الفيزيوقراطية
الفيزيوقراطية Physiocrats هي مذهب نشأ في فرنسا في القرن الثامن عشر، وذهب أصحابه إلى القول بحرية الصناعة والتجارة وبأنّ الأرض هي مصدر الثروة كلها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمة
كانت المسألة الاقتصادية من أبرز المشكلات التي تصدى لها فلاسفة ومفكرو عصر التنوير -كما يسمى- في القرن الثامن عشر، وهو العصر الذي بدأت فيه العلوم والآداب تستقل عن المؤثرات الدينية بدرجة ملحوظة. في ذلك العصر أخذت أوروبا الهاربة من نير الإقطاع وأغلال الكنيسة تبحث عن أنظمة ومناهج جديدة متحررة من التلازم التقليدي بين الشئون الحيوية وبين القواعد الأخلاقية الذي كان منهج القرون الوسطى. وكانت الجفوة العميقة بين العلم والدين- التي مر الحديث عنها سلفاً - أبرز العوامل في انفصال النظريات الاقتصادية وغيرها عن المثل والقيم الدينية، وولادة الإله الذي عبده عصر التنوير بسذاجة متناهية: (الطبيعة).
كان لكل زاوية من زوايا الحياة مذهبها الطبيعي وكتابها الطبيعيون:
ففي السياسة عرفنا كيف قامت الديمقراطية على أسس المذهب الطبيعي، وفي العلم والفلسفة حلت كلمة (الطبيعة) محل لفظ الجلالة، وهو إجراء ليس المقصود به التغيير اللفظي فحسب، وفي الشئون الاجتماعية ظهر كتَّاب يرون أن المجتمع الطبيعي هو المجتمع المثالي الذي يجب أن تعود إليه البشرية، وفي الأخلاق ظهرت فكرة الأخلاق الطبيعية؛ بل لقد كتب فلاسفة كبار عن موضوع الدين الطبيعي، ولعل أوضح تطبيقات المذهب الطبيعي يظهر في الموضوع الذي نحن بصدده وهو الاقتصاد.
يستعرض مؤلف كتاب المذاهب الاقتصادية الكبرى تاريخ هذا المذهب عموماً فيقول: (اعتمد الناس خلال القرون التي خلت...على القدامى من أمثال أرسطو وآباء الكنيسة يلتمسون عندهم المعرفة بشأن العالم الخارج عن دائرة ما يعيشون فيه، وكفاهم أن يعودوا إلى أولئك الأئمة ليستخلصوا من كتاباتهم تفسيراً لأي ظاهرة، وحل المنطق الاستنباطي محل دقة الملاحظة وعمق النظرية والتجربة. غير أن نفراً من ذوي العقول أخذوا يكتسبون معرفة جديدة أكثر دقة، وذلك عن طريق دراسة الطبيعة ذاتها في تواضع وبالأسلوب الموضوعي، فالإدراك بأن الأرض ليست مركز العالم؛ بل تدور حول الشمس، والكشف الذي اهتدى إليه هارفي بشأن الدورة الدموية، [305] والنظريات التي طلع بها نيوتن عن الجاذبية والحركة، كل هذه أعقبتها عشرات من الملاحظات لها مغزاها وأهميتها، وإن كانت أقل شأناً ودرجة. فإذا كانت المصادر القديمة قد أخطأت في نظراتها إلى العالم الطبيعي، أما كانت كذلك مخطئة في نظراتها إلى السلوك البشري؟!
أصبح كل شيء موضع التساؤل والشك، وعلى ذلك سمي العلم فلسفة، ولم يعد هناك تمييز بين الميادين التي عني كل منهما بفحصه، وأخذ الكتَّاب والمتفلسفون يعيدون البحث في النظم البشرية تماماً كما كانوا يفعلون بالنسبة إلى الأشياء غير البشرية، وهم في تصرفهم هذا كانوا يسلمون بأن الإنسان جزء من الطبيعة، وليس كائناً منفصلاً عن بقية المخلوقات؛ أوجدته العناية الإلهية وتولت رعايته.
وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأسباب بالنسبة إلى السلوك البشري -سواء أكان مرغوباً فيها أم غير مرغوب- عن طريق قوانين الطبيعة بدلاً من البحث عنها في إرادة الله، كما قالت الكتب المقدسة أو المذاهب الكنسية، ومعنى هذا - بتعبير آخر - أن علينا أن نسترشد في أعمالنا وتصرفاتنا بالعقل دون سلطة القدامى وآرائهم '[306] .
إذن فقد كان عصر التنوير يرفض بصراحة الحكم بما أنزل الله، والرجوع إلى الله في تنظيم حياته العامة، أو على الأقل كان كما يقول بعض فلاسفته: يريد الرجوع تحت اسم مستعار هو الطبيعة، ومن طريق آخر غير طريق الوحي والكنيسة، وهو القانون الطبيعي.
أما أثر هذا المذهب على الاقتصاد فيوضحه سول بقوله: 'سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى، وإن لم تسيطر على العادات والتقاليد، فالمجال الدنيوي بما فيه الحياة الإنسانية نفسها ليس سوى مكان يستعد فيه الناس للحياة بعد الموت بما تشتمل عليه من ثواب وعقاب، فكان على المرء أن يتحمل الألم، وهو عالم أنه ليس إلا مقدمة لما يتوقع في حياة مستقبله، أما الدافع الفكري على تقويم العادات الاجتماعية أو زيادة الرفاهية الدنيوية فكان ضئيلاً اللهم إلا من حيث الفائدة الروحية التي يمكن اجتناؤها.
والآن تحول الاهتمام فأصبح محصوراً في تحسين الحياة على المجتمع، وكشفت العلوم والمخترعات عن إمكانيات المجتمع لذاتها، لقد كانت المكاسب المادية ظاهرة في كل شيء، وكان لا حد لها من حيث وجود أساليب أفضل وأيسر لإنتاج الأشياء، وسرت روح المغامرة. وهنا برز السؤال التالي: أليس في وسع الفلسفة أن تعالج النظم البشرية بنفس الطريقة التي تدرس بها الأشياء المادية؟.
وكان الجواب: بالإمكان، ذلك أن المطلوب إنما هو تطبيق العقل على الأساليب التي يستخدمها الناس كيما يعيشون (كذا) معاً، وراح الكثيرون يصوغون الخطط والمشروعات التي تكفل قيام الحياة المثالية أو اليوتوبيا.
وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك، ووجدوه في الطبيعة، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان - وإن لم يكن في الواقع كما هو أغلبهم - فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها، وليس بوسيلة مباشرة، وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هو شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلاً على نقص في التقوى والأخلاق. وتعددت وجهات نظر الفلاسفة الطبيعيين بشأن تنظيم المجتمع، لا سيما من ناحية توزيع الثروة بطريقة عادلة، إلا أن الجامع المشترك بينهم في ذلك هو الفكرة التي سلفت في الفصل السابق، وهي حرية العمل التي يعبر عنها شعارهم المعروف: دعه يعمل، دعه يمر، أو دع الأمور وحدها تسير، فالطبيعة كفيلة بالتوازن.
وكانت بقايا النظام الإقطاعي في الواقع، مع شبحه الماثل في نفوسهم سبب مناداتهم بهذه الشعارات، واعتقادهم أنها أنجع الحلول لمشكلة الظلم الاجتماعي الناجمة عن سوء توزيع الثروة. أما الأساس العلمي الذي توهموا أنهم أقاموا عليه صرح مذهبهم فهو نظرية نيوتن عن الأجرام السماوية وقوانين الحركة الطبيعية، فكما أن للنجوم والكواكب قانونها الطبيعي الذي يحدد لكل منها مساره الخاص دون أن يحدث بينهما أي اصطدام على الإطلاق، فكذلك - في نظرهم - لو ترك الناس إلى طبيعتهم، ولم يفرض عليهم قوانين خارجية، لانتظمت أحوالهم، وسارت وفق القانون الطبيعي الذي يكفل تطبيقه الحياة المثالية للمجتمع والأفراد دون تعارض واضطراب، وقد عرفنا في الفصل السابق كيف استغلت الطبقة المتوسطة المكونة من رجال المصارف وأصحاب المصانع المذهب الطبيعي، لكي تظفر باليد العاملة التي كانت حكراً على ملاك الإقطاعيات، ولتضمن حماية الدولة لممتلكاتها، لأن ذلك هو قانون الطبيعة.
وقد عبر راندال عن ذلك بقوله: 'هكذا كان هذا العلم -أي: علم الاقتصاد السياسي- يبدو في الظاهر محاولة مجردة عن المصلحة، للوصول إلى فيزياء اجتماعية للثروة، لكنه كان في الحقيقية تبريراً منظماً للمطالب التي تهدف إلى زيادة حرية جمع المال، وتستعين بالعلوم الجديدة البشرية والطبيعية
2- المذهب الرأسمالي الكلاسيكي
ليس هذا المذهب في الحقيقة إلا تطويراً للمذهب الطبيعي اقتضته الظروف الطارئة، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. وكان الغرض المنطقي أن يكون هذا المذهب أكثر سماحة واعتدالاً في معاملة الطبقة الفقيرة، وأن يشتمل على خطط ومناهج إصلاحية تكفل إلى جانب امتيازات الأثرياء حقوقاً منصفة للفقراء. لكن الذي حصل فعلاً هو عكس ذلك تماماً، فقد دعا زعماء هذا المذهب بكل صراحة إلى الجشع والاستغلال، وبرروا الوسائل غير الإنسانية التي كانت الطبقة الغنية تمارسها على المعدمين، ولم يكن إلحاحهم الشديد على حرية الفرد وحقه في العمل لمصلحته الذاتية إلا تأكيداً لحرية المحتكرين من أرباب المصانع والتجار والصيارفة.
كان المذهب الطبيعي ينسب للأرض القيمة الاقتصادية الكبرى، فأعطى المذهب الكلاسيكي هذه القيمة للعمل، وليس مرد ذلك إلى الانتقال من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي فحسب، بل إنه ليعبر عن رغبات الطبقة الجديدة التي تريد أن تفرض نفوذها المالي على المجتمع، وتستأثر بالعمال الذين كانت غالبيتهم تعمل في الزراعة.
وتحت ستار التظاهر بالبحث عن أفضل السبل لتحقيق رفاهية المجتمع وتقدمه، وبناء قواعده على أسس علمية، كان دعاة المذهب يحملون نزعة لا أخلاقية لم يكن في وسعهم التكتم عليها، فقد ظهرت في مؤلفاتهم الشهيرة التي يعدها العالم الرأسمالي اليوم أعز تراثه عليه، وإن كان حور وطور كثيراً من نظرياتها واستبعد الباقي. وأشهر الرأسماليين الكلاسيكيين آدم سميث ومالتس وريكاردو إذ على أكتافهم نهض المذهب الفردي الرأسمالي وترعرع.
وهذه خلاصة لمذهب كل منهم وآثاره العملية:
أ- آدم سميث (1790)
أما آدم سميث فهو فيلسوف الاستعمار، وكاهن الرأسمالية الأكبر، وكتابه ثروة الأمم أهم المؤلفات الاقتصادية وأبعدها أثراً، يقول روبرت داونز في مؤلفه كتب غيرت وجه العالم : 'النظرية الأساسية في كتاب ثروة الأمم نظرية ذات نزعة مكيافيللية، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية، وأن العمل على جمع الثروة ما هو إلا مظهر من مظاهرها، وبذلك قرر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشري، وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوتة يجب الابتعاد عنها، وإنما هي على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته، وفي رأيه أنه إذا أريد توفير الرفاهية للأمة، فلا بد من ترك كل فرد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظم دون تقييد بأي قيد، فللحصول على غذائنا لا نعتمد على كرم الخمار أو الخباز أو الجزار، وإنما هم يقدمونه لنا بدافع من مصلحتهم الشخصية، وإنا عندما نخاطبهم لا نتجه إلى ما فيهم من دوافع إنسانية، وإنما نتجه إلى مصلحتهم المادية، ولا نكلمهم عن احتياجاتنا، بل عما يعود عليهم من نفع وفائدة' .
آثار مذهبه:
على الرغم من هذه الروح غير الأخلاقية، حظي سميث وكتابه بشهرة واسعة لا يضاهيها أي من المعاصرين له، ومنحه المفكرون والكتاب لقب (أبو الاقتصاد العصري) وليس ذلك إلا للخدمة التي أسداها سميث لرجال الأعمال الرأسماليين، والوسائل التي نبههم لاستعمالها في الوقت الذي أسقط فيه حساب الجموع الغفيرة من الزراعيين والعمال الذين يكابدون البؤس والشقاء. ولم يقتصر سميث على إنجلترا ولا على أوروبا وحدها، بل كان كتابه المذكور إنجيلاً للمستعمرين الذين تدفقوا على قارات العالم الأخرى، ينهبون خيراتها ويستعيدون شعوبها، حتى لقد عد الفصل الذي يتحدث عن المستعمرات أشهر فصول الكتاب. يقول ماركس لرز : 'كان أغلب الذين عنوا بقراءة ذلك الكتاب هم أولئك الذين أفادوا فائدة شخصية من الآراء التي وردت فيه، وهؤلاء هم التجار المحدثون وحلفاؤهم من الأعضاء في برلمانات العالم ولجانهم الثقافية التنفيذية في الجامعات، وعن طريق هؤلاء أثر الكتاب تأثيراً عظيماً في جميع من يليهم من شعوب العالم رغم أنها لا تعلم شيئاً عن الكتاب ذاته، كما أنه عن طريقهم أيضاً أحدث آثاره الهائلة في التفكير الاقتصادي والسياسة العالمية' [310] .
على أن سميث لم يسلم من المعارضين من ذوي الميول الدينية مثل رسكن الذي قال عنه: 'إنه الاسكتلندي الغبي الهجين الذي يدعو الناس عامداً إلى ارتكاب التجديف في الدين بقوله: عليك أن تكره الرب إلهك، وتعصي وصاياه، وتشتهي مال قريبك... كما لم يسلم ممن عارضه لأسباب إنسانية، مثل كثير من أحرار المفكرين الذين لم يغفروا لـ سميث قط أنه أداة في ذلك الاستغلال الدنيء الذي انتهجه رجال الأعمال وأصحاب المصانع، إذ اتخذوا من مبدأ حرية التجارة وآرائه فيه منهجاً لهم في أعمالهم، فقد انتهز هؤلاء تلك الفرصة فشوهوا كل مبدأ دعا إليه لحماية العامل والزارع والمستهلك والمجتمع عامة، وفسروها على أنها إباحة مطلقة لمصلحتهم الشخصية، لا تتقيد بأي قيود أو تدخل من جانب الحكومة' .
(ب) مالتس (1834)
لئن كان سميث أب الرأسمالية فإن مالتس هو محاميها العظيم، وإذا كان سميث قد اتخذ موقفاً سلبياً أو شبه سلبي من المعوزين والمهضومين، فإن مالتس اتخذ حيالهم دوراً إيجابياً، لكنه - للأسف - ضدهم إلى أبعد الحدود.
ظهر في القرن الثامن عشر عدد من الكتاب المغرقين في التفاؤل من أمثال كوندورسيه وجدوين وتوماس بين وشكلوا مدرسة اجتماعية طبيعية، تؤمن بأنه إذا تمتع كل فرد بما أسموه حقوق الإنسان، وأزيلت الحواجز الاصطناعية التي تعوق ذلك، فإن عصراً مزدهراً أو يوتوبيا حقيقية تنتظر البشرية، فالطبيعة حسب تعبيرهم وفرت لوازم السعادة وهيأتها لبني البشر، وما عليهم إلا أن يحسنوا اقتسامها وتوزيعها. لم ترق هذه النظرية لـمالتس ذي النزعة التشاؤمية، وكانت معاصرته لهؤلاء الكتاب من أسباب تحمسه للرد عليهم، فنشر سنة 1798 كتيباً بعنوان: مقال في قواعد ازدياد السكان أوضح فيه رأيه الصريح إزاء الموضوع.
يقول سول : 'إن مذهب مالتس بسيط في جوهره، فالتكاثر إن لم يحده قيد فإنه يدعو إلى تزايد السكان وفقاً لمتوالية هندسية، في حين أن الزيادة في موارد الغذاء ليست بهذه السرعة أو أنها -بعبارة أخرى -تسير حسب متوالية عددية'[312] . ولم يخف مالتس اعتراضه على حقوق الإنسان التي أعلنها توماس بين فقد رد عليه قائلاً: 'إن رجلاً يولد في دنيا قد استولى عليها الناس من قبله، وتملكوا خيراتها، ولم يجد العون الطبيعي من والديه، وما دام المجتمع في غنى عن خدماته، فهذا الرجل لا يستطيع أن يدعي لنفسه حقاً في كسرة خبز، ولا حق له في الوجود في هذا العالم' كما أنه انتقد البرنامج الذي وضعته الحكومة الإنجليزية لإعانة الفقراء بقوله: 'إن قوانين الفقراء في إنجلترا تؤدي إلى تفاقم حالة الفقراء عامة في ناحيتين: الأولى: هي أنها تعمل على زيادة عدد السكان دون زيادة غلة الأرض لإعالتهم. والثانية: أن كميات الحاجيات التي تستهلك في ملاجئ الفقراء -وهم طبقة غير منتجة- تقلل من الأنصبة التي كان يجب أن تعطي كاملة للطبقة العاملة'[.
وهكذا حرم مالتس الإحسان تحريماً قاطعاً سواء أكان من الدولة أو من الأفراد، وذهب إلى أن كل مشروع لتحسين حالة المجتمع سينتهي إلى كارثة، وقال: إن على المجتمع أن يرفض تقديم الإحسان أو الإعانات إلى الأسر التي تعجز عن تدبير وسائل معيشتها.
والمصيبة أن الذي يطرح هذه الأفكار، ويطالب المجتمع بتطبيقها ليس رجلاً علمانياً، ولكنه رجل دين بمرتبة قسيس! رجل دين يبرر سلوك طواغيت الرأسمالية ، ويحرم البر والإحسان إلى المنكوبين، ويقول: إن ذلك هو قانون الطبيعة الذي يعبر عن إرادة الله، إن في وسعنا أن نتصور الأثر البالغ والانعكاس الذي تتركه المفارقة العجيبة في ذهن الفرد العادي عن الدين ورجال الدين. آثار مذهبه: يقول داونز : 'قوبلت آراء مالتس بترحاب وتحمس، إذ تلقفتها الطبقة المثرية وذوو السلطة في زمنه، فرددوا وراءه القول: بأن الفاقة الاجتماعية وغيرها من المساوئ الاجتماعية يصح إرجاعها الآن إلى أسباب الزواج المبكر وكثرة النسل، وليس لسوء توزيع الثروة في البلاد شأن في ذلك، وبالتالي لا يقع عليهم أي لوم' [315] . ويقول سول : كان مذهب مالتس هذا يخدم مصالح أولئك الذين بالرغم من الأرباح الطائلة التي جنوها بفضل نمو الرأسمالية تعرضوا لهجوم عليهم، بسبب سوء الحال التي كان عليها فريق كبير من العمال والأجراء. لقد قام مالتس بالدفاع اللازم حين أعلن أن شقاء الإنسان مرده إلى إغفال أحد القوانين الطبيعية (يعني: قانون زيادة السكان)، وإن تجاهل هذا القانون لن يؤدي إلى تحقيق أية منفعة اجتماعية في ظل أي نظام اقتصادي، وأن علاج الشقاء في يد هؤلاء التعساء أنفسهم، وأن الالتزام الوحيد على الطبقات العليا من المجتمع ينحصر في تعريف الناس بالموقف الحقيقي. إن آراء مالتس هذه هي التي جعلت علم الاقتصاد يعرف باسم العلم القاتم النظرة. والحق أن تَقَبُّل نظرية مالتس ومثلها نظرية سميث ، وأضرابها ليس إلا جزءاً من ظاهرة فكرية أوروبية تستدعي الدهشة والعجب، وتستوجب التعليل والتفسير، وهي ميل الفكر الأوروبي دائماً إلى اعتناق الأفكار الشاذة والنظريات اللاأخلاقية المتطرفة، على الرغم من وفرة الأفكار والنظريات الأقرب إلى الاعتدال والموضوعية. وهذه الظاهرة رأيناها -في الفصل السابق- في المكيافيللية ، ثم هنا، وسنراها في الماركسية ، ثم في الفرويدية وكذلك بعض الاتجاهات الأدبية.
وهذا- في نظرنا - يعود إلى مرض متأصل في النفسية الجاهلية أكثر من كونه نتيجة طبيعية للأوضاع الفكرية والاجتماعية غير الطبيعية[316] . وعلى أية حال فقد كان لـمالتس آثاره في العلوم الاقتصادية والاجتماعية لا يزال بعضها مثار نزاع الباحثين، على أن أقوى أثر لمذهبه - جاء بطريقة عفوية - هو إيحاؤه بقانون الانتقاء الطبيعي الذي بنى عليه داروين مذهبه في تطور الكائنات الحية، وقد طغى هذا الأثر على غيره نظراً للانقلاب الفكري الذي أحدثته نظرية التطور. [317]
ومن ناحية أخرى يجزم برتراند رسل بأن ماركس سرق من مالتس نظريته في السكان [318] ويبدو أنه يعني بذلك الشعار الشيوعي المعروف (من لا يعمل لا يأكل) في الوقت الذي تلعن الماركسية فيه مالتس عدو الطبقة الكادحة. (ج) ريكاردو : يعد دافيد ريكاردو القطب الثالث من أقطاب الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، وكان يهودياً يملك شركة تحمل اسمه جعلته من كبار الأثرياء ولمَّا يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره،. وهنا ينبغي أن نقف قليلاً.
إن الربا الذي هو عماد الرأسمالية ولب نظامها ليلازم اليهودي ملازمة الظل لأصله، وقد تكون الكنيسة على حق حينما اعتقدت أن كل المرابين يهود كما سلف قريباً واليهود لا يأكلون الربا ويحتكرون ضروريات الناس بدافع شهوة الذهب - التي يشترك معهم فيها سائر البشر - فحسب، لكنهم يفعلون ذلك باعتباره واجباً دينياً يفرضه عليهم كتابهم المقدس التلمود ! ضمن تعاليمه الصارمة تجاه الأميين.
من هذا المنطلق كانوا يتعاطون الربا الفاحش المشروط بأقسى الرهون كما في تاجر البندقية إلا أن دورهم ظل محدوداً حتى قامت الثورتان العلمية والفرنسية مع حركة الإصلاح الديني ، وابتدأ العصر الصناعي يمد ظله على القارة الأوروبية، عندئذٍ انتهز اليهود مرحلة التحول الاجتماعي والاقتصادي ليخرجوا من "الجيتو" ويحطموا الكنيسة والإقطاع:
الكنيسة لأنها عدوهم اللدود دينياً وكذلك اقتصادياً بسبب موقفها من الربا، والإقطاع لأن الملاك الإقطاعيين يستأثرون بحظ الأسد من الثروة، لذلك كانوا محط حقد ومقت النفسية اليهودية الشرهة. كما أن تحطيم المجتمع وتدمير بنيانه خطوة أولى نحو تحقيق هدفهم النهائي (استحمار البشرية) هذا التحول منحهم فرصة القيام بدور المنافس القوي للملاك الإقطاعيين، وذلك أن العهد الصناعي ابتدأ والمال محصور في يد طائفتين اثنتين هما: الأولى: الملاك الإقطاعيون سواء أكانوا من رجال الكنيسة أم من غيرهم. والأخرى: المرابون اليهود.
والصناعة تحتاج - بالدرجة الأولى - إلى الثروة لإدارة المشروعات الصناعية وتنميتها ثم يد عاملة لتنفيذها، فأما اليد العاملة فقد كان للمذهب الطبيعي -السابق الذكر- الفضل في توفيرها بتركيزه على حرية العمل بحسبانها حقاً من حقوق الإنسان الطبيعية، وأما المال فكان على رواد الصناعة أن يستقرضوه من إحدى الطائفتين، وفعلاً مد هؤلاء أيديهم إليها يلتمسون ذلك. وكانت النتيجة أن أحجم الملاك الإقطاعيون عن إقراض وتمويل المشروعات الصناعية بسبب ظاهر، وهو أنهم بمد يد العون لها إنما يسهمون في هدم مركزهم المالي والمجتمع بإيجاد منافس قوي لهم، إذ أن نمو المصنع سيكون على حساب الأرض، ومن ناحية أخرى كانت الصناعة لا تزال في مهدها، وليس من المؤكد أن يتحقق ما يتوخى منها، وهم ليسوا مستعدين للمغامرة في أمر مشكوك في عواقبه.
أما الفئة الأخرى اليهود فقد اندفعت لتمويل الصناعة، ولم تر في ذلك شيئاً من المخاوف، وليس ذلك تكرماً من عبيد الذهب ولا هو قصر نظر منهم، بل لأنهم كانوا واثقين من النتيجة، فهم - أولاً - يريدون أن ينفثوا حقدهم على المجتمع الإقطاعي الزراعي - الذي يذلهم ويحتقرهم - بتهيئة المناخ لطبقة جديدة تتولى قيادته، وتكون تحت رحمتهم وإشرافهم.
وهم -ثانياً- مطمئنون إلى نتيجة قروضهم، فهي مكفولة بالرهون الثقيلة إلى جانب الأرباح الفاحشة. هذا مع العلم أن بعض أرباب المصانع كانوا يهوداً بأنفسهم، ومنهم ريكاردو ، وهكذا سقطت الصناعة تلقائياً في قبضة الذهب اليهودي، وظل الزمن يزيدها استحكاماً حتى وصلت سيطرتهم الاقتصادية على العالم الصناعي إلى الحال التي لا يجهلها أحد اليوم).
والآن لنعد إلى ريكاردو :
لقد خدم سميث اليهود بنزعه القيمة الاقتصادية الكبرى من الأرض إلى العمل؛ لكن ذلك لم يقض على نفوذ الملاك الزراعيين، فكان الأمر يستدعي نظرية علمية تدفع العجلة إلى الأمام بسرعة أكبر، وكان الناس آنذاك مستعدين لتصديق كل ما هو علمي مبهورين به إلى أبعد حد. وجاءت هذه النظرية على يد اليهودي ريكاردو : يرى ريكاردو أن مسئولية التفاوت المجتمع والأزمات الاقتصادية تنصب على ما أسماه الريع، وليس على الربح. والريع هو المكسب الذي يحصل عليه مالك الأرض، أما الربح فهو مكسب الصناعي الرأسمالي، ويعلل ذلك معتمداً على نظرية سميث في إعطاء القيمة للعمل، بأن الريع ليس ثمناً للعمل ولكنه ناتج عن امتلاك مورد طبيعي للثروة.
وتمشياً مع قانون الأجور الحديدي الذي اقتبسه عن مالتس يرى ريكاردو أنه: حين يتقاضى الملاك أثمامناً أعلى لوسائل العيش فهم لا يستغلون العامل ولكنهم يستغلون صاحب العمل الذي يضطر إلى أداء أجور عالية لعماله، بينما هو لا يستطيع أن يرفع من أثمان منتجاته، لأنها تتحدد في سوق قوامها التنافس. ويذهب ريكاردو إلى أنه نتيجة لذلك فإن الريع في جوهره عدوان على الربح، وتميل الأرباح في الأجل الطويل إلى الهبوط حتى تصل درجة الصفر، بينما يستولى ملاك الأراضي على الفائض الاقتصادي. وكانت أولى نظريته أن أقنع الرأسماليون الحكومة الإنجليزية بإلغاء القوانين التي سنتها للغلال، وأفسحت المجال لاستيراد الغلال من الخارج، فهبطت أرباح الملاك الزراعيين وكسدت سوقهم، وفي الوقت نفسه انخفضت تكاليف الصناعة كثيراً، واتخذ الرأسماليون من انخفاض سعر الغلال ذريعة لتخفيض أجور العمال، وبذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد، ووطدوا مركزهم على حساب المجتمع، فنتج عن ذلك أزمات خانقة ذهب ضحيتها جموع غفيرة من العاطلين والمعدمين.
ومن ناحية أخرى تمادى ريكاردو فطالب بتأميم الأراضي أو فرض الضرائب الباهظة عليها، ومن هنا سقط في خطأ غير مقصود، إذ أنه نبه الاشتراكيين الأوائل إلى هذه الفكرة مما جعل نتيجتها تكون على عكس رغبة الرأسماليين ورغبة ريكاردو.
جون ستوارت ميل
جون ستوارت ميل (1806-1873): فيلسوف واقتصادي بريطاني، ومن أشهر أعماله ”نظام المنطق“ و"مبادئ الاقتصاد السياسي مات وهو في السادسة والستين من عمره1873 – ترى الفلسفة الليبرالية في الإعلام أنها تقوم بتزويد الجماهير بالحقائق المجردة، بهدف بناء عقولهم بناء سليمًا بصورة طبيعية، وأن المعلومات التي يجب أن تتناولها أجهزة الإعلام يجب أن تتسم بالموضوعية، كما أن الفرد في ظل هذه الفلسفة يتمتع بحرية مطلقة، ويستطيع أن يفعل ما يحلو له، وليس لأحد التدخل في شؤونه وحياته.
وفي هذا يقول جون ستوارت ميل: (إن البشر جميعًا لو اجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهــم حتى لــو كانت لــه القـــوة والسلطة ).
ويبرر جون ستوارت ميل ذلك بقوله: (إننا إذا أسكتنا صوتًا فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وإن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانحه بذور الحقيقة الكامنة، وإن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص، وإن هذا الرأي ما لم يواجه تحديًا من وقت لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره ).
مخاوف الاكتظاظ السكاني
The physiocrats predicted that mankind would outgrow its resources: given the finite amount of land, it would not be able to support an endlessly increasing population.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انظر أيضاً
الشخصيات
الهامش
المصادر
- Henry William Spiegel (1983) The Growth of Economic Thought, Revised and Expanded Edition, Duke University Press
- Yves Charbit; Arundhati Virmani (2002) The Political Failure of an Economic Theory: Physiocracy, Population, Vol. 57, No. 6. (Nov. - Dec., 2002), pp. 855-883.
- A. L. Muller (1978) Quesnay's Theory of Growth: A Comment, Oxford Economic Papers, New Series, Vol. 30, No. 1., pp. 150-156.
- Steiner, Phillippe (2003) Physiocracy and French Pre-Classical Political Economy in eds. Biddle, Jeff E, Davis, Jon B, & Samuels, Warren J. A Companion to the History of Economic Thought. Blackwell Publishing, 2003.
- The History of Economic Thought Website, The New School of Social Research. 6 Feb. 2006
- Tableau Économique - Modern view