اليوغسلاڤية
اليوغسلاڤية Yugoslavism تشير إلى قومية أو وطنية ترتكز على اليوغسلاڤ - أي أنها هوية تشير إلى شعب سلاڤ الجنوب الواحد المتحد والأراضي التي يقطنها سلاڤ الجنوب في جنوب شرق اوروپا. قد نادت اليوغسلاڤية تاريخياً إلى اتحاد كل الأراضي التي يسكنها سلاڤ الجنوب والتي تضم الآن البوسنة والهرسك، بلغاريا، كرواتيا، الجبل الأسود، صربيا، (والكيان المتنازع عليه كوسوڤو)، سلوڤنيا، ومقدونيا.[1] اليوغسلاڤية كانت قوة سياسية فاعلة أثناء الحرب العالمية الأولى مع اغتيال الأرشدوق النمساوي فرانز فرديناند على يد المسلح المؤمن باليوغسلاڤية گاڤريلو پرنسيپ والغزو النمساوي اللاحق لصربيا، التي سعت لتجميع شعوب سلاڤ الجنوب ضد الهيمنة الامبريالية النمساوية-المجرية، وكانت تدعم قيام يوغسلاڤيا المستقلة، والتي تحققت في عام 1918.[2]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بزوغ اليوغسلاڤية
لقد أخذ الكاهنان الكاثوليكيان يوسيپ ستروسمايرٍ Strossmayer Josip Juraj وفرانيو راشكي Franjo على عاتقهما مسئولية تبني تقاليد الإليرية, وقد كانا رفيقان متلازمان لا يفترقان، فالكاهن ستروسماير أسقف دياكوفو Djakovo والمتحدث بإسم إكليروس كرواتيا كان سياسياً ماهراً له سلطات واسعة وتأثير طاغ على شعبه وعلى الرأي العام في الخارج. ولكن كانون راشكي Canon Rački كان أكثر ثقافة فكان له فضل تطوير الأفكار الأساسية "لليوجوسلافية" لتصبح عنوناً لبرنامجه السياسي. وهكذا وبينما رفض ستارشفيتس Starcevic (حاكم كرواتيا) الحركة الإليرية وجدنا ستروسماير راشكي يتوليان تطويرها وإشاعتها. وبينما كان هدف الإليرية العاجل توحيد سلاف الجنوب في الإمبراطورية، كانت "اليوجوسلافية" تستهدف تجميع كل سلاف الجنوب معاً سواء تحت التاج المجري أم بدونه. وبينما توجهت الإليرية لوسط أوروبا لكسب أنصارها وركزت على الوحدة اللغوية والثقافية والتغاضي عن المسائل الدينية, تجهت اليوجوسلافية إلى البلقانيين وسعى زعماؤها للتغلب على الخلافات الدينية بين الصرب والكروات. وبينما كان ستارشفتش يرغب في كرواتيا المستقلة كان ستروسماير وفرانيو راشكي يريان كرواتيا جزء من فيدرالية سلاف الجنوب. وفي سبيل تعزيز أهدافهما قاما بتأسيس أكاديمية "يوغسلافية" أكثر من أن تكون "كرواتية" للأداب والعلوم لتوفير سبل أخرى لنشر كل مؤلفات وكتابات سلاف الجنوب لإشاعتها بين أكبر عدد من الناس.
وتمشياً مع معتقدات ستروسماير نراه يحاول إقامة إتصالات مع حكومة الصرب. وآنذاك كان أمير الصرب ميشيل ووزير خارجيته جاراشنين كما سبقت الإشارة ينشطان في السياسة الخارجية لتوحيد كل من الجبل الأسود واليونان ورومانيا ضد الدولة العثمانية, وتراسلا مع ستروسماير بهدف إستخدامه لتحقيق أهدافهما أكثر من العمل على توحيد سلاڤ الجنوب (التابعين للنمسا)، فقد كانت ولايات الدولة العثمانية هدفهما وليس النمسا. وفي الواقع عندما كان ستروسماير يعتقد في عام 1866 أنه توصل إلى تفاهم مع الصرب كان أمير الصرب يتفاوض مع المجر لتوقيع إتفاق على حساب الكروات.
وبالإضافة إلى هاتين المجموعتين (الإليرية واليوجوسلافية) كان هناك حزبان كرواتيان أيضاً أحدهما مع المجر والثاني مع النمسا. وكان أنصار المجر لا يزالون ييدون فكرة وجوب إنضمام كرواتيا مع المجر في جبهة واحدة ضد النمسا مع إستعادة الحقوق والميزات التي كانوا يتمتعون بها قبل عام 1848 وإلغاء نظام باخ Bach. وفي تلك الأثناء أيضاً كان إيفان مكازورانيتش Mazuranic وهو كاتب روائي شهير قد ألف حزب الإستقلال القومي وتتلخص أهدافه في إستعادة مملكة ترييونه Triune التي كانت تزال تحت حكم النمسا. ورغم إنقسام الوعي السياسي بين الكرواتيين بين أربع مجموعات سياسية, إلا أن سياسات ثلاثة منها كانت تقوم على التعاون مع المجموعات القومية الأخرى.
على أن ميثاق أوجليخ كان ضربة لكل تلك الأحزاب ماعدا حزب أنصار المجر الذين وافقوا عليه. وفي 1878 وقعت المجر وكرواتيا إتفاق آخر بإسم "ناگودبا Nagodba وهو نوع من التسوية منحت بمقتضاه كرواتيا-سلافونيا درجة هائلة من الحكم الذاتي حيث أصبح لكرواتيا سابور Sabor خاص بها أي مجلس برلماني, وأصبحت الكرواتية لغتها الرسمية, وعلمها برفرف بجانب العلم المجري، فضلاً عن إشتراك نواب منها في البرلمان المركزي العام في بودابست عاصمة المجر. ومع هذا ظلت المجر تعين محافظ كرواتياً وتحتفظ برقابة معتبرة على ميزانيتها.
غير أن ستروسماير, وراشكي، وستارشفيتش, وكفاتيرنيك Kvaternik, ومازورانيتش رفضوا جميعاً ذلك الإتفاق لأسباب مختلفة. وتمكن محافظ كرواتيا الجديد لڤين راوش Levin Rauch من تزييف إنتخابات برلمان كرواتيا (السابور) لكي تأتي أغلبية تؤيد أنصار المجر. وهكذا وعندما أخفق كفاتيرنيك في إقرار برنامجه السياسي قام بتنظيم ثورة في راكوڤيتسا Racovica لتحرير كرواتيا بالقوة, لكن الجيش سحقها بسرعة وقتل قائدها,وتحرر ستروسماير من أوهامه النظرية وإنسحب من النشاط السياسي وإن إستمر يؤيد فكرة "اليوجوسلافية" ويدعمها في كتاباته ومحاضراته حتى وفاته عام 1905.
والواقع أن الإختبار الحقيقي للعلاقات الصربية-الكرواتية، وفكرة اليوجوسلافية خلال أزمة سبعينيات القرن التاسع عشر وخاصة بعد إحتلال النمسا والبوسنة والهرسك في 1878. وعند ذاك تم النظر إلى موضوع الإحتلال على أساس أن الأفكار القومية الكرواتية والصربية أصبحت في صراع مباشر. فمثلاً كانت إدارة النمسا للبوسنة والهرسك ضربة قوية للقومية الصربية حيث كانت الصرب تعتبر البوسنة والهرسك أرضاً صربية بحكم العرق. أما كرواتيا فمانت ترى أنه طالما أن البوسنة والهرسك أصبحت تحت سيادة النمسا فسوف يكونمن العسير عليها أن تؤكد على مطالبتها بهما أكثر مما لو بقيتا جزء من الدولة العثمانية, أو في حالة وقوع الأسوأ ألا وهو أن تصبح البوسنة والهرسك تحت سيطرة الصرب. وكانت مسألة إحتلال النمسا للبوسنة والهرسك تهم أنصار اليوجوسلافية,وأنصار كرواتيا المستقلة. ولكن نظراً لموقع الصرب وكرواتيا في الوسط فإن الذي يسيطر على البوسنة والهرسك يسيطر على سلاف الجنوب، وبدون البوسنة والهرسك تكون كرواتيا المستقلة ضرب من المستحيل.
ويمكن فهم الأهمية الجغرافية السياسية للبوسنة والهرسك بالنسبة لكرواتيا في سياق مملكة تريونه Triune Kingdom القديمة في القرن التاسع عشر إذا علمنا أن دلماشيا وكرواتيا وسلافونيا لا يمثلون إستارتيجية إلا بضم البوسنة والهرسك وفي هذه الحالة تستعيد مملكة ترييونة القديمة حيويتها وتصبح دولة مربعة الأضلاع.وعلى هذا فإن قيام الصرب بضم البوسنة والهرسك يعد كارثة لكرواتيا فيما يتعلق بأراضيها التاريخية. ولأن النقاط ذات الأهمية العسكرية في المنطقة تتركز أكثر في أراضي الصرب فإن الخطر سوف يبدو واضحاً إذا ما نجحت الصرب في تنفيذ مشروع الصرب الكبرى بضم البوسنة والهرسك, ففي هذه الحالة فإن كرواتيا سوف تفقد دعواها بشأن البوسنة والهرسك وكثيراً من أراضيها في الجنوب الداخلة ضمن النقاط العسكرية. وإذا أخذت الصرب إقليم ليكا Lika جنوب شرقي كرواتيا الذي يضم عدداً ضخماً من الصربيين فإن الصرب بهذا قد تدق إسفيناً بين كرواتيا ودلماشيا. وبالتالي لا يمكن الحيلولة دون ضياع باقي أراضي وإبتلاع جيرانها لها. وفي هذا السياق فإن كرواتيا كانت تمثل الجانب الضعيف في الحسية. ذلك أن 20% فقط من سكان البوسنة والهرسك يمكن إعتبارهم كروات على حين أن 43% منهم صرب أرثوذكس, والقسم الثالث من السكان مسلمون بين صرب وكروات.
على أن ذلك الجدل الذي حدث بشأن البوسنة والهرسك كان تمهيداً لوقوع خصومة بين الصرب والكروات على مدى ربع قرن من 1878-1903. وفي تلك الأثناء كما سبق أن رأينا كان ميلان أمير الصرب وإبنه الأسكندر يعملان بتنسيق لصالح النمسا. وفي كرواتيا نجح المحافظ شارل خوين-هدرڤاري Khuen-Hedervary خلال فترة حكمه 1883-1903 في زيادة روح العداوة والخصومة بين الصرب والكروات بإستخدام سياسة فرق تسد, فنراه يتعاطف مع الأقلية الصربية في مطالبها بشأن التعليم والإقتصاد والسياسة فإكتسب تأييد الطبقة الوسطى الصربية وبعض المثقفين ورجال الدين. وإزاء هذا الموقف ساند الكروات حزب الحقوق الذي أسسه ستارشفتس بكل قوة حتى تمكن في ثمانينات القرن التاسع عشر تحت شعارات القومية الكرواتية المزعجة والخطاب المعادي للصرب من السيطرة على المسرح السياسي في كرواتيا. وفي التسعينيات كانت العلاقات بين الكروات والصرب غاية في السوء حتى لقد وقعت مصادمات دموية بينهم في زغرب وفي مدن أخرى أدت إلى رد فعل غاضب من كرواتيا حتى لقد طالب البعض بإعلان حرب التطهير العرقي بين سلاف الجنوب.
كما توارت جانباً في تلك السنوات فكرة "اليوجوسلافية" كبرنامج سياسي. ولكن وفي 1903 حدث تغير في المسرح السياسي لم يكن متوقعاً ففي ذلك العام كما ينبغي أن نتذكر أصبح بيتر كارديورفيتش ملكاً على الصرب وعزل محافظ كرواتيا (خييون-هيدرفاري), وعزل بنيامين كالاي Kallay محافظا البوسنة والهرسك رغم تحسن أحوال الإقليم كثيراً مدة ولايته التي إستمرت عشرين سنة. وفي الوقت نفسه كان الموقف السياسي يزداد سوءا إذ حاولت النمسا أكثر من مرة أن تتبنى حركة قومية بوسنية منفصلة وترعاها, لكن التغييرات الرئيسية حدثت في الصرب وكرواتيا, فبينما تحسنت علاقات الكروات والمجريين، تدهورت علاقات الصرب مع النمسا تدهوراً حاداً. وبقيام حكومة جديدة في الصرب كانت الفرصة مهيأة إحتمال إستغلال مشكلات قوميات النمسا لصالح الصرب.
عرفنا أن الصرب تحت حكم الملك بيتر كانت في صراع مستمر مع جاراتها الشمالية, وكان من الطبيعي أن تكون بلجراد عاصمتها مركزاً ثقافياً وحضارياً لنشاط سلاف الجنوب إذ شهدت تجمعات للطلاب وللمدرسين والأطباء وعدة معارض فنية وحفلات موسيقية. وفي 1904 كون بعض الطلاب والمثقفين جمعية بإسم سلاف الجنوب Slovenski Jug لتوحيد الصرب والكروات والسلوفينيين معاً, ومعهم البلغار, وكانت تراقب ما يحدث في بلجراد ومدى تحسن العلاقات الإقتصادية والسياسية الظاهر بين الصرب وبلغاريا. وهكذا أصبحت الصرب تحت حكم كاراديوريفيتش منطقة جذب.
كما حدثت تغييرات أيضاً في كرواتيا فلقد أدى ضغط المجر على الكروات إلى تمسكهم أكثر بقوميتهم الخاصة وليس باليوجوسلافية, فبعد 1895 وفي إضطرابات طلابية حادة في زغرب غادرها كثير من الطلاب سلاف الجنوب للدراسة في براج (رومانيا) وهناك وقعوا تحت تأثير الأستاذ توماس مازاريك Masaryk الذي كان قد أصبح هو وستروسماير في صدارة دعاة "اليوجوسلافية". وقد دأب مازاريك الذي كان مراقباً جيدأ لسياسات النمسا وأستاذاً ذائع الصيت يتمتع بالقدرة على الإقناع, على أن يؤكد لطلابه كيف أن سياسة النمسا والمجر تستهدف تقسيم الصرب والكروات لصالح الإبقاء على صيغة الحكم الثنائي (إمبراطورية النمسا-المجر). وهكذا وبحلول عام 1903 ظهر جيل جديد من شباب الصرب والكروات إستقر رأيهم على العمل سوياً ومن مث عقدوا إجتماعات وحضروا مؤتمرات ومجالس في بلجراد.
ومما كان له مغزاه في إطار تلك التغييرات التفاهم الذي تم بين أغلبية الأحزاب السياسية الكرواتية والصربية في أنحاء إمبراطورية النمسا والمجر, والذي إنطلق من دلماشيا بعد تعاون بينها على مدى أربعين سنة إلا في حالات تعارض المصالح القومةي مثلما حدث بشأن البوسنة والهرسك. وعندما تكرر الصراع بين المجر والنمسا في عام 1905 حول موضع الجيش, وقرر الزعماء الكروات في دلماشيا إستغلال الخلافات بين مركزي الإمبراطورية (النمسا والمجر), وحيث أنهم شعروا أن النمسا أصبحت تمثل الخطر الرئيسي على طموحاتهم القومية فقد قرروا التعاون ليس فقط مع الصرب ولكن أيضاً مع المجر وحتى إيطاليا على أمل كسب مساندة المجر في إستعادة مملكة ترييونه القديمة. ولقد كانت تلك الإعتبارات وراء ما عرف بقرار مؤتمر رييكا Rijeka (فيوم Fium) في أكتوبر 1905 الذي إنتهى إليه الأحزاب الكرواتية في دلماشيا. وبعد ذلك بأسبوعين صدقت الأحزاب الصربية في أنحاء الإمبراطورية على هذا القرار في إجتماع في مدينة زادار Zadar (زارا Zara) في مقابل إعتراف كرواتيا بالقومية الصربية في أراضي مملكة ترييونه. وقد أدت جميع تلك الظروف إلى تكوين التحالف الكرواتي-الصربي في 1905 الذي إعتمد برنامجه على قرارات مؤتمري رييكا, وزادار وتكونت عضويته من كل حزب العدالة الكرواتي, والحزب التقدمي الكرواتي, وحزب الإستقلال الصربي, والحزب الراديكالي الصربي, والإشتراكيون الديموقراطيون, وشخصيات مرموقة غير مرتبطة بأي حزب من الأحزاب. وكان هذا التكوين يعكس الموقف المعقد في كرواتيا, ووقعت قيادة التحالف في يد كل من فرانو سوبيلو Frano Supilo, وآنتيه ترومبيتش Ante Trumic, ويوسيب سمودلاكيه Josip Smodlake، وسڤتوزار پريبيكڤتش Svetozar Pribicevic وكل منهم لعب دوراً رئيسياً في بناء مستقبل شعوب سلاف الجنوب وكان هدف التحالف تحقيق وحدة سلاف الجنوب, في الإمبارطورية يتبعه في المستقبل وحدة كل اليوجوسلافيين.
غير أن سرعان ما إنهالت الجهود المتواصلة للتوصل إلى تفاهم بين الكروات والمجر خاصة وأن المجر تخلت عن مطلبها من النمسا بشأن إقامة جيش مستقل وتمت تسوية كل خلافاتها مع النمسا بشكل مؤقت. ورغم أن محاولات "ميجرة" الكروات ظلت مستمرة وأن جهوداً بذلت لكسر التحالف إلا أن جوهر الوضع ظل دون تغيير حتى عام 1918. ويبدو واضحاً أن المجر كانت تستهدف من التحالف دفعه تجاه الصرب ولم يكن هذا مفهوماً من المجر خاصة وأن كثراً من روابطها مع الصرب ظلت سرية. ومع ذلك لم ينجح التحالف في إخفاء رغبة الصرب في توحيد سلاف الجنوب بل وتمكنت من الفوز بوضع قيادي في البرلمان الكرواتي (السابور) بعد إنتخابات 1906, 1908. وعلى هذا وخلال ثلاثة سنوات تمكنت الأحزاب السياسية الكبرى الصربية والكرواتية من تسوية كثير من خلافاتها, وتشكيل جبهة مشتركة أصبحت الاتظيم السياسي الوحيد الأكثر نفوذاً بين سلاف الجنوب رغم عدم حصولها على أغلبية في الإنتخابات.
وفي تلك الأثناء برزت مرة أخرى مشكلة البوسنة والهرسك فبعد إحتلال النمسا لهما في عام 1878 أنفقت أموالاً ضخمة فيهما على بناء الطرق والمدارس والمباني العامة من أجل تحديث المناطق المتخلفة, وعملت على تهدئة سكانهما وخاصة أثناء ولاية المحافظ كالاي Kallay بين عامي 1883-1903, كما أقام أهالي البوسنة والهرسك أنفسهم بخطوات مهمة لتحسين وضعهم. ولكن عندما قامت النمسا بضم البوسنة والهرسك في 1908 في أعقاب إستيلاء جماعة الإتحاد والترقي على السلطة في الدولة العثمانية حدث رد فعل قوي وكبير في الصرب حتى لقد كان الكثير من الصربيين على إستعداد للذهاب للحرب لتخليص البوسنة. وعلى هذا وفي ديسمبر 1908 تكونت منظمة مدنية بإسم "جمعية الدفاع القومي" Narodna Odbrana لحشد الأمة وراء قضية البوسنة وإرسال متطوعين لمحاربة قوات الإحتلال النمساوي. وأما أنصار وحدة سلاف الجنوب في الإمبارطورية فقد عقدوا إجتماعات عامة وأصدروا بيانات وناشدوا الرأي العام في الصحف الأوروبية لتقديم الدعم والمساندة. وقد لاقى هؤلاء المساعدة المنشودة بفضل التصرفات الحمقاء لمسئول نمساوي يدعى آجرام Agram قام بعقد محاكمة سياسية لشخصيات صربية وكرواتية في كل من زغرب, وفريديونج Fredjung لها صلة بموضوع ضم البوسنة والهرسك والتحالف الكرواتي-الصربي.
بدأت محاكمة زغرب في مارس 1909 وإستمرت لمدة ستة أشهر وقد قام الإدعاء فيها على القول بأن التحالف الكرواتي-الصربي كان أداة في يد الصرب دون تقديم أية أدلة قوية فضلاً عن تزييف بعضها. ووجهت تهمة الخيانة لبعض أعضاء التحالف الكرواتي-الصربي, وكانوا من الصرب أساساً وإستهدفت المحاكمة تدمير العلاقات التنظيمية للتحالف بإثارة كل عضو ضد الآخر وإيقاع الفرقة بين الجميع. وبعد إدانة المتهمين قالت صحيفة بودابست المجرية "بستر لويد Pester Lioyd" أن المحاكمة كانت سياسية في كل شيء. ولكن وفي 1910 أصدر فرانز جوزيف إمبراطور النمسا قراراً بالعفو عن المسجونين.
أما محاكمة فريديونج فكانت أكثر صرامة لأنها كانت تستهدف تقديم تبرير للحرب ضد الصرب عندما بدا أن الصرب لن تقبل ضم النمسا للبوسنة. لكن الهدف الحقيقي من المحاكمة كان تدمير التحالف الكرواتي-الصربي وبعض أعضائه الذين وجهت لهم جميعاً تهمة خيانة حكومة الصرب. ومرة أخرى إستخدمت النمسا التزوير وتزييف الأدلة التي تم صياغة بعضها بمعرفة وزير خارجية النمسا الكونت آهرنثال Aehrenthal وعندما إتضحت الأمور أسقطت الإدعاءات وتم تبرئة المتهمين. والخلاصة أن كلا المحاكمتين قدمت مادة هائلة وعظيمة لدعاية سلاف الجنوب التي تلقت إهتماماً كبيراً من الصحافة الأوروبية.
ويلاحظ أن محاكمة فريديونج إستهدفت بشكل رئيسي شخص فرانو سوبيلو رئيس التحالف الكرواتي-الصربي ورغم عدم إدانته إلا أنه إستقال من منصبه لحماية التحالف. وبناء على هذا تم إنتخاب سفيتوازار بريبيكفيتش زعيم حزب الإستقلال الصربي رئيساً للتحالف. وبينما كان سوبيلو وهو كرواتي يقيم في دلماشيا ويعتقد أن كرواتيا يجب أن تقود وحدة اليوجوسلاف, وكان بريشتفتش وهو صربي يقيم في كرواتيا يرى أ، الصرب هي التي ينبغي أن تقوم بهذا الدور. ومعنى أن شخصية صربية أي بريشتفتش تقود التحالف كان مثالاً آخر من نجاح محاولات التوفيق بين الشعبين السلافيين (الصرب والكروات) منذ عام 1903، فضلاً عن أن بريشتفتش الصربي يمكن أن تستخدمه حكومة الصرب ذاتها ليكون همزة وصل لها تأثيرها.
وبصرف النظر عن أهداف التحالف فلابد أن نعرف أن شعبية فكرة "اليوجوسلافية" وسط دائرة كبيرة من الناس وإستمرار الأخطاء التي إرتكبها المسئولون المجريون والنمساويون من الشوڤينيين (المتعصبون قومياً) جعلت أغلبية الكروات عشية الحرب العالمية الأولى يتطلعون إلى الإصلاح في نطاق النمسا وليس تصفيتها وتكوين دولة سلاف الجنوب المتحدة مع الصرب, ومع ذلك ظلت مخاوف الكروات وترددهم قائمة. وهكذا تبنى "حزب العدالة الأصيل" الذي إنشق في تسعينيات القرن التاسع عشر من حزب المحافظين فكرة إقامة "كرواتيا الكبرى" والتي تضم البوسنة والهرسك ذات حكم ذاتي في نطاق الإمبراطورية النمسا, وكانت فكرة معادية للصرب. أما حزب الفلاحين برئاسة ستيبان راديتش Shjepan Radic الذي أصبح أقوى حزب كرواتي بعد الحرب العالمية الأولى فكان يساند فقط وحدة سلاف الجنوب التابعين للمجر. وقد رحب الإشتراكيون الديموقراطيون بهذه الفكرة وكانوا يتطلعون إلى وحدة قومية-ثقافية بين سلاف الجنوب بدون الإنفصال عن النمسا. يضاف إلى هذا أن برنامج "إقامة الثلاثية Trialism أي دخول سلاف الجنوب في وحدة سياسية بوضع متكافئ مع كرواتيا والصرب كان يحظى بإعجاب واسع, وهو البرنامج الذي إرتبط بإسم وريث العرش فرانز فرديناند رغم أنه لم يكن يؤيده في الحقيقة. ويلاحظ أن برنامج معظم الأحزاب الكرواتية كانت تعبر بطريقة أو بأخرى عن خشيتها من الإختلافات الدينية مع الصرب.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وحلول القرن العشرين حل عنصر آخر في سياسات كرواتيا, ذلك أن الكروات حتى ذلك الحين كانوا يستخدمون وسائل قانونية وسلمية لتحقيق أهدافهم, إلى أن ظهرت مجموعة من شباب الطلاب كفرت بكل من أنصار التحالف الكرواتي-الصربي ومعارضيه وتمسكوا بالعنف سبيلاً. وعلى هذا تمت محاولتين في 1912 لإغتيال محافظ كرواتيا سلافكو كافاي Slavko Cavaj, ومحاولتان آخرتان في 1913, 1914 لإغتيال خليفته إيفو سكرليش Ivo Skerlecz.
ورغم أننا نركز في هذا العرض بصفة أساسية على الوقائع التي حدثت في كرواتيا-سلافونيا, إلا أنه يتعين متباعة التطورات التي وقعت في سلوفينيا. ففي وسط سلاف الجنوب ظل السلوفينيون أكثر ولاء لمملكة المجر, وكان الحزب الإكليريكي Clerical Party أقوى أحزابهم يساند فكرة الثلاثية (ترياليزم) وليس فكرة اليوجوسلافية, كما أن جناحي الحزب الليبرلي السلوفيني كانا مهتمان بالحصول على حقوق أكثر في الحكم الذاتي لسلوفينيا في إطار الإمبراطورية النمسوية-المجرية وليس على حسابها, وكذا الإشتراكيون الديموقراطيون الذين كانوا يركزون أكثر على الحكومة الذاتية القومةي في الشؤون الثقافية وليس بالإنفصال عن مملكة المجر. وفي هذا السياق لم يكن هناك بين السلوفينيين من يعتقد أن قضية القومةي السلوفينية لا يمكن أن تحل إلا في إطار دولة كبرى لسلاف الجنوب إلا بعض الطلاب أعضاء مجموعة النهضة Preporod التي كونت أثناء حروب البلقان. وهذا يعني أن "اليوجوسلافية" لم تكن تمثل قوة حيوية بين السلوڤين قبل عام 1914.
على أن رد الفعل في مملكة الصرب تجاه فكرة "اليوجوسلافية" مع كل الإعتبارات كان أقل تعاطفاً مما كان لدى سلاف مملكة النمسا والمجر. والحقيقة أن بيتر إلى حد ما كان قد أصبح رمزاً لوحدة سلاف الجنوب وكانت بياناته مثار إعجاب لكثير من الطلاب الصربيين والمثقفين في المجر وفي النمسا على السواء وكان المسئولون في المملكة يخشونها. غير أن القوى السياسية المسيطرة في الصرب من ضباط الجيش والسياسيين لم تكن معنية كثيراً بمصير السلوفينيين والكروات وإنما كانت مهتمة أكثر وعلى مدى قرن من الزمان بتكوين دولة الصرب الكبرى التي تشتمل على أراضي يعتبرونها صربية تاريخياً وعرقياً. على أ، الصربيين تحت حكم النمسا من المدنيين المسئولين والعسكريين وخاصة في البوسنة والهرسك كانوا يعترضون على مصالح القوى السياسية وتوجهاتها بطبيعة الحال. لكن هذين الفريقين كانا غير متفقين في الوسائل التي تستخدم في مواجهة تلك المواقف رغم تشابه مواقف كبل منهما فالسياسيون كانوا واقعيين وحذرين منهم والعسكريون وبدعم ملحوظ من رجال الدين الأرثوذكس كانوا يرغبون بالمخاطرة بالحرب ضد الدولة العثمانية أو إمبراطورية النمسا والمجر من أجل الأهداف القومية. ومن المفهوم أنالحكومة كانت تلاغب في تقرير سياسة الدولة, لكن الملك بيتر كان يراوغ, وكان المأزق أن الجيش الذي أتى به إلى الحكم في 1903 كان لا يزال يحتفظ بافكار الحكم الذاتي. وعلى هذا واجه بيتر طوال العشر سنوات السابقة على 1914 ضغوطاً من السياسيين ومن الجيش في الصرب الذي كان لكل منهما خططه الخاصة بالنسبة للمستقبل البلاد.
غير أن ضم النمسا للبوسنة والهرسك في 1919 كان ضربة قاصمة للجميع فحكومة الصرب إعترفت بأن عليها التخلي عن القضية بل لقد كبحت نشاط منظمة "نارودنا أودبرانا" التي كانت تجمعاً مدنياً وليس عسكرياً. لكن الجيش لم يفهم موقف الحكومة هذا وشعر أن الدولة في أحسن الحالات تقودها شخصيات ضعيفة أو مجموعة من الخونة في أسوأ التقديرات. ولهذا قرر بعض ضباط الجيش الإستعداد لمواجهة أية أزمات دولية وإستغلالها لإستقدام صرب الدولة العثمانية و النمسا إلى أراضي الصرب وذلك لمواجهة ما بدا أنه خطر يهدد أمتهم.
وفي 1911 تكونت في الصرب جمعية سرية بإسم "الوحدة أو الموت" Ujedinjenje ili Smrt وكانت تعرف أيضاً بإسم "اليد السوداء" Crana Ruka بزعامة الكولونيل دراگوتين ديمتريڤتش Dragutin Dimitrijevic، الذي كان يحمل الاسم المستعار "آپيس Apis". وكان ديمتريفتش وهو أحد المتآمرين في إغتيالات 1903 رجلاً شديد الوطنية ومشهوراً, لكنه يثق في أن يضع مصير الصرب في يد الحكام المدنيين. ومن ثم كانت نواة مجموعته من ضباط الجيش, وبعض ممكن فتنتهم مظاهر التآمر أو الذين تبنوا بشدة برنامج "الرابطة الصربية". ولقد قامت جمعية اليد السوداء بالتأكيد على غرضها في المادة الولى من لائحة نظامها الأساسي حيث نصت على أن غرضها "تحقيق النموذج المثالي لوحدة الصرب", ونصت المادة الثانية على بلوغ هذا الهدف يكون من خلال "العمل الثووري أكثر من الثقافي وعليه أن يبقى سراً عن عامة الناس". وفي عام 1913 أصبح ديمتريفتش رئيس المخابرات الصربية وهو منصب له أهمية كبرى, وكان للجيش شبكة من العملاء وسط صربيي الدولة العثمانية والنمسا, وبواستطهم كان ديمتريفتش يعمل من أجل توحيد الصرب وليس سلاف الجنوب.
ومن المفارقات أن مهمة السيطرة على الجيش في الصرب كانت من إختصاص الحكومة التي كان يرأسها نيقولا باشيك Pasic والذي كان في الوقت نفسه زعيم الحزب الصربي الراديكالي, وكان يدرك حدود قوة بلاده بإعتباره سياسياً متشدداً على درجة واضحة من الوعي والفهم, وإكتسب خبرات كثيرة أثناء إداراته للعلاقات مع النمسا وخلال جهوده الدبلوماسية أثناء حروب البلقان. وكان عليه أن يأخذ بأحد طريقتين: إما أن تركز الصرب على إقامة "الصرب الكبرى", وإما أن تسعى لإقامة دولة موحدة لسلاف الجنوب. ولاشك أن فكرة "الصرب الكبرى" كانت تلقى تأييداً غامراً من الصربيين بكل فئاتهم: السياسيون, والمهيمنون, والعسكريون, ورجال الدين, والفلاحون, ومعظم الطلاب والمثققفين وكان هو نفسه متمسكأ بها. وبينما كانت القومية الصربية جزء من تقاليد الماضي كانت اليوجوسلافية في أحسن الأحوال تصور غامض ومبهم فضلاً عن أنه لم يكن بإمكان باشيك أن يتجاهل طموحات الجيش الذي زادت قوته ومكانته بسبب دوره السياسي في 1903 وإنتصارته في حروب البلقان 1912-1913, وقد يتحدى الحكومة في بعض المسائل بشكل مؤثر.
وفي الوقت نفسه إعترف باشيك بأنه لا يستطيع مجافاة أنصار فكرة "اليوجوسلافية", إذ كان يتوقع إستمرار حالة العداء والخصومة مع إمبراطورية النمسا-المجر في المستقبل لأن الأراضي التي تطالب بها حكومته لا تزال في يد النمسا. وعلى هذا فإن أي فرد يمكنه تقديم المساعدة لتحقيق أغراض الصرب ينبغي تشجيعه بوضوح. وهكذا إحتفظت حكومة الصرب سراً بعلاقاتها ليس فقط مع الصربيين في الأراضي الأخرى ولكن أيضاً مع أنصار فكرة اليوجوسلافية في البوسنة والهرسك وفويفودينا وكرواتيا والبلاد التي تضم نسبة كبيرة من الصربيين. ولعل أبرز دليل على حدود إهتمامات باشيك باليوجوسلافية قلة إهتمامه بالسلوفينيين الذين نظر إليهم بإعتبارهم أعضاء أساسيين في حركة اليوجوسلافية ويحتاجون الصرب أكثر من إحتياج الصرب إليهم.
وبحلول عام 1914 كسبت اليوجوسلافية أنصاراً متشددين في كل بلاد سلاڤ الجنوب، إلا أنها كانت من حيث المبدأ مجرد تصور كرواتياً وينقصها مساندة جماهيرية كبيرة من الصرب والسلوڤين وحتى في كرواتيا ذاتها لأن التحالف الكرواتي-الصربي لم يكن يمثل أغلبية سكان إمبراطورية النمسا والمجر كانوا يفضلون أفكاراً تدعو إلى توحيد سلاف الجنوب ضمن الحدود السياسية القائمة. وفي الصرب أيضاً كما رأينا, كان هناك إتفاق قوي حول أن هدف الصرب في المستقبل ينبغي أن يكون إقامة الصرب القومية التي تضم كل أراضي الصرب حيثما كانت.
الحرب العالمية الأولى وخلق يوغسلاڤيا
يوغسلاڤيا الشيوعية وحتى اليوم الحالي
انظر أيضاً
- الحنين إلى يوغسلاڤيا Yugo-nostalgia
- Serbian–Montenegrin unionism
- البوسنوية Bosnianism
- Croatian nationalism
- Macedonian nationalism
- Montenegrin nationalism
- Serbian nationalism
- Slovenian nationalism
- Czechoslovakism
- الرابطة السلاڤية Pan-Slavism
الهامش
- ^ Cohen 1995, pp. 4.
- ^ Dragnich, Alex N. (1983). The First Yugoslavia: Search for a Viable Political System. Hoover Institution Press. pp. 3–11. ISBN 0-8179-7841-0.
- ^ Frederick B. Chary. The history of Bulgaria. Santa Barbara, California: ABC-CLIO, Inc., 2011. Pp. 53.
ببليوگرافيا
- Cohen, Lenard J. (1995). Broken bonds: Yugoslavia's disintegration and Balkan politics in transition. Cambridge, England, UK; Malden, Massachusetts, USA: Westview Press. ISBN 0-8133-2477-7.
{{cite book}}
: Invalid|ref=harv
(help) - Djokić, Dejan (2003). Yugoslavism Histories of a Failed Idea, 1918–1992. University of Wisconsin Press. ISBN 1-85065-663-0.
- Dragnić, Alex N. (1983). The First Yugoslavia: Search for a Viable Political System. Hoover Institution Press. ISBN 0-8179-7841-0.
{{cite book}}
: Invalid|ref=harv
(help)