.
غي را، السلطان سليك الثالث لم يتمكن هو وأعوانه من تنفيذ ما أصدروه من قرارات وكان هذا من سوء الحظ. وفي السنوات التالية تعاظمت مشكلات الإمبراطورية بشكل كبير, وظلت استانبول مركزاً للدسائس التقليدية والمؤمرات, وتكرر نقل المسئولين ذوي الطفاءة الإدارية القادرين على التفاهم مع الرعايا من مواقعهم وحلت محلهم العناصر التي كان الإصلاح يهدد مراكزها أو أولئك الذين أضيرت مشاعرهم الدينية جراء التنازلات التي قدمت.
ومن ناحية أخرى ظلت المشكلة الرئيسية في باشاوية بلجراد متمثلة في وجود فرق الإنكشارية التي قاومت فرمان 1791 الذي أصدره سليم الثالث بمنع عودتهم إلى هناك. ومما سهل تحديهم للحكومة المركزية نشاط مجموعات صغيرة أخرى متمردة وكذا نشاط بشفان اوغلو كما سبقت الإشارة. وهكذا صنعت الإنشكارية قضية مشتركة مع أولئك الذين لا يقبلون سلطة الباب العالي. ولمواجهة القوة العسكرية لتلك المعارضة اضطرت السلطات العثمانية لطلب المساعدة من الصرب. ولقد ارتبطت سياسة العثمانيين في الإعتماد على الصرب مقابل تقديم تنازلات لحاكم بلجراد حاجي مصطفى باشا الذي عرف ب "أب الصربيين".
في تلك الأثناء كانت أكبر مشكلة تواجه العثمانيين في البلقان هي كيفية السيطرة على بشفان اوغلو, فهو لم يقنع بحكم مناطق بلغارية واسعة النطاق, بل لقد كان يرغب في أن يكون لأصدقائه الإنكشارية وضعاً راسخاً في بلجراد. وعلى هذا قرر السلطان سليم الثالث أن يتصرف بشدة وبحسم خاصة وأن الصربيين حصلوا بدورهم على امتيازات وسمح لهم بتكوين جيش خاص تحت رئاسة قياداتهم فأصبح كل السكان والحال كذلك يحملون السلاح. ولأن التحالف بين القوات العثمانية الرسمية والمسيحيين كان قوياً وناجحاً تلقى بشفان اوغلو هزائم متكررة حتى اضطر للتقهقر داخل قلعته في فيدين التي ضرب عليها الحصار. ولكن الظروف الدولية العامة عرقلت الجهود العثمانية, ففي 1798 دخل بونابرت مصر واضطر الباب العالي لتجريد البلقان من القوات العسكرية النظامية لمواجهة الغزو الفرنسي لمصر, وزادت في الوقت نفسه الضغوط على الباب العالي إذ كان من شأن سياسة تسليح المسيحيين ضد المسلمين استمرار جرح كبرياء العناصر المحافظة في الحكم.
كانت مجموعة الظروف الجديدة المتكافئة تمثل خطراً حقيقياً على مصالح الصرب ولما لم يكن باستطاعة سليم حشد قواته أو القيام بعمل عسكري فقد اضطر لمساومة بشفان اوغلو والعفو عن الإنكشارية والسماح لهم بالعودة إلى بلجراد شريطة أن يطيعوا حاجي مصطفى باشا. ولكن بمجرد عودتهم بوضعية قوية عادوا مرة أخرى إلى أساليبهم القديمة إذ سرعان ما تمردوا على حاجي مصطفى وقتلوه ميزان القوة إلى الإنكشارية وبشفان اوغلو على حساب السلطة المركزية والصرب.
بعد فترة من الصراع والإضطراب كانت فرق الإنكشارية خلالها تحارب بعضها بعضاً صعد أربعة من ضباط الإنكشارية من الصفوف الدنيا إلى قمة القيادة في عام 1802. وكان إمساك هؤلاء الضباط بناصية القوة يعني بالنسبة للصربيين انتهاء الحقوق التي نالوها في الحكم الذاتي, ذلك أن الإنكشارية عادت ترهب أهالي الريف وتثير الرعب في نفوسهم وتكررت من ثم أحداث الماضي, وفر عدد كبير من الصربيين إلى التلال وانضموا إلى العصابات غير النظامية أو كونوا لأنفسهم عصابات جديدة. وظهرت من جديد وحدات عسكرية صربية في أنحاء البلاد وتركزت المقاومة في التلال ذات الغابات الكثيفة في إقليم سومادييا Sumadija, وهناك استطاع كارادورديه بتروفيتش Karadjordje Petrovic أحد النبلاء المحليين أن يجمع حوله ثلاثين ألف مسلح بحلول ربيع 1804. وتمكن قادة محليون آخرون من تجميع عدد من الرجال في عدة مراكز في أنحاء الباشاوية.
ثم ما لبث الموقف أن فرض هذه العصابات المسلحة على مسرح الحوادث, ففي مطلع 1804 واجهت الصربيين حقيقة مؤداها أن عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم وما أن يشهدوا قادتهم وهم يتحطمون تماماً. والحاصل أن الإنكشارية كانت قد بدأت خلال يناير وفبراير 1804 في تنفيذ مذبحة لنبلاء الصرب المسيحيين تم التخطيط لها سلفاً بحيث لم ينقضي شهران إلا وتم قتل من 70-150 نبيلاً. وعلى الفور اجتمع حوالي ثلاثمائة من نبلاء الصرب في أوراشاك Orasac في إقليم سومادييا في فبراير واختاروا كاراديوررديه بتروفيتش قائداً لهم بهدف تنسيق العمل وتوجيهه. وكانم هذا يعني في النهاية أن ثورة الصربيين قد بدأت إذ أصبح لديهم قائد وقضية يحاربون من أجلها.
ولما كان لكاراديورديه دوراً غاية في الأهمية في القيام بالثورة وفي بناء أول تنظيم سياسي لدولة الصرب يتعين أن نعطي فكرة موجزة عن تاريخه. والحقيقة أننا لا نعلم إلا القليل عن حياته المبكرة بل أن تاريخ ميلاده غير مؤكد ويحتمل أنه ولد في 1766 من أبوين فقيرين اضطرتهما الظروف للتنقل من مكان لآخر بحثاً عن الرزق. وقد عمل بطلنا عند عدد من كبار ملاك الأراضي حتى عام 1787 حين غادرت أسرته إقليم سومادييا إلى فويفودينا Vojvodina هرباً من الإنكشارية ولجأت إلى دير كروشيدول Krusedol طلباً للحماية. ولما اندلعت الحرب النمساوية-العثمانية انضم كارديورديه للفرق العسكرية غير النظامية واشترك في المعارك التي دارت في غرب الصرب حيث اكتسب خبرات عسكرية لا يستهان بها . وبعد صلح سيستوفا استقر في توبولا Topola في إقليم سومادييا وتاجر في المواشي. وقد أتاحت له هذهذ التجارة أن يتعامل مع النمسا وأن يكون على صلة بكثير من مواطنييه فضلاً عن حصوله على رتبة "بوليوباسا" Buljubasa (أي رئيس وحدة عسكرية من مئة رجل) في الميليشيا الصربية التي كونها السلطان سليم الثالث. وبهذه الصفة تعاون مع حاجي مصطفى ضد الإنكشارية إلى بلاد الصرب عام 1801 كما سبقت الإشارة رأي كارديورديه شأن كثير من الصربيين أنه يتعين القيام ببعض الإجراءات الدفاعية فرق الإنكشارية التي اشتهرت بالعنف والفوضى. على أن تاريخ كارديورديه والخبرة التي اكتسبها كانت تتماثل مع كثير من أهل بلاده مما سهل من مههمته فيما بعد.
لقد أصبح كاراديورديه زعيماً لأول تمرد صربي ضد الحكم العثماني وذلك بسبب قدراته الشخصية التي جذبت إليه الصربيين فضلاً عن شجاعته, وقدرته على حسم الأمور, وحكمته التي بدت في تعامله مع الموقف الدولي المعقد زمن نابليون بونابرت, إذ نجح في رفع المسألة الصربية من مجرد مشكلة عثمانية داخلية إلى مسألة دولية, وكان قادراً على التعرف على مزاج رجال بلاده وتعامل معهم على هذا الأساس, وبالتالي نجح في السيطرة على الحركة الثورية في مواجهة صراع المصالح العظمى التي لا حصر لها.
ويبدو واضحاً أن قدرات كاراديوريه في التعامل مع الشؤون المحلية كانت عاملاً حاسماً في احتفاظه, ففي بداية الثورة واجهته تحديات من القوى السياسية في المدن والضواحي والقرى بسبب النظام العثماني اللامركزي في حكم الأقاليم التابعة والذي سمح بمشاعية السلطة على ذلك النحو وعدم تركزها في هيئة محددة, وهي أمور ظلت قائمة حتى أن إصلاحات تسعينات القرن الثامن عشر لم تمسسها, فمثلاً لم تكن هناك سلطة "صربية" مركزية للباشاوية بل كان لكل منطقة قادتها والمتحدثون باسم أهلها. وعلى هذا وفي 1804 (عام الثورة) كان كارديوريه شخصية معروفة وتحظى بالاحترام في منطقته فقط (سومادييا). وفي الجزء الغربي من الإقليم الشرقي كان ياكوف نينادوفيتش Jacov Nenadovic هو الشخصية الرئيسية بين أهلها, وفي القسم الشرقي كان يحظى بالمكانة نفسها كل من ملينكو ستويكوفيتش Milenko Stojkovic, وبيتر دوبرنياك Dobrnjac. وسرعان ما انفجر حاداً بين هؤلاء الرجال وأتباعهم وبين كاراديورديه وأنصاره ولما كان منافسو كاراديورديه مهتمون فقط بالإفادة من الموقف لمصلحتهم الشخصية ومكانتهم في الإقليم فقد فعلت الغيرة بينهم ووقفوا ضد كل المحاولات التي كانت تستهدف إيجاد حكومة مركزية صربية قومية وقوية, فلم يكن أي منهم يرغب في أن يرى قوته تضعف بين أهله في منطقنه لحساب سلطة مركزية, وأقصى ما كان يمكن أن يقدموه مجرد التعاون مع حكومة مركزية للإطاحة بالحكم العثماني. وأكثر من هذا أنهم حاولوا كما سوف نرى تجنيد عناصر لمساعدة روسيا ضد كاراديورديه.
لقد وضع كاراديوريه في اعتباره أن حل مشكلة بلاده الصرب لن يأتي إلا بإيجاد سلطة مركزية للثورة تعمل على تسوية المشكلات الداخلية التي يعاني منها الأهالي مثل توزيع الأراضي الزراعية, وتحقيق لعدالة ضماناً لوحدة الموقف. غير أن منافسيه ظلوا ينتقدونه بشدة بغية عزله من القيادة وإحلال غير محله واستخدموا كل الأساليب التي من شأنها تشويه صورته بين الناس ولدى حكومة روسيا التي تناصر حركة الصربيين. ومن ذلك أنهم خاضوا في حياته الشخصية, وانتقدوا أخلاقه, وادعوا أنه يتعامل بقسوة متناهية,وأنه أثرى من حيازته لمنافع عثمانية, وأنه تورط في مختلف المكائد التي التي دبرت ضد الصرب وممارسة العنف ضدهم, بل لقد أعلنوا أنه لن تأتي مساعدات من روسيا ما لم يتم استبداله بقائد آخر. ورغم قسوة الهجوم إلا أن الرجل ظل محتفظاً بقدرته على قيادة أول ثورة صربية بشكل مركزي حتى هزيمته العسكرية, وهي خصوصية صربية لم تشهدها ثورة اليونانيين فيما يعد ضد الحكم العثماني.
على كل حال . . فإن تلك الإنقسامية بين القوى السياسية في الصرب لم تكن واضحة المعالم خلال الأيام اللأولى من الثورة لكن سلوك فرق الإنكشارية الفجائي في يناير 1804 كما سبقت الإشارة أنتج رد فعل قومي عفوي من أجل البقاء ومن هنا جاء اختيار كاراديورديه قائداص أعلى للثورة دون منازع في فبراير كما رأينا. وآمن كل الصربيون بضرورة وجود سلطة فردية تنفيذية قوية تتولى قيادةالأمور وعلى هذا أصبح بإمكان كاراديوريه بعد مايو 1804 أن يوقع أوامره وبياناته باسم "الفويفودا الأعلى" Vojvoda (أي الدوق) زعيم الصربيين وقائدهم.
وفي البداية كانت هناك وحدة بين الصربيين ليس فقط في القيادة وإنما في الهدف المراد تحقيقه. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن الثورة في تلك المرحلة لم تكن تستهدف الإستقلال عن الدولةالعثمانية بل كانت موجهة ضد سيطرة الإنكشارية في لباد الصرب باتجاه استعادة حقوق الحكم الذاتي التي كانت الحكومة العثمانية قد وافقت عليها من قبل. وآنذاك كان ممثلو الثورة على إتصال منتظم بالباب العالي بشأن أماني الصربيين حيث أكدوا خلال مباحثاتهم معه أن غرضهم التوصل إلى شروط تضمن وضع حكومتهم الذاتية داخل نطاق الإمبراطورية العثمانية. وكانت مطالبهم الفورية تتلخص في إبعاد رؤساء فرق الإنكشارية الأربعة, والعفو التام عن المتمردين الصرب. وفي الوقت نفسه أبدوا رغبتهم في أن يعترف الباب العالي برئيس من بين الصربيين يكون كبيرهم Kens سلطة على صرب الباشاوية (أي بلجراد), ويكون مسئولاً عن تسديد الضرائب, وتمثيل قومه أمام الحكومة العثمانية. كما شملت الرغبة أيضاً أن تفرض الضرائب والجزية دون تعسف في جمعها فضلاً عن منع الإنكشارية من حيازة أرض ريفية, ووضع ضوابط لحق المسلمين في الإقامة في المدن الصربية, وكذا ضمان حرية العقيدة, والتجارة, والإنتقال. وفي أثناء المباحثات مع السلطات العثمانية حول تلك النقاط كان زعماء الصرب يرنون ببصرهم لحكومتي النمسا وروسيا لتقديم العون والمساعدة اللازمة.
وبهذه المطالب الصربية كان على الحكومة العثمانية أن تواجه تمرد فرق الإنكشارية مرة أخرى ومما ساعدها في ذلك أن علاقتها بالمسيحيين كانت قوية وأن السلطان سليم الثالث نفسه لم يكن يرغب في الوقوف ضد أمني الصرب. وعلى هذا أوفد أبوبكير باشا وزير البوسنة إلى بلجراد للقضاء على الإنشكارية وقد نجح في إيقاع الهزيمة بهم في أغسطس 1804. ومع ذلك لم تستقر الأمور ذلك أن فرق المسلمين المتمردة كانت ما تزال قوية وفي الوقت نفسه لم تكن الحكومة العثمانية راغبة رغبة حقيقية في تقرير الحكم الذاتي للصرب الأمر الذي دفع زعماء الصرب للبحث عن مساندة خارجية لضمان تنفيذ شروط الحكم الذاتي. وعلى هذا ذهب إلى روسيا في نوفمبر 1804 وفد صربي كان من أعضائه ماتييا نينادوفيتش Matija Nenadovic من أشهر رجال الكنيسة حيث استقبله وزير خارجية روسيا آدم سيزارتورسكي Czartoryski الذي نصحهم بالتعامل مع الباب العالي مباشرة لأن روسيا كانت تتعاون آنذاك معه في ضد نابليون بونابرت.
وهكذا بقيت الأوضاع في الصرب مائعة ومن ثم اخذ زعماؤها يتطلعون للإتصال بالجماعات المسيحية في البوسنة والهرسك وعصابات اللصوص اليونانيين وحكام مولدافيا وولاشيا استعداد لإمكانية التحرك في المستقبل. وعلى الجانب الآخر أخذت فرق الإنكشارية تتجمع من جديد وتضم إليها العصابات الخارجة على القانون لإستعادة مكانتهم مرة أخرى حيث تسللت داخل القرى خلال شتاء وربيع 1805 لتثير الفوضى والفساد والرعب بين الأهالي. وكانت الإدارة العثمانية أضعف من أن تضبط العناصر الخارجة علىالقانون, والأهم من ذلك أن السلطان سليم اضطر تحت الضغط إلى تغيير موقفه حيث أصبح مقتنعاً في ربيع 1805 بأن الصربيين متمردون ووجب تأييدهم, ومن ثم تخلى عن سياسة التآلف معهم وبادر بتعيين باشا نيش Nis حافظ باشا حاكماً جديداً على بلجراد وزوده بجيش للتعامل مع الصربين. غير أن جيش حافظ باشا هزم عند ايفانكوفو Ivankovo في أغسطس 1805 الأمر الذي شجع الصربيين على التقدم نحو بلجراد وفي نوفمبر استولوا على سميدروفو Semederovo التي أصبحت أول عاصمة لحكومة الصرب الجديدة ثم سقطت بلجراد في أيديهم في العام التالي.
وأمام سيطرة قوات الصرب على باشاوية بلجراد وتجدد حالة الحرب كان من الطبيعي أن تبدي الحكومة العثمانية رغبتها في تسوية المسألة الصربية عن طريق التفاوض مع إبداء استعداد حقيقي لتقديم تنازلات عريضة. وكان من شأن هذا الموقف الجديد أن تتغير مواقف كل من الصرب والروس. فروسيا وهي في حالة حرب مع العثمانيين كانت لها مصلحة في استمرار ثورة الصرب, والصرب التي حققت النجاح في المعارك الحربية كانت تجذبها أكثر فكرة الإستقلال, والباب العالي أظهر استعداده لمنح الصرب قدراً كبيراً من الحكم الذاتي. وأصبح السؤال بالنسبة للصرب آنذاك ما الذي يمكنهم الحصول على أكثر, وإلى أى مدى يمكن الثقة في إلتزام الباب العالي بالإتفاق معه والعمل على تنفيذه ولكن تحت الظروف القائمة ظل إغراء استمرار التمرد لتحقيق استقلال حقيقي أمراً قوياً. وكان الصربيون يدركون أن التوصل إلى قرار نهائي في هذا الشأن يتوقف على موقف روسيا الذي سيكون له تأثير حتمي على مستقبل وجود دولة صربية قوية.
على كل حال . . ففي صيف 1807 وصل إلى الصرب الكولونيل الروسي بولوتشي F.O. Paulucci لتقدير الموقف السياسي والعسكري هناك, ولتحديد نوع المساعدة التي تحتاجها الصرب, ونوع المساعدة التي تستطيع روسيا أن تقدمها في الحرب المشتركة ضد الدولة العثمانية. ولكنه مزوداً بصلاحيات لعقد أي اتفاق ملزم, وهو أمر لم يكن موضع اهتمام الصربيين كما تكشف الوثائق المتاحة. وانتهت الزيارة بتفاهم في العاشر من يوليو عرف باتفاق بولوتشي-كاراديورديه طالب ضمن شروط أخرى بتعيين مسئولون روس في بلاد الصرب, وإقامة حامية عسكرية روسية في المدن, وإرسال مساعدات روسية عسكرية واقتصادية. أما وقد اعتقد كارارديورديه أنه حصل على تأكيدات واثقة بدعم روسي فقد تبنى سياسة تستهدف استقلال الصرب وليس مجرد الحصول على حكم ذاتي تحت الحكم العثماني. وسرعان ما اتضح التسرع في توقيع اتفاق بولوتشي-كاراديورديه هذا عندما تبين أن روسيا وفرنسا عقدتا معاهدة تيلست Tilsit قبله خلال أيام 7-9 يوليو وكانت أحد موادها تنص على أن تحاول فرنسا من جانبها أن تعمل من أجل التوصل إلى عقد صلح بين روسيا والدولة العثمانية.
كان للتفاهم بين روسيا وفرنسا على ذلك النحو تجاعيات سيئة وفورية على الصرب إذ سرعان ما عقدت روسيا في أغسطس هدنة سلوبوزيا Slobozia مع الدولة العثمانية على أثرها تركت القوات الصربية في العراء تواجه القوات العثمانية رغم أن المفاوضين الروس لتوقيع الهدنة كانت لديهم تعليمات بعدم التخلي عن الصرب. وعلى هذا كان من الطبيعي أن يزداد عداء العثمانيين للمتمردين الصرب.
روغم صعوبة الموقف إلا أن قوات الصرب كانت قادرة على الإحتفاظ بالسيطرة على الموقف في الريف وأصبح مصير الصرب النهائي يتوقف فيما يبدو على تطور الأحوال الدولية. وكانت الظروف في الصح الصرب على وجه الإجمال فقد انشغلت الإدارة العثمانية بالصراع على العرش الذي انتهى بخلع سليم الثالث وصعود السلطان محمود الثاني للحكم, ولم يكن بامكان السلطان الجديد تجريد حملات عسكرية ضد متمردي الصرب بل كان أكثر ميلاً للتفاوض للتوصل إلى تسوية, وكانت مشكلة التسوية تبدو في صعوبة الإتفاق على وضع حدود معينة لدولة الصرب الجديدة.
وفي تلك الفترة الحاسمة من الصراع استمر كاراديورديه يواجه خصومه في الداخل, وكانوا قد نجحوا في 1805 في تشكيل مجلس لمراقبته باسم المحكمة العليا, لكنه كان مجلساً شكلياً لم يحل دون أن يعلن كاراديورديه نفسه القائد الأعلى للبلاد 1808 وذلك بعد فشل مؤامرة خصومه ضده بتأييد من المبعوث الروسي كونستاتيور رودوفنكين Rodofinikin الذي كان قد وصل إلى الصرب في أغسطس 1807. وعلى هذا أخذ الرجل يتطلع للحصول على مساعدة فرنسا والنمسا للإحتفاظ بسلطته رغم أنف المعارضة.
ورغم المعاناة التي لقيها كاراديورديه من المبعوث الروسي إلا أنه اعترف بوحدة المصالح التي تربط بلاده بروسيا. ولهذا فعندما اندلعت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية مرة أخرى في 1809 كان كاراديورديه يستعد لمساندة جيوش روسيا. غير أن التعاون بين الطرفين لم يكن مؤثراً فرغم أن كاراديورديه شن هجوماً ناجحاً على نوفي بازار Novipazar إلا أنه هزم هزيمة شديدة في نيش أمام القوات العثمانية التي واصلت تقدمها إلى بلجراد, مما أدى إلى فرار عدد كبير من الصربيين عبر الدانوب في أغسطس 1809 بما فيها المبعوث الروسي رودوفنكين. ومع أن الصرب لم تهزم تماماً في هذه المواجهة إلا أنه حدث تحول ملحوظ في حركة المتمردين, إذ كان عليهم البقاء في خط الدفاع للإحتفاظ بالمقاطعات التي تحت سيطرتهم.
وبناء على تلك التطورات عادت القوات الروسية إلى الصرب في يونية 1810 للمرة الثانية بقيادة المارشال كوتوزوف Kutuzov مزودة بأسلحة ومعدات ومواد طبية لللإشتارك مع الصربيين في وضع خطة مشتركة للمواجهة مما جعلهم يشعرون بأن انتصارهم في قضيتهم بات قريباً أو قاب قوسين أو أدنى. غير أن مجريات الأمور على المسرح السياسي في أوروبا عصفت بآمال الصربيين وخيم التشاؤم عليهم.
والحاصل أن قيصر روسيا ألسكندر الأول وكان يواجه غزواً فرنسياً وشيك الوقوع أصبح راغباً في عقد معاهدة صلح نهائية مع الباب العالي حتى يكون بإمكانه سحب قواته المشاركة مع العثمانيين لمواجهة ذلك الغزو المتوقع. لكن كما حدث عند توقيع هدنة سلوبوزيا تصرفت روسيا ضد مصالح حلفائها إذ لم يعلم الصربيون مسبقاً بمفاوضات الروسي في هذه المرة الثانية في وقت كانت توقعات الصربيين فيه عالية في حقيق الإستقلال, وكان كاراديورديه قد بلغ أوج قوته.
وفي المفاوضات الروسية-العثمانية التي انتهت بعقد بوخارست في مايو 1812 حاول المفاوضون الروس عمل شئ للصربيين حلفاؤهم السابقين فكانت المادة الثامنة من المعاهدة تختص أثناء الثورة ما لم تكن لها قيمة معينة لدى الحكومة العثمانية, وتعاد الأجهزة العثمانية والمنشآت التي كانت قائمة في بلاد الصرب قبل عام 1804 وتكون تحت حماية قوات عثمانية. وفي المقابل وعد الباب العالي بإصدار عفو عام عن المعارضة الصريبية, ومنح حقوق حكم ذاتي مؤكدة, وأن يقوم الصربيون "بإدارة شؤونهم الخاصة", وتثبيت الضرائب وجمعها بمعرفتهم وتوريدها إلى الخزانة العامة في استنبول.
كان رد فعل تلك المعاهدة لدى الصربيين شديداً ذلك أن عودة العثمانيين لاحتلال قلاع ومدن الصرب مرة أخرى كان أمراً مرفوضاً ومن ثم توقع الجميع اندلاع موجة من الثأر المخيف خاصة وأن حكومة الصرب لم يكن لديها ضمانة با، الحكومة العثمانية سوف تنفذ المادة الثامنة من المعاهدة, بل أن قيام روسيا بتشجيع الصربيين على التفاوض المباشر مع العثمانيين أشعرهم بعدم الأرتياح خاصة عندما أصبح واضحاً أن روسيا للصرب في المرحلة التالية مجرد دعم دبلوماسي. ولقد تأكدت مخاوف الصربيين فور رجوع القوات الروسية إلى بلادهم إذ أصبح بإمكان الدولة العثمانية تركيز قواتها في الصرب بعد صلحها مع روسيا إلى بلادها إذ أصبح بإمكان الدولة العثمانية تركيز قاوتها في الصرب بعد صلحها مع روسيا (صلح بوخارست) . وسرعان ما تقدمت ثلاثة جيوش عثماينة في أراضي الصرب دفعة واحدة واضطر كاراديورديه ومعه عدد من القادة لعبور نهر الدانوب في يوليو 1813 إلى أراضي النمسا وهنا دخلت القوات العثمانية بلجراد وهي المدينة التي أجبروا على مغادرتها في 1806 كما رأينا ووقع أهالي المدينة ضحية أعمال ثأر بشعة وعقوبات شديدة. وبهذا انتهت ثورة الصرب الأولى بعد حالة من الحروب دامت تسع سنوات استنزفت خلالها مصادر الصربيين بشرياً ومادياً.
ورغم فشل الصربيين في ثورتهم إلا أن بلادهم حققت الكثير تحت قيادة كاراديورديه إذ تم تنظيم التمرد, وتم تأسيس أول حكومة صربية منفصلة عن الدولة العثمانية, ووقعت في يدهم كثير من ممتلكات العثمانيين بما فيها أراص ومنازل ومحلات ومخازن. ومن ناحية أخرى لفتت الثورة انتباه دول العالم وخاصة روسيا إلى المسألة الصربية التي أثبتت الحوادث بدرجة غالية أن مستقبل الحكم الذاتي للصربيين مرهون بموقف روسيا وعلى مدى رغبتها في استعادة الحكم الذاتي للصربيين. والأكثر أهمية أن محاولات جرت للإجابة على سؤال جوهؤي بمسألة سياسية كبرى ألا وهو: هل وجود نظام حمن مركزي لأقاليم تابعة متنوعة الأعراق والأديان أكثر فائدة أم قيام حكومة تمسك بزمام السلطة فيها مختلف الأقليات والجاليات المحلية القائمة؟.
والملاحظ أنه بعد الغزو الفرنسي لروسيا في يونيو 1812 تركزت أنظار الدولة العثمانية وكل دول أوروبا على المنطقة ثم على المعارك التي دارت في وسط أوروبا حتى هزيمة نابليون واحتلال فرنسا ذاتها. وخلال تلك الفترة من الإضطرابات كانت الحكومة العثمانية تزيد السلام على أراضيها, ومن ثم اتبعت سياسة لتوفيق الأوضاع مع الصربيين ومن ذلك أنها أعلنت في اكتوبر 1813 العفو العام الذي أفاد منه بكثير من قيادات الصرب بما فيهم زعيم المرحلة التالية من حركة الصرب القومية ميلوش أوبرينوفيتش Milos Obrenovic حيث عادوا إلى مواقعهم في السلطة المحلية. ومع عودة الصربيين إلى وطنهم غادر العساكر العثمانية المناطق الريفية وكذا كثير من المسلمين.وهكذا كان الصربيون ما يزالون أقوياء ولكن زيادة عدد خصومهم كان أمراً محتملاً أيضاً.
ورغم الإجراءات التي اتخذتها السلطات العثمانية للوفاق مع رعاياها إلا أن المشاعر السيئة بين المسيحيين والمسلمين ظلت قائمة ولم يتم اتخاذ مواقف محددة بشأنها. وهكذا وفي 1814 انفجرت ثورة في مدينة رودنيك Rudnik في باشاوية بلجراد وعرضت السلطات العثمانية على رئيس المدينة (Kens) ميلوش أوبرفيتش إنهاء الثورة في مقابل العفو العام عن المتمردين. ورغم أن محافظ بلجراد سليمان باشا أكد هذا العرض إلا أنه تم ذبح كثير من المتمردين بعد القضاء على التمرد. وهنا عادت مخاوف الصربيين مرة أخرى فهرب بعضهم واستعد البعض الآخر للثورة. وفي أبريل 1815 تخلى ميلوش عن سياسة التعاون مع العثمانيين وتولى زعامة الثورة. وفي هذه المرة كانت الظروف المحلية والدولية في صالح الصربيين, فأولاً كان الصربيون أفضل عدداً مقارنة بالقوات العثمانية, وثانياً أن حالة الحرب العامة التي كانت سائدة في أوروبا ووترلو في ويونية 1814 بهزيمة نابليون وفي الوقت نفسه لم تكن الحكومة العثمانية مستعدة لمواجهة ثورة كبرى.
وعلى هذا انفتح الطريق للإتفاق بين الصربيين والحكومة العثمانية, فالباب العالي كان في حالة مزاجية إيجابية, وميلوش يرغب في التفاوض في الوقت نفسه. وهكذا ذهبت وفود صربية لاستانبول لتعلن أ، تمرد الصربيين لم يكن ضد السلطان وإنما كان ضد سليمان باشا بسبب حكمه السيئ. وقد زاد من قوة الصربيين في الحقيقة موقف روسيا التي أفهمت الباب العالي بأنه إذا لم يتوصل إلى اتفاق مع الصربيين فإنها سوف تثير مسألة تطبيق المادة الثامنة من معاهدة بوخارست, فما كان من الحكومة العثمانية إلا أن سحبت سليمان باشا وعينت بدلاً منه علي باشا المرعشلي.
وهكذا وفي إطار هذا المناخ الجديد تم التوصل في نوفمبر 1815 إلى تفاهم شفاهي بين المعشلي باشا وميلوش الذي طالب بتنفيذ الشروط التي سبق أن وافقت عليها الحكومة العثمانيةةة في عام 1807 والتي كان كاراديورديه قد رفضها عندما قرر الدخول في حرب من أجل الإستقلال. وتم الإتفاق على الإعتراف بميلوش كبيراً للصربيين Kens, وأن يزود كل إقليم بموظفون صربيين وعثمانيين رسميين لتولي القضاء في الحالات التي يكون فيها الصربيون طرفاً في الخصومة, وإنشاء مجلس قضائي في بلجراد يكون بمثابة محكمة عليا في البلاد, وأن يتولى مسئولون صربيون مهمة جمع الضرائب المقررة, وتسوية ضرائب الأطيان مبقتضى فرمان. وبالفعل وبعد ثلاثة أشهر من هذا الإتفاق الشفاهي أصدر السلطان محمود الثاني فرماناً يؤكد على هذه الترتيبات. كما تم منح الأراضي ميزات في التعريفة الجمركية والتجارية, وتم إبعاد عائلات الإنكشارية عن الأراضي المملوكة للصربيين, وأن يعمل مسئولون صربيون وعثمانيون معها في إدارة شؤون المدن والمواقع العسكرية,كما تم إصدار العفو العام.
غير أن تلك الشروط الجديدة لم تجعل من الصرب حكومة ذاتية حقيقية داخل الإمبراطورية العثمانية وهو الأمر الذي لم يتحقق إلا في عام 1830, لكنها أنهت أعمال الثورة والمعارك العسكرية, ثم أخذت خطوات الحكم الذاتي تتحقق تدريجياً بفضل المفاوضات الدبلوماسية وضغط روسيا على الحكومة العثمانية. وفي كل الأحوال تمكن الصربيون من إدارة شؤون بلادهم بانفسهم وأصبح لهم قائدأ وطنياً معترف به, وأقاموا قاعدة وطنية أسهمت في تحقيق التطور القومي في المستقبل.