التحالف العظيم (عصبة أوگزبورگ)
Grand Alliance between England, the United Provinces and Austria | |
---|---|
![]() مهندس التحالف، وليام، ملك إنگلترة، واسكتلندة وشتاتهولدر الجمهورية الهولندية | |
السياق | تحالف ضد فرنسا |
وُقـِّعت | 20 ديسمبر 1689 |
المكان | لاهاي |
الأطراف |
|
التحالف العظيم هو ائتلاف مناهض لفرنسا تشكل في 20 ديسمبر 1689 بين إنگلترة والجمهورية الهولندية وأرشدوقية النمسا. وقد وقـَّعه خصمان رئيسيان لفرنسا؛ وليام الثالث، ملك إنگلترة وشتات هولدر الجمهورية الهولندية، و الامبراطور ليوپولد، نيابة عن أرشدوقية النمسا.
وبالاضافات اللاحقة لكل من إسپانيا و ساڤوا، خاض هذا التحالف حرب السنوات التسع 1688–97 ضد فرنسا والتي انتهت بمعاهدة رايسڤايك 1697.
التحالف العظيم الثاني أعادت تشكيله معاهدة لاهاي في 1701 قبل حرب الخلافة الاسبانية و اِنفض إثر معاهدة أوترخت في 1713.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية

زادت الضرائب حتى بعد هبوط مستوى الرخاء والازدهار. وكان مشروع كولبير لتنظيم التجارة والصناعة بواسطة الحكومة، قد بدأ ينهار قبل موته (1683). لقد مات المشروع، من ناحية نتيجة لسوق الرجال من المزارع والمصانع إلى المعسكرات وميادين القتال، ولكنه انهار أساساً نتيجة الاختناق الذاتي: ذلك أن التنظيمات الحكومية عوقت النمو الذي كان يمكن أن يؤتي ثماره في ظل رقابة وقيود أخف، وفي ظل مزيد من الحرية للتنفس والتجريب والخطأ. ووجد حب العمل والمغامرة أنه مقيد بمتاهة من الأوامر والعقوبات. وضجت وتعثرت الكثرة من الناس والجشع المبدع الخلاق عند فئة قليلة منهم، تحت ضغط عبء ثقيل من القواعد، حتى هددت هذه الآلة بالتوقف. وما وافى عام 1685 حتى ترددت صيحة "أتركه يعمل"، قبل ظهور فرانسواكساني وترجو بخمسة وستين عاماً، وقبل ظهور آدم سميث بواحد وتسعين عاماً. وقال أحد أتباع لويس الرابع عشر "أن السر الأعظم يكمن في الطلاق الحرية الكاملة للتجارة. أن أصحاب المصانع لم يصابوا قط بمثل هذا الخراب والدمار في هذه المملكة إلا منذ فكرنا أن ندعمهم بقوانين من الدولة(21)". وثمة عوامل أخرى أسهمت في هذا الانهيار. وذلك أن الهيجونوت الذين فروا من الاضطهاد، حملوا معهم مهاراتهم الاقتصادية، وفي بعض الأحيان مدخراتهم أيضاً. وعانت التجارة من رغبة الملك في الغزو والفتح، لا الاتجار. وعوقت الرسوم الأجنبية صادرات فرنسا انتقاماً من رسوم الواردات الفرنسية. وأثبت الإنجليز والهولنديون أنهم رجال بحر واستعمار من الغاليين (الفرنسيين) المتغطرسين النافذي الصبر. وأخفقت شركة الهند، وعوقت الضرائب الزراعة. وأفسدت العملة المزيفة مرفق المال، وشلت حركته وأحدثت فيه الاضطراب.
ولم يكن ثمة وجه للمقارنة بين الوزراء الذين حملوا لويس الرابع عشر بعد وفاة كولبير. وبين أولئك الذين ورثهم عن ريشليو ومازاران. وتولى ابن كولبير، جان بابتست، مركيز سينلي وزارتي التجارة والبحرية، وتولى كلود بلتييه الشئون المالية، ولكن سرعان ما خلفه فيها لويس فيليبو سنيور دي بونتشارتران. أما لوفوا فقد بقي وزيراً للحربية. ولكن أرهب الوزراء الجدد ما جمع لويس الرابع عشر من مجد وسلطان، فقعد بهم الخوف عن اتخاذ أي قرار، واعتمد دولاب الحكومة على ذهن الملك المكدود المرهق. ولم يكن يتصرف بمحض إرادته إلا لوفوا، من أجل الحرب-ضد الهيجونوت، وضد الأراضي الوطيئة، وضد أي أمير أو شعب اعترض طريق فرنسا المتوسعة. وكان لوفوا قد أنشأ أحسن جيش في أوربا، ودربه على النظام والانضباط والبسالة، وزوده بأحدث الأسلحة، وعلمه الفن الرشيق في استخدام الحراب . فكيف يتيسر إطعام مثل هذه القوات والمحافظة على روحها المعنوية إلا إذا حاربت وانتصرت؟ ونظرت فرنسا إلى الجيش بعين الإعجاب والفخر، على حين استشاطت أوربا غضباً وارتعدت فزعاً لدى سماعها به.
التشكل
في مايو 1685، عندما طالب لويس الرابع عشر بجزء من أملاك ناخب البالاتين، ميراثاً يستحقه عن أخت الناخب المتوفاة شارلوت اليزابيث، دوقة أورليان آنذاك، تساءل أمراء الإمبراطور عجباً: ماذا عسى أن تكون كطالب الملك المغامر المعتدي بعد ذلك. وزادت حدة التوتر عندما ربط لويس بالفعل، كولون وهلدشيم ومنستر بفرنسا، بضمان انتخاب مرشحيه حكاماً أسقفيين لهذه البلاد (1686). وفي 6 يوليه انضم الإمبراطور الكاثوليكي ليوبولد الأول، والناخب الكاثوليكي مكسيمليان الثاني وأمانويل أمير بافاريا، إلى ناخب براندنبرج الأعظم البروتستانتي، وفي تكوين عصبة آوگزبورگ للدفاع ضد أي هجوم على أراضيهم أو عدوان على دولهم, وكان الإمبراطور مشغولاً مع الأتراك المتقهقرين، ولكن هزيمتهم في "موهاكس" الثانية (1687) وفي بلغراد (1688) أطلقت يد القوات الإمبراطورية للعمل على الجبهة الغربية للإمبراطورية.
وارتكب ملك فرنسا آنذاك أكبر خطأ في سجل حياته العسكرية. وكان حاكم هولندا يتوقع منه أن يجدد هجومه على هولندا، ولكن لويس، بدلاً من ذلك، قرر غزو ألمانيا قبل أن تتمكن القوات الإمبراطورية من الاحتشاد على جبهته. وفي 22 ديسمبر 1688 تقدمت قواته الرئيسية نحو الراين. ومع توجيه خاص متميز إلى الدوفين ذي السبعة والعشرين ربيعاً: "أي بني، إني إذ أبعث بك لتتولى إمرة جيوشي، إنما أهيئ لك كل الفرص لتثبت جدارتك، فاكشف عنها لكل أوربا، حتى إذا حان أجلي، لا يشعر أحد بأن الملك قد قضى نحبه(23)". وفي 25 سبتمبر اجتاح الجيش الفرنسي ألمانيا. وفي غضون شهر واحد استولى على كايزرسلاوترن، ونيوستاد، ڤورمز وبنجن ومينز وهايدلبرگ. وفي 29 أكتوبر سقطت قلعة فيليبسبرج المنيعة، وفي 4 نوفمبر تقدم الدوفان المنتصر لمهاجمة مانهايم.
وربما كان في هذه الانتصارات بداية سقوط الملك، لأنها ورطت الملك في حرب طويلة الأجل ضد عدد متزايد من العداء، لقد حرروا هولندا من الخوف من غزو مبكر، وأقنعوا برلمان المقاطعات المتحدة بالموافقة على أن يغزو وليم الثالث إنجلترا ويعاونه على أعمال الغزو. وما أن وثق وليم من قوته حتى حول إنجلترا من بلد تابع لفرنسا إلى عدو لها. وعاهد رعاياه الجدد على الوقوف إلى جانبهم في الدفاع عن أوربا السياسية والدينية. وتردد برلمان إنجلترا، مرتاباً في أن وليم معني في الدرجة الأولى بإنقاذ هولندا، وهي أكبر منافس تجاري لإنجلترا، ولكن انتصارات فرنسا قوت من جديد حجة وليم.
وكان لوفوا قد استحث لويس على السماح له باكتساح البالاتينات وتخريبها حتى يحرم العدو المقترب من أية معونة محلية، ووافق لويس على كره منه. وفي مارس 1689 أعمل الجيش الفرنسي السلب والنهب وأحرق هيدلبرج ومانهيم ثم سبير، وورمز وأوينهايم وأجزاء من أسقفية ترييه ومنطقة بادن، حتى دمرت كل أراضي الراين الألمانية تقريباً. ووصف ڤولتير هذه الفظائع حيث استيقظ فيه ضمير "الرجل الأوربي الطيب":
وتعالت الصيحات تطالب بالانتقام من ملك فرنسا في كل أنحاء ألمانيا والأراضي الوطيئة وإنجلترا ووصم الكتاب الألمان الجنود الفرنسيين بأنهم متوحشون (هون) مجردون من أية مشاعر إنسانية. ونعتوا لويس بأنه مسخ كافر مجدف همجي بالغ الهمجية. وعير المؤرخون الألمان الشعب الفرنسي بأنه تلقى حضارته من الفرنجة (أي الألمان) وأنه نقل جامعاته عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (أي الألمان كذلك)(25). وكان بيير جوريرو، أحد المنفيين في هولندا قد نشر هناك لفوره نقداً ساخراً عنيفاً تحت عنوان "منظر فرنسا المستعبدة"، ودمغ فيه لويس بأنه طاغية شديد التعصب، وأهاب بالشعب الفرنسي أن يطيح به، ويشكل ملكية دستورية. وردت الصحافة الفرنسية بتوجيه النداء إلى المواطنين ليقذفوا بهذه الشتائم فيوجه العدو، ويهبوا إلى إنقاذ مليكهم الشجاع المحبوب المحاصر. وفي 12 مايو 1689 انضمت إنجلترا إلى الإمبراطورية وأسبانيا والمقاطعات المتحدة والدنمرك وسافوي، في الحلف العظم الأول، الذي تعهد بالدفاع عن أي من أعضائه ضد أي عدوان خارجي. وكانت الحرب آنذاك حرب أوربا ضد فرنسا.
فكان جواب لويس على ذلك أنه زاد عدد جنوده إلى أربعمائة وخمسين ألفاً، وبحريته إلى مائة ألف، ولم تشهد أوربا قط من قبل مثل هذه القوات المسلحة. وصهر الملك كل ما لديه من أدوات فضية ليعاون الضرائب على دفع نفقات هذه الحشود الضخمة، وأصدر أوامره إلى كل الأفراد المرموقين وإلى كثير من الكنائس ليفعلوا مثل ما فعل، وأجاز لبوبنتشارتران أن يعيد سك الفضة وينقص قيمة العملة بمقدار 10%. وخلق الوزير مناصب جديدة، وأعاد وظائف قديمة كانت قد ألغيت، وباعها لطلاب الوظائف المفتونين بالألقاب، وقال للملك: "كلما خلقتم جلالتكم وظيفة خلق الله مغفلاً يشتريها(26)".
وأشار سينلي على الملك بأن يأمر أسطوله بسلخ أيرلندا عن إنجلترا. وكان من الجائز أن يتم ذلك، ففي 30 يونيه 1690 هزم أمير البحر تورفيل بخمس وسبعين سفينة، أسطولاً إنجليزياً وهولندياً في بيتشي هيد بالقرب من شاطئ سسكس الغربي. ولكن لويس لم يرسل سوى ألفي جندي لمساندة جيمس الثاني في أيرلندا. وكان من المحتمل أن تكسب قوة أكبر معركة بوين (أول يوليه 1690)، وأن تشغل إنجلترا ومليكها الهولندي في أيرلندا، إلى حد يصعب معه الاشتراك في القتال في القارة. ولكن انتصار وليم الثالث مكنه من الذهاب إلى هولندا ليقود قوات إنجليزية وهولندية ضد الفرنسيين (1691)، وحاول لويس في 1692 غزو إنجلترا، وصدرت الأوامر إلى أسطول في تولون بالإبحار شمالاً لينضم إلى أسطول تحت إمرة تورفيل في برست وكان عليهما أن يقضيا على كل مقاومة من جانب الإنجليز، ويحملا ثلاثين ألف جندي عبر القنال الإنجليزي. ولكن عاصفة في جبل طارق عطلت مسيرة أسطول طولون، فأخفق في اللحاق بتورفيل الذي كان عليه أن يواجه وحده الأسطولين الإنجليزي والهولندي مجتمعين، وهزم في التحام حاسم عند لاهوج بالقرب من شربورج (19 مايو 1692). وتوقف غزو إنجلترا. وظلت إنجلترا سيدة البحار بعد هذه المعركة، ومطلقة اليد في الاستيلاء على مستعمرات فرنسا الواحدة تلو الأخرى. وحمى القنال إنجلترا حتى يومنا هذا.
وتابع الفرنسيون انتصارهم في البر، ولكن بأبهض التكاليف في العتاد والرجال. وفي إبريل 1691 استبد بهم الزهو والغرور إلى حد الجنون أمام مليكهم حين حاصروا واستولوا على هونز الحصينة. وقضى لوفوا نحبه في 7 يوليه، ولكن الملك لم يأسف كثيراً على تخليصه من وزير حربيته الذي كان ينتهج سياسة العدوان، ورأى منذ ذلك الوقت أن يتولى توجيه السياسة العسكرية بنفسه. واتبع تقليداً فرنسياً قديماً حين عهد بمنصب لوفوا إلى ابنه، وكان شاباً لطيفاً سهل الانقياد في الرابعة والعشرين من العمر-مركيز باربيزييه. وفي يونيه 1692 قاد لويس قواته بنفسه للاستيلاء على نامور. ثم ترك القيادة لدوق دي لكسمبرج وعاد ليرشف خمرة المجد والنصر في فرساي. وفاجأ وليم الثلاث الدوق في ستينكرك في يوليه، ودارت الدائرة على الفرنسيين في أول الأمر، ولكنهم أعادوا تنظيم صفوفهم واستعادوا شجاعتهم بفضل توجيه قائدهم الذي كان قدوة حسنة لهم، وكان مريضاً ولكنه كان لا يقهر، فكانت الغلبة للفرنسيين مرة أخرى، ولو لأنهم حققوها بثمن غال، وهناك قاتل في طليعة الجيش فيليب الثاني دي أورليان الوصي على عرش فرنسا في المستقبل، والذي لم يبلغ آنذاك الخامسة عشرة من العمر، فأصيب بجرح ثم عاد فاستأنف القتال. وهناك أظهر لويس الشاب، ودوق دي بوربون كونديه (حفيد كونديه الأكبر) الذي عرك الحرب في ثلاثة حصارات، وفرانسوا لويس دي بوربون وأمير كونتي، ولويس جوزيف دوق فندوم (ابن حفيد هنري الرابع) وكثير غيرهم من نبلاء الفرنسيين-أظهر هؤلاء جميعاً من ضروب البسالة والشجاعة والشهامة ما جعلهم، على الرغم من حياتهم المترفة الخاملة زمن السلم، معبودات في نظر شعبهم زمن الحرب، ونماذج حتى لأعدائهم، حتى لقد تساءل متعجباً أحد أسراهم وهو الكونت سالم: "أية أمة أنتم: أشد الأعداء بأساً ورهبة في الحرب، وأكرم الأصدقاء عند النصر(27)".
وبعد ذلك بعام واحد هزم نفس الجيش تحت إمرة نفس القائد، وليم في نيروندن بالقرب من بروكسل، وهنا أيضاً كان عدد القتلى ضخماً0عشرون ألفاً من الحلفاء وثمانية آلاف من الفرنسيين. ومهما يكن من أمر الهزائم التي مني بها وليم، فإنه ظهر على رأس جيش جديد وتوافرت لديه أموال جديدة. فاسترد نامور في أغسطس 1694، واكتشفت فرنسا أنها بعد خمس سنوات أريقت فيها الدماء، عجزت عن غزو حتى الأراضي الوطيئة الأسبانية. وانتصرت جيوش فرنسية أخرى في أسبانيا، ولكنها وجدت من العسير عليها الاحتفاظ بثمرات انتصاراتها أمام أعداء خرجوا عليها من كل جانب، وقد استكملوا ما ظهر لديهم من نقص في العتاد والرجال، وفي يوليه 1694 أبحر أسطول إنجليزي لمهاجمة برست. وكان بعض الأصدقاء في إنجلترا (من بينهم كما يقال مالبرو نفسه(28)) قد أبلغوا جيمس الثاني عن هذه الخطة سراً، ومن ثم فإن الفرنسيين الذين أنذروا بها من قبل، نصبوا المدافع على الشاطئ عند برست، وصدوا الإنجليز عنها بعد أن تكبدوا خسائر فادحة.
وفي يناير 1695 قضى مارشال دي لوكسمبرج نحبه، فلم يعد مع لويس الرابع عشر إلا قواد من الدرجة الثانية، أن الحلفاء نادراً ما وطأت أقدامهم أرض فرنسا، ولكن فرنسا نفسها كانت تحس بوطأة حرب من نوع جديد، لم يكن يحارب فيها مرتزقة مأجورون، بل أمم بأسرها جندت لينافس بعضها بعضاً في القتل والتنكيل. وحتى في الوقت الذي كان الشعب الفرنسي يهتف لقواده وأبطاله ويهلل لهم ويحي انتصاراتهم، فإنه، وقد أثقلت الضرائب كاهله بشكل لم يسبق له مثيل، قارب حد الاستنزاف جسداً وروحاً. وانضم القحط إلى الفقر والعوز في 1694 فكان ضغثاً على إبالة. وفي أبرشية واحدة مات 450 شخصاً جوعاً(29)وكان الاقتصاد القومي على شفا الانهيار. وعمت الفوضى وسائل النقل، حيث توقف تقريباً إصلاح الجسور والطرق أثناء الحرب. واختنقت التجارة الداخلة نتيجة المكوس التي كانت تجبى في مائة موقع عبر الأنهار أو في البر. وكانت التجارة الخارجية قد شلت حركتها نتيجة لرسوم الصادرات والواردات. وكادت الآن تكون متعذرة تماماً لوجود أساطيل الأعداء والقرصان. وساءت أحوال أولئك الذين كانوا يعتمدون على صيد الأسماك والتجارة على الشواطئ. ونضبت موارد مئات من المدن بما كانت تقدم من معونة ومؤونة للفرق العسكرية التي تنزل بها، وهبط الفقر والقحط والمرض والحرب بعدد سكان فرنسا من نحو 23 مليوناً في 1670 إلى نحو 19 مليوناً في 1700(30). وفقدت محافظة تورين ربع سكانها. ولم يبق من سكان العاصمة تور إلا 33 ألفاً من 80 ألفاً كانوا يقطنونها في عهد كولبير. وهاك نموذجاً من تقارير المحافظين والحكام من مختلف أقاليم فرنسا في أخريات القرن السابع عشر:
وفي 1694 وجه فنيلون، الذي سيصبح عما قريب رئيس أساقفة كمبراي، إلى لويس الرابع عشر خطاباً غفلاً من التوقيع، يعد أبلغ تعبير عن الروح الفرنسية:
ولم يجرؤ فنليون على إرسال هذه الرسالة مباشرة إلى الملك، فرتب أمر تسليمها إلى مدام دي مينتنون، وربما كان يأمل في أنها قد تتأثر بها، حتى ولو لم تطلع لويس عليها، باعتبار أن الرسالة تعكس حالة الشعب، فتستخدم السيدة نفوذها من أجل الصلح والسلام، ولكنها حولتها إلى رئيس الأساقفة دي نواي، مع تعليق منها نصه: "لقد أحسن الكاتب، ولكن مثل هذه الحقائق قد تهيج الملك أو تفت في عضده.... وينبغي علينا أن نوجهه برفق في الطريق الذي يجب أن يسلكه(33)". وكانت قد كتبت في 1692. "أن الملك يدرك ما يعانيه شعبه، وهو يتلمس كل الوسائل للتخفيف عنه(34)"، ومما لا شك فيه أنها كانت تعرف ما كان يمكن أن يرد به الملك على فنيلون: أن مبادئ المسيحية لا يمكن أن تستخدم في إدارة شئون الدول، وأنه يمكن عدلاً التضحية بجيل من الفرنسيين، إذا كان في هذه التضحية تأمين لمستقبل فرنسا، بفضل حدود طبيعية يسهل الدفاع عنها، وأن أية محاولة للوصول إلى الصلح والسلام من أعداء متحالفين متعطشين إلى الانتقام، قد تعرض فرنسا للغزو والتمزيق. وإذ وقعت السيدة مينتنون في صراع بين دين الأخوة وبين فلسفة الحرب، فقد كثر ترددها على سان سير، والتمست في رفقة الراهبات الشابات السعادة التي فقدتها في الجاه والسلطان(35).

وقبيل انتهاء الحرب قدم بيير لي بيزان، حاكم بواجلبرت، وقائد المنطقة المحيطة بروان، إلى وزير المالية بونتشارتران مشروعاً لتخفيف الفوضى الاقتصادية والضائقة العامة: "أصغ إلي في شيء من الصبر، إنك ستحسبني أول الأمر مجنوناً، ثم تتبين فيما بعد أني استحق أن تعيرني انتباهك، وسترضيك آخر الأمر أفكاري". ولكن بونتشارتران سخر منه وطرده. ونشر الحاكم الغاضب مخطوطته المرفوضة بعنوان "مشكلة فرنسا" (1697) واستنكرت هذه الرسالة تعدد الضرائب التي يقع العبء الأكبر فيها على عاتق الفقراء، ولا يصيب الأغنياء منها إلا النزر اليسير، واتهمت الكنيسة بابتزاز الكثير من الأرض والثروة، وأنحى بأشد اللائمة على مديري المال الذين تمتد أصابعهم البغيضة إلى الضرائب التي يجمعونها للملك(36). وأضعف من حجة الرسالة ما جاء بها من مبالغات وإحصاءات غير مدروسة، وآراء خاطئة عن تاريخ الاقتصاد الفرنسي قبل كولبير، ولكن زاد من قيمة الرسالة ما تضمنته من آراء ثاقبة ليست على استعداد لفهمها أي حكومة تعودت تقنين كا شيء وتحديده. وكان بواجلبرت من أوائل من رفضوا تضليل "المركنتلية" (نظام اقتصادي قائم على تنظيم حكومي استغلالي صارم)، بأن المعادن النفيسة تشكل في حد ذاتها ثروة، وأن الغرض من التجارة هو تكديس الذهب. وكان من رأيه أن الثروة هي توافر السلع والقدرة على أنتجاها، وأن الثروة الأساسية هي الأرض، وأن الفلاح عماد الاقتصاد، وأن دمار هذا الفلاح يعني دمار الجميع، حيث أن كل الطبقات في النهاية، مرتبطة بمجتمع ذي مصالح. وكل منتج مستهلك، وأية فائدة يجنيها بوصفه منتجاً لا بد عاجلاً أو آجلاً أن يفقدها نتيجة لما يلحقه من خسارة باعتباره مستهلكاً. وكان نظام كولبير في التقنين والتحديد، نظاماً خاطئاً، لأنه عوق الإنتاج وسد منافذ التجارة. وأحكم أسلوب هو ترك الناس أحراراً ينتجون ويبيعون ويشترون، دون قيود في نطاق الدولة، دعوا الطموح وحب الكسب الطبيعيين في الناس يعملان عملهما بحد أدنى من القيود المشروعة. فإنهم حين يتحررون على هذا النحو، سيبتدعون أساليب ومشروعات واستخدامات وأدوات جديدة، وسيضاعفون من خصوبة الأرض، ومنتجات الصناعة، ومدى التجارة ونشاطها، وهذه الزيادة الناتجة في الثروة ستوفر للدولة دخلاً جديداً. ولا بد أن ينشأ عن هذا بعض المظالم والجور، ولكن العملية الاقتصادية ستعالجها جميعاً. وهنا نجد مرة أخرى "اتركه يعمل" قبل أن تبلغ حرية العمل الرأسمالي ذروتها في عالم الغرب، بقرنين من الزمان.
وقد يغتفر للملك ووزرائه، إذا أحسوا أن الحرب ضد نصف أوربا لم تكن وقتاً ملائماً لمحاولة القيام بانقلاب اقتصادي بعيد المدى، فزادوا من الضرائب بدلاً من إصلاح الاقتصاد. وفي 1695 فرضت ضريبة الرءوس، وكان المفروض أن تكون على كل ذكر في فرنسا، وبررها بأنها مؤقتة، ولكنها استمرت حتى 1789. وكان النبلاء ورجال الدين والحكام خاضعين لها من الوجهة النظرية، ولكن من الوجهة العملية اشترى رجال الدين الإعفاء منها نظير إعانة متواضعة، على حين وجد النبلاء والماليون ثغرات في القانون ينفذون منها إلى الإعفاء. ولجئوا إلى كل وسائل الابتزاز المال من الشعب. ونظم "اليانصيب" وبيعت على عقد قروض للدولة. واحتفى الملك نفس برجل من أصحاب المصارف، هو صمويل برنارد، وتقاضى من الملايين بعد أن بهرته هالة العظمة التي أحاط بها الملك نفسه، وفقد وعيه بسحر الملك وفتنته، وعلى الرغم من كل الضرائب ووسائل الابتزاز، قديمها وجديدها. بلغ مجموع دخل الدولة في 1697، 81 مليوناً من الجنيهات، على حين بلغت المصروفات 219 مليوناً.
واعترف لويس آخر الأمر بأن انتصاراته استنزفت حياة فرنسا، فأصدر أوامره إلى سفرائه ومبعوثيه بمحاولة الوصول إلى تفاهم مع أعدائه. وقد أنقذته براعتهم، إلى حد ما. فأقنعوا دوق سافوي في 1696 بعقد صلح منفرد مع لويس. وسمح بتناثر الأنباء بأنه سيكف عن تأييده لآل ستيوارت، ويعترف بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا. وكان وليم نفسه يرى أن المال أغلى من الدماء، وشكا من أن "فقره أمر لا يصدق". واشتدت معارضة البرلمان لاعتماد الأموال اللازمة لقواته. وطالب، تمهيداً لعقد الصلح، بطرد جيمس الثاني من فرنسا، ولكن لويس رفض. إلا أنه عرض أن يعيد تقريباً كل المدن والأراضي التي كسبتها قواته أثناء الحرب. وفي 20 سبتمبر 1697 أنهى صلح ريزويك (بالقرب من لاهاي) "حرب البالاتينات" مع إنجلترا وهولندا وأسبانيا. واحتفظت فرنسا بستراسبورج وفرانش كرمتيه، واستردت بوندشيري في الهند، ونوفاسكوشيا في أمريكا، ولكن الرسوم الجمركية الفرنسية خفضت على تجارة هولندا، وفي 30 أكتوبر وقع صلح تكميلي مع الإمبراطورية. وتوقع الإمبراطور والملك كلاهما قرب وفاة شارل الثاني ملك أسبانيا. وأدرك كا رجال السياسة في أوربا تمام الإدراك أن ما وقع لم يكن إلا مجرد هدنة، استعداداً لحرب أكبر كانت جائزة المنتصر فيها أغنى إمبراطورية في العالم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ملاحظات
- ^ Savoy made a separate peace with France in 1696.
الهامش
المصادر
- Aubrey, TP (1979). The Defeat of James Stuart's Armada 1692. Leicester University Press. ISBN 978-0718511685.;
- Bosher, JF (February 1994). "The Franco-Catholic Danger, 1660–1715". History. 79 (255): 5–30. doi:10.1111/j.1468-229X.1994.tb01587.x. JSTOR 24421929.;
- Childs, John (1991). The Nine Years' War and the British Army, 1688-1697: The Operations in the Low Countries. Manchester University Press. ISBN 978-0719089961.;
- "The City of London's strange history". Financial Times. Retrieved 23 June 2020.
- Hochedlinger, Michael (2003). Austria's Wars of Emergence, 1683-1797. Routledge. ISBN 978-0582290846.;
- Lesaffer, Randall. "The peace of Utrecht and the balance of power". OUP Blog. Retrieved 5 May 2018.
- Maass, Mathias (2017). Small States in World Politics: The Story of Small State Survival, 1648-2016. Manchester University Press. ISBN 978-0719082733.;
- Meerwijk, MB (2011). Negotiating the Grand Alliance; the role of the King-Stadtholder’s corps diplomatique in establishing a new alliance between ‘Austria’, the Dutch Republic and England, 1688 - 1690 (PhD). Utrecht University.
- Nolan, Cathal (2017). The Allure of Battle: A History of How Wars Have Been Won and Lost. OUP. ISBN 978-0195383782.;
- Ralph, James (1744). The History of England. Coogan & Waller.;
- Rommelse, Gijs; Onnekink, David, eds. (2016). Ideology and Foreign Policy in Early Modern Europe (1650–1750). Routledge. ISBN 978-1138278820.;
- Spielvogel, Jackson J (1980). Western Civilization. Wadsworth Publishing. ISBN 978-1285436401.;
- Stapleton, John M (2003). Forging a Coalition Army; William III, the Grand Alliance and the Confederate Army in the Spanish Netherlands 1688-97 (PhD). Ohio State University.
- Szechi, Daniel (1994). The Jacobites: Britain and Europe, 1688–1788. Manchester University Press. ISBN 978-0719037740.;
- Troost, Wouter (2005). William III the Stadholder-king: A Political Biography. Routledge. ISBN 978-0754650713.;
- Wolf, John (1968). Louis XIV (1974 ed.). WW Norton & Co. ISBN 978-0393007534.
- Young, William (2004). International Politics and Warfare in the Age of Louis XIV and Peter the Great. iUniverse. ISBN 978-0595329922.;
- Navarro i Soriano, Ferran (2019). Harca, harca, harca! Músiques per a la recreació històrica de la Guerra de Successió (1794-1715). Editorial DENES. ISBN 978-84-16473-45-8.
وصلات خارجية
- Lesaffer, Randall. "The peace of Utrecht and the balance of power". OUP Blog. Retrieved 5 May 2018.
- "The City of London's strange history". Financial Times.
- Short description matches Wikidata
- Nine Years' War
- 17th-century military alliances
- 18th-century military alliances
- 1686 in international relations
- Military alliances involving Austria
- Military alliances involving England
- Military alliances involving Portugal
- Military alliances involving Spain
- Military alliances involving Sweden
- Military alliances involving the Dutch Republic
- History of Augsburg
- William III of England