تاريخ حلب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
زلزال حلب
- مقالة مفصلة: زلزال حلب 1138
في ١١ تشرين الأول ١١٣٨ - ضرب زلزال ضخم مدينة حلب وأدى إلى مصرع عشرات الآلاف. يعتبر الزلزال رابع أكبر الزلازل في التاريخ من حيث عدد الضحايا، فوفق مؤرخي ذلك العصر وصل عدد الضحايا إلى ٢٣٠ ألفاً. تم تدمير معظم مدينة حلب وعدد من البلدات المحيطة، كما دمّر أيضاً عدداً من أكبر القلاع والحصون في المدينة ومحيطها من بينها قلعة حلب وقلعة الأتارب وقلعة بناها الصليبيون في حارم. رافق الزلزال تسونامي في البحر المتوسط. وتبعته ٥ هزات ارتدادية بين ٢٠ تشرين الأول و٣ تشرين الثاني.
القرن 19: حلب الشهباء قبس من نور في الديجور
بعد الأمير فخر الدين المعني تحول مركز الاشعاع من الارض اللبنانية مؤقتا الى مدينة حلب أكثر المدن السورية نورا حتى في أثناء تلك الظلمة. كانت حلب أكبر مدن الشمال السوري لا تزال تحافظ على أهميتها الادارية والاقتصادية والثقافية التي تمتعت بها في العصور الوسطى. فدخلت عتبة العصر الحديث بخطا أكثر حيوية ونشاطا من غيرها. فبالاضافة الى غالبية سكانها العرب المسلمين كان يعيش في حلب عدد لا يستهان به من أبناء الشعوب الشرقية الأخرى كالترك والفرس والأرمن واليهودن، علاوة على التجار ورجال الدين والدبلوماسيين الايطاليين والفرنسيين والاسبان وغيرهم من الأوربيين.
بيد أن حلب لم تشتهر فقط بكثافتها السكانية وأهميتها الاقتصادية، بل بكونها مركزا حضاريا للعلم والأدب. فالعائلات الحلبية التي تعاطت التجارة، والمسيحية بخاصة، اشتهرت برعايتها للعلوم والفنون. فنبغت بينها طبقة من رجال العلم والأدب المسيحيين في القرنين الأخيرين قبل هذه النهضة. وليس من قبيل المصادفة أن أرباب الفكر ورجال القلم الأوربيين اتخذوا حلب محطة أساسية لرحلاتهم وتنقلاتهم عبر الشرق. ولاغرو أن الشاعر الفرنسي لامارتين قد تأثر جدا في العقول الأولى من القرن التاسع عشر بمدينة حلب التي وصفها ب"أثينا آسية". ينبغي التذكير أيضا أن كبار المستشرقين الأوربيين في لندن وليدن وغيرها من المدن الأوربية، أمثال يعقوب غوليوس الهولندي (1596-1667)، رحلوا الى المشرق وأقاموا مدة في حلب بهدف تعميق معارفهم في آداب اللغة العربية، فوطدوا علاقات وثيقة مع رجال الفكر النصارى ومن بينهم الأرمن، وبالمناسبة صحب المستشرق غلويوس معه الى هولنده معاونه شاهين الجندي الحلبي الأرمني.
في مطلع القرن 18 شهدت الحركة الثقافية في حلب انتعاشا باديا في أوساط المثقفين من أبناء الطائفة الملكية (الروم الأرثوذكس) على يد الزعيم الروحي البطريرك أثناسيوس الدبس الراعي الأنطاكي. وما يعد له فضلا جزيلا انه كان أول من أنشأ مطبعة عربية، اذ استجلب أدواتها من بلاد الفلاخ برعاية حاكم تلك البلاد برانكوفيتش. وهكذا، كان السوريون أسبق المشارقة الى الطبع بالحرف العربي، وأسبق مدن سورية الى هذا الفضل حلب. استمرت هذه المطبعة في العمل من سنة 1701 – 1704، وطبع فيها أول كتاب طقسي كنسي بالعربية واليونانية سنة 1702، ثم طبع الإنجيل فيها سنة 1706، وأكثر مطبوعاتها من كتب الدين.
وفي الربع الثاني من القرن ذاته ظهر حلقة أدبية – ثقافية بين أبناء الطائفة الكاثوليكية الاقل عددا، الأكثر ثراء، كان المبادر اليها أسقف أبرشية الطائفة المارونية بحلب جبرائيل بن فرحات مطر (1670-1732) الذي وسم أسقفا على حلب واشتهر فيما بعد بالمطران جرمانوس فرحات الماروني. ولد في حلب وتلقى العلم على أدباء عصره المسيحيين والمسلمين (تتلمذ على يد الشيخ سليمان المعروف بالنحوي الحلبي). فدرس العلوم الرائجة في عصره، كاللاهوت الأدبي والمنطق والفلسفة والتاريخ. واتقن اللغات العربية والسريانية واللاتينية والايطالية واليونانية والفرنسية. ومما لا شك فيه أن فرحات لم يكتف بداية بالعلوم الأولية التي تلقاها في مدرسة الطائفة التي أسسها المطران أسطفان الدويهي (1662-1668)، وبدروس الفلسفة واللاهوت التي استقاها من الخوري بطرس التولادي (1657-1745) الذي درس الفلسفة في ايطالية وان من أعظم الثقات في الفقة الاسلامي والعلوم الطبيعية، بل ازداد اختبارات ومعرفة من زيارته الى ايطالية واسبانية وصقلية وغيرها (1711-1712) ومن خلال نشاطه الزاخر لجمع مكتبة نفيسة قدمت خدمات جليلة للآداب العربية.
ومن الوجوه البارزة في الأوساط الأدبية بحلب نذكر اللاهوتي والأديب اللغوي الخوري نقولا الصائغ (1652-1756) والشاعر نعمة الله الحلبي والمتوفى سنة 1170، والشماس عبد الله زاخر الحلبي (1680-1748) والشاعر إلياس فخر (بين 1697-1751). ولعل أشهرهم قاطبة مكرديج إلكسيج الأرمني الكاثوليكي ابن كيوريغ عبد الله بن هاشم مكرديج، من مواليد كلس. كان من العاملين في النهضة العربية مع نقولا الصائغ وجرمانوس فرحات. وقد أشاد الأخير بفضائله في قصيدته الشهيرة "التذكرة" واصفا اياه بالزميل والصديق. بينما وصفه نقولا الصائغ بقوله "انه تاج الأدباء وسراج الحكماء". وهذا الكلام ليس من قبيل العبث، فالأرمني مكرديج أخذ العلم عن فرحات وأستاذه التولادي. وخلف لنا تأليف قيمة في اللاهوت والفلسفة اشتهرت في حياته بطريق الاستنساخ. وقد خص عيسى اسكندر المعلوف في كتابه "حوض اللآلئ" حيزا مرموقا لمكرديج الكسيح، ذكر فيه عناوين تأليفه المخطوطة المحفوظة في مكتبات رومة ولندن وفيينا.
كانت الحركة الأدبية التي ترأسها جرمانوس فرحات قد طرحت برنامجا تعليميا تربويا محددا (انشاء المدارس العلمانية، تأسيس مطبعة، نشر الآداب والعلوم) دفع كراتشكوفسكي لوضعه في عداد "المقومات" التي مهدت لقيام النهضة الأدبية قبل مطلع القرن التاسع عشر، ولاسيما انها بقيت ظاهرة فريدة اهتمت على الأغلب بنشر كتب اللغة، أكثر من اهتمامها بانعاش الأدب الحقيقي. وبالفعل، لو ضربنا صفحا عن الاعتبار الهام التالي: وهو أن مدينة حلب كانت أشبه بجزيرة لنمو العلاقات الرأسمالية التجارية – الربوية في خضم بحر العلاقات الاقطاعية المنتشرة انتشارا عظيما في سورية الداخلية، بالاضافة الى الوسط الاجتماعي الاسلامي المغالي في التعصب الأعمى والمتمسك بتلابيب أفكار القرون الوسسيطة الظلامية، فان هذه الأجواء لابد أنها تركت بصماتها على نشاط حلقة فرحات وعلى الحياة الجديدة التي حاولت الطوائف المسيحية انعاشها وتطويرها. لا بل ان واقع التباين في الانتماء القومي والمذهبي للأشخاص الذين حلقوا حول هذه الحركة الأدبية، جعل منها قصبة في مهب الريح تنازعتها انواء الانعزالية الطائفية، والعقائد الجامدة، والخرافات والخزعبلات السائدة عصرئذ. جميع هذه الوثائق تشير الى الضرورة الملحة التي وقفت أمام تلك الحركة باتجاه تعميق وتجذير الأفكار والآراء كي تتماشى وروح العصر الجديد.
وأكثر من هذا، فنحن لا نتردد في الربط بين اسم فرحات وبين العديد من الأبحاث والمصنفات النفيسة في العلوم اللغوية، لا بل نقرن اسمه بأول تجربة مميزة في مجال تجديد اللغة والأدب العربي، كان فرحات رائدا في تصنيف الكتب المدرسية، اهتدى – ولا شك – بالتراث العربي التقليدي، ولكنه وضع اسسا جديدة مبتكرة في تعليم اللغة العربية لأبناء طائفته _وليس لهم فقط) مسترشدا في كل ذلك باصول القواعد والنحو التي سار عليها الأوربيون. كان فرحات أول من أنهى تأليف معجمه النفيس المسمى "باب الإعراب عن لغة الأعراب" (1718)، حذا فيه حذو الفيروز آبادي في "القاموس المحيط "، مضيفا اليه الكثير من المفردات والتعابير المنتشرة في الوسط المسيحي لا غيره، أخيرا، كان فرحات سباقا في استكمال التجربة التي أخفق في انجازها المدعو سليمان الغزي في القرن الرابع عشر، والرامية الى التوليف بين عروض الشعر العربي واوزانه المختلفة وبين مضامين الشعر النصراني الديني، فنظم قصائد راقية مكرسة لمريم العذراء، وقرض أشعارا من لون الخمريات مهداة الى سر المعمودية. ومن هذا المنطلق نردد بكل فخر كلمات الأديب عبد الجليل الذي قال فيه: "فرحات من أعظم مشاهير رواد النهضة".
غير أن عاصفة هوجاء هبت على مدينة حلب فاخمدت نار هذه الحركة الثقافية التي اختفت معالمها تدريجيا في العشرينيات من القرن السابع عشر. الأسباب عديدة بالطبع لعل أهمها ذلك الانقسام الذي شجر داخل الطائفة الملكية الأرثوذكسية بين علية الأكليروس ذات الاصل اليوناني وبين قطيع المؤمنين العرب، لاختلافهم هول المسائل القومية – الاجتماعية بعد وفاة بطريرك انطاكية الشهير مكاريوس الحلبي (1672)، ذلك الخلاف الذي أدى الى تعميق الهوة بين الفريقين المتنافسين والى اعتناق عدد ملموس من الملكيين للمذهب الكاثوليكي. وعلى اثر الاضطهاد الذي مورس بحق البعض وبتشجيع من السلطات التركية، حسب قاعدة فرق تسد ، أقدم البطريرك الماروني اسطفان الدويهي على تشجيع الهجرة الى جبل لبنان. ففي سنة 1693 هاجر قسم منهم بقيادة جرمانوس فرحات الى قضاء اهدن، ونزح القسم الآخر الى دير مار حنا في قرية الشوير فكان مقدمهم نقولا الصائغ الذي وسم راهبا لتوه. وهنا ، جدد فرحات نشاطه الأدبي فألف ما عرف ب"ديوان المطران فرحات" ضمنه خيرة قصائده ومراثيه ومزاميره، وواصل عمله في مديان الألسنيات، فأبدع في علم المباني والبيان والعروض والقوافي، ووضع تصانيف كثيرة في علم العربية، لعل أعظمها كتاب "بحث المطالب" في الصرف والنحو، طبع مرارا.
لم تكن دعوة البطريرك الدويهي لهجرة رجال العلم والفكر الحلبيين الى جبل لبنان منزهة عن الأغراض والمقاصد، فالطائفة الدرزية لعبت دورا قياديا على الصعيدين السياسي والاداري في امارة جبل لبنان ، وكانت أقل عددا من الطائفة المارونية في شتى أرجاء الجبل (ماعدا الشوف مهدها الاصلي). ان رعاية الأمراء الشهابيين للفلاحين والحرفيين النصارى انتهت الى انتشارهم انتشارا مكثفا في معظم أنحاء الجبل، والى تصاعد وزنهم النوعي في عملية تطوير البلاد اقتصاديا ، والى القيام بالدور الأساسي في انتاج وتصدير الحرير والقيام بدور الوساطة التجارية بين أوربة والمشرق. الأمر الذي أدى الى تحسين الأوضاع المادية للسكان في لبنان الشمالي والوسيط. وبالتالي الى زعزعة المواقع الاقتصادية – المالية للطائفة الدرزية. ومن الجانب الآخر، فالروابط المتباينة في شكله ومضمونها مع العاصم الأوربية. وفعاليات التبشير الديني التي اضطلع بها المرسلون الأجانب.وتعاظم الوزن النوعي من حيث الكم والكيف الى نبوغ طبقى من رجال العلم والأدب الذين تسلموا ادارة الأعمال الأميرية وتصريف شؤون الطبقة الاقطاعية – العقارية وغيرها من العوامل التي حسمت التغير في ميزان القوى لصالح الموارنة. ومن هنا تطلب الوصول الى هيمنة الطائفة المارونية على شتى مجالات الحياة وفرض سيطرتها الكاملة على مقدرات الامارة دون رجعة. تطلب بذل الجهود الفكرية والثقافية الأخيرة، الهادفة والمركزة، وصولا الى تحويل الامارة الدرزية عمليا الى امارة مارونية.
وفي الوقت ذاته، كانت العلاقات النقدية – السلعية التي تبرعمت في العقود السابقة وشهدت انتعاشا ملحوظا في مطلع القرن الثامن عشر لاقي تطوره السريع في المستقبل القريب، فاستوجب ضرورة ايجاد هيكلية فكرية مناسبة لوتائر التطور الجاري من حيث تجديد الأفكار والعقائد السائدة لدى الأكليروس الاقطاعي بمساعدة التنوير الارسالي – الرهباني.
المصادر
- يغيا نجاريان (1986). "الجمعية العلمية السورية". النهضة القومية – الثقافية العربية. يريڤان، أرمنيا: أكاديمية العلوم الأرمنية.