الإمبراطورية العثمانية حتى إصلاحات عام 1876 - تفكيك أوروبا العثمانية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل السابع: الإمبراطورية العثمانية حتى إصلاحات عام 1876
رأينا في الفصول السابقة الخطوات التي اتخذتها ثلاث قوميات بلقانية للإنفصال عن الدولة العثمانية وإقامة حكم ذاتي أو نظم مستقلة. كما رأينا أيضاً كيف أن كل بلد من البلاد الثلاث وضع دستوراً له بشكل متزامن طبقاًً للمبادئ الأوروبية في وضع الدساتير. ومن الطريف أن نلاحظ أن الحكومة العثمانية آنذاك والتي كانت سلطتها تمتد على كل شبه جزيرة المورة فيما عدا دولة اليونان الصغيرة واجهت كثيراً من المشكلات التي كانت تواجه القوميات الثلاث ووجدت نفسها وهي الحكومة الإسلامية تأخذ ببعض الحلول التي أخذت بها شعوب مسيحية.
والحاصل أنه كان على الحكومة العثمانية خلال القرن التاسع عشر أن تتعامل مع مشكلة واحدة فرضت نفسها سواء في الداخل أو الخارج ألا وهي وقوعها تحت ضغط ظروف معاكسة سبق أن شرحنا كثيراً منها, إذ كان على الباب العالي أن يواجه عدةتحديات ليس فقط من جانب القوميين المسيحيين والعيان المسلمين, وإنما من جانب القوى العظمى التي كانت تضغط للسيطرة على قرارات الدولة العثمانية بشكل مباشر أو غير مباشر. وتلك هي الظروف التي انتهت بإقامة حماية فرنسية – بريطانية – روسية في اليونان, وحماية روسية في الصرب وإمارتا الدانوب (ولاشيا ومولدافيا), وقيام روسيا وإنجلترا بإجراءات مشابهة في فترات مختلفة تستهدف السيطرة على الحكوممة العثمانية نفسها.
ولقد أدركت قيادات الدولة العثمانية أنه ما لم يحدث إصلاح داخلي لمجمل أركان النظام السياسي للبلاد فلن يكون بإمكانهم أن يقفوا ضد الضغوط الخارجية أو ضد عناصر الهدم الداخلية من جانب المسيحيين والمسلمين, فمثلاً كان الجيش بصفة خاصة بحاجة إلى إعادة تنظيم شامل, ولكن التغيير في كل الأحوال أمر من الصعب تحقيقه دفعة واحدة . . فالمسيحيون كان بإمكانهم وبصعوبة قليلة نسبياً إقامة حكومات في بلادهم تصبح فيها الكنيسة احد إدارات الدولة ويكون رئيسها الشرفي الحاكم نفسه. ورغم أ، الثوار كانوا يستخدمون لهجة عدائية ضد المسلمسن إلا أن ثورتهم لم تأخذ شكل الصراع الديني. وأكثر من هذا وجدنا أن الصربيين والرومانيين ثم البلغار فيما بعد رأوا في سيطرة اليونانيين على سلك الكنيسة الأرثوذكسية عقبة أمام آمالهم الذاتية, خاصة وأن البطريركية كانت جزء من البناء السياسي العثماني.
وعلى العكس من هذا ظل النفوذ الديني إسلامياً مهيمناً في الحكومة العثمانية التي كانت ما تزال كيان إسلامي وليس تركياً ذلك أن الإسلام وطوال خمسة قرون كان يوفر أساساً لإمبراطورية عظمى تمكنت من تحقيق إنتصارات كبرى على الآخرين الأمر الذي جعل تغيير المؤسسات القائمة التي تم إحراز النصر بمقتضاها وكذا الأفكار المصاحبة أمراً صعباً, فضلاً عن أن نسبة كبيرة من "مواطني" الدولة كانت لهم مصلحة في الإبقاء على الأوضاع كما هي رغم تعاستها. والحال كذلك لم يكن من الممكن القايم بالإصلاحات وتمريرها إلا في حالة تقديمها على أنها وسيلة لتقوية الأساليب القديمة السائدة.
والحق أن ثورة البلقان لم تكن كما رأينا انتفاضة مسيحية ضد المسلمين بشكل دائم وواضح, بل كانت صراع طبقي وإجتماعي هؤلاء الذين انتفعوا من النظام القائم وأولئك الذين أضيروا منه واختنقوا بسببه. فمن ناحية كان رؤساء الملة المسيحية لا يشجعون الإصلاح إذ كانوا يرون فيه معولاً يحطم وضعهم ومكانتهم ويقود إلى علمنة مجتمعهم, وبعض التجار المسيحيين والنبلاء الذين كانوا مستفيدون إستفادة كبرى من التعاون مع الدولة العثمانية لم تكن لديهم رغبة في تغيير النظام السياسي القائم, والعلماء الذين يسيطرون على التعليم وأمور الشريعة في الدولة لم يروا أية ميزة في إتخاذ إجراءات إصلاحية تقدمية قد تؤدي إلى وضع نظام تعليم عام طبقاً للنموذج الأوروبي أو الأخذ بنظام تشريعي منفصل عن الشريعة الإسلامسة, بل إن كل من قادة المسيحيين والمسلمين المحافظين عارضوا أيضاً الأفكار الغربية لأنها في رأيهم لا بد وأن تؤدي إلى إقامة دولة عثمانية لا محالة تصبح فيها المؤسسات الدينية في وضع هامشي وثانوي.
وإذا كان ولا بد من إصلاح النظام العثماني فإن الطريق إلى الإصلاح ينبغي أن يسير في نفس الإتجاه الذي سارت فيه ولايات البلقان في ثلاث خطوات, الأولى إقامة إدارة مركزية قانونية يدين أعضاؤها بالولاء لحكومة الولاية, والتوقف عن سن قوانين تطبق في كل المناطق دون تمييز, وهذه الخطوة تمت بمعرفة اللسطان ومجموعة من رجال الإدارة المقربين منهم, وثانياً الأخذ بنظام التمثيل النيابي لشغل بعض وظائف الحكومة. أما الخطوة الثالثة وهي محاولة نقل الرقابة التي تمارسها الحكومة إلى جمعية تشريعية ينتخب أعضاؤها فلم تتحقق إلا عن طريق الثورة.
وعلى أن الدولة العثمانية كانت تواجه فيالقرن التاسع عشر حالة حرب دائمة في الداخل والخارج على السواء بعكس ولايات البلقان. وبينما كان بإمكان ولايات البلقان الإعتماد على صداقة دولة أو أكثر من الدول الكبرى لتحقيق مطالبها القومية لم يكن من الممكن للباب العالي أن يضع في حساباته الحصول على دعم قوى أخرى له, بل قلد كان يشعر بعد منتصف القرن التاسع عشر بالخطر من دول يفترض أنها صديقة مثل إنجلترا وليس ورسيا عدوته التقليدية. وواقع الأمر أن الدولة أخذت بالإصلاح تحت ضغط القوى الخارجية وأثناء الأزمات الشديدة التي كانت تتعرض لها ولم تقم به طواعية.
وثمة محاولة حقيقية للإصلاح حدثت كما رأينا في عهد السلطان سليم الثالث عندما بدا واضحاً أن الدولة علىوشك الإنهيار بسبب التمرد الداخلي الذي تحرك ضدها من كل الأعيان المسلمين والمتمردين المسيحيين الأمر الذي اضطر السلطان للبدء بإصلاح أحوال الجيش أولاً, ولمتكن تلك هي المحاولة الأولى في هذا الشأن فقد سبقتها محاولات في عصور سابقة. ولما كانت فرنسا تعتبر أكبر دولة عسكرية آنذاك وأقدم حليف أوروبي للعثمانيين كان من الطبيعي أن يتجه السلطان سليم الثالث إليها طلباً للمساعدة فاستقدم لهذا الغرض مستشارين عسكريين فرنسيين لتأسيس جيش حديث علىالنموذج الأوروبي. لكن محاولته فشلت فشلاً ذريعاً بسبب تمرد العساكر في 1807 فاضطر إلى التراجع عن محاولته بل لقد تم إغتياله في العام التالي (1808) وخلفه السلطان محمود الثاني يرتب لتحركه لمواجهة الإنكشارية ترتيباً جيداً فنراه يستميل إلى جانبه المؤسسة الدينية ويحصل على تأييد المفتي(شيخ الإسلام) والعلماء للتخلص منهم لتأسيس جيش حديث على أساس أن الدولة العثمانية وهي دولة إسلامية أصبحت مهددة ويتعين تقويتها للدفاع عنها والإنكشارية أعجز من أن تقوم بهذا الدور. غير أن الإنكشارية رفضت قبول جيش جديد ينتقص من ميزاتها ومكانهتا ومن ثم أعلنوا التمرد في 1826. وفي هذه المرة كان السلطان قد أعد للأمر عدته حيث سحق التمرد وقرر إلغاء نظام الإنكشارية, وحل الطريقة البكتاشية الصوفية التي كانت سند الإنكشارية. وبهذا فقدت القوى المحافظة في الإمبراطورية أحد مصادر قوتها العسكرية في مواجهة السلطان.
وعلى الرغم من أن إلغاء الإنكشارية كان أمراً ضرورياً, إلا أنه ترك الدولة العثمانية في وضع ضعيف ومكشوف لأنه لم يكن قد تم إعداد الجيش البديل بعد. ففي نفس العام الذي تم فيه إلغاء الإنكشارية وجدنا أن روسيا تفرض معاهدة آكرمان على الباب العالي, وفي 1827 اشتركت كل من فرنسا وإنجلترا وروسيا في ضرب حصار بحري على الدولة العثمانية انتهى بهزيمتها في موقعة نفارينو وإنتهاء الحرب الروسية-التركية. وفي 1829 وبمقتضى معاهدة آدريانوبل تنازلت الدولة العثمانية عن دلتا الدانوب لروسيا, واضطرت للموافقة على وضع الصرب وإمارتا الدانوب (ولاشيا ومولدافيا) تحت الحماية الروسية. ثم شهد عام 1830 تأسيس دولة اليونان المستقلة والإعتراف بالحكومة الذاتية للصربيين, وإحتلال فرنسا للجزائر الذي كان إيذاناً بإجتياح أوروبي لبلدان شمال أفريقيا المرتبطة بالدولة العثمانية بدرجة أو باخرى. ومن سوء الحظ أنه في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تخسر فيه كثيراً أمام أعدائها التقليدين في أوروبا كانت تتعرض لتهديد خطير جراء تحركات محمد علي باشا والي مصر.
والحقيقة أن محمد علي باشا ذلك الحاكم القدير ذو المطامع الكبيرة بدأ يستعد للتحرك لتحقيق أهدافه بعد أن انتهى من تنظيم "دولته" وتكوين جيشه الممتاز. وعلى الرغم من أنه لم يحصل على جزيرة كريت مكافأة له على خدماته للسلطان في إخماد الثورة اليونانية, إلا أنه لم يحصل على جزيرة المروة التي كان يتطلع إليها, وعلى هذا طلب أن يأخذ سوريا من بابا التعويض. ولما رفض السلطان محمود الثاني هذا الطلب قامت القوات المصرية بمهاجمة الجيش العثماني وأوقعت الهزيمة به في معركة قونية 1832. وهكذا أصبحت الدولة العثمانية مرة اخرى تواجه خطراً حقيقياً إذ أصبحت استانبول عرضة للهجوم. وفي هذا المنعطف الخطر اضطر اللسطان لطلب مساعدة روسيا التي أسرعت بإرسال أسطولها إلى المضايق وعقدت مع السلطان معاهدة "خونكيار أسكله سي" في يوليو 1833, وهي معاهدة على جانب كبير من الأهمية لأنها معاهدة تحالف ودفاع مشترك أظهرت مدى سيطرة روسيا على الشؤون العثمانية. والخلاصة أنه كان قد تم إنقاذ السلطان من خطر محمد علي إلا أن معاهدة كوتاهية التي أنهت حرب الشام أعطت لمحمد علي السيطرة على سوريا, وفي القوت نفسه كانت فرصة للسلطان لكي يلتقط فيها أنفاسه من الحروب الخارجية.
وعلى الرغم من أن السلطان محمود الثاني كما رأينا كان قد شرع في إصلاح أحوال الإمبراطورية, إلا أن التغيرات الأساسية حدثت بعد الحرب مع روسيا. وفي هذا الخصوص فإن محمود الثاني يعتبر "بطرس الأكبر" للدولة العثمانية نظراً لطبيعة الإجراءات التي قام بها أثناء حكمه. فقد وحه لتغيير دولته بإتجاه الغرب الأوروبي من حيث تغيير مؤسسات الحكم شكلاً ومضموناً, فرأيناه يركز مثلما فعل سلفه السلطان سليم الثالث على تقوية الجيش الذي ثبت عجزة أما ثورة اليونانيين, وأما محمد علي باشا مصر. ومن هنا سعى للحصول على الخبرة الأجنبية وهكذا وفي 1835 وفد إلى استانبول هلموت فون مولتكه وعدد من الضباط البروسيين لتدريب الجيش العثماني. ثم جاء مستشارون إنجليز لتطوير الأسطول الحربي, وتم إيفاد طلاب أتراك للتدريب العسكري خارج البلاد.
ثم التفت السلطان محمود الثاني إلى إعادة تنظيم الإدارة السياسية, وهي مشكلة كانت ضاغطة على الأوضاع العامة. وآنذاك كان السلطان يحكم ممتلكاته حكماً مطلقاً بإستثناء الولايات التي يحكمها محمد علي باشا (مصر والسودان والشام), ولم يكن بمقدور الأعيان المحليين في أي منطقة أن يتحدوا سلطته. وكان هدفه الرئيسي تقوية السلطة المركزية وإيجاد مؤسسات للدولة تخدم هذا الهدف. كما كان يرغب في إعطاء نظام حكمه مظهر الحكومات الأوروبية. وفي هذا الخصوص قام بتغيير ألقاب المسئولين في السلطنة إذ أصبح لديه وزيراً للخارجية ووزيراً للداخلية وثالث للمالية. أما الصدر الأعظم فقد أخ لقب رئيس الوزراء رغم أن اللقب القديم ظل يستخدم لفترة قصيرة تالية. وتم تكوين مجلس وزراء يرأسه رئيس الوزراء يماثل أي مجلس وزراء أوروبي. كما منحت الإدارات المحلية في الأقاليم سلطات قيدت قبضة الحكومة المركزية على الأقاليم. ثم أجرى تعداد للسكان في 1831 لإستخدامه في تقدير الضرائب وتجنيد الشباب.
لقد واجه محمود الثاني مشكلة إيجاد المسئولين الذين يقدرون على شغل مختلف وظائف الإدارة الحديثة في الدولة الحديثة في الدولة من المتعلمين والمدربين تدريباً جيداً وهي ذات المشكلة التي واجهت حكومات دويلات البلقان الجديدة (اليونان, والصرب, ورومانيا). وفي هاذ الخصوص أبدى محمود الثاني بعض الإهتمام بمشكلة التعليم العلماني (المدني), لكنه لم يحرز إلا تقدماً ضئيلاً في هذا المجال, فمثلاً تأسست مدرسة للطب في 1827 دون إحراز تقدم كبير ذلك أنه لم يكن من السهل توفير المدرسين اللازمين لهذا النوع من التعليم.
ولما كانت المشكلات الخارجية تحوط الدولة العثمانية من كل جانب فقد إعترف السلطان محمود الثاني بحاجته إلى تحسين علاقاته مع ملوك أوروبا وأباطرتها.وعلى هذا ففي 1834 تم إفتتاح سفارات دائمة في العواصم الرئيسية في بلاد قامت بدور مهم في تحسين صورة الدولة وأحوالها فيما بعد.وفي تلك العواصم تعلم كثير من المصلحين ورجال السياسة الأتراك وخبروا الحياة في أوروبا مثل علي باشا وفؤاد باشا. ولما كانت العلاقات المباشرة مع دول أوروبا قد زادت ملحوظة فقد فرضت اللغات الأوروبية نفسها على السياسة العثمانية, وآنذاك لم يكن هناك إلا قلة من الأتراك يعرفون لغات أوروبية, وكان الباب العالي يعتمد إعتماداً كبيراً على المترجمين من اليونانيين والأرمن ولأن الثقة أصبحت مفقودة في اليونانيين بعد ثورتهم ضد الدولة أصبح البحث عن مصادر أخرى أمراً ضرورياً. ومن هنا تأسست إدارة للترجمة للتعامل مع مراسلات الدولة مع حكومات الدول التي لها سفارات في باريس. ومع البعثات التعليمية إلى فرنسا أصبح بإمكان الطلاب الأتراك تعلم اللفة الفرنسية وتلقي دروساً في بعض الموضوعات مثل التاريخ والحساب.
كما شهد عهد السلطان محمود الثاني تطورات أخرى مثل ظهور أول صحيفة باللغة التركية في ثلاثينات القرن التاسع عشر, وتأسيس نظام البريد في 1934. كما اهتم شان بطرس الأكبر في روسيا الذي يرتديه الموظفون والمسئولين فأدخل الطراز الأوروبي في الأزيء وإستبدل بالعمامة الطربوش. وبهذه التغييرات في الملبس والتعليم والسلوك بدات العملية التي سبق أن رأيناها في بلاد البلقان إذ سرعان ما بدات تتكون صفوة من رجال الإدارة تولت إدارة شؤون الحكومة وأخذت تنعزل تدريجياً عن جماهير الناس.
ورغم أن حكم محمود الثاني انتهى بكارثة خارجية إلا أنه لا ينبغي أن نغفل عن ذكر ما قام به من إنجازات, فقد كان هو الذي إتخذ الخطوات الأولى لتغيير تنظيم الدولة ونجح في تقوية الإدارة المركزية وتحمل في سبيل هذا حملات القوى الخارجية ضده, وكذا الجماعات المنشقة عليه من داخل البلاد. وأكثر من هذا فإن إلغاء الإنكشارية فتح الطريق أمام تكوين قوات محاربة أكثر كفاءة, وقضى على إمكانية قيام العناصر المحافظة والرجعية بالإطاحة بالحكم. ورغم أنه لم يستطع تحقيق رغبته في تكوين إدارة على درجة عالية من الكفاءة والقضاء على الفساد الحكومي, إلا أنه تمكن من التعرف على أحد مصادر الشكاوي الرئيسية للرعايا.
والواقع أن محمود الثاني واجه أثناء حكمه مشكلة محمد علي باشا والي مصر من حيث طموحه الواضح لإقامة دولة كبرى لنفسه ولأولاده. وفي هذا الخصوص لم ينس السلطان الإهانة التي تلقاها عام 1832 عندما قام محمد علي بضم بلاد الشام إلى ولايته في مصر. ولهذا وبمجرد أن تأكد من أن جيشه الجديد قد أصبح قوياً أعلن الحرب على تابعه محمد علي في 1839 ليرد الإهانة لكنه كان قراراً غير حكيم لأن جيش محمد علي بقايدة إبنه إبراهيم باشا أوقع الهزيمة بالجيش العثماني بل لقد إنضمت معظم قطع الأسطول العثماني إلى أسطول محمد علي وعلى أثر ذلك مات السلطان وخلفه عبد المجيد ذو الستة عشر عاماً. وهكذا وفي خلا إسبوعين إثنين فقط وقعت ثلاث أحداث جسام وهي هزيمة الجيش العثماني, وموت السلطان محمود الثاني, وفقدان الأسطول.
وفي هذا المنعطف من أحوال الدولة العثمانية بدت أنها على وشك الإنهيار. وآنذاك لم تكن الدبلوماسية الأوروبية ترى أن روسيا تمثل تهديداً للدولة العثمانية, بل لقد كانت تهتم أكثر وأكثر بالعلاقة الوثيقة التي اصبحت تربط بين فرنسا ومحمد علي باشا في مصر والذي كان قد إنتصر على العثمانيين. وخوفاً من حدوث خلل في توازن القوى في البحر المتوسط تكاتفت كل من روسيا وبريطانيا والنمسا وبروسيا للعمل على إعادة بناء الأوضاع القاتمة. وأمام هذا التحالف الدولي إندفعت فرنسا بكل قوتها لتأييد محمد علي الذي رغم إنتصارته لم يحصل في التسوية الأخيرة للصراع إلا على ولاية مصر والسودان حكاً وراثياً. وقد كان بإستطاعته سحق الجيش العثماني لكنه لم يكن يقدر على مواجهة الضغط الدولي. وفي الوقت نفسه جمدت روسيا معاهدة خونكار إسكله سي مع الدولةالعثمانية، وإنضمت إلى القوى الدولية في إطار إتفاق جديد، ومن ثم قضت معاهدة المضايق 1841 بوضع المنطقة تحت الرقابة الدولية لأول مرة, وقيدت في الواقع صلاحيات السلطان العثماني على ممتلكاته, إذ قررت أنه في حالة السلم تغلق المضايق أمام السفن الحربية الأوروبية. وكان هذا الشريط عبارة عن مساومة بين المصالح الروسية والبريطانية, ومعناه في نهاية الأمر أن السفن البريطانية لم يعد بإمكانها أن تهدد شواطئ روسيا على البحر الأسود, كما لم يعد بغمكان البحرية الروسية تهديد الملاحة البريطانية في البحر المتوسط.
على كل حال، كان عهد السلطان عبد المجيد إفتتاحاً لحركة الإصلاحات الكبرى في السلطنة المعروفة بالتنظيمات وإستهدفت المحافظة على الإمبراطورية مثلما كان يريد سلفه السلطان محمود الثاني. وكان مغزى التنظيمات من وجهة نظر شعوب البلقان يكمن فيما إذا كان بالإمكان تغيير بناء الإمبراطورية ليكون أكثر جاذبية لسكانها غير المسلمين والإنصراف عن البديل القومي لشعوبها, أو أن يكون البناء من القوة بحيث تصبح الثورة الثومية في البلقان أمراً مستحيلاً. وقد كان وضاحاً منذ البداية أن المصلحين من رجال التنظيمات إستهدفوا تقوية الإمبراطورية بحيث تستحيل الثورة ضدها,وهذا معناه التغافل عن مطالب المسيحيين في المساواة. وفي الوقت نفسه لم يكن زعماء البلقان يسعون لتحقيق المساواة بقدر ما كانوا يرومون وجوداً قومياً منفصلاً. غير أن التصور العثماني لمفهوم المواطنة آنذاك لم يجد إلا إستجابة ضئيلة من أهالي البلقان. وفي الإتجاه نفسه لم تسعى أي مجموعة إسلامية ذات مغزى نحو إصلاح الدولة على أساس المساواة الدينية والقومية فإذا لم يكن من الممكن تحشي الإصلاح,فإن رعايا الدولة من غير المسلمين كانوا أكثر ميلاً للنموذج المصري الذي كان يمثله محمد علي باشا من حيث تحقيق إنفاصل مشابه عن الدولة.
غير ا، السلطان عبد المجيد لم يقم بأي إجراء حقيقي محدد لإحداث التغيير المنشود, إذ وقعت القيادة أكثر وأكثر في يد عناصر نشطة وحيوية من رجال الدولة أمثال مصطفى رشيد باشا الذي يعد نموذجاً ممتازاً للمشئول العثماني الجديد والذي يعرف طريقه جيداً, قبل أن يتولى منصب الصدر الأعظم كان سفيراً لبلاده في فرنسا وبريطانيا. ومما ساعد في إدارة شؤون الإمبرطورية أن السطان نفسه كان شحص معتدل المزاج وكان من الذكاء بحيث أعطى وزراءه حرية التصرف. ولقد صادف هذا التفوق العثماني الجديد في الإدارة فترة طويلة من التراخي الدولي تجاه شؤون الشرق الأدنى. فمنذ إنتهاء الأكمة المصرية (أي تحجيم محمد علي باشا في مصر) وحتى إندلاع حرب القرم (1840-1854) كانت روسيا وبريطانيا في وفاق عادي بشأن سياستهما الشرقية. ورغم أن النفوذ البريطاني في استانبول ظل قويا كالعادة, إلا أن الحكومة البريطانية لم تقم بأي مجهود إضافي لتأكيده, بل لقد كانت ما تزال معنية بكيفية المحافظة على تكامل الإمبراطورية العثمانية وإصلاحها بعد توقيع معاهدة بلطه ليمان في 1838 التي كانت لصالح التجارة البريطانية إذ فتحت ابلاد العثمانية للصادرات البريطانية على أساس قاعدة حرية التجارة.
ومن المعروف أن خط شريف كولخانه (1839), وخط شريف همايون (1856) يعتبران علامتين رئيسيتين لعصر التنظيمات العثمانية، إذ صدر الأول أثناء الأكمة مع محمد علي باشا والي بمصر وكان الصدر الأعظم مصطفى رشيد يسعى لإقناع القوى الدولية بأن الإمبراطورية العثمانية تستطيع أن تصلح من أحوالها وتحافظ على كيانها كدولة تملك مقومات الحياة والبقاء. وكان خط كولخانه عبارة عن بيان بالبرنامج الذي تنوي الحكومة تقديمه في شأن الإصلاح وكان يستهدف تحقيق مزيد من مركيزة الدولة وبيروقراطيتها, وكسب التأييد الشعبي للسلطان وموظفيه المسئولين ضد النبلاء المحليين وقيادات بلاد البلقان. وقد أكد هذا المرسوم على إتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين حياة الرعايا وشرفهم وثروتهم, والمساواة في الضرائب, وإصلاح نظام جمع الضرائب,ووضع نظام جديد للتجنيد العسكري. وقد قدمت هذه الضمانات لكافة الرعايا العثمانيين بصرف النظر عن إختلاف عقائدهم. ومن الطريف أن نذكر أنه تم تبرير هذه التصريحات بالقول بأنها عودة للأساس القديم الذي قامتعليه الإمبراطورية, إذ جاء في إعلان الخط "أنه على مدى قرن ونصف من الزمان تعاقبت حوادث وقضايا مختلفة صرفت الأنظار عن أحكام الشريعة الإسلامية والتنظيمات التي كانت تتقرر بحيث إنتهت قوة الدولة وثروتها إلى الضعف والفقر.
ورغم قوة النفوذ البريطاني في استانبول إلا أن المصلحين العثمانيين كانوا يفضلون عادة إتباع النموذج الفرنسي في إصلاح الإدارة بشكل يشه ما حدث في دويلات البلقان بدرجة أو بأخرى. ففي 1840 صدر قانون جديد تمت صياغته على أساس مبدأ المساواة بين جميع الرعايا, وأدخلت بعض التحسينات على نظام التعليم المدني. وكان أهم إجراء تم في نظر البلقانيين وله مغزاه الأخذ بنظام جديد للحكم المحلي في عام 1840, وبمقتضاه تم تقييد سلطة حاكم الإقليم بتاسيس مجلس من النبلاء يدخل فيه غير المسلمين. على أن هذه المجالس التي تم تعيين أعضاؤها بمعرفة الحاكم لم تكن تخضع فقط لهيمنة المسلمين بل لقد كانت تعبر عت أولئك الذين لهم مصلحة في الأوضاع القائمة وبالتالي لم تكن لهم مصلحة في إجراء أي إصلاح. ويضاف إلى هذا محاولات الدولة تحسين نوعية المسئولين الذين توفدهم مزودين بتعليمات للقضاء على إستخدام الرشوة في قضاء الحاجات كما تقرر أن يكون رجال الإدارة المحلية مسئولون مباشرة أمام الحكومة المركزية وليس أمام الحومة المحلية. وفي هذا الإطار تم تنظيم دفع الرواتب بشكل دوري.
ولسوء حظ السلطان العثماني أن عملية التغيير التي شرع فيها قاطعتها الأزمات الخارجية التي واجهتها الدولة, إذ تجد السباق بين القوى العظمى للسيطرة على كل أجزاء الإمبراطورية أو بعضها. وكانت نفوذ روسيا في الدولة العثمانية كما سبق شرحه تفصيلاً في الصفحات السابقة يستند على قوتها العسكرية وعلى علاقاتها مع الجماعات القومية البلقانية, وعلى سلسلة من المعاهدات أعطتها حق الحماية على كل من الصرب وإمارتا الدانوب (ولاشيا ومولدافيا-رومانيا), وعلى حقوق معينة فيما يتعلق بالمسيحيين الأرثوذكس بشكل عام. أما مسألأة وضع روسيا الحقيقي فيما يتعلق بالكنيسة الأرثوذكسية فقد أصبح أمراً محل إهتمام دولي بسبب النزاع بين الكنائس الأرثوذكسية والكاثولكية على حقوق كل منها على بعض الأماكن المقدسة في القدس. ففي هذا النزاع وجدنا أن روسيا تؤيد الأرثوذكس على حين وقفت فرنسا إلى جانب الكاثوليك. وعندما إتخذت الحكومة العثمانية في 1852 موقفاً لصالح الفرنسيين كان رد الفعل عند روسيا عنيفاً إذ حركت جزء من قواتها تجاه استانبول وأوفدت رسولاً خاصاً إلى السلطان.
وفي فبراير 1853 وصل إلى استانبول الموفد الروسي الأمير ألكسندر منشيكوف Menshikov مزوداً بصلاحيات واسعة للتفاوض وقدم للسلطان في أسلوب من الخشونة والغطرسة عدة مطالب تتضمن إعترافاً عثمانياً صريحاً بحق روسيا في حماية المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية, وعقد معاهدة شبيهة بمعاهدة خونكيار إسكله سي على أن هذه الشروط التي حولت المسألة من مجرد نزاع حول الأماكن المقدسة إلى نزاع حول السيطرة على الإمبراطورية العثمانية دفعت ببريطانيا إلى مساحة النزاع.
الفصل الثامن الإمارتان المتحدتان (ولاشيا ومولدافيا) حتى عام 1876
كان مطلع خمسينات القرن التاسع عشر يعتبر فترة عصيبة بالنسبة للقومية الرومانية, فقد أدى إخفاق ثورات 1848 إلى تجديد التدخل الروسي والعثماني في الشؤون الداخلية لكل من ولاشيا ومولدافيا. وبدا واضحاً أنه لم تقع أحداث دولية معينة تردع هاتين القوتين (روسيا والدولة العثمانية) سيكون تحقيق القومية الرومانية وتوحيد الإمارتين تحت حكم أمير أجنبي أمراً محتملاً. وفي هذا الخصوص وفرت حرب القرم فرصة ما لتحقيق هدف القوميين الرومانيين. إذ أن معاهدة باريس (1856) التي أنهت الحرب ضمنت أنه لا يمكن لروسيا منفردة تقرير شؤون الإمارتين, وأنه لا يمكن إعادة فرض السيطرة العثمانية مرة أخرى. ولنتذكر في هذا الشأن أن المعاهدة استبدلت بالحماية اروسية ضمان القومية الكبرى. ومن ناحية أخرى كان من شأن المنافسة بين تلك القوى وعدم الثقة المتبادل بينها ما يحول دون فرض نفوذ حقيقي من أي قوة دولية على الإمارتين. كما كان حييد البحر الأسود وتخلي روسيا عن ثلاثة مناطق جنوبي بساربيا لمولدافيا كان خطوة في صالح هدف الإمارتين.
يضاف إلى هذا أن معاهدة باريس أعطت نابليون الثالث إمبراطور فرنسا الفرصة لمساندة الوضع القومي في الإمارتين. ففي نهاية حرب القرم إحتلت القوات النمساوية والعثمانية أراضي الإمارتين. ومن ثم واجهت القوى الدولية مشكلة الإتفاق على ماهية النظام السياسي الذي يمكن أن يحل محل الحماية اروسية والهيئات التشريعية القائمة هناك. وكان واضحاً أن تلك القوى في مناقشتها لهذا الأمر كانت تراعي مصالحها في المنطقة, كان نابليون الثالث الذي ظهر ىنذاك بمظهر راعي الحركات القومية الأوروبية يؤيد توحيد الإمارتين توحيداً تاماً تحت حكم أحد أمراء أوروبا من خارج الإمارتين. وقد أيده في هذا أميراً بروسيا وبيدمونت وكان كل منهما يعيش حالة من الجيشان القومي, وكذا روسيا التي كانت قد ارتبطت بفرنسا فيما عرف ببداية فترة قصيرة من التعاون في الشؤون لدولية. غير أن الدولة العثمانية وقفت ضد هذه القوى جميعاً إذ كانت ترى في إتحاد الإمارتين إنتهاكاً للحقوق التي نصبت عليها معاهدة باريس (1856), وخطوة من شأنها أن تؤدي إلى إستقلالهما لا محالة. وقد وقفت النمسا إلى جانب الدولة العثمانية في هذا الأمر لأنها كاهنت تخشى أساساً من ضياع ترانسلفانيا منها في قابل الأيام حيث كان بنامج القوميين الرومانيين يضع في أولوياته ضم ترانسلفانيا لدولتهم الجديدة, وأما بريطانيا فكانت تعارض توحيد الإمارتين في البداية بدعوى المحافظة على وحدة الإمبراطورية العثمانية من أجل التوازن الدولي.
ولما عجزت القوى الدولية عن التوصل إلى تفاهم ما في إجتماعهم بباريس حول المسألة إتفقت على القيام بمحاولة لإستطلاع رغبات الرومانيين أنفسهم (أهالي الإمارتين), وتحقيقاً لذلك قررت تلك القوى إجراء إنتخابات لما يعرف بالديوان في كل إمارة (إي المجلس) للتعرف على إراء الناس في النظام الذي قد يمنح للبلاد. وعلى هذا وفي يوليو 1857 أجريت أول إنتخابات لكنها كانت مزورة حيث حصلت الدوائر المحافظة التي كانت ترغب في عدم توحيد الإمارتين على أغلبية ملحوظة في مولدافيا تحت الضغوط التي مارستها الحكوةمة العثمانية وجماعات أخرى ضد التوحيد. ولقد أدت هذه النتيجة إلى نشوء أزمة بين فرنسا الت يكانت ترغب في إعادة الإنتخابات وبين بريطانيا التي كانت لا تزال مهتمة أساساً بالمحافظة على وحدة الإمبراطورية العثمانية. وأخيراً وفي إطار من المساومة وافقت فرنسا على ألا تمارس أي ضغط من أجل توحيد الإمارتين, ووافقت بريطانيا على إجراء إنتخابات جديدة وهي الإنتخابات التي أجريت في سبتمبر 1857 وإنتهت بإختيار مرشحين وحدويين لعضوية الديوان في كل من الإمارتين سرعان ما إقتراعوا في أكتوبر على وحدة الإمارتين تحت حكم أمير غير روماني. ولكن ولأن القوى الدولية لم تكن تقبل هذا الحل فقد أقدمت الحكومة العثمانية على حل مجلس الإمارتين أي الديوانين المنتخبين, وأصبح الأمر في يد القوى الدولية من جديد.
على كل حال . . ففي مايو 1858 إجتمع ممثلو الدول العظمى في باريس لمناقشة المسألة الرومانية, وكانت فرنسا عند موقفها الأول المؤيد للوحدة على حين وقفت ضدها كل نم النمسا والدولة العثمانية. ثم تم التوصل إلى نوع من المساواة تمت صياغتها في ميثاق بتاريخ 19 أغسطس 1858 حل محل الهيئات التشريعية الأساسية القائمة ونص على تنظيم سياسي جديد للإمارتين بإسم "إتحاد إمارتي مولدافيا وولاشيا" مع بقائهما تحت السايدة العثمانية وبضمان القوى الدولية. كما نص الميثاق على إيجاد مؤسسات متوازية في الإمارتين ولكن كل منهما منفصل عن الآخر فيكون لكل إمارة "خوسبدار" ورئيس في فوكشاني Focsani ومحكمة إستئناف واحدة. وإستمر العمل بنظام إنتخاب الخوسبدار بواسطة جمعيات خاصة ويوافق عليه السلطان, على ا، تتوزع السلطة التشريعية بين الجمعية التشريعية في كل إمارة والهيئة المركزية في فوكشاني. وتقرر إنتخاب أعضاء الجمعيتين كل سبع سنوات, ويكون الوزراء في كل إمارة مسئولون أمام الجمعية, ويكون من صلاحية كل جمعية ضبط الموازنة المالية والضرائب. ولأن الإنتخابات تمت على أسس محددة غاية في التقييد فإن الأعضاء الذين فازوا كان يعني إستمرار سيطرة البويار (أي كبار الملاك) على أمور الدولة العثمانية.
ولقد تضمن الميثاق الجديد عدة تعديلات على نظام الأراضي حيث نصت المادة 46 منه على "إلغاء كل المميزات والإستثناءات والإحتكارات التي تتمتع بها طبقات معينة, وتعديل القانون الذي ينظم علاقات أمراء الإقطاع بالفلاحين فوراً من ا<ل تحسين أحوال الفلاح". كما نصت المادة نفسها على "أن كل المواطنين متساوون في الخضوع للضرائب وفي العمل في الوظائف العامة في كل من الإمارتين, وأن حرياتهم الفردية مضمونة ومصونة".
ورغم أن ميثاق 19 أغسطس كان علامة متقدمة على طريق الوحدة, إلا أنه فيما يبدو لم يحقق رغبات القوميين والعناصر السياسية الأكثر نشاطاً في كل من الإمارتين. ومع ذلك فقد رحبت تلك العناصر بإنشاء الهيئة المركيزة في فوكشاني لإصدار تشريعات للإمارتين بعد عرض كل تشريع على الجمعية المختصة في كل إمارة, وكذا موافقة القوى العظمى بشأن مسألة الوحدة الرومانية فإن نصوص ميثاق 19 أغسطس تصبح أفضل شيئ كان يمكن التوصل إليه في مثل تلك الحالة.
وبتوثيق الميثاق بدأت الإمارتين تستعدان للإنتخابات لإختيار الخوسبدار الجديد لكل منهما. وقد جرت الإنتخابات كما كان الحال في المرات السابقة وسط فوضى وإتهامات متبادلة بين المرشحين, وكل إمارة كانت تحت مسئولية قائمقام بثلاثة أشرطة. والحقيقة أن وظائف كل من هذه الهيئات لم تكن واضحة, وكان أعضاؤها منقسمون بين أولئك الذين يرغبون في إقامة الوحدة وبين المحافظين الذين يرفضونها. وفي الأسبوع الأخير من ديسمبر أجريت في مولدايفا أول إنتخابات ورغم أن العناصر الوحدوية التي نجحت في الإنتخابات لم تهيمن على الجمعية التشريعية إلا أنهم نجحوا بلا شك في ضمان إنتخاب ألكسندر كوزا Cuza في 17 يناير 1859 (خوسبدار). وفي ولاشيا جرت الإنتخابات في مطلع فبراير ولم يفز الوحدويون لكن المحافظين إنشطروا بين المرشحين المتنافسين. وفي أثناء إجتماعات الجمعية التشريعية في بوخارست كانت المظاهرات الحماسية للوحدة تطوف بالشوارع مؤيدة للوحدويين داخل الجمعية. ورغم أن الأعضاء كانوا منقسمين على أنفسهم إلا أنهم إختاروا في النهاية كوزا وكان إنتخابه يعد نصراً للقيادات الليبرالية وخطوة كبيرة تجاه تحقيق برنامج ال 48 وبهذا إرتبطت الإمارتين برباط شخصي تمثل في شخصية كوزا.
وكانت النتائج التي أسفرت عنها الإنتخابات تعد تحطيماً لميثاق 19 أغسطس نصاً وروحاً, فإن القوى العظمى بدأت تتشاور من جديد حول ما يمكن عمله. وكما هو متوقع فقد وقفت فرنسا بجانب الوحدة الرومانية, وأيدتها في هذا روسيا التي كانت ترغب في المحافظة على الوفاق مع فرنسا الذي تأسس بعد حرب القرم. وظلت النمسا والدولة العثمانية تعارضان الوحدة, بينما ترغب بريطانين كعادتها في التوصل إلى مساومة. والحقيقة أن المشكلة الرئيسية التي كانت تواجه أولئك الذين يتطلعون لتنفيذ الميثاق بحذافيره هي كيف يفرض على الإمارتين إجراء إنتخابات جديدة في الوقت الذي لم تكن هناك دولة من الدول العظمى ترغب في السماح للسلطان العثماني بإرسال قوات لفرض القرارات التي تم التوصل إليها فيما سبق.
على كل حال . . لقد أدى إندلاع الحرب بين فرنسا والنمسا على الأراضي الإيطالية في أبريل 1859 إلى تقديم مساعدة قوية للقضية الرومانية من حيث لا يحتسب الرومانيون أنفسهم, فقد أدت الحرب إلى إبعاد النمسا تماماً من المفاوضات الدبلوماسية بشأن الإماريتن, ذلك أ، هزيمتها في الحرب جعلها عن فرض أرائها في المسألة الرومانية. وأخيراً وفي سبتمبر 1859 وافقت القوى العظمى على الإعتراف كحالة إستثنائية بالإختيار المزدوج من الإمارتين لألكسندر كوزا, مع التأكيد على المبدأ الفصل بين الإمارتين والموافقة فقط على تلك الوحدة الشخصية مدى حياة الكسندر كوزا.
غير أن الأمير الكسندر كوزا كما بدا للوهلة الأولى لم يكن هو الشخص المناسب ليقوم بالدور الذي استدعى من اجله لإجراء إصلاح حقيقي في الإمارتين لأكثر من سبب, فقد إرتبط إسمه قديماً بالليبراليين, وإنضم لثورة 1848 في مولدافيا وعلى أثرها نفي خارج البلاد لفترة قصيرة, ثم عاد في 1849 وخدم في الإدارة تحت حكم كل من غيكا Ghica ونيقولا فوجوريديس Vogorides. وعلى هذا كان إنتخابه ف ي ياصي Jassy مفاجأة كاملة للجميع لأكثر من عامل, فهو لم يكن يسعى للمنصب, ولم يكن بالرجل الذي له تأثيره على الغير, ولم يكن وراءه حزب أو جماعة تسانده, ويعاني من قصور ملحوظ في الكفاءة. ولكن يبدو أن أنصاره من الليبراليين رأوا فيه أفضل بديل سيء يحكم البلاد بدلاً من أن يتولى أمير أجنبي الحكم. وكان على كوزا في نهاية الأمر وبكل ما عرف غنه من خصائص أن يتعامل مع الموقف الداخلي الصعب, والمنافسة المستمرة بين السياسيين الطموحين, والضغوط القائمة من القوى الخارجية.
والحقيقة أن الأنتخاب "المزدوج" الذي تم بمقتضاه إختيار كوزا حاكماً أسهم قليلاً في تبسيط مشكلة التنظيم السياسي الذي تم إقراره بمقتضى أغسطس, فقد أصبح للإمارتين خوسبدار واحد ألا وهو كوزا وهيئة تشريعية مركزية, ولكن مؤسسات الخرى بقت كما هي منفصلة فلكل إمارة جمعيتها التشريعية ونظامها الإداري الخاص بها. وعلى هذا لم يقم كوزا بعمل شيء ذا مغزى أثناء توليه منصب الخوسبدارية ومما حال دون ذلك أن كل من الليبراليين والمحافظين على ما بينهما من تناقض كانوا مهيمنون على الحياة السياسية في البلاد وكانوا يعارضون حكم كوزا رغم أنهم جميعهم يمثلون أقلية عددية بين الرومانيين بشكل عام. فالمحافظون الذين يمثلون إلى حد كبير كبار ملاك الأراضي الزراعية لم يكن لديهم برنامجاً سياسياً حقيقياً قوياً, ولكنهم وبسبب نظام التصويت سيطروا على الجمعيات التشريعية. وأدت مواقف التحزب والتشبع بينهم إلى صعوبة تكوين جبهة واحدة. أما الليبراليون فكانوا على النقيض سياسيون بدرجة أفضل ويتكونون من صغار الملاك والموظفين وبعض المهنيين ورجال الأعمال ممن تزعموا ثورة 1848 وهم الذين أمدوا الإمارتين بالسياسين الأكفاء, فضلاً عن أن بعضهم كانوا مع فكرة الإصلاح الزراعي بعكس الذين يرديون الإبقاء على الأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية على ما هي عليه.
وفي كل الأحوال كان جهاز الحكم المربك والمعقد, وكذا التنافس الحاصل بين القوى السياسية جعل تجربة إمارتين منفصلتين على ذلك النحو من الصعوبة بمكان. لكن فعلياً شأن زعماء البلقان الآخرين كان يدرك أن أية خطوة تجاه إتحاد الإمارتين إتحاداً فعلياً هي المسألة الوحيدة التي يمكن أن تتوحد عندها كل الجماعات السياسية المتنافسة بمن فيهم العناصر المحافظة التي تعارض كوزا والذين قد يوافقون مع الأغلبية على الخطوة الأولى على طريق الوحدة, ألا وهي التوحيد الإداري للإمارتين. وعلى هذا قرر كوزا بشيء من الحكمة أن يعمل تجاه هدف الوحدة ليس من خلال المؤسسات القائمة ولكن من خلال التفاوض مع الدولة العثمانية صاحبة السيادة على افمراتين. وهكذا وفي ربيع 1861 حصل على موافقة السلطان العثماني على أن يكون للإمارتين وزارة واحدة وجمعية تشريعية واحدةوإلغاء الجمعية التشريعية المركزية. غير أن هذا الشكل الوحدوي الذي توصل إليه كوزا كان مرهوناً بوجوده في الحكم. وبما أن تلك التغيرات التي أحدثها كانت تعني تغييراً لميثاق أغسطس فكان لا بد من ضمان رضا القوى الدولية التي وقعت على الميثاق. لكن روسيا عارضت خطوة وحدة الإمارتين حيث رأت أن ما حدث قد يعني تعيين حاكم أجنبي غير كوزا فضلاً عن أنه يعد إنتهاكاً للمعاهدات الدولية بهذا الشأن. أما الدولة العثمانية صاحبة السيادة على الإمارتين فلم تعارض خطوة الإتحاد التي قام بها كوزا. وعلى هذا قبلت القوى الدولية في ديسمبر 1861 التوحيد الكامل للإدارة في الإمارتين ولكن طوال فترة حكم كوزا. وكان هذا القبول رغم تقييده بحياة كوزا يعد إنجازاً عظيماً في نظر القوميين الرومانيين إذ كان يعني أن دولة رومانية حقيقية قد وجدت للمرة الأولى في التاريخ الحيث حتى لقد كان بإمكان كوزا أن يقول في ديسمبر "أيها الرومانيون لقد تحققت الوحدة . . وتأسست القومية الرومانية . . لتحيا رومانيا". وفي الثالث من فبراير 1862 تشكلت أول حكومة واحدة للإمارتين برئاسة الشخصية المحافظة باربو كاتارجيو Barbu Catargiu, وفي الخامس من فبراير تمت الدعوة لإجتماع الجمعية التشريعية الواحدة للإمارتين وأصبحت مدينة بوخارست عاصمة الدولة الجديدة.
غير أن هذا التغيير السياسي لم يقلل من جحم المشكلات التي كان على كوزا مواجهتها, إذ كان عليه أن يتعامل مع المعارضة الداخليةو ويواجه مشكلتين متداخلتين وهما الإصلاح الزراعيو وتوسيع قاعدة التصويت في الإنتخابات العامة,لأنه أدرك أن بقاء قاعدة التصويت المحدودة المعمول بها بمقتضى قانون الإنتخاب يعني باقء سيطرة العناصر المحافظة على الجمعية التشريعية الذين سوف يسعون بكل الطرق للإبقاء على نظام الأراضي القائم. وطالما ظل المحافظون يسيطرون على الجمعية التشريعية فلم يكن من الممكن تحقيق أي خطوة تجاه الإصلاح الزراعي مع أنها مسألة كانت شديدة الإلحاح وآنذاك كان المشهد السياسي يتلخص في أن كاتارجيو رئيس الحكومة يتزعم المحافظين, وأن ميخائيل كوجالينشينو Kogalinceanu يتزعم الليبراليين. فلم اغتيل كاتارجيو في يونيو 1862 خلفه نيقولا كريتوليشكو Cretulescu وهو شخصية محافظة أيضاً.
وفي أكتوبر 1863 إتخذ كوزا خطوة حاسمة بتعيين كوجالينشينو زعيم الليبراليين رئيساً للحكومة وهو من مولدافيا, وبدأت البلاد تحت قيادته مرحلة عظيمة من التغيرات الإجتماعية والإقتصادية كان أبرزها تخصيص الأوقاف الدينية للأغراض الدنيوية أي علمنتها, وكذا إصدار قانون الإصلاح الزراعي. وتجدر الإشارة إلى أن الرجل أقدم أولاً على علمنة الأوقاف الدينية على إعتبار أنه إجراء لن يلقى إلا معارضة ضئيلة. والحاصل أنه مه نهاية حكم الفناريين في 1820 كما سبقت الإشارة حاولت كل حكومة في كل من الإمارتين التعامل مع هذه المسألة لتحرير ربع مساحة رومانيا تقريباً من السيطرة الأجنبية (أي الأوقاف الدينية التي هي ملك البطريركية اليونانية) بغرض إمتلاك هذه الأراضي الغنية بما تدره من ريع هائل. ولكن لم يكن من السهل إتخاذ إجراء ضد رؤساء الأديرة أصحاب الأوقاف الدينية في الماضي ذلك أنهم يعتبرون أنفسهم غير خاضعين للنظام القانوني للدولة, وقد أيدتهم في هذا الموقف روسيا التي كانت لا ترغب في إضعاف مكانة البطريركية العامة في استانبول. وفي الوقت نفسه كانت كل الطبقات في الإمارتين تعارض الميزات الخاصة التي يتمتع بها الرهبان وهيمنتهم على مساحات واسعة من الأراضي. فرجال الدين الرومانيون كانوا ممتعضين من بقايا الهيمنة اليونانية عليهم, والبويار يأملون في إساتغلال هذه الأراضي لصالحهم, والفلاحون كانوا يعلمون تماماً أن الذين بفلحون أراضي الأديرة أسوأ حالاً من الذين يعملون في الإقطاعات الخاصة.
والحاصل أنه بعد 1821 بذلت محاولات جادة للتوصل إلى إتفاق مرضي عن طريق التفاوض وفي 1843 عرض الرهبان أن يدفعوا مبلغاً محدداً من المال للحكومة لكن هذا العرض لم يكن مرضياً من وجهة نظر الإمارتين. وظل الأمر على ما هو عليه حتى بعد أن تحققت الوحدة بين الإمارتين, إذ كان كل من الطرفين يتمسك بوجهة نظره, فالرهبان لم يكونوا على إستعداد للإستسلام في المسائل الكبرى, والحكومنة الرومانية تريد السيطرة الكاملة على أراضيها. وفي هذا الخصوص بقيت روسيا بإعتبارها الوسيط المنطقي والدولة الأرثوذكسية الوحيدة والكبرى في المنطقة منحازة للبطريركية. ولما كانت المفاوضات مع الرهبان في هذا الشأن تسير ببطء وتتعثر نظراً لتمسك الرهبان بموقفهم قرر كوزا الإنصراف عن التفاوض وإتخذ قراره في ديسمبر 1863 بعلمنة الأوقاف الدينية,ووافقت الجمعية التشريعية على نزع ملكية الأوقاف مقابل تعويض. وعندما إحتجت القوى الدولية بما فيها الدولة العثمانية أعلن أن هذا شأناً رومانيا داخلياً وظل البطريرك على موقفه المعارض في صلابة لكنه لم يحصل على شيء في النهاية.
وإذا كانت مصادرة أراضي الأوقاف الدينية لقيت تجاوباً شعبياً من كافة الطبقات إلا أن مسألة الإصلاح الزراعي أثارت كثيراً من الإعتراضات الداخلية بل لقد أدت إلى أزمة سياسية. ففي أبريل 1864 طرح على الجمعية التشريعية التي تسيطر عليها أغلبية من العناصر المحافظة التصويت على مشروع قرار بتوجيه اللوم إلى رئيس الحكومة كوجالينشينو لكن كوزا رفض إقالته بل لقد أقدم على حل الجمعية في الشهر التالي (14 مايو 1864), وأعلن أنه سوف يجري إستفتاء عاماً على قانون إنتخاب جديد بشأن توسيع قاعدة الناخبين لكنه كان يستهدف زيادة العناصر المؤيدة له. ولقد نجح هذا الإجراء الذي بعد إنقلاباً فعلياً وإستخدم كافة أجهزة الحكومة المركزية لتويجه عملية التصويت فحصل على 682621 صوتاً مقابل 1307 صوتاً وإمتناع 70220 عن التصويت. وحيث أن ما حدث يتصل بميثاق أغسطس بشكل أو بآخر فكان لا بد من موافقة القوى الدولية على ما تم من إجراءات. والحاصل أن السلطان العثماني إحتج على ما حدث, وحيث الدول الأوروبية الضامنة لوحدة الإمارتين أو دولة رومانيا الجديدة لكن بدا أنها سوف تدخل في أية مسألة تتصل بعلاقة التبعية بين رومانيا والدولة العثمانية.
وبإنتخاب جمعية تشريعية طيعة يسهل قيادها أصبح بإمكان كوزا (رئيس الإتحاد) وكوجالينشينو (ريس الحكومة) المضي قدماً في إقرار الإصلاح الزراعي أعظم مشورعات الإصلاح. وفي هذا الخصوص ينبعي أن نتذكر أن المادة 46 من ميثاق أغسطس 1858 دعت إلى إصدار تشريع في هذا المجال. وآنذاك كان البويار المحافظين قد بلورا تصورهم عن إصلاح زاعي يتلخص في طرد أي فلاح صغير من أرضه ويأخذها الإقطاعي المجاور وبالتالي يسيطر الإقطاعيون (البويار) على كل الأرض فقط, بل يضمنوا وفرة في اليد العاملة. لكن قانون الإصلاح الزراعي الذي قدم في يوليو 1863 تجنب هذا الإجراء المتطرف ونص على أن يتنازل المالك عن ثلثي أرضه بحد أقصى, ويحصل الفلاح على حصة معينة من الأرض الخاضعة للمصادرة بصفة ملكيةى قانونية تتحدد مساحتها طبقاص لما تملكه أسرة الفلاح من مواشي . . فإذا كانت مساحة أرض الدولة. كما نص القانون على إلغاء كل الإلتزامات التي على الفلاح للإقطاعي من مدفوعات متأخرة وخدمات. وقرر القانون أن يحصل كل إقطاعي (من البويار) خضع لقانون الإصلاح على تعويض مالي من الدولة عن الأراضي التي تؤخذ منه (ثلثا ما يملك), وعلى الفلاح المستفيد أن يدفع مقابل ملكية الأرض وإستغلالها مبلغاً محدداً على مدى خمسة عشر عاماً ولا يجوز له أن يتصرف فيها بالبيع لمدة ثلاثين عاماً وذلك لمنع إعادة بيعها مرة أخرى لمالكها الإقطاعي القديم. وبالإضافة إلى هؤلاء الفلاحين المستفيدين كان هناك حوالي 107000 فلاح يقومون بزراعة أرضهم وإدارتها بانفسهم. وفي الحقيقة كان القانون يستهدف إيجاد طبقة من الفلاحين الأحرار, لكنه لم يكن محل رضا البويار بطبيعة الحال.
على أن هذا القانون الذي صدر على عجل كان مليئاً بالثغرات التي ساعدت على الإلتفاف حوله والتهرب من تنفيذه. وكانت أكبر الصعوبات التي تعترض تنفيذه بدقة نقص الرقابة السليمة لضمان تنفيذ مواده, فالبويار كانوا في وضع أقوى من الفلاحين وكل إقطاعي منهم يتحكم في دائرته, ولم تكن هناك عملية مسح دقيقة للأراضي أو إحصائيات للإعتماد عليها في تحديد الأرض التي تصادر والأرض التي يتم توزيعها, ومن هنا إقتطع الإقطاعي لنفسه أجود الأراضي خصوبة بما فيها أراضي المراعي المراعي والغابات وترك الأراضي فقيرة الخصوبة إلى الفلاح وأكثر من هذا فإن نصيب الفلاح جاء متناثراً بين أكثر من جهة بعيدة جداً عن قريته. ومن أكبر المشكلات التي فرضت نفسها في المستقبل زيادة السكان ففي خلال الفمدة من 1859-1899 زاد عدد سكان رومانيا بنسبة 54% ومن ثم فإن المشكلات التي ترتبت على توزيع الأرض على الفلاحين الذين كان عددهم يتزايد يوماً بعد يوم كانت أوضح ما تكون في رومانيا أكثر من أي مكان آخر في بلاد البلقان. وقد إتضح سوء حظ الفلاح الروماني من حالة الإضطراب المستمرة وعدم الإستقرار بلغ ذروته في الإنتفاضة الكبرى عام 1907 فرغم زيادة حجم صادرات الغلال بشكل عام حتى نهاية القرن (التاسع عشر), إلا أن الفلاحين لم يستفيدوا إلا قليلاً من هذه التجارة الناجحة, ذلك أن معظمهم وقعوا أسرى الديون حتى لقد إضطروا لإستئجار أراض أخرى لتغطية حاجاتهم بشروط إيجار متعسفة كما يتضح من العقود التي أبرمت خلال المدة من 1866-1872, وتخول بعضم إلى عمال زاعة في الإقطاعات الكبيرة حيث عادوا إلى وضع ملاك أراضي للإقطاعي القديم. وعلى هذا فإن الإصلاح الزراعي لم يؤد إلى تكوين طبقة ملاك أراضي من الفلاحين مستقرة وراضية, وظلت روماني أراض إقطاعية كبيرة تزرع القمح والغلال للتصدير.
وبالإضافة إلى علمنة الأوقاف الدينية والإصلاح الزراعي قامت حكومة كوجالينشينو بإصلاحات أخرى مثل تأسيس نظام قومي للتعليم الإبتدائي والثانوي في جميع أنحاء البلاد, وللجامعات في بوخارست وياصي. كما صدر القانون المدني على غرار قانون نابليون, وأعيد تنظيم الحكم المحلي على الأسس الفرنسية أيضاً. ولكن كان من شأن الإدارة المركزية القوية أن تسمح للحكومة بالتحكم في شؤون المحليات من خلال مديري الولايات ورجال الشرطة, وهو أسلوب أعطى للحكومة قوةملحوظة لضبط الإنتخابات مثلما حدث في اليونان والصرب. كما شهد عهد كوزا بداية دخول الإستثمارات الأجنبية في البلاد كانت له تداعيات مهمة فيما بعد.
ورغم ضخامة تلك الإصلاحات وعظمتها, إلا أن كوزا واجه بسببها معارضة متزايدة وكراهية من كبار ملاك الأراضي الزراعية وهم قوام العناصر المحافظة بسبب الإصلاح الزراعي وقانون الإنتخاب. كما لم يرض عنه الليبراليون على وجه العموم رغم إنقسامهم فيما بينهم حول المسألة الزراعية. وأكثر من هذا فإن كوزا لم يكن نموذجاً للأمير الحاكم, فلم يكن طموحاً كما سبقت الإشارة, ولم يحط نفسه بمظاهر حياة الملوك والأمراء, وكانت العادات والتقاليد, إذ كانت له بجانب زوجته خليلة وهي ماري أوبرنوفيتش Obrenovic الذي أصبح إبنها ميلان Milan أول ملك على الصرب, ولم يكن له وريثاً شرعياً مما جعل من مشكلة وراثة العرش أمراً قائماً.
وفي فبراير 1865 إختلف كوزا مع كوجالينشينو فإنتهزت قوى المعارضة من المحافظين والليبراليين الفرصة للتخلص منهما. وقد تزعم الموقف كل من لاسكار كاتارجيو Catargiu Lascar , ويون غيكا Ion Ghica, ويون براشيانو Ion Bratianu, والأخوان جوليشكو Golescu, وروزتي Rosetti. وهكذا ومرة أخرى تزعم قادة ثورة 1848 في ولاشيا حركة العصيان الجديدة, وتولى روزيتي الدوةر الرئيسي داخل رومانيا, وذهب براشيانو إلى باريس لتأمين مساندة فرنسا لتغيير الحاكم وللبحث عن مرشح آخر للعرش وهو الأمر أكثر أهمية.
وفي ليلة من ليالي فبراير 1866 إقتحم عدد من الضباط الذين تم تجنيدهم للحركة غرفة الأمير كوزا وأرغموه على التنازل عن العرش وغادر البلاد, وتشكل مجلس وصاية فوراً من كل من الجنرال يون. جوليشكو, ويون غيكا, والكولونيل هارالامبيه Haralmbie, وسرعان ما أعلنت الحكومة الثورية أن هذفها وضع برنامج يدعو للوحدة والحكم الذاتي, وأمير أجنبي يحكم البلاد, وتأسيس حكومة دستورية. وقامت الجمعية التشريعية بترشيح فيليب كونت فلاندرز شقيق ليوبولد الثاني ملك بلجيكا ليكون أميراً على رومانيا. غير أن هذا الأمير الذي لم يكن يحظى بدعم فرنسا إمتنع عن قبول الإمارة لكن برايشانو وجد البديل المناسب.
كان هذا البديل هو الأمير تشارلز أوف هوهنزوليرن سيجمارنجين Hohenzolern Sigaringen الذي وافق عليه نابليون الثالث إمبراطور فرنسا والذي يلعب دوراً غامضاً في إختياره. وكان تشارلز هو الإبن الثاني للأمير كارل انطون رئيس الفرع الكاثوليكي للأرة الحاكمة جنوبي بروسيا, فرنسي بالمولد أكثر منه ألمانيا, ويمت بصلة القرابة لنابليون الثالث من ناحية والدته, ولملك روسيا من ناحية والده. وفي مارس التقى براشيانو به وبوالده وفور إنتهاء الزيارة أبرق لبوخارست بموافقة تشارلز على قبول عرش رومانيا. وفي أبرلي 1866 أجرت الحكومة المؤقتة إستفتاء عاماً لتأكيد هذا الإختيار, وفي ضوء الأوضاع السياسية القائمة لم تكن مفاجئة أن يحصل تشارلز على 685969 صوت ذد 244 صوتاً فقط. وهكذا ومرة أخرى نلاحظ أن الظروف الدولية ساعدت الزعماء الرومانيين في خططهم, ذلك أن خطر إحتمال إندلاع حرب بين بروسيا والنمسا جعلت تشارلز وهو ضابط بالجيش البروسي يقبل العرض, ويضطر إلى مغادرة أراضي النمسا متنكراً حتى وصل إلى بوخارست في مايو 1866 حيث تم الترحيب به ترحيباً حاراً كأمير لعرش البلاد طال إنتظاره. ولكن ولأن الموقف الدولي كان يزداد سوء ً فكان على القوى الدولية أ، تتعامل مع مشكلة رومانية على أرض الواقع.
وكانت المشكلة أنه طبقاً للمعاهدات كان ينبغي بعد تنازل كوزا عن عرش رومانيا أن تعود الإمارتان لحالة الإنفصال التي كانا عليها في أغسطس 1858 (توقيع الميثاق). ولكن لم تكن هناك أي قوة دولية تتوقع أن يحدث هذا الإنفصال طالما أن الجميع إعترفوا بوحدة الإمارتين حتى عندما حددوا بقاء الوحدة بحياة كوزا. كما كانت مسألة الأمير الأجنبي الذي يحكم رومانيا أكثر أهمية. وكان من حسن حظ روماينا أن القوى الدولية إنقسمت بشأن هذه المسائل في 1866 كما كانت من قبل في عام 1859, وعام 1861. زكالعادة ظلت فرنسا المؤيد الرئيسي للبرنامج القومي الروماني كما هي, على حين وقفت ضده الدولة العثمانية والنمسا وروسيا. وكانت المشكلة هي كيف يتم إقصاء تشارلز عن عرش رومانيا إلتزاماً بالمعاهدات خاصة وأنه لم تكن ناك قوى تسمح بتدخل عثماني في الموضوع. وأكثر من هذا ففي يونية إندلعت الحرب بين النمسا وبروسيا وكان إنتصار بروسيا الكاسح قد أبطل معارضة النمسا لما يجري من حوادث في رومانيا ذلك أن ملك بروسيا ومعه مستشاره أوتو فون بسمارك Otto Von وافق على قبول تشارلز عرش رومانيا.
في تلك الأثناء أسرعت الحكومة المؤقتة وفي عجالة بإعداد الدستور الذي وعدت به, وكانت المحصلة مشروع دستور مستند إلى دستور بلجيكا عام 1831 نص كما هو مألوف في الدساتير على حرية الكلمة, والصحافة,والإجتماع, والمساواة بين المواطنين, ومنح الحاكم وضعاً قوياً نسبياً فأعطاه حق تعيين الوزراء وطردهم, وحل البرلمان (الجمعية التشريعية), والأكثر أهمية حق الإعتراض المطلق على أي تشريع. ونص الدستور أيضاً على أن الهيئة التشريعية تتكون من مجلسين: مجلس الشيوخ وآخر للنواب ينتخب لمدة أربع سنوات, وينعقد بشكل دوري سنوياً, وله حق مراقبة الموازنة العامة. وأكدت الإنتخابات غير المباشرة أن ملاك الأراضي الزراعية الذين تولوا السلطة السياسية في 1866 قد يحتفظون بسيطرتهم على الحكومة. وقد تضمن الدستور مادة كانت محل جدل كبير في المستقبل تنص على "أن الأجانب من المسيحيين فقط يمكنهم أن يصبحوا مواطنين". ورغم أن صياغة الدستور جاءت ليبرالية الأسلوب, إلأ أنه شأن دستور الصرب واليونان لم يقدم حكومة برلمانية حقيقية, ذلك أن أسلوب الإدارة المركزية كان يسمح لحكومة قوية أو حاكم ذو عزيمة من أن يسيطر على العملية الإنتخابية. ومع هذا كان عام 1866 ولا شك عام تحقيق الأهداف التي صاغها زعماء الحركةالقومية الرومانية عام 1848, فلقد توحدت الإمارتان وأصبحتا تحت حكم أمير أجنبي.
وبصرف النظر عن الأساس الثوري لسلطة حمك الأمير تشارلز, إلأ أنه إستطاع الحصول على إعتراف القوى الدولية به. ففي أكتوبر 1866 قلده السلطلن العثماني خلعة الولاية, ومنحه إمتياز إصدار عملة خاصة به, وتكوين جيش من ثلاثين ألف نفر. وعاد لأمير الطموح والمتمكن إلى رومانيا وكله عزيمة لإقامة حكومة مسئولة, وإقتصاد مزدهر. لكنه ومن واقع وعيه بمكانته الشخصية كان يكره في أعماقه أن يكون وهو الأمير الهوهنزوليري تابعاً لللطان العثماني. وفي 1869 تزوج باليزابيث أوف فايد Wied وهي لوثرية المذهب وكان زواجاً حظى بشعبية هائلة,ولما كان كاثوليكي المذهب فقد وافق مثلما فعل أوثون ملك اليونان من قبل على تنشئة أولاده تنشئة أرثوذكسية.وقد فعلت زوجته الكثير لتقديم روماينيا إلى شعوب أوروبا من خلال ما كانت تكتبه تحت إسم سيلفا Sylva. وبإعتباره ضابطاً بروسيا في الأصل فقد ركز جهوده لبناء ميليشيا رومانية ذات كفاءة عالية قد تستخدم لتحقيق مكاسب خارجية إذا ما سمحت الظروف. وفي 1876 تحالف سراً مع ميشيل أمير الصرب. ورغم أنه اتبع في الشؤون الخارجية علاقات غاية في الحذر حتى عام 1877, إلا أنه وجد نفسه مضطر لدخول الحرب ضد السلطان العثماني مرغماً بسبب هذا التحالف.
ورغم أن تشارلز كان حاكماً قوياً وله شعبية هائلة, إلا أنه وجد نفسه في سنوات حكمه الأولى متورطاً في جدال سياسي مستمر. ففي خلال فترة الأزمة القومية التي أعقبت سقوط كوزا تكاتف المحافظون والليبراليون لصيانة مصالح بلادهم. ولكن بمجرد زوال الخطر الخارجي عاد الطرفان إلى خصوماتهم الحزبية. غير أن تشارلز لم يكن زعيماً سياسياً خبيراً, ولم تكن لديه معلومات مناسبة عن البلد الذي جلس على عرشه, إذ سرعان ما دخل في شجار مع براشيانو والليبراليين الذين كانوا مسئولين عن إختياره. وكان خريف وشتاء 1870-1871 من أصعب الأيام في حياته ففي يوليو 1870 أعلنت فرنسا الحرب علىبروسيا, وفي الشهور التالية كان واضحاً أن الفرقة الرومانية التي شاركت في الحرب إلى جانب بروسيا قد سحقت تماماً, وبإعتباره ضابط بروسي ووطني ألماني فلم يحاول إخفاء تعاطفه مع بروسيا بل أعلن أنها سوف تنتصر في الحرب. وفي أغسطس 1870 إندلعت إنتفاضة في بلوشتي Polesti بتحريض من العناصر الجمهورية ورغم قمع الإنتفاضة إلا أن الأمير أصبح أكثر إضطراباً عندما برأت المحكمة ساحة المشاركين فيها مما إعتبره تحدياً مباشراً لسلطته.
ومما أدى إلى تهشيم مكانة الأمير تشارلز إضافة إلى الإضطرابات السياسية فضيحة مد خط سكك حديدية. وكان الأمير رغبة منه في تحديث رومانيا يريد إقامة خط سكك حديدية, ولما كانت رومانيا شأن كل بلاد البلقان تنقصها الخبرة الفنية ورأس المال اللازم المشروع فقد كان هذا يعني الإستعانة بخبرة الشركات الأجنبية والحصول على القروض لإقامة المشروع. ورغم أن معظم الشركات التي تقوم بإستثمارات في البلاد تحقق أهدافها دون مشكلات, إلا أن مقاول المشروع ستروزبرج Strousberg وهو بروسي يهودي وقع في مأزق مالي وعجز عن دفع الفوائد لحملة الأسهم ومن ثم حاول أن يرغم حكومة روماينا على أن تتحمل ديونه المالية. وقد كشف هذا المشروع عن تورط بعض السياسيين الرومانيين في صفقات مشبوهة. ومما زاد الأمر سوء أن بسمارك (مستشار ألمانيا) وقف بقوة مع مواطنه البروسي وهو المقاول. والحاصل أن هذه الحادثة إستخدمت في تدمير الأمير خاصة وأنها توافقت مع نمو المشاعر المعادية للسامية التي كانت تزداد بسرعة ملحوظة.
وعلى هذا أصبح الأمير مكتئباً أشد الإكتئاب وأصبح مقتعناً بإستحالة إستمراره في الحكم في إطار دستور يسمح للأحزاب السياسية بإحباط سياساته مع أنها لا تمثل إلا شريحة من الرومانيين. وهذا الصراع بين الحاكم والأحزاب المتنافسة هو نفسه الذي حدث في اليونان والصرب كما رأينا,وأثناء حكم كوزا أيضاً, ويتكرر مع الأمير تشارلز. وفي خريف 1870 وكان الأمير على إستعداد تام للتنازل عن العرش قام بتحرير خطاباً شخصياً للقوى الدولية الحامية لوجود رومانيا إستعراض فيه الموقف السياسي في البلاد والصعوبات التي يواجهها في الحكم. ومن سوء حظ الرجل أنه إختار اللحظة الخطأ للتصرف فلم تكن فرنسا وبروسيا في حالة حرب فقط بل إن روسيا في أكتوبر أنكرت مواد معاهدة باريس فيما يتعلق بالملاحة في البحر الأسود. وبالتالي لم تكنت هناك أي دولة أوروبية تريد مشكلات أخرى. وأكثر من هذا فإن معظم الحكومات أساءت فهم الهدف من خطاب الأمير إذ كانت تظن أنه يمهد الأرض لإعلان إستقلال رومانيا إستقلال رومانيا تاماً.
على أن وضع تشارلز أصبح غاية في الخطر والقلق وخاصة بعد ما حدث في ليلة 22-23 مارس 1871 ففي مساء تلك الليلة أقام الألمان الذين يعيشون في بوخارست مأدبة عشاء إحتفالاً بإنتصار بروسيا وتأسيس الإمبراطورية الألمانية. وقد فوجيء المحتفلون بهجوم من الغوغاء في حماية البوليس المر الذي دفع تشارلز ليكاشف لاسكار كاتارجيو ونيقولا جوليشكو برغبته في التنحي عن العرش. لكن الرجلين وقد أدركا خطورة الموقف أكدا دعم المحافظين له. وعلى هذا نجح كاتارجيو في تشكيل مجلس وزراء إستمر خمس سنوات وأصبح كوستافورو Costaforu وزيراً للخارجية. ولكن طالما كان بإمكان الحكومة المركزية التحكم في الإنتخابات فإن المجالس التشريعية تقع حت هيمنة الوزارة.
على كل حال كان تشكيل حكمة كاتارجيو بشيرا بفترة قصيرة من الهدوء في رومانيا داخلياً. والحقيقة كانت وزارة محافظة وترغب في أن تصبح رومانيا بلجيكية حتى مفتتح الدانوب ولا تنخرط في أية مغامرات خارجية. وكانت الأحوال في أوروبا مهيأة لمثل هذه التوجهات السياسية. فبعد إنتصار بروسيا وتوحيد إجتمعت ألمانيا وروسيا مع النمسا وكونت إتئلافاً داخلياً عرف بإسم "تحالف الأباطرة الثلاثة", وبالتالي أصبحت جارتا رومانيا (النمسا وألمانيا) حليفتان, وكان إرتباط رومانيا بأسرة الهوهينزوليرون المنتصرة قد أكسب رومانيا ميزة إضافية.
وحال شعور شارل بقوة وضعه أصبح حراً في التركيز أكثر وأكثر على تقديمن مصالح رومانيا في العلاقات الدولية. وفي هذا الخصوص كان يفضل الإعتماد على الدبلوماسية للنهوض بالقضية القومية مثلما كان يفعل الساسة الرومانيون من قبل. وعلى هذا بدأت حكومته تأخذ خطوات نحو عقد معاهدات ومواثيق مع الدول الأخرى لإختبار إمكانية قيام حكومة رومانيا "الذاتية" بسياسة خارجية مستقلة. وكانت البداية عقد إتفاقيات بشأن البريد والبرق أعقبها إفتتاح وكالات دبلوماسية لرومانيا في العواصم الرئيسية: فيينا, وبرلين, وروما,وسانت بطرسبرج في سبعينيات القرن 19. ومنذ ذلك الوقت توثقت علاقات رومانيا مع كل من ألمانيا والنمسا لأن فرنسا المهزومة في حرب السبعين لم يكن لها مكاناً في تحالفات حتى إندلاع الحرب العالمية الأولى.
وفي هذا المنهج الدبلوماسي الذي قام به شارل كانت أهم خطواته محاولة عقد إتفاقيات تجارية منفصلة أو منفردة لكل منها نظامها الجمركي. لكن إنجلترا والدولة العثمانية رفضتا الإعتراف بحق رومانيا في عقد مثل هذه الإتفاقات بحجة أن رومانيا ترتبط بالإتفاقيات التجارية التي تعقدها الدولةالعثمانية, وهي إتفاقيات كانت في صالح إنجلترا. أما رومانيا فكانت ترى في نهجها مسألة ذات طابع سياسي أكثر منه إقتصادياً بحيث كانت تعتبر نجاحها في إبرام إتفاقية إقتصادية ما خطوة أكثر تقدماً نحو الإستقلال.
أما الدولة التي كانت لها المصلحة الأكبر في تلك المسائل فهي النمسا بما لها من مصالح قومية إقتصادية أولية في رومانيا فضلاً عن وضعها القيادي في منطقة الدانوب. ولكن ومن باب الضغط على النمسا أقرت حكومة رومانيا في يونية 1874 نظاماً جمركياً يقضي بأن الدول التي ليس لها إتفاقيات جمركية مع رومانيا سوف تدفع جمارك عالية لدخول بضائعها. وبالتالي لم يكن أمام النمسا إلا الدخول في مفاوضات مع رومانيا في هذا الشأن إنتهت بعقد إتفاقيات في يونية 1875. ورغم أن شروطها الإقتصادية كانت مقبولة من النمسا إن لم تكن في صالحها, إلا أن ما كان يعني رومانيا في المحل الأول هو الجانب السياسي الذي يؤكد أنها حكومة مستقلة, ومن ثم إعتبرت الإتفاقية نصراً. وفي مارسص 1876 عقدت إتفاقية مشابهة مع روسيا تلتها إتفاقيات مع دول أخرى.
على كل حال لقد حققت رومانيا الشئ الكثير خلال عشرين عاماً من 1856-1876 كما رأينا, ومن ذلك برنامج ال48, ووحدة الإمارتين, والأمير الحاكم من الخارج, وأيضاً قانون الإصلاح الزراعي, ووضع دستور, ووجود حكومة قومية, رغم أن البلاد كانت ما تزال تحت السيادة العثمانية. ولقد تحقق معظم البرنامج القومي من خلال الدبلوماسية ومواجهة الدول الكبرى بالأمر الواقع. كما خرجت رومانيا من حروب الدول الأخرى بدرس مؤداه ألا تحارب وألا تدخل حرباً منفردة. على أن كل تغيير حدث في رومانيا وكان في صالحها تم بالمخالفة للمعاهدات الدولية من ناحية وبسبب إنقسام الدول الكبرى حول ما ينبغي إتخاذه حيال رومانيا من ناحية أخرى.
ورغم ما حققته رومانيا خلال هذه العشرين سنة, إلا أنه بقي أمامها الكثير لتحقيقه إذ كان الهذف النهائي للقوميين الرومان شأن اليونان والصرب يتمثل في ضم كل الأراضي التي يعيش فيها رومانيون ألا وهي ترانسلفانيا وبوكوفينا Bukovina ومعظم بسارابيا, وهو هذف كانت له جاذبيته لدى الأمير شارل أيضاً, وكان واضحاً إستحالة ضم هذه الأراضي لأنها تحت سيادة كل من روسيا والنمسا وهما حليفتان. وأصبح الهدف أكثر تعقيداً وإستحالة بسبب ما حدث من تطروات, ففي صيف 1875 حدث تمرد الفلاحين في ولايتا البوسنة والهرسك العثمانتين وعجزت السلطات عن قمعه, وفي مايو 1876 إندلعت إنتفاضة بلغارية ضد الدولة العثمانية, وفي صيف العام نفسه دخلت الصرب والجبل الأسود في حرب ضد الدولة العثمانية, وبهذا إنفتح ملف المسألة الشرقية برمته مرة أخرى. وكانت مشكلة رومانيا تكمن في تحديد الجانب الذي يحقق مصالحها في مجمل هذا الصراع المعقد كما كان عليها أن تتعمل مع حركة قومية جديدة إندلعت في بلاغاريا المجاورة لها مطالبها القومية أيضاً.
وكلما ضعفت قبضة الحكم العثماني على بلاد منطقة البلقان تصبح الفرصة مواتية أكثر للقوى الكبرى لتحقيق سيطرة مباشرة على تلك البلاد. وفي بداية القرن التاسع عشر لم يكن لأي دولة أوروبية نفوذ أو سيادة على حياة أي شعب مسيحي من شعوب البلقان ولكن مع حرب القرم كان لثلاث قوى حق الإشراف على اليونان,وفرضت روسيا حمايتها على الصرب وعلى إمارتي الدانوب. وقد حددت معاهدة باريس (1856 التي أنهت حرب القرم9 واجب كل قوة من تلك القوى الحارسة. وعلى هذا كان تدخل تلك الحدود البلقانية تحددها المعاهدات الدولية,وأنه لم يكن من الممكن تعديلها أو تغييرها بدون موافقة الموقعين على معاهدة باريس, وأنه لم يكن من حق حكومات البلقان أن ترتب مشكلات الحدود فيما بينها بمفردها حتى ولة إتفقت, إذ يجب أن تكون الدول الكبرى راضية على كل التغيرات التي يمكن أن تحدث. وحيث أن الدول الرئيسية في الشؤون الدولية آنذاك وهم روسيا وإنجلترا والنمسا كانت في تنافس شديد فيما بينها ويتربص كل منها بالآخر فكانت تسوية معظم الخلافات تتم على أساس توازن القوى, ومعناه من ناحية المبدأ أنه لا ينبغي أن تنفرد أي دولة من تلك الدول بنفوذ ما أو سيادة على بلاد المنطقة. ومن هنا كانت الحلول التي تقترحها تلك الدول لرسم الحدود تؤدي إلى تدمير المصالح الشمروعة لأمم البلقان, بل لقد أضافت عاملاً آخر معقداً لموقف صعب في حد ذاته.
على كل حال لقد بدأت أزمة السبعينات التي أظهرت كل تلك المشكلات في دائرة الضوء بثورة الفلاحين المسيحيين في البوسنة والهرسك وبتأييد ومشاركة عميقة من أهالي الصرب والجبل الأسود. ولكن قبل أن نتناول موضوع تلك الثورة ينبغي أن نشير في عجالة إلى أحوال الجبل ألأسود والبوسنة خلال القرن التاسع عشر.
لعبت إمارة الجبل الأسود دوراً مهماً في حياة البلقانيين تنحت حكم الإمارة-الأسقفية (أي يحكمها أمير وأسقف) على فترات متقطعة رغم صغر حجمها وفقرها, فخلال المدة ومضاعفة مساحتها,ودخل في حرب ضد السلطان العثماني مرتين: الأولى أثناء الحملة العثمانية ضد علي باشا حاكم يانينا 1819-1821, والثانية أثناء الحرب الروسية-العثمانية 1828-1829. وكان خلفه بطرس الثاني المعروف بإسم نياجوش Njegos شاعر وصاحب قصيدة "إكليل الجبل" Mountain Wreath أحد أعظم أدباء سلاف الجنوب, وقد إستكمل فرض سلطة افمارة على القبائل المتمردة والمعزولة حولها, كما حارب القوات العثمانية أيضاً في 1832.
ثم حدث تغييراً كبيراً في عهد خلفه الأمير دانيلو الأول Danilo بيتروفيتش (1852-1860) عندما رغب في الزواج ثم علمنة الإمارة (أي إلغاء مشاركة الأسقف في الحكم), فأصبح عرش الإمارة وراثياً في عائلة بتروفيتش. وفي عهده تجدد القتال ضد الدولةالعثمانية في عامي 1852, 1858. وفي 1860 تولى عرش نيقولا الأول الذي كان يعرف أحياناً بإسم نيكيتا Nikita والذي ظل متربعاً عليه حتى 1918. وخلال الفترة الأولى لحكمه إستمر الصراع مع الدولة العثمانية قائماً حول تبعية أقاليم في البوسنة والهرسك وإلبانيا لأي منهما وكذا حقيقة وضع إمارة الجبل الأسود الذي كان السلطان يطالب بأنها جزء من إمبراطوريته. وفي هذا الصراع كان أهالي الصرب والجبل الأسود على علاقة وثيقة بسبب مصالحهما المشتركة وقوميتهم الصربية العامة وعقيدتهم الأرثوذكسية رغم وجود منافسة دائمة ومضمرة بين الطرفين حول قيادة شؤون الصربيين وسلاف الجنوب. كما كان أمراء الجبل الأسود يحاولون إستثمار الخلاف بين عائلتي كارديورديفيتش Karadijordevic, وأوبرونوفيتش Oprenovic لصالحهم.وما أطلت السبعينات حتى كانت الجبل الأسود تهتم بشكل رئيسي بالحصول على ميناء على البحر الإدرياتي وبكيفية ضم الهرسك.
أما البوسنة والهرسك فكانتا شأن الجبل الأسود تمثلان مشكلة دائمة بالنسبة للدولة العثمانية ولكن لأسباب مختلفة. فبينما كانت الجبل الأسود مركزاً دائماً للتمرد المسيحي كانت البوسنة خلال الجزء الأول من القرن على الأقل تقف بكل صلابة ضد الإصلاح العثماني وتحتفظ بشدة بالتقاليد القديمة,وخلال حكم السلطان سليم الثالث كانت مركزاً قوياً لقوى الأعيان. وينبغعي التذكير هنا بأن البوسنة كانت أحد الأماكن القليلة التي حدثت فيها عمليات إعتناق للإسلام كثيرة العدد بعد الغزو العثماني, وبالتالي كان نبلاء المنطقة ويعرفون بالبكوات من المسلمين والسلاف على حد سواء الذين وقفوا بصلابة للمحافظة على سلطتهم ضد الدولة العثمانية وعلى حساب فلاحيهم المسيحييين بطبيعة الحال الذين الحال يتفقون معهم في القومية ويتكلمون اللغة نفسها.ومن هنا نفهم ثورة البكوات ضد الدولة العثمانية في أعوام 1821, 1828, 1831, 1837 حيث تمكنوا من الإحتفاظ بحم ذاتي محلي كاملاً حتى عام 1850 عندما سحقتهم القوات العثمانية بقايدة عمر باشا وأعادت تأكيد سلطة الحكومة المركزية.
ورغم الحقيقة القائلة بأن كل من البك والفلاح في البوسنة والهرسك ينتميان إلىأصول قومية واحدة, إلا أن وضع الفلاح فيهما كان أسوأ بكثير من أي مكان آخر في البلقان. فقد كانت الضرائب لمفروضة عليه وأعمال السخرة فادحة للغاية وتستهلك أكثر من 40% من دخله.ومما زاد الأمر سوء أن الإصلاحات العثمانية لم تفرض في هذه المنطقة,وبهذا فإن ثورات الفلاحين التي وقعت في 1857-1858 ثم في 1861-1862 كانت تستهدف تحسين الأحوال الإقتصادية وليس التغيير السياسي. ثم وقعت أسوأ الأزمات في منتصف السبعينات بسبب غنخفاض محصول عام 1874 مما زاد من شدة الحال وضيق الناس. وعلى هذا إنفجر عصيان مسلح في الهرسك ثم في البوسنة في يوليو 1875 عجزت السلطات العثمانية عن قمعه مثلما في اليونان والصرب في مطلع القرن لأن الفلاحين هناك كانوا تحت قيادة محلية وإستخدموا حرب العصابات,وظلت شكاوى المتمردين الرئيسية تتمثل في تعاسة أحوالهم في الريف.
وحيث كانت البوسنة والهرسك في حالة تمرد وعصيان ضد الحكم العثماني فلم يكن من الممكن أن تقف الصرب واجبلالسود بعيداً عن هذا الصراع, بل لقد أيدتا التمرد وتعاطفتا مع أهله وإشترك بعض الصربيين في تنظيم الإنتفاضات هنا وهناك. وكان رد فعل حكومة الصرب هو أكثر المسائل أهمية في الموضوع فخلال معظم فترة حكم الأمير ميلان Milan كان يوفان ريستتش Jovan Ristic الشخص المسئول عن السياسة الخارجية للصرب.وكان الموقف الدبلوماسي في بلاد البلقان آنذاك مختلف جداً عما كان عليه الحال في عهد حكم الأمير ميشيل إذ كانت بلجراد عاصمةالصرب مركز تنظيم تمرد البلقانيين ضد الحكومة العثمانية. ورغم أن حكومة الصرب تغاضت عن وجود مجموعاتمختلفة منخارج البلاد مثل الثوريين البلغاريين إلا أنها لم تشجع نشاطهم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل التاسع حركة القومية البلغارية حتى 1876
كانت القومية البلغارية آخر قوميات البلقان التي حققت إستقلالها عن الدولةالعثمانية في القرن التاسع عشر, وكان تأخرها يكمن في مجمل ظروف المنطقة التي سبق دراستها, لعل أبرزها وجود بلغاريا بالقرب من استانبول ومن ثم سهولة إبقائها تحت السيطرة, فضلاً عن أن البلغاريين أنفسهم دون شعوب البلقان كانوا يعانون بشدة من إختفاء القانون من حياتهم أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.ففي خلال تلك الفترة كانت عصابات الإنكشارية, والعساكر الرديف (المسرحون من الخدمة), وقطاع الطرق يجوبون أفاق المنطقة من مرتفعات البلقان وحتى سهول الدانوب.وقد رأينا أن بشفان أوغلو جمع حوله عدداً كبيراً من هؤلاء الخارجين على القانون في فيدين حيث يقيم فتحولت أجزاء كثيرة من شمالي بلغاريا على أيديهم إلى أرض خراب, وأجبروا سكانها على الهروب إلى سفوح التلال والجبال.
ومن ناحية أخرى كانت أراضي بلغاريا شأن أراضي إمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا-رومانيا) مسرحاً لمعارك الحروب بين روسيا والدولة العثمانية بين عامي 1806-1812, ثم عامي 1828-1829. وفي هذه المعارك إنضم بعض البلغار للجيش اروسي على أمل أن إنتصار روسيا قد يحقق لهم مكسباً سياسياً. لكن روسيا كما سبقت الإشارة كانت مهتمة بالدرجة الأولى بالصرب وإمارتي الدانوب ولهذا خلت معاهدات الصلح بين الدولتين من أية مواد تتعلق بالبلغار من قريب أو بعيد. ومع هذا كان زعماء القومية البلغارية يرون في روسيا خلال القرن التاسع عشر أفضل قوة بين القوى الخارجية يمكن التعويل عليها في تحقيق أمالهم.
والحاصل أنه بعد إنتهاء الحروب النابليونية وشيوع حالة من الإستقرار العام في أنحاء الإمبراطورية العثمانية بدأت الحياة في بلغاريا في التحسن. وكان أغلب البلغار شأن اليونانيين والصربيين فلاحون في قرى شأن شعوب البلقان الأخرى تحت سيطرة سادتهم النبلاء الذين كانوا يعرفون آنذاك بالشروبجية. وكان لرجال الكنيسة والفناريين اليونانيين وهم جزء من نظام الدولةالعثمانية مصلحة في المحافظة على وحدة الدولة العثمانية ومن ثم أبدوا إهتمامات كبيرة بحركة الإحياء القومي والثقافة القومية التي تسود أنحاء البلقان, ولكنهم كانوا مترددين في إتخاذ مواقف راديكالية لتحقيق التحرر السياسي وينبغي التأكيد هنا على أن الوظائف العليا بالكنيسة والمؤسسات التعليمية القائمة كانت تحت سيطرة اليونانيين وبالتالي كان على البلغار التخلص من نفوذ أولئك اليونانيين قبل الشروع في أية تحركات سياسية مناجل تحقيق أهدافهم القومية.
على أن وضع البلغار تحسن كثيراً نتيجة للثورة اليونانية والتغيرات التي طرأت على وضع إمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا) حيث تم إبعاد سيطرة النفوذ اليوناني من استانبول وأصبح اليونانيين موضع شك بشكل عام, ومن هنا إنتهز التجار البلغار الفرصة لتقوية مكانتهم في استانبول على حساب تدهور نفوذ اليونانيين (الفناريون) مثلما فعل الأرمن من قبل.وبإنتهاء حق الدولة العثمانية في الإستحواذ على منتجات إمراتي الدانوب في 1829 جعل السلطان العثماني يركز إهتمامه على بلاد البلغار لإمداده بالتموين اللازم للدولة وللجيش الجديد الذي كان السلطان محمود الثاني قد شرع في تكوينه عام 1826, ومن مث أصبحت بلغاريا مصدر التموين الأساسي لإحتياجات هذا الجيش من طعام وملابس وبطاطين وخلافه. وهكذا وخلال المدة من 1830-1878 أمدت بلغاريا الدولة العثمانية بإحتياجاتها من الحبوب والشمع والحرير والمواشي والنبيذ, ومنتجات الجلود وخاصة الأحذية وايضاً الملابس والحديد والمعادن والمنسوجات الصوفية التي كانت تتم في القرى الجبلية.ورغم أنه بعد عام 1856 بدأت بوادر تدهور الصناعات البلغارية بسبب تغلغل المنتجات الأجنبية في أنحاء الإمبراطورية, إلا أن إنتعاش ثروة بلغاريا نسبياً خلال تلك الفترة (1830-1878) كان له فضل توفير الأساس المادي للحركة القومية.
وأكثر من هذا فرغم إستمرار شكوى الفلاحين من نظام الضرائب ومصاريف الزراعة, إلا أنهم شعروا بتحسن أحوالهم, وكان الأحرار منهم شأن قرى البلاقن الأخرى يعيشون بشكل عام في الأقاليم الجبلية وعند التلال وفي ظروف حياة أفضل من ألئك الذين يعيشون في جفالك الإقطاع التي تقع في أكثر الأراضي خصوبة. غير أن نظام الجفالك كان يتعرض بدروه للتغيير فقد أدرك صاحب الجفلك أن الأرض لم تعد مريحة بتأثير المنافسة الإقتصادية من البلاد المجاورة وبالتالي كان يرغب في بيعها للفلاح. وعن هذا الطريق إنتقلت أراضي كثيرة إلى ملاك صغار بعكس ما حدث في رومانيا. كما يلاحظ أ، الفترة التي شهدت هذه التحولات تزامنت مع الإصلاحات العثمانية المعروفة بالتنظيمات. ورغم أن قوانين التنظيمات لم تنفذ بأريحية, إلا أن المناخ العام تحسن بل لقد شارك الفلاحون البلغار في الأعمال الثورية لكن لم تحدث مشاركة شعبية عامة في الثورة مثلما حدث في اليونان والصرب كما سوف نرى.
لكن الثروة المتزايدة بين البلغار وما صاحبها من زيادة القلق السياسي أدى إلى صراع المصالح بين الطبقات الإجتماعية والمجموعات القومية مثلما كان الحال في كل بلاد البلقان. ولقد كان على البلغار لكي يحققوا قوميتهم شأن الرومان (ولاشيا ومولدافيا) أن يتخلصوا من سيطرة اليونانيين أولاً على حياتهم التعليمية والكنسية وكذا التحرر من الهيمنة السياسية للدولةالعثمانية. وفي هذا الخصوص نشطت دوائر معينة داخل البلاد لتحقيق الأهداف القومية وفي مقدمتها التجار الذين أصبحوا أكثر إهتماماً بشخصيتهم المستقلة في إطار تنافسهم مع اليونانيين, وأيضاً طوائف الحرف التي كانت تمثل الطوائف الأوروبية في التنظيم كانت تساند المشروعات التعليمية والثقافية لتنمية الشخصية البلغارية.
وهكذا كانت الخطوة الأولى الكبرى التي كان على البلغاريين إتخاذها في حركتهم القومية إقامة مؤسسات تعليمية علمانية (مدنية) متحررة من سيطرة الكنيسة اليونانية,ذلك أن التعليم في بلغاريا في مطلع القرن التاسع عشر كان شأن بلاد البلقان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالكنيسة. ورغم أن التعليم العالي كان يونانياً صرفاً, إلا أن المدارس البلغارية الصغيرة التي تشبه الكتاتيب في العالم الإسلامي كانت موجودة في كنائس معينة وفي بعض الأديرة حيث يتعلم الصبية الصغار قراءة الأعمال الدينية بالسلافية والكتابة بها. ويبدو واضحاً أن هذا النوع من المدارس لم يكن مرضياً بالنسبة لسكان تتوسع أنشطتهم الإقتصادية وأصبحوا أكثر إهتماماً بعالم أوسع من عالمهم. وكانت أهم المؤسسات اليونانية قاطبة المدارس الهللينية-البلغارية التي قام بتأسيسها التجار اليونانيين في المدن التجارية الرئيسية, وكان التعليم فيها يركز على الموضوعات الضرورية لأعمال التجارة مثل الحساب واللغة الفرنسية والتاريخ والجغرافيا. وقدجذبت هذه المدارس عدداً من البلغاريين وعن طريقها تم الإتصال بالفكر السياسي الأوروبي الخاص بالثورة الفرنسية على وجه الخصوص. وشاعت الأفكر الليبرالية والقومية.
ويرجع الفضل في تأسيس أول مدارس بلغارية حديثة إلى جهود فاسيل آبريلوف Vasil Aprilov وكان هذا الرجل قد نشأ يتيماً وأخذه إخوته التجار إلى موسكو وأدخلوه مدرسة يونانية وأصبح بالتالي محباً لليونانيين. وفي عام 1831 قرأ كتاب "البلغاريون القدماء والمحدثون" بقلم شخص أوكراني يدعى يوري فينيلين Iuri Venlin نبهه إلى معنى القومية البلغارية,ومن ثم أصبح رجلاً وطنياً بلغارياً ووجه إهتمامه لتعليم أبناء بلده لحب قوميتهم, ورأى في تأسيس نظام تعليمي قومي خطوة أساسية على طريق تحقيق الإستقلال السياسي لبلاده. وعلى هذا قام بتأسيس أول مدرسة مشابهة افتتحت في مدينة جابروفو Gabrovo عام 1835 أصبحت فيما بعد نموذجاً لمدارس مشابهة افتتحت في كل من كازانليك Kazanlik, وكالوفير Kalofer, وتريافنا Triavana, وصوفيا, وباناجيوريشت Panaguirishte, وكوبريفيشتيتسا Koprivshtitsa, وفي غيرها من المدن التي كانت مراكز للتجارة أو الصناعات الحرفية.
غير أن تلك المدارس الحديثة شأن المدارس في الصرب وسائر بلاد البلقان كان ينقصها المدرسون الأكفاء, إذ كان التعليم في معظمها يقوم على طريقة بل-لانكستر Bell-Lancaster حيث يقوم أفضل تلاميذ الفصل بمهمة التدريس للأخرين. وفي الوقت نفسه التحق بعض شباب البلغار- كما حدث في بلاد أخرى – بجامعات وسط أوروبا أو في فرنسا, وتلقى آخرون منحاً دراسية من روسيا. ولهذا سوف نلاحظ أن غالبية القيادات الثورية التي ظهرت فيما بعد تلقت تعليمهما في مدارس يونانية أو في مؤسسات أجنبية خارج البلاد.
ولم تقتصر مشكلات التعليم على توفير المدرسين الأكفاء, بل لقد كان ينقص التلاميذ وسائل التعليم اللازمة والكتب الدراسية المكتوبة بلغتهم القومية. وكانت الكتب البلغارية تطبع في بوخارست واستانبول أكثر من مدن بلغاريا نفسها بإستثناء بعض الكتب التي طبعت في لغاريا في حرب القرم. وآنذاك كان الوقت يستدعي بناء مستوى معين من اللغة يستخدمه الجميع في الكتابة غير النموذج اليوناني والسلافية التي تستخدمها الكنيسة رغم إرتباطها الوثيق بالتاريخ القومي للبلاد. ولأن غالبية أفضل المؤلفين والكتاب جاءوا من شرق بلغاريا فقد أصبحت لهجة أبناء تلك المنطقة هي لغة الكتابة والأدب.
لكن الملاحظ أن الحياة القومية في بلاد البلقان كانت ما تزال تختنق بسبب ضعف بطريركية استانبول على الكنائس المحلية في تلك البلاد, ومن هنا كان تأسيس كنيسة محلية (قومية) خطوة منطقية وضرورية حدثت في كل من بلاد الصرب واليونان وإمارتي الدانوب (رومانيا) على طريق تحرير المؤسسات من السيطرة الخارجية وخاصة بعد التوصل إلى إقامة حكومات ذاتية في تلك البلاد. لكن في بلغاريا حدث العكس إذ بدأت خطوة إنشاء الكنيسة المحلية قبل التوصل إلى وضع سياسي أفضل في العلاقة مع الدولة العثمانية حيث بذل البلغاريون جهوداً ملحوظة إبتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر لإعادة تأسيس كنيستهم المستقلة في أوهريد Ohrid التي كانت قد ألغيت في 1767.
والحقيقة أن صدور خط شريف مولخانة في 1839 كان أمراً له مغزى كبير بالنسبة للمسألأة الدينية في البلقان عموماً. ورغم أنه كان يستهدف المساواة بين المسيحيين والمسلمين فقد رأى البلغاريون فيه أنه يؤكد المساواة بينهم وبين اليونانيين الأرثوذكس. وعلى هذا وبعد عام 1845 بدأت محاولة إنشاء كنيسة بلارية مستقلة بجهود كل من نيوفيت بوزفيلي Neofit Bozveli, وإيلاريون مكاريو بولسكي Ilarion Makrio Polski في مدينة Turnovo أولاً ثم في استانبول حيث كانت تقيم فيها جالية بلغارية من التجار غاية في الثراء والإزدهار وععد كبير منهم يرغب في الإسهام في هذا المشروع. وكان المطلب الأول في هذا الشأن أن يكون للبلغاريين أساقفة منهم يختارونهم بأنفسهم ويكون لهم ممثلاً لدى الباب العالي فضلاً عن رغبتهم في بناء كنيسة لهم في استانبول وإصدار صحيفة تعبر عنهم.
ولما كانت روسيا بإعتبارها أكبر أمة أرثوذكسية تعارض إقامة رهبنة ديرية وكنيسة بلغارية مستقلة عن البطريركية العامة في استانبول بدعوى أن ذلك من شأنه أن يضعف الكنيسة العامة وسبق أن فعلت ذلك من قبل في 1833, فكان هذا يعني أن أي صراع تتورط فيه بطريركية استانبول سيتدعي تدخل روسيا بالضرورة. وعلى هذا وافقت روسيا على إتخاذ إجراء قوي ضد المحاولات التي يقوم بها كل من نيوفيت وإيلاريون إلا في عام 1850. ورغم ذلك إلا أن زعماء البلغار لم يتوقفوا عن المحاولة حتى نجحوا في أن يستصدروا من السلطان العثماني في 1849 فرماناً بالسماح "لملة البلغارية" بإفتتاح كنيسة لهم في استانبول,وكان هذا في حد ذاته يعني الأعتراف لأول مرة بوجود أمة بلغارية منفصلة.
على أن صدور خط شريف همايون في 1856 شد من إصرار البلغار على حصولهم على وضع متساو مع اليونانيين.ورغم إختلاف الرأي بين زعماء البلغار فيما يتعلق بالمدى الذي ينبغي الوصول إليه في هذا الطريق, إلا أنهم كانوا متفقون كلية على مبدأ تلك المحاولات أصر من جانبه على المحافظة على ما تحت يده من مؤسسات. ولهذا ففي 1858 دعا مجلس الكنائس للإجتماع ودعا للجلسة الأولى ثلاثة عضواً (إستمرت الجلسات حتى 1842) حيث تم رفض مطلب البلغاريين بتعيين أساقفة منهم في الأسقفيات البلغارية أو المطرانيات. وتمت الموافقة فقط على تعيين أسقفاً واحداً بلغارياً وهو إيلاريون مكاريو بولسكي الذي كان قد أفرج عنه في 1850 كما سبقت الإشارة. ورغم أن إيلاريون لم يكن راضياً عن تلك الترتيبات إلا أنه خطا خطوة درامية ملحوظة عندما أقام شعائر عيد القيامة لعام 1860 دون موافقة البطريرك, وإستبدل بإسم البطريرط إسم السلطان العثماني في الصلاة كإشارة منه الإنفصال كنيسته عن دائرة البطريرك وولايته.
ولقد أجاب البطريرك على تصرف إيلاريون هذا بدعوة مجلس الكنائس لجلسة ثانية حضرها بطاركة القدس وأنطاكية واللإسكندرية حيث تم لعن إيلاريون وحرمان مؤيديه من رحمة الكنيسة. غير أن قوة المعارضة البلغارية أكسبتها تنازلات أكثر من جانب خصومها فقد أصبح من حق الأساقفة البلغار أن يكتبوا بلغتهم, وأن يطبعوا ما يكتبون من مادة دينية في بلغاريا بعد موافقة البطريرك أولاً على المحتوى. وإستمر إيلاريون رغم لعنته وإنكاره يقوم بالخدمات والطقوس الدينية بمساندة جماعته. ولم يكن من الممكن أن يصبر بطريرك استانبول على هذا الوضع طويلاً فما لبث أن أرغم إيلاريون وإثنين آخرين من قيادات كنيسة بلغارية على مغادرة البلادد إلى المنفى.
وفي تلك الأثناء حدث تغير في موقف روسيا التقليدي تجاه وجود كنيسة بلغارية منفصلة ساعد البلغاريين في قضيتهم من أجل إنشاء كنيسة خاصة بهم. والحاصل أن حركة التوحيد الكنسي التي كانت تسعى لأن يقبل الأرثوذكس رئاسة بابا روما لفتت نظر البلغاريين بشكل ملحوظ. ورغم أن تلك الحركة وكذا البعثات البروتستانتية الأمريكية التي كانت نشطة بدورها في بلغاريا لم تكن تمثل تهديداً حقيقاً للأرثوذكسية لك نشاط تلك الجماعات كان يضيق بشدة الأسقف فيلاريه Filaret من كنيسة موسكو فأصبح من ثم يؤيد تأسيس كنيسة بلغارية وطنية بدلاً من أن تبقى في وحدة مع بطريركية استانبول.
وفي 1864 قامت روسيا بتعيين الكونت إجناتيف N. P. Ignative سفيراً لها في استانبول وبإعتباره مؤيداً للرابطة السلافية سعى للإبقاء على وحدة الشعوب الأرثوذكسية عن طريق تقديم حل وسط بين الأوضاع اليونانية والبلغارية. وفي هذا الخصوص حصل على تأييد البلغاريين بعد أن أكد لهم عودة إيلاريون وزميلاه من منفاهم الذي ذهبوا إليه عام 1861. لكنه لم يظفر بتعاون حقيقي من بطريرك استانبول الذي كان يشعر بأن مصالحه في طول بلاد البلقان تتعرض للتهديد خاصة وأن حكومة رومانيا إستولت في ذلك العام نفسه (1864) على أراضي أديرة الرهبان في بلادها, وإنعقدت ثلاثة مجالس كنيسة لمناقشة المشكلة البلغارية في أعوام 1863, 1864, 1866 ولم يتحقق إلا تقدماً ضئيلاً. وهكذا وفي 1866 تصرف زعماء الكنيسة البلغارية بسخط شديد وأقدموا على طرد الأساقفة اليونانيين من بلادهم وكان هذا يعني في كل الأحوال أن سلطة البطريركية لم يعد لها وجود في بلغاريا من الناحية الفعلية De facto وأصبحت المشكلة تكمن في كيفية الحصول على إعتراف شرعي بهذا الموقف.
وعند ذلك المنعطف إهتمت الحكومة العثمانية إهتماماً عميقاً بالمشكلة خاصة وقد بدت إشارات هنا وهناك تنبئ بقيام إنتفاضة مسيحية من جديد في إنحاء البلقان, ففي 1867 إضطرت السلطات العثمانية في الصرب لترك مواقعها هناك كأحد نتائج قصف بلجراد في 1862. وفي 1866 أصبحت كريت مسرحاً لإنتفاضة كبيرة مرة أخرى. وبالتالي كان من الطبيعي أن تعمل الحكومة العثمانية على الحيلولة دون أن تصبح بلغاريا مسرحاً للتمرد والعصيان. وعلى هذا طلبت إختيار من يقوم بدور الوساطة بينها وبين خصومها على أن تحتفظ لنفسها بالإجراء النهائي. وتحول الموضوع من مجرد تأسيس كنيسة بلغارية إلى تحديد المناطق التي ستكون تحت ولايتها. والحقيقة أن الموقف برمته كان مشحوناً بورطات سياسية كبيرة, وإدراكاً من بطريرك استانبول والحكومة اليونانية أن إمتداد سلطة الكنيسة البلغارية إكليروسيا على مناطق بعينها سوف يعتبر رمزاً لهيمنة سياسية في النهاية فقد رأى كل منهما تضييق مجال همينة الكنيسة البلغارية قدر الإمكان.
وأمام تشابك النافس الديني مع السياسي لم يكن بإمكان الهيئتين الدينيتين (الكنيسة البلغارية وبطريركية استانبول) تسوية مشكلاتهما وحدهما, فبلغاريا كانت ما تزال آخر المصادر الكبرى لدخل البطريركية فضلاً عن أن حكومة اليونان والبطريركية كانتا لا ترحبان بالتخلي عن المستعمرات اليونانية الكبيرة في بلاغريا وخاصة في كل من بلوفديف Plovdiv, وفارنا رغم أن المناطق الريفية المحيطة بتلك المستعمرات مناطق بلغارية تماماً. كما أن الكنيسة اليونانية لم تكن ترغب في التنازل عن أسقفية فيليس Veles في مقدونيا. وما لبث الموقف أن تعقد تماماً عندما دخلت حكومة رومانيا في الصراع بإدعاء حقها في أسقفيتي بيش Pec وأوهريد اللتان كانتا مركزاً بلغارياً كنسياً تاريخياً. ولعل هذه المرارة التاريخية تفسر لنا لماذا عجزت المجالس البلغارية-اليونانية التي أنشاها الباب العالي عن الوصول إلى تسوية للأمور. ولأن الحكومة العثمانية كانت تدرك أن موضوع الكنيسة البلغارية موضوعاً سياسياً أكثر منه دينياً, وجدنا أن السلطان العثماني يصدر فرماناً في 1870 بإنشاء وظيفة "نائب بلغاري لبطريرك استانبول" تحددت ولايته الدينية قانوناً على بلاد شملت بلوفديف وفارنا على طريق تسوية المشكلات الرئيسية.وأكثر من هذا فقد نصت المادة العاشرة من الفرمان على أنه إذا كان ثلثا سكان أي منطقة أو حي يرغبون في التبعية للنائب الكنسي فسوف يكون لهم هذا. ولقد فتحت هذه المادة الباب على مصراعية لصراع مكثف ومرير ودموي إنفجر في مقدونيا بين كل من اليونانيين والصرب والبلغار.
علىأن فرمان 1870 لم ينه الصراع الكنسي ذلك أن التقاليد الأرثوذكسية تقتضي ضرورة تصديق البطريركية على إنشاء كنيسة جديدة.وظل أطراف الصراع عاجزين على مدى عامين من الجدل والنقاش عن تسوية المسائل الدينية والسياسية المتعلقة برسم حدود الولاية الشرعية لكل منهم. وعندما فشل التفاوض في تسوية الأمر بدأ البلغاريون في التصرف بمفردهم, ففي 6 يناير 1872 وفي إبيفاني Epiphany تم قبول فرمان السلطان كاملاً في محاولة من البطريرك وإجناتيف إنهاء الموقف ولكنهما لو يوفقا في غلق ملف الموضوع. وسرعام ما إنعقد المجلس البطريرك السادس الذي قرر حرمان الأسقف إيلاريون البلغاري وعدداً كبيراً معه من رحمة الكنيسة. وفي مارس 1872 تم تعيين أنتيم الأول Antim نائباً للبطريرك في بلغريا, لكن أول إجراء رسمي قام به كان قراءة تصريح يعلن إستقلال كنيسة بلغاريا فما كان كم البطريرك إلا أن أعلن أن نائبه آنتيم الأول منشق.وبينما لم تقبل هذا الحكم كل من الكنيسة الروسية والرومانية والصربية ورفضه بطريرك القدس, صادق عليه بطاركرة الكنائس الأخرى بما فيهم الكنيسة اليونانية.
ورغم الخلاف الذي حدث بين زعماء بلغاريا حول مسألة تأسيس كنيسة بلغارية مستقلة لها ولاية على أقاليم واسعة, إلا أن إنشاء الكنيسة في النهاية أكسبهم وجوداً ذاتياً لبلدهم بفضل مساندة الحكومة العثمانية التي كانت ترغب في الإحتفاظ بولاء هذا الجزء من ممتلكاتها,وأيضاً بفضل موافقة روسيا مرغمة على إنشاء منصب نائب البطريرك. أما فيما يتعلق بمسألة تحقيق وضع سياسي منفصل لبلغاريا فلم يحدث إتفاق في الرأي حوله فلقد توازى مع جهود إنشاء منصب نائب البطريرك ظهور جماعات تعمل من أجل ضمان إقامة حكومة ذاتية بلغارية ذات علاقة مع الدولة العثمانية. على أن أغلب العناصر بين الجماعتين كانت تفضل العمل الثوري لتحقيق الإستقلال بدلاً من الإجراءات التفاوضية البطيئة ولو أنها حققت إنتصاراً ما بالنسبة لوضع الكنيسة.
ولقد سبق النشاط الثوري الكبير الذي حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أجل الإستقلال عدة تحركات صغيرة بدأت بتأسيس منظمة خيتا Cheta في برايلا Braila بولاشيا بمعرفة فاسيل هادزيفولكوف Vasil Hadzivulkov ومعه الكابتن الصربي فلاديسلاف تاتيش Tatic وكانت منظمة مسلحة صغيرة العدد. وفي 1841 عبرت هذه الجماعة نهر الدانوب وإستقرت في بلغاريا بأمل المشاركة في التمرد العام. ورغم أنها فشلت شأن المنظمات التي أعقبتها, إلا أنها ظلت تمثل ملامح النشاط البلغاري الثوري حتى عام 1868 عندما تأكدت ضرورة أن يعتمد النشاط الثوري في بلغاريا على البلغاريين أنفسهم أكثر من مشاركة منظمات أو جماعات أخرى من خارجها.
وفي تلك الأثناء أيضاً أظهر الفلاحون البلغار في الجفالك ضيقهم ليس بسبب قضية الإستقلال وإنما بسبب نظام الضرائب وأحوال معيشتهم فقاموا بعدة إنتفاضات هنا وهناك أبرزها إنتفاضة في شمال غرب بلغاريا (1835), وفي إقليم فيدين (1841), وفي باريلا Barila (1841-1842), ثم في فيدين مرة أخرى (1850). ولأن تلك الحركات كانت ضعيفة التنظيم فكان من السهل سحقها على يد السلطات العثمانية.
وبعد حرب القرم بدت ظواهر لتجديد النشاط الثوري مرة أخرى حيث أقنعت حوادث الحرب وخاصة هزيمة روسيا زعماء بلغاريا بالتصرف منفردين دون أن ينتظروا مساعدة خارجية لتحقيق الإستقلال. يضاف إلى هذا أن تمتع الصرب وإمارتي الدانوب (رومانيا) بإستقلال أو بحكم ذاتي كان في حد ذاته إغراء للبلغاريين بالنضال لتحقيق هدف مماثل. لكن الصعوبة كانت تكمن في الإتفاق على الطريق الذي يمكن إتباعه لتحقيق هذا الأمل, فآنذاك كانت البلاد تتمتع برخاء إقتصادي نسبي, والمنتفعون منه من التجار والحرفيين والشوربجية كانوا راغبين عن المخاطرة بمصالحهم بطبيعة الحال, وكانوا يفضلون تحقيق المكاسب السياسية عن طريق الدبلوماسية والتفاوض في إطار الدولة العثمانية. وبمعنى آخر كانوا يرغبون في إستخدام الطرق نفسها التي أثبتت نجاحها في حصول إمارتي الدانوب على الحكم الذاتي, ولم يكونوا يريدون ثورة على نمط ما حدث في اليونان والصرب.
لكن كان هناك آخرون يرفضون هذا الطريق وهم أولئك الشباب أبناء كبار التجار والمهنيين الذين توفرت لهم فرص السفر لإستكمال تعليمهم خارج البلاد شأن مجموعة ال48 في مولدايفا وولاشيا (رومانيا) التي سبقت الإشارة إليها. وقد تأثروا شأن نظرائهم من الرومانيين بالإيديولوجيا السياسية الأوروبية, وبالتالي لم يكونوا "رجال الشعب" شأن كل من كاراديورديه,وفلاديميرشكو, وكولوكوترونيس ومن شابههم من زعماء الفلاحين, بل كانوا مثقفون صاغوا أفكارهم على أساس ما تعلموه ودرسوه وليس من خلال تجاربهم الميدانية.
وبينما تشكلت أفكار شباب الرومانيين بتعليمهم الفرنسي تأثر البلغاريون بدراستهم في المدارس اليونانية والمعاهد الروسية وفي مدارس الإرساليات الأمريكية البروتستنتية في بلغاريا واستانبول إلى حد ما. وفي تلك المعاهد تعرضوا للإيدولوجيا السياسية الليبرالية-القومية. أما الذين تعلموا في روسيا فقد ذهبوا إليها من خلال منح دراسية خصصتها منظمة سلافية تكونت في موسكو عام 1858 بإسم "الجمعية الخيرية الموسكوية" كرست نفسها لخدمة السلاف الأرثوذكس ورفاهيتهم. وقد حدث أن إتصل هؤلاء الشباب بحركة الشباب الروسية الراديكالية في ستينيات القرن التاسع عشر. وكانت كتابات كل من الكسندر هرزن Herzen, وتشيرنشفسكي N.G. Chernyshvesky, ودوبروليوبوف N.A. Dobroliubov, وبيساريف D.I. Pisarev تعبر عن الشخصية البلغارية وتنتقد شخصية قيصر روسيا الأوتوقراطية ولهذا عاد هؤلاء إلى بلادهم غير معجبين بنموذج إمبراطورية القياصرة الروس, بل لقد إستقر في تفكيرهم ضرورة تبني برامج ثورية إجتماعية.
ونظراً لشدة رقابة السلطات العثمانية على الحركة في البلاد ومعارضة كثير من البلغاريين للعمل الثوري فقد تم إعداد الخطط الأولى للعمل خارج بلغاريا في كل من الصرب وإمارتي الدانوب (رومانيا). وكانت حكومات تلك البلاد تغمض عينها عن المتآمرين البلغاريين على أرضيها أو تقدم المساعدة لهم أملاً في الحصول على منافع من وراء ذلك بطريقة أو بأخرى. غير أن زعماء الحركة البلغارية لم يكونوا أبدأً متحدين في أهدافهم,وبحكم تكوينهم الإيدولوجي بددوا كثيراً من طاقاتهم في مناقشة المبادئ, وقد إنحصرت المشكلات الرئيسية التي واجهتهم في أربع مشكلات: أولها . . هل يناضلون من أجل حمك ذاتي في إطار الدولةالعثمانية أم من أجل الإستقلال التام, والثانية . . هل ينضمون إلى فيدرالية بلقانية وإذا كان ذلك كذلك فأي نوع من الفيدراليات ينضموا إليها, والثالثة . . هل يعتمدون على مساعدات خارجية أم على جهودهم الخاصة, أما المشكلة الرابعة فكانت تتعلق بنوع التنظيم الداخلي الذي يجب أن تكون عليه دولة بلغاريا المرتقبة.
كان كل من جورج راكوفسكي Rakovski, وليو بن كارافيلوف Liu Ben Karavelov, وفاسيل ليفسكي, وخريستو بوتيف Botev أهم زعماء الثورة البلارية قاطبة, إذ كان كل منهم يمثل مرحلة في تطور الحركة القومية ولاا يمكن فهم أفكارهم إلا بالرجوع لخلفية الحوادث . . فعندما كانت الصرب في مطلع ستينات القرن التاسع عشر مركزاً للنشاط البلغاري كان لراكوفسكي مقراً لعملياته في بلجراد ونوفي صاد Novi Sad, وقد ساعدته حكومة الصرب في تنظيم كتيبة بلغارية وفي طبع الكتب والنشرات وفي 1861 أصدر جريدته "بجعة الدانوب" Dunavski Lebed وكان يعتقد شأن فاسيل ليفسكي فيما بعد أن تكتيكات منظمة خيتا Cheta ليست كافية وأنه ينبغي الترتيب للقيام بثورة شاملة داخل بلغاريا نفسها. كما كان يرغب في الدخول في فيدرالية مع الصرب رومانيا وليس مع اليونان. ورغم أنه تلقى تعليمه في المدارس اليونانية, إلا أنه كان يرغب في إبعاد النفوذ اليوناني عن بلاده. والخلاصة أن فلسفته السياسية كانت تابعة من الليبرالية البلقانية.
وفي كل الأحوال لم يكن من الممكن أن يتحاشى البلغاريون في نشاطهم التصادم مع المجموعات القومية الصربية, إذ سرعان ما تصادم راكوفسكي واتباعه بمؤيديهم من الصربيين حول مسألة وحدة سلاف البلقان, ذلك أن الصرب كانت قد تبنت برنامجاً للتوسع يستهدف السيطرة على المناطق الجنوبية السلافية التي كانت في الوقت نفسه مطمعاً للبلغاريين. وهكذا وفي 1862 وبعد إنتهاء أزمة قصف العثمانيين لبلجراد إنتقل مركز الحركة البلغارية إلى بوخارست (رومانيا), وفي الوقت نفسه إحتفظ البلغار بتعاون وثيق مع الصرب وخاصة أثناء حكم الأمير ميشيل. ورغم الخلاف الذي كان قائماً بينأبناء الحركة إلا أن الإعداد للعمل السري لثورة بلقانية عامة كان يجري متوازياً مع جهود الأمير ميشيل من أجل توحيد حكومات البلقان.
ومن ناحية أخرى قدمت رومانيا أفضل الفرص للثوار البلغار الذين يعملون من أراضيها, فمثلاً تعاطف معهم الحزب الليبراالي الحاكم ولم يكن موضوع حدود أراضي بلغاريا المرتقبة مثار خلاف مع رومانيا آنذاك ربما بتاثير وجود جالية كبيرة من التجار البلغار كانوا يعيشون في بوخارست ومدن موانئ الدانوب. وفي هذا المناخ المواتي واصل راكوفسكي نشاطه وفي أبريل ومايو 1866 تم إيفاد مجموعتين من البلغار عبر الدانوب للعمل في إطار خطط منظمة خيتا, وعندما أخفقتا في مهمتهما أصبح التجار البلغار يعارضون تكرار إجراءات من هذا النوع مرة أخرى وتجمدت الأمور حتى مات راكوفسكي في العام التالي.
وعلى الرغم من الفشل الذي حاق بخطط منظمة خيتا, إلا أنها ظلت تلعب دوراً رئيساً في التخطيط الثوري. ففي 1868 تم تكوين جمعيتين ثوريتين برئاسة كل من حاجي ديميتور Hadzhi Dimitur, وغصطفان كارادجا Karadzha وهما منمنظمة خيتا وكانت خطتهما تقضي بعبور الدانوب بإتجاه ستارا بلانينا Stara Planina لتأسيس حكومة ثورية تقوم بالإعداد لإنتفاضة بلغارية عامة. وهكذا وفي يوليو 1868 عبر مائة وعشرون رجلأً الدانوب غير أن دورية تركية من خفر السواحل إكتشفتهم وتم الإجهاز عليهم في غضون إسبوعين.
وبعد وفاة راكوفسكي تولى أمر الحركة كل من كارافيوف, ولفسكي,وبوتيف, وكان من راي كارافيلوف وهو أكثر الثلاثة إعتدلاً أن ترتبط بلغاريا بالدولة العثمانية على غرار إرتباط المجر بالنمسا بمقتضى تسوية أوزجليخ Ausgleich وفي هذه الحالة يصبح السلطان العثماني ملك بلغاريا. وهذا الإرتباط في رأيه يقطع الطريق على رغبة الصرب واليونان في الإستيلاء على بلغاريا التي يطالبان بها. لكنه تخلى عن هذه الخطة فيما بعد وأيد فكرة تأسيس فيدرالية البلقان ومعتقداً أن قيام إنتفاضة عامة في البلقان أمر ضروري لحصول البلغار على حريتهم وهذه لا تتم إلا إذا بقيت الخطط الثورية قائمة. ولما كان سياسياً ليبرالياً فقد كان يتوجس خيفة من سيطرة روسية قد تحدث في المستقبل.
أما فاسيل ليفسكي فكان أكثر الثلاثة قرباً لتقاليد ثورة الرومانيين, إذ كان يرغب في تحقيق إنفصال لبلغاريا عن الدولة العثمانية عن طريق قيام ثورة فلاحية عامة دون الإعتماد على دول اخرى. وكان يعتقد شأن راكوفسكي بأهمية تكوين شبكة ثورية في بلاد البلقان, وعلى هذا ذهب إلى بلغاريا في عام 1869 لتكوين لجان تعد للثورة في المستقبل.
أما ثالث هؤلاء خريستو بوتيف فكان أعظم شعراء البلغار قاطبة,وعلى العكس من زميليه كان إشتراكي النزعة ويأمل في إمكانية قيام ثورة عامة لا تؤدي فقط إلى الإستقلال السياسي بل إلى التغيير الإجتماعي. وكان يرى بلادهخ بلغاريا في المستقبل جمهورية ترتبط بكونفدرالية بلقانية من دول حكوماتها متشابهة. ورغم أنه بلور معتقداته أثناء تعلمه في روسيا إلا أنه لم يربط نفسه بتبعية لها.
على كل حال ففي 1870 إتحدت الجماعات المتصارعة والزعانات المتنافسة في لجنة واحدة بغسم "اللجنة المركزية للثورة البلغارية" إجتمعت في 1872 وضمت ممثلين من بلغاريا ومن جماعات البلغار خارجها وتم الإتفاق على تبني حل وسط من مختلف البرامج الثورية للجميع يقضي بإستخدام الوسائل الثورية للتحرر من السيطرة العثمانية وليس أساليب التفاوض, وأن يكون الغرض الرئيسي للحركة تكوين فيدرالية تضم كل من بلغاريا ورومانيا والصرب والجبل الأسود واليونان تتمتع كل منها بالحكم الذاتي. غير أن الإختلاف الكبير في وجهات النظر داخل اللجنة المركزية حال دون الإتفاق على طبيعة التنظيم الداخلي للبلاد في حال نجاح الثورة.
ورغم أن كارافيلوف كان رئيس اللجنة المركزية, إلا أنه عهد إلى فاسيل ليفسكي ومساعده الرئيسي ديميتور اوبشتي Dimitur Obshti بالعودة إلى بلغاريا للإعداد للثورة. غير أن هذا الترتيب إنتهى إلى كارثة ذلك أن اوبشتي في سبيل الحصول على أموال لتمويل الثورة قام بسرقة قطار البريد التركي دون الرجوع إلى اللجنة مما أدى إلى إعتقاله وكشف عناصر الحركة, ولكي ينفي عن نفسه تهمة السرقة أما المحققين صرح بأنه ليس مجرماً عادياً وإنما هو رجل ثورة محترم وإعترف لهم بالخطط العامة للقيام بحركة تمرد ةعصيان على السلطات العثمانية. وبهذه المعلومات تم غعتقال ليفسكي الذي شنق زمعه اوبشتي وآخرون. وأمام هذهالتحولات التي لم تكن متوقعة ترك كارافيلوف وآخرون اللجنة المركزية في عام 1874 وأقتنعوا بأهمية وضرورة الإعتماد على مساعدة خارجية وخاصة من الصرب وجبل الأسود إذا كان عليهم تحقيق أهدافهم. كما أدركوا أيضاً أنه بتعيين العمل على تلقين زملائهم القوميين داخل بلغاريا روح النضال.
ورغم تلك الإحباطات إستمرت خطط التمرد على الحكم العثماني قائمة فعندما إنفجرت الثورة في البوسنة-هرسك عام 1875 وعجلت بنشوب أزمة كبرى أسرعت القيادة الجديدة للجنة المركزية للثورة البلغارية بقايدة خريستو بوتيف وغصطفان ستامبولوف stambolov في لإعداد لثورة تتركز في مدن لوفش Lovech, وستارا زاجورا Stara Zagora, وسيلفن Siliven, وشومون Shumen, وتيرنوفو Turnovo, وروزيه Ruse. غير أن الثورة واجهت نفس المصير الذي واجهته ما قبلها من ثورات وذك بسبب التسرع والتخطيط المتواضع والتوقيت السئ, وقصور التأييد الداخلي للثورة, ففي شيربان Chirpan مثلاً كانت اللجنة تنتظر تقدم ثلاثمائة متطوع لكن الذين تقدموا كانوا أربع وعشرون متطوعاً فقط. وفي روزيه بلغ عد المتطوعين خمس وعشرون, وفي شومن بلغوا ستة عشر, وبالتالي كان من السهل علىالسلطات العثمانية أن تسحق الثورة.
ومع هذا فإن تلك الكوارث التيحاقت بالحركة الثورية لم تضعف قيادتها البلغارية في الخارج أو تجعلها تيأس, ذلك أن إستمرار الثورات في البوسنة-هرسك والإستعداد الواضح للحرب في كل من الصرب والجبل السود واليونان جعل فرصة القيام بثورة ناجحة تبدو ماثلة. ففي تلك الأثناء كانت قبضة الحكومة العثمانية قوية في بلاد البلقان الأخرى, وبالتالي لم يكن بإمكان السلطات العثمانية تحريك قوات عسكرية إلى بلغاريا. وفي إطار تلك الظروف تم التخطيط للقايم بثورة أخرى كبيرة تحت قيادة جورج بنكوفسكي Benkoveski وتوجيهه حيث تم تجميع السلاح وسائر الإمدادات مرة أخرى في رومانيا للقيام بثورة في مايو 1876. ولتنظيم الحركة تم تقسيم بلغاريا إلى أربعة أقسام لكل منها رئاسة في كل من تيرنوفو, وسيلفن, وفراتزا Vratsa وبلوفديف. وهكذا وفي يناير 1876 عبر منظمو الثورة إلى بلغاريا وإتخذوا من بلوفديف مركزاً لهم.
وفي نهاية أبريل إجتمع ممثلو مجموعات الثورة وقرروا التحرك يوم 13 مايو. غير أن السلطات العثمانية إكتشفت خطط الثورة, ولماأدرك الثوار إنكشاف أمرهم قرروا التعجيل بالتحرك قبل الموعد المحدد وذلك في الثاني من مايو في كل من كوبريفتشتزا ثم في باناجيورشتا Panagiuishte, وكليسورا Klisura, ودارت معارك ضخمة في المناطق الجبلية وخاصة في رودوب Rhodope, ومرة أخرى لم تكن هنهاك ثورة عامة بلغارية.
ولما كانت الحكومة العثمانية مشغولة بقواتها في كل مكان فلم يكن بإمكانها إلا إرسال عدد محدود جداً من العساكر لمواجهة المتمردين لكنها إضطرت إلى إرسال فرق عسكرية إضافية غير نظامية لقمع المتمردين. غير أن قيام المتمردين بذبح الأتراك المدنيين المقيمون في البلاد كما حدث في باد بلقانية في ظروف مماثلة أثار خاطر العثمانيين فحدثت معارك قتالية ثقلية, وإرتكبت أعمال وحشية من الجانبيين, وشاعت في أوروبا أخبار الأعمال الإنتقامية التي قام بها العثمانيون وكذا الفظائع التي إرتكبها البلغار حيث لم تكن أوروبا تعرف طبيعة ما حدث إلا من وجهة نظر البلغاريين فقط. وفي هذا الخصوص إختلفت المصادر في تقدير عدد القتلى من البلغاريين جراء قمع ثورتهم, فالعثمانيون قدروا القتلى بنحو 3100 قتيلاً, وقدرها الإنجليز بإثنى عشر ألفاً, والأمريكيون بخمسة عشر ألف, أما البلغاريون أنفسهم فقد قدروا قتلاهم ما بين ثلاثين ألف ومائة ألف.
ةفي الشهر نفسه فقد قدروا آخر محاولة بلغارية للقيام بحركة عصيان ففي نهاية مايو إستقل المركب نفسه رادتزكي Radetzky ومعه حوالي مائتين من أتباعه, ولما تحركت الكرب على سطح الدانوب سيطر الثوار عليها وأرغموا ملاحيها على إنزالهم على شاطئ بلغاريا. ومرة أخرى علمت السلطات العثمانية بالأمر فإعتقلت بوتيف وقتلته وتشتت شمل رفاقه.
وهكذا إنتهت الحركة الثورية البلغارية إلى الفشل التام ذلك أن الخطط الموضوعة كان يمكن أن تنجح في تحقيق الغرض إذا ما تحرك الفلاحون في ثورة عامة فور عبور المجموعات الثورية الصغيرة الدانوب, أو إذا ما إتبع أغلبية البلغار توجيهات اللجان الثورية, وحينئذ كان التدخل الخارجي أمر ضروري لتحقيق الأغراض السياسية المرجوة. وعلى هذا كان على القوميين في النهاية أن ينتظروا وقوع أحداث أوروبية عامة قد تكون مواتية لصالح أهدافهم.
ورغم إخفاق الثوار في تحقيق أي هذف سياسي لهم نحو التحرر من الحكم العثماني, إلا أن هدفاً دينياً قد تحقق حين أعلن في صيف 1876 عن تأسيس هيئة إكليروسية بلغارية منفصلة, وعن تعيين نائب البطريرك في بلجراد وذلك بفعل التفاوض وبمساعدة روسيا والدولةالعثمانية. ولكن وفي أثناء التفاوض مع بطريرك استانبول على المسائل الدينية إتضح الخطر على الأهداف القومية البلغارية وعلى تنظيم الجمعيات الثورية خارج البلاد. ويلاحظ أنه حتى ذلك الوقت وأثناء حوادث ثورة إستقلال اليونان وقيام الحكم الذاتي في رومانيا والصرب كان هناك ثمة مساعدات مشتركة وتعاون بين شعوب البلقان مع قليل من الخصومات حيث لم تكن في تلك البلاد الثلاثة مشكلة مناطق تختلط فيها الأعراق على حين كان هذا الأمر واضحاً في بلغاريا عند الحيدث عن تحديد ولاية نائب البطريرك علىمناطق معينة وكذا وضع الصربيين في منطقة سلافية جنوبية وغير ذلك من مسائل معقدة تارخية. وبصفة عامة كان من شأ، الشجار الذي نشأ عن هذه الأحوال والأوضاع أن يقود شبه جزيرة البلقان إلى مرحلة تاريخية مختلفة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل العاشر أزمة سبعيينات القرن التاسع عشر
تابعنا في الفصول السابقة التطورات الداخلية في كل من الإمبراطورية العثمانية والصرب واليونان حيث إستطاعت "دول" مسيحية ثلاثة خلال القرن التاسع عشر تحقيق قدر من الحرية والإستقلال عن الدولة بدرجات متفاوتة, وإقامة نظام حكم قومي. وفي كل دولة منها تكونت منظمات سياسية إحتل فيها المسيحيون مكانة مهمة وملحوظة سواء قبل الثورات أو فترة الإحياء القومي وتكوين أجهزة الدولة الجديدة الأمر الذي كان يعني أن الحركات القومية أدت إلى تغيير سياسي وليس تغييراً إجتماعياً. ورغم أن كل الدول القومية الجديدة أخذت بأساليب دستورية ليبرالية بدرجة أو بأخرى, إلا أن السيطرة السياسية عملياً إستقرت في يد نسبة ضئيلة من السكان, وحتى هذه النسبة إنتظمت في أحزاب سياسية وأجنحة متنافسة كل منها يحارب للسيطرة على الحكم بحيث كان كل حاكم في تلك الدول في مكانة لا يحسد عليها في مواجهة كل تلك القوى السياسية. وتجدر الإشارة إلى أن حكام البقلان الجدد (الأمراء) لم يكونوا يمارسون حكماً اوتوقراطياً فيما عدا الأمير ميلوش Milos في بداية حكمه للصرب, ذلك أن حكام اليونان ورومانيا بعد 1866 كانوا غرباء عن البلاد وليس لهم حزب خاص يستندون إليه في الحكم بعكس أمير الصرب الذي كان مهدداً دوماً من أسرة مالكة صربية منافسة.
ولما كان حكام البلقان يواجهون دائماً معارضة داخلية مستمرة فقد وجدوا أن افضل طريقة لحماية سلطتهم وتوحيد بلادهم تنفيذ برامج قومية نشطة سواء للحصول على حقوق سياسية أكثر من الدولة العثمانية أو التوسع الإقليمي قومياً. وآنذاك كانت كل أمة من أمم البلقان قد إنتهت من صياغة أهدافها القومية والتي لم تشتمل فقط على ضم بلاد لها فيها غلبة قومية, بل لقد إشتملت على المطالبة بضم بلاد تضم عدة أعراق بلقانية مختلطة وتبرر مطالبتها بحقوق تاريخية وثقافية وجغرافية أو بدواعي إستراتيجية. وفي هذا الخصوص أمامنا ثلاثة برامج ترمز إلى هذا الإتجاه وهي: فكرة اليونان العظمى Great Megal Idea, وخطط إقامة "الصرب الكبرى" كما وردت في ناشرتانيه Nacertanje, ورغبة رومانيا في توحيد ترانسلفانيا وبوكوفينا Bukovina, وبسارابيا ثم دوبروديه Dobrudja, وبانات Banat مع ولاشيا ومولدافيا (إمارتا الدانوب).
وقبيل سبعينيات القرن التاسع عشر لم تدخل تلك الدول في صراع مكشوف حول تقسيم أقاليم البلقان قومياً وذلك بسبب وجود بلاد ما تزال تخضع لحكم عثماني وتمثل مناطق حاجزة للتواصل وهي بلغاريا ومقدونيا والبانيا والبوسنة والهرسك. ولما بدا ممكناً خلال السبعينيات إنسحاب العثمانيين من بعض تلك الأقاليم وخاصة تلك التي كان يصعب تقسيم معظمها على أسس قومية صارمة, بدأت موجة من الإدعاءات المتبادلة بين دول البلقان حيث كانت كل دولة تطالب بنصيب في تلك المناطق مما أدخل عنصراً جديداً في العلاقات البلقانية.ولقد زاد من حدة الصراع والتنافس أن المسألة القومية في السياسة الخارجية لكل دولة قد أصبحت موضوعاً راسخ وعميقاً من أجل التوازن السياسي الداخلي, بحيث أن الحاكم أو الحزب الحاكم الذي يفشل في تحقيق أي تقدم في المصالح القومية يحطم مستقبله السياسي بشكل خطير.
وكلما ضعفت قبضة الحكم العثماني على شبه جزيرة البلقان تصبح الفرصة مواتية أكثر للقوى الكبرى لتحقيق سيطرة مباشرة على المنطقة. والحاصل أنه في بداية القرن التاسع شعر لم يكن لأي دولة أوروبية نفوذ أو سيادة على حياة أي شعب مسيحي من شعوب البلقان. ولكن مع حرب القرم أصبح لثلاثة دول حق الإشراف على اليونان وفرضت روسيا حمايتها على الصرب وعلى إمارتي الدانوب (رومانيا), وحددت معاهدة باريس (1856) التي أنهت حرب القرم واجل كل دول من تلك الدول الحارسة. وكان تدخل تلك الدول في نزاع بين الدولةالعثمانية ورعاياها يعني أن الحدود بين بلاد البلقان تحددها المعاهدات الدولية, وأنه لا يمكن تعديلها أو تغييرها بدون موافقة الدول الموقعة على معاهدة باريس, وأنه لا يمكن لحكومات البلقان أن ترتب شؤونها بمفردها حتى ولو إتفقت بدون رضا الدول الكبرى. وحيث أن الدول الرئيسية في الشؤون الدولية آنذاك روسيا وإنجلترا والنمسا كانت في تنافس شديد فيمابينها وتتربص كل منها بالأخرى فكانت تسوية معظم الخلافات تتم على أساس مبدأ توازن القوى الذي كان يعني أنه لا ينبغي أن تحصل أي دولة من تلك الدول على نفوذ ما أو سيادة في كل المنطقة, وأكثر من هذا أن الإقتراحات التي كانت تقدمها تلك الدول لتسوية مشكلات الحدود بين بلاد البلقان من شأنها أن تؤدي إلى تدمير المصالح المشروعة لأمم البلقان مما أضاف عاملاً آخر على الصراع زاد من تعقيد الموقف الصعب في حد ذاته.
على كل حال لقد بدأت أزمة السبيعنيات التي أظهرت كل تلك المشكلات في دائرة الضوء بثورة الفلاحين المسيحيين في البوسنة والهرسك, وبتأييد ومشاركة عميقة من أهالي الصرب والجبل الأسود. ولكن قبل أن نتناول موضوع هذه الثورة ينبغي أن نشير في عجالة إلى أحوال الجبل الأسود والبوسنة والهرسك خلال القرن التاسع عشر.
لعبت إمارة الجبل الأسود دوراً مهماً في حياة البلقانيين تحت حكم افمارة-الأسقفية (أي يحكمها أمير وأسقف) على فترات متقطعة رغم صغر حجمها وفقرها. فخلال المدة من 1871-1830 تمكن حاكمها بطرس الأول بيتروفيتش من تقوية إمارته داخلياً ومضاعفة مساحتها, ودخل في حرب ضد الدولة العثمانية مرتين أثناء الحملة العثمانية ضد علي باشا حاكم يانينا 1819-1821, والثانية أثناء الحرب اروسية-التركية 1828-1829. وكان خلفه بطرس الثاني المعروف بإسم نييوجوش Niegos شاعر وصاحب قصيدة "إكليل الجبل" Mountain Wreath أخد عظماء أدباء سلاف الجنوب وتمكن من فرض سلطة إمارته على القبائل المتمردة والمعزولة حوله, كما حارب القوات العثمانية أيضاً في 1832.
ثم حدث تغيير كبير في عهد خلفه الأمير دانيلو الأول Danilo بيتروفيتش (1852-1860) عندما رغب في الزواج من ناحية وفي علمنة الإمارة من ناحية أخرى (أي إلغاء إشتراك الأسقف في الحكم), وبزواجه جعل عرش الإمارة وراثياً في عائلة بتروفيتش. وتجدد القتال بينه وبين الدولة العثمانية في 1852 وفي 1858. وخلفه على العرش في 1860 نيقولا الأول الذي كان يعرف أحياناً بإسم نيكيتا Nikita والذي ظل متربعاً على العرش حتى 1918. وخلال الفترة الأولى من حكمه إستمر الصراع مع الدولة العثمانية قائماً حول تبعية أقاليم بعينها في البوسنة والهرسك والبانيا لأي من الطرفين وكذا حقيقة وضع إمارته (الجبل اسود) الذي كان السلطان العثماني يعتبرها جزء من ممتلكاته. وفي هذا الصراع توثقت العلاقات بين أهالي الصرب والجبل الأسود نظراً لمصالحهما المشاركة وقوميتهم الصربية العامة وعقيدتهم الأرثوذكسية رغم وجود منافسة دائمة ومضمرة بين الطرفين حول قيادة شؤون الصربيين وسلاف الجنوب. كما كان أمراء الجبل الأسود يحاولون إستثمار الخلاف بين عائلتي كاراديوريفيتش Karadijordjevic واوبروفيتش Obernovic لمصلحتهم. وما أن أطلت السبعينيات حتى كانت الجبل الأسود تسعى بشكل رئيسي للحصول على ميناء على البحر الإدرياتي وتبحث في كيفية ضم الهرسك إليها.
أما البوسنة والهرسك فكانتا شأن الجبل الأسود تمثلان مشكلة دائمة بالنسبة للدولة العثمانية ولكن لأسباب مختلفة, فالجيل الأسود كانت مركزاً للتمرد المسيحي, أما البوسنة فكاتنت خلال الجزء الأول من القرن على الأقل تقف بكل صلابة ضد الإصلاحات العثمانية حفاظاً على التقاليد القديمة, وكانت خلال حكم السلطان سليم الثالث مركزاً قوياً للأعيان بإعتبارها أحد الأماكن القليلة لتي حدثت فيها عمليات إعتناق للإسلام كثيرة العدد بعد الغزو العثماني وبالتالي كان نبلاء المنطقة هم البكوات من المسلمين والسلاف على السواء, ومع ذلك فقد وقفوا بصلابة ضد الولة العثمانية على سلطتهم وإن كان ذلك على حساب فلاحيهم المسيحيين بطبيعة الحال تضمهم قومية واحدة ويتكلمون لغة واحدة. وهكذا ثار أولئك البكوات ضد الدولة العثمانية في أعوام 1821, 1828, 1837, 1831 وتمكنوا من التمتع بحكم ذاتي محلي كامل حتى عام 1850 حين سحقتهم القوات العثمانية بقيادة عم باشا ليعودوا مرةأخرى تحت سلطة الحكومة المركزية العثمانية.
ورغم الحقيقة القائلة بان كل من البكوات والفلاحين في البوسنة والهرسك ينتمون إلى أصل قومي واحد, إلا أن وضع الفلاح هناك كان أسوأ بكثير من أي مكان في بلاد البلقان, إذ كانت الضرائب المفروضة عليه وكذا أعمال السخرة في أرض البكوات تستهلك أكثر من 40% من دخله. ومما زاد الأمر سؤ إن التنظيمات العثمانية لم تفرض في تلك المنطقة ولهذا فإن ثورات الفلاحين التي وقعت هناك في أعوام 1857-1858, 18611862 كانت تستهدف تحسين الأحوال الإقتصادية وليس التغيير السيساي. ثم وقعتأسوأ الأزمات في منتصف السبعينيات بسبب نقص محصول عام 1874 وهي الأزمة التي ترتب عليها إنفجار عصيان مسلح في الهرسك ثم في البوسنة عجزت السلطات العثمانية عن قمعه مثلما عجزت من قبل في اليونان والصرب لأن قيادة الفلاحين كانت محلية وإستخدمت أسلوب حرب العصابات وظلت شكاوي المتمردين الرئيسية تتمثل في بؤس أحوال المناطق الريفية.
ولما كانت البوسنة والهرسك في حالة تمر ضد الحكم العثماني فلم يكن من الممكن أن تقف الصرب والجبل الأسود بعيداً عما يحدث, ومن ثم فقد أيدتا التمرد وتعاطفتا مع أهله بل لقد إشترك بعض الصربيين في تنظيم الإنتفاضات هنا وهناك. وكان وراء موقف حكومة الصرب المؤيد للبوسنة والهرسك يوفان ريستتش Jovan Ristic الذي كان مسئولاً عن السياسة الخارجية للبلاد في عهد حكم الأمير ميلان Milan, وهو الذي جعل من عاصمة بلاده بلجراد مركزاً لتنظيم البلقانيين ضد الدولة العثمانية بشكل عام ومن ذلك التغاضي عنوجود مجموعات ثورية مختلفة في بلجراد من بلاد بلقانية أخرى مثل الثوريين البلغار عكس الحال أيام الأمير ميشيل.
على كل حال لقد إستثارت أنباء ثورة البوسنة المشاعر القومية والدينية لدى الصربيين ومن هنا جاءت إنتخابات أغسطس 1875 بجمعية فاز فيها الليبراليون بأغلبية وكانوا يؤيدون إتخاذ ما يدعم موقف متمردي البوسنة, وتشكلت حكومة ليبرالية برئاسة ستيفشا ميهايلوفيتشStevca Mihajlovic تولى فيها ريستش وزارة الخارجية,وتولى يفرم جرويتش Jevrem Grujic وزارة الداخلية وأخذت تعمل على إتخاذ مايمكن لدعم البوسنة بشكل صريح. وهنا ضاق الأمير ذرعاً بسبب الضغوط التي تعرض لها لكي يأخذ موقفاً إيجابياً من دعم التمرد وزاد موقفه حرجاً عندما أبدى أمير الجبل الأسود نيقولا في أغسطس 1875 تأييده لدعم البوسنة. ومع هذا ظل ميلان على موقفه, ذلك أنه كان يدرك ، بلاده غير مستعدة للحرب فضلاً عن أنه تلقى تحذيرات من الدول الكبرى بعدم التحرك. وعلى هذا وفي أكتوبر قام بتشكيل حكومة إئتلافية جديدة برئاسة ليوبومير كالفتش Ljubomir Kaljevic لكنها لم تبق في الحكم إلا سبعة أشهر. وآنذاك كانت ثورة البوسنة قد أصبحت أزمة دولية الأمر الذي جعل حكومة الصرب تتطلع لروسيا طلباً للرأي والتوجيه, لكن لم يكن معروفاً ما الذي تريده روسيا وكل ما هنالك من الناحية الرسمية ومعها دول أخرى حذرت الصرب من التورط في التمرد ولكن في الوقت نفسه أبدت الدوائر السلفية في روسيا حماساً عظيماً وواضحاً تجاه التمرد.
ورغم أن المحافظين في الحكومة الإئتلافية الجديدة كانوا أقلية إلا أنهم إستمروا في تأييد السلم, إلا أن الأمير ميلان أرغم على تغيير سياسته وبدا أن الظروف الدولية دفعته دفعاً لكي يتصرف ففي مايو 1876 إنفجرت البلغار وتبعتها أزمة داخلية كبيرة في الدولة العثمانية بعزل السلطان عبد العزيز عن العرش وخلفه مراد الخامس. وفي الشهر نفسه وصل إلى بلجراد تشيرنييف Cherniaev بطل الحملات الروسية على أواسط آسيا لتقديم الخدمات اللازمة, وتغلغل المتطوعون الروس بكثرة داخل البلاد بترتيب من لجان الرابطة السلافية حتى بدا واضحاً أن روسيا تساند بقوة تدخل الصرب لدعم تمرد البوسنة رغم التصريحات الروسية التي تنفي ذلك.
على كل حال . . ففي مايو خرجت الحكومة الإئتلافية من الكم وحلت محلها حكومة برئاسة ريستتش وجرويتش مرة أخرى, وكانت ومعها الرأي العام تؤيد دعم تمرد البوسنة. وفي الشهر التالي (يونية) قررت القيام بحملات عسكرية على كل من البوسنة, وسنجق نوفي بازار, ومناطق نيش وتيموك Timok وعلى أمل أ، يقوم البلغار في الوقت نفسه بثورة تشد من أزر ثورة البوسنة. وهكذا وفي يوليو 1876 إقتحمت قوات الصرب والجبل الأسود, ولاية البوسنة والهرسك بهذف ضم البوسنة للصرب وضم الهرسك للجبل ألأسود. ولكن بينما كانت قوات الجبل الأسود تقوم بعملياتها بكفاءة ملحوظة تعرضت عمليات الصرب لكارثة عسكرية.
والحاصل أن الصرب كما تخوف أميرها (ميلان) لم تكن مستعدة للحرب بحال من الأحوال, فالمحاربون همفلاحون تحت قيادة غير مدربة وبالتالي عجزوا عن إيقاع هزيمة بالقوات العثمانية التي كانت أفضل تجهيزاً وتحت قيادة مدربة على فن القيادة والقتال,كما أن خبرة الجنرال الروسي تشيرنييف الذي جاء لدعم الصرب كانت محدودة حتى لقد أصبح المتطوعون الروس تحت قيادته مجرد فضيحة عسكرية في معارك القتال, فضلاً عن وقوع خلاف كبير بين الروس والصربيين بسبب الترتيب والتنسيق معاً. ومما أضعف من موقف الصرب في الحرب عدم قيام ثورة بلقانية كبرى في إماكن أخرى فالبلغار لم يثوروا كما كان منتظراً, وظلت رومانيا واليونان تنتظران أن الإحتمالات المتوقعة من المعارك, والمصيبة الأكبر في هذا المقام إخفاق حكومة روسيا في تقديم أية مساعدات عملية.
ولقد حاولت القوى الدولية إيقاف المعارك في أقصر وقت ممكن إذ كان لكل منها مصلحة كبيرة في إنهائها, فتم التوصل إلى هدنة مسلحة في أغسطس. إلا أن الصربيين خرقوا في الشهر التالي (أكتوبر) فإنهزموا هزيمة ساحقة فتحت الطريق أمام القوات العثمانية إلى وادي مورافا Morava وبلجراد. ولم تتدخل روسيا ولكنها وجهت إنذاراً للحكومة العثمانية بالتوقف وفرضت هدنة في الثالث من نوفمبر. ورغم العودة لحالة السلم, إلا أن الحرب كان لها تأثير كارثي على الصرب مادياً ومعنوياً, فقد خسرت خمسة عشر ألف رجلاً من مقاتيلها, وبدا واضحاً أن جيشها لا يمكن أن يتكافأ بحال من الأحوال مع الجيش العثماني خصمها.
ورغم إنتهاء الحرب على ذلك النحو, إلا أن مشكلة ثورة البوسنة ظلت باقية كما هي ومن هنا وجدت القوى العظمى نفسها مشدودة مرة أخرى لتسوية المسائل التي أدت إلى تمرد الفلاحين في القوت الذي لم يكن أي منها يرغب في إحياء المسألة الشرقية من رقادها الطويل, ذلك أنه بعد إنتهاء حرب القرم (1856) شهدت بلاد البلقان هدوءاً نسبياً, وإنتقلت الأحداث الكبرى بعد تلك الحرب إلى وسط أوروبا وإيطاليا حيث تمكنت بروسيا من هزيمة مملكة النمكسا والمجر في 1866 الأمر الذي فرض ضرورة إعادة تنظيم المملكة في أوزجليخ Asgleich عام 1867 وذلك بتقسيمها إلى قسمين إداريين (النمسا والمجر) ولكن متحدين تحت حكم إمبراطور واحد, ووزير واحد لكل من القسمين في ئؤون الحرب, والشؤون الخارجية,والشؤون المالية. أما الحادث التالي فكان وقوع الحرب البروسية-الفرنسية وإعلان دولة المانيا الموحدة تحت زعامة بروسيا. . دولة قوية أصبح لسياستها فيما بعد تأثيراً كبيراً في شؤون البقلان بعد أن كان دور بروسيا من قبل ضئيلاً هناك كما رأينا.
ورغم توحيد المانيا قد تم بموافقة روسيا ومساعدتها, إلا أن الدولة الجديدة سرعان ما أعلنت رفضها لمواد معاهدة باريس (1856) الخاصة بالملاحة في البحر الأسود ونجحت في الحصول على موافقة دولية لإعادة النظر في هذا الموضوع مع أنها لم تكن قد شرعت آنذاك في بناء أسطول بحري. ولكن هذا الموقف الألماني جعل الطريق أمام روسيا مفتوحاً مرةأخرى لمواصلة سياسة بلقانية نشطة.
والحاصل أنه بعد تلك الأحداث العظمى قامت كل من روسيا والمانيا والنمسا في مطلع السبعينيات بتكوين "عصبة الأباطرة الثلاثة",وكانت رابطة غير معلنة رسمياً وتقوم على تبادل الزيارات والإتصالات بهدف التعاون معاً في حالة نشوب أزمة مجاورة. وعلى هذا عمل الثلاثة معاً أثناء ثورة البوسنة في 1875 لا لشيء سوى أنه لم يكن في مقدور أحدهم مواجهة الأزمة بمفرده, وكانوا يودون إنهاء الثورة سلمياً حتى ولو إقتضى الأمر تدخل خارجي بالوساطة حتى لا تقود هذه الثورة منقطة البلقان إلى تمرد مسيحي كبير.
والحقيقة أن روسيا كانت أكثر الحلفاء الثلاثة وقوعاً في موقف لا تحسد عليه, ذلكأنها كانت تزعم بأن لها علاقة خاصة بمسيحي البلقان, مما يعني أن لها حق التدخل في شؤون البوسنة, وأن من واجبها أن تتصرف إذا ما تعرضت حقوق المسيحيين للخطر. ولسوء الحظ فإن أزمة البوسنة وقعت في وقت كان الحماس يغمر المجتمع الروسي بكل ما هو سلافي فأضيف إلى وحدة المذهب الأرثوذكسي في الرابطة السلافية وحدة الرابطة العرقية مع الروس. لكن الرابطة السلافية كانت شيئاً أكبر من المشاعر اروية, إذ كانت الرابطة تتطلع لتحرير الشعوب السلافية الأرثوذكسية من السيطرة الأدبية العثمانية والنمساوية وتوحيدهم في شكل فيدرالي تلعب فيه روسيا دور السيادة. ومن الملاحظ أن شخصيات روسية مرموقة بينها ولي العهد (الإمبراطور الإسكندر الثالث فيمات بعد) ومعه إجناتيف وعدد كبير من الجنرالات كانوا يؤيدون هذه الأفكار. وبطبيعة الحال كانت الرابطة السلافية تود مساعدة كل شعوب البلقان ضد الحكم العثماني ومن ثم كانت وراء أرسال المتطوعين والإمدادات اللازمة للصرب.
وعلى العكس من إتجاهات الرابطة السلافية كان معظم المسئولين في روسيا يكرهون التورط في الأزمة القائمة في البلقان آنذاك,فقد كانوا يخشون أن تجر روسيا إلى حرب مع الدولة العثمانية قد تدخل معها القوى الكبرى وتتكرر معها من جديد حوادث حرب القرم,أو قد تواجه تحالفاً أوروبياً للمحافظة على توازن القوى. وهكذا تبلورت السياسة اروسية رسمياً في العملا على التوصل إلى حل عن طريق التفاوض بين مختلف القوى وبتفاهم وثيق بين النمسا والمانيا, على حين أن أنصار الرابطةالسلافية إستمروا في إصرارهم على ضرورة تقديم مساعدة روسية للتمردين البلقان, وعلى أن تتم التسوية النهائية للمشكلة في إطار تفاهم ثانئي روسي-عثماني.
ولما كان الموقف الروسي يتطابق مع مصالح النمسا والمانيا فكان على هذه الدول الثلاثة أن تتعاون معاً أثناء الأزمة. أما بريطانيا فكانت أكثر الدول الكبرى إثارة للقلق في هذه المسألة, إ كان رئيس حكومتها (بينامين دزرائيلي) لا يريد أن تتعرض المصالح العثمانية للتهديد بالمبدأ الذي وضعته ألا وهو المحافظة على تكامل الإمبراطورية العثمانية من باب المناورة بين الدول الطامعة في الإمبراطورية, وكان يكرهالعلاقة الوثيقة التي تربط بين الدول الثلاثة المحافظة (روسيا والمانيا والنمسا) وهي العلاقة التي منحتها نفوذاً وهيمنة على الشؤون الأوربية. وهكذا فعندما بدا واضحاً عجز الدولةالعثمانية عن قمع التمرد في البوسنة والهرسك عملت تلك الدول الثلاثة معاً للمحافظة على الإجراءات الإصلاحية التي تم إتخاذها من قبل. وفي هذا الخصوص تقدم وزير خارجيةالنمسا يوليوس آندراسي Andrassy في ديسمبر 1875 بغقتراح لتسوية الموقف قبلته الدولة العثمانية ولم يقبله المتمردون.وفي مايو 1876 إقترحت الدول الثلاثة خطة ثانية رفضتها بريطانيا والدولة العثمانية. وفي تلك الأثناء كانت الثوةر البلغارية قد أخذت مجراها, ودول البلقان تستعد للحرب, والدولة العثمانية تعيش وسط الأزمة التي حملت مراد الخامس إلى عرش السلطنة في مايو ثم إعتلاء اللسطان عبد الحميد الثاني العرش في أغسطس من العام نفسه.
على أن إندلاع الحرب بين الدولة العثمانية وأتباعها أمراء الصرب والجبل الأسود لم تزعج الأباطرة الثلاثة (روسيا والمانيا والنمسا) ففي يوليو 1876 وافق وزير خارجية روسيا جورشاكوف A.M. Gorchakov, وآندراسي (وزير خارجية النمسا)* على ما قرره رايخستاج المانيا. ورغم نشوب الخلاف فيما بعد حول حقيقة ما قرره الرايخستاج, إلا أن التحالف الثلاثي حافظ على التوازن بين مصالح أطرافه. وفي هذا الخصوص تقرر أنه في حالة هزيمة دويلات البلقان في الحرب أمام الدولة العمثانية فسوف تتعاون النمسا وروسيا للإبقاء فسوف تقدم الدولتان على تقسيم مناطق البلقان العثماني بطريقة تحول دون إقامة دولة بلقانية كبرى, وأن يتم إقرار الحكم الذاتي في بلغاريا وروميليا, وأن تكون استانبول مدينة حرة, وتحصل اليونان على تساليا وكريت. أما روسيا فتحصل بالمقابل على على جنوبي بسارابيا ومنطقة في آسيا الصغرى, وتحصل النمسا على البوسنة والهرسك. وعلى هذا وفي ضوء تلك الترتيبات ينبغي الإشارة إلى أن البلاد التي كانت الصرب تستهدف ضمها من هذه الحرب دخلت في حوزة النمسا وهو ما كان يتناقض تناقضاً كاملاً مع آمال الرابطة السلافية.
على كل حال . . فبعد إنتهاء حرب قوى البلقان ضد الدولة العثمانية في 1876 إستمرت الدول الكبرى في محاولة للتوصل إلى تسوية ترضي شعوب البلقان وتراعي مصالح تلك الدول اليت قامت في ديسمبر 1876 بمحاولة أخيرة لإنقاذ الموقف حيث تم التوصل في مؤتمر الأستانة إلى إقتارحات إصلاحية جديدة لرعايا الدولة من غير المسلمين. ولكن في 23 ديسمبر أعلن السلطان العثماني عن تقديم دستور عام للدولة وبالتالي لم تعد مشروعات الإصلاح المقدمة ضرورية,وعلى هذا أصبح لا مناص من قيام روسيا بغعلان الحرب على الدولة العثمانية. وفي هذا الخصوص إتفقت روسيا والنمسا في يناير 1877 على أن تبقى النمسا على الحياد ومعها البوسنة والهرسك اللتان سبق أن تقرر ضمهما للنمسا فيما عدا سنجق نوفي بازار الذي يفصل الصرب عن الجبل الأسود والذي وسف يتقرر مصيره فيما بعد. كما وافقت روسيا على ألا تحارب قواتها في أراضي هاتين الولايتين.
وهكذا . . وبعد أن وقعت روسيا إتفاقية مع رومانيا أعلنت الحرب على الدولة العثمانية في 24 ابريل 1877. لكن الحرب لم تكن سهلة فقد وضعت روسيا خطتها على أساس أن تكون قصيرة المدى وبالتالي لم تضع في حساباتها أن تستعين بأطراف أخرى. لكن منذ البداية عجزت القوات الروسية عن الإستيلاء علىقلعة بلفنا التركية التي ظلت تحاصرها من يولية إلى ديسمبر دون جدوى الأمر الذي أوقع ولايات البلقان في حالة من الرعب الشديد. وأمام هذا العجز طلبت مساعدات من رومانيا والصرب والجبل الأسود واليونان. ولم تستجب لهذا الطلب سوى رومانيا التي رأت في الحرب الوقت المناسب لتحقيق أهداف معينة. وأما الباقون فكانوا يبحثون عن توفير الأموال اللازمة للتجهيزات العسكريةو وكيفية توفير ضمانات إقليمية للمستقبل. ومما زاد الموقف العام سوء وتفسخاً تأخر الصرب واليونان.
غير ا، الثورة في البوسنة والهرسك شأن أزمات البلقان السابقة كانت تمثل لرومانيا فرصة لتحقيق مصالحها وفي الوقت نفسه كانت تمثل تهديداً مباشراً لها. والحاصل أن روماينا مثل اليونان لم تكن ترحب بإحتمال إيجاد دولة صربية أو بلغارية قوية ومستقلة وترتبط بروسيا بشكل ما, خاصة وأن الموقف كان يوحي بتقديم فرصة للحصول على ميزات أكثر من الدولة العثمانية. وعلى هذا وخلال السنوات الثلاثة التالية ظل زعماء رومانيا معنيون في المقام الأول بثلاثة ظواهر تحدث على المسرح السياسي العالمي وفي ذهنهم كل تلك الأوضاع. فأولاً وكما سبقت الإشارة كيفية إستغلال وضع الحكومة العثمانية الصعب في تلك الحرب, وثانياً كيفية الحصول على مكاسب إقليمية وتحقيق الإستقلال التام في حالة حدوث حرب عامة, وثالثاً عدم رغبتهم في أن تحصل روسيا مرة ثانية على وضع سيادي في دولتهم. وفي هذا المقام تولى الأمير تشارل (أمير الصرب) الدور الرئيسي في سيادة الموقف. وحتى أبريل 1876 كانت حكومة المحافظين بزعامة لاسكار كاترجيو ما تزال في الحكم,ثم حلت محلها حكومة ليبرالية في مايو. وعلى هذا تعاون زعيما الحزب الليبرالي إيون براشيانو وميشيل كوجالنيشينو Kogalinceanu تعاوناً وثيقاً مع الأمير وشاركاه مسئولية إتخاذ القرارات الرئيسية التي تم التوصل إليها. وهكذا وأمام الخطر الخارجي وقف الحزب الليبرالي وراء العرش خلافاً لموقفه السابق.
وخلال العامين الأولين من الأزمة وأثناء إنفجار ثورة البوسنة والهرسك وبلغاريا, وإشتعال الحرب بين الدولةالعثمانية والصرب التي إنضمت إليها الجبل الأسود ظلت روماناي متمسكة من الناحية الرسمية بسياسة حيادية. ولكن في الوقت نفسه كانت تضغط على الحكومة العثمنية للحصول على حقوق أكثر وإمتيازات في نطاق الدولة العثمانية, كما قدمت مساعدات محدودة للقوى المسيحية المجاورة المتحاربة مع الدولة العثمانية, ومن ذلك السماح بمرور متطوعين يحمولن السلاح من أراضيها إلى الصرب حيث ميدان المعركة, وإستمرار العصابات البلغارية في تنظيم أمورها من داخل رومانيا. ومع هذا لم يتطور الموقف العام خلال تلك الفترة لصالح طموحات رومانيا, بل لقد رفضت الحكومة العثمانية مطالب رومانيا حال إنتصاراتها على جيوش البلقانيين. ومرة أخرى كان من شا، هزية الشعب المسيحي السلافي, وتصلب العثمانيين في مواقفهم أن يستدعي تدخل روسيا, وهو أمر كانت رومانيا تخشاه ويثير منخاوفها. وأصبح واضحاً أنه في حالة دخول روسيا الحرب ضد الدولة العثمانية يصبح على رومانيا إما أن تسمح للقوات الروسية بالمرور عبر أراضيها, أو أن تتحمل مخاطرة أن تصبح أراضيها ميدان المعركة. غير أن جميع القوى السياسية في رومانيا كانت أكثر تردداً في قبول وجود جيش روسي على أراضيها وذلك إستفادة من دروس التاريخ الذي مرت به البلاد.
ثم أوضحت روسيا نياتها العاجلة في أكتوبر 1876 في أعقاب زيارة قام بها وفد روماني براسة براشيانو إلى الكسندر الثاني (قيصر روسيا) في ليفاديا Livadia وفي ذلك اللقاء ضغطت روسيا بشدة على رومانيا لتوقيع إتفاق بينهما بشأن كيفية مرور الجيش الروسي إلى الدانوب, على حين كان الرومانيون يرومون تفاهماً سياسياً كاملاً يعبر عن حماية مبدأ تكامل أراضي رومانيا ووحدتها, إذ كانو يخشون أن يفقدوا بصفة خاصة نواحي جنوب بسارابيا الثلاثة التي كانوا قد ضموها في 1856. وفي أثناء المفاوضات التي إستمرت حتى إبريل 1877 تم إستكشاف طرق بديلة لمرور الجيش الروسي إلى الدانوب. كما إستمرت المناقشات مع السلطات العثمانية حيث ذهبت وفود أخرى إلى دول أخرى من التي تضمن إستقلال رومانيا بغية التأكد من مساعدتها إذا ما قررت مقاومة ضغط روسيا عليها.
غير أن نتائج كل هذه التحركات لم تكن مشجعة لب كانت مخيبة للأمال, ذلك أن الدستور العثماني الصادر في ديسمبر 1876 أعلن با، رومانيا "جزء لا يتجزأ" من الأراضي العثمانية. وأنها ضمن "الولايات المتميزة" من ولايات الدولة. وكان هذا الإعلان في حد ذاته هو مجال المخاطرة والأزمة بين الطرفين ذلك بأن إمكانية حصول رومانيا على مساعدة خارجية ضد روسيا كان أمراً غير مضمون, فالنمسا مرتبطة بتفاهم سري مع روسيا نصحت رومانيا بألا تعقد أي إتفاق مع روسيا بشأن مرور الجيش الروسي في أراضي رومانيا, بل لها أن تسمح بالمرور دون توقيع إتفاق, وأن ينسحب جيش رومانيا إلى غرب ولاشيا. أما المانيا فكان من رأيها أن تستسلم رومانيا لكل رغبات روسيا. وأما فرنسا فلم تكن لها أهمية في هذا الموضوع بسبب ضعف جيشها آنذاك, وبريطانيا لم يكن بإمكانها أن تقديم أية مساعدة فضلاً عن أنها كانت راغبة عن تقديم مساعدات.
والحقيقة أن الإتفاق الذي عقد أخيراً مع روسيا في 16 أبريل 1877 كان بمثابة إكراه لرومانيا وخاصة عندما وافقت حكومة روسيا على أن يشتمل الإتفاق على مادة تضمن تكامل أراضي رومانيا. وتجدر الإشارة إلى أن رومانيا لم تكن آنذاك متحمسة كثيراً للدخول في حرب ضد الدولة العثمانية بالتحالف مع روسيا. ففي إجتماع لبلاط رومانيا في 13 أبريل وقلب توقيع الإتفاق بثلاثة أيام حضره الوزراء ونخبة من أبناء المجتمع كانت الأغلبية تفضل الوقوف علىالحياد وإنسحاب الجيش إلى جنوب ولاشيا بعيداً عن طريق القوات الروسية إلى الدانوب. أما القرارات الخاصة بالتعاون مع روسيا حتى دخول معارك القتال فقد تولاها الأمير بنفسه وبمساعدة براشيانو وكوجالينشينو.
أما مشاركة رومانيا في الحرب الروسية-التركية نشطة فلم تظهر بشكل واضح لأن روسيا كانت تأبى أن تقدم رومانيا لها مساعدة عسكرية, مع ملاحظة أن الإتفاق بين البلدين كان ينص فقط على مرور القوات الروسية خلال أراضي رومانيا. وعلى هذا ظلت المساعدات الفنية الرومانية على الحياد حتى بعد إنفجار الحرب في يوم 24 أبريل. غير أن الأمير الحاكم ومعه جيشاً قوامه ثلاثين ألف رجل مدربين أحسن تدريب وجد أن وضع الحياد غير مريح بالمرة وخاصة بعد هجوم القوات العثمانية على موانئ الدانوب.وفي 12 مايو وافقت الجمعية التشريعية في رومانيا على إعلان بالإستقلال التام عن الدولة العثمانية وبهذا أصبحت حالة الحرب ضد الدولة قائمة. ومع هذا إستمرت الحكومة الروسية في إبداء قليل من الإهتمام في تلقي مساعدة عسكرية من رومانيا بإستثناء قيام القوات الرومانية بحراسة أسرى الحرب أو حماية المدن. ورغم هذا فقد سعى أمير رومانيا للقيام بدور أعظم إذ كان ينبغي التصرف بشكل مستقل والإحتفاظ بجيشه وحدة عسكرية مستقلة في المعارك.
غير أن الموقف الروسي تجاه مشاركة رومانيا في الحرب تغير بشكل مفاجئ في أغسطس 1877 بعد كارثة الجيش الروسي أمام قلعة بلفنا, إذ أصبحت روسيا في مسيس الحاجة لجهود رومانيا, ومن ثم أعطى قادة اروس لأمير رومانيا القيادة التامة للعمليات العسكرية. وسرعان ما تخلى الأمير وبقدر من التملق والنفاق عن إصراره السابق بإنفراد جيشه بالعمل مستقلاً. كما لم ينتهز فرصة إحتياج روسيا له لكي يحدد ما سوف يحصل عليه في مفاوضات الصلح القادمة. وعموماً وأثناء الهجوم على قلعة بلفنا كانت العلاقات الروسية-الرومانية حسنة نسبياً.
ولكن بسقوط قلعة بلفنا الحصينة في ديسمبر 1877 حدث تغير مفاجئ في موقف رومانيا بشأن الحرب وتعامل روسيا معها. ففي أثناء الحرب حددت رومانيا أهدافها من دخول الحرب في الإعتراف بإستقلالها, والحصول على تعويضات مناسبة, والإستيلاء على دلتا الدانوب, وعلى أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة اليمنى للنهر بما فيها دوبروديا. وأكثر من هذه المطالب أهمية كان الحفاظ على تكامل أراضي رومانيا. ورغم أن روسيا لم تبلغ رومانيا رسمياً بنيتها في إستعادة جنوبي بسارابيا حتى يناير 1878, إلا أن الشائعات وصلت إلى رومانيا من عدة مصادر. وكان هذا هو موضوع الدبلوماسية الرومانية بشكل رئيسي في الفترة التالية والذي إنقسمت بشأنه الحكومة, فكان براشيانو الذي نجحت سياسته في التعامل مع الأزمة يشعر بأن الضغط الشعبي قد يدفع الحكومة إلى التمسك بالموقف. أما الأمير الحاكم ومعه موجلينشينو وكانا يعتقدان بأن القضية خاسرة, كانا يفضلان إستخدام المسألة كنقطة مساومة ربما لضم المنطقة بإمتداد مدينة روز-فارنا لدوبروديا.
أما الصرب فكانت غير متحمسة لدخول الحرب, فعند توقيع معاهدة الصلح مع الدولة العثمانية في مارس 1877 كانت قواتها مجهدة تماماً, وأكثر من هذا أنه لم تكن هناك دلائل محددة بشأ، ضمان مكاسب إقليمية كانت تأمل في الحصول عليها, فقد كانت \تريد ضم أراضي من البوسنة والصر بالقديمة.لكن روسيا كانت تربطها بالنمسا إتفاقيات سرية لم يكن بإمكانها أن تمنح اصرب وعوداً معينة بشأن ترتيبات معاهدة الصلح. وفي الوقت نفسه أطلت مخاطر أخرى على المسرح السياسي إذ إتضح للصرب بكل جلاء أن روسيا تقف بشدة إلى جانب المصالح البلغارية, ففي مؤتمر الآستانة كان اجناتيف يريد منح نيش وسكوبيه Skopje وبريزرن Prizren لبلغاريا برغم إدعاءات الصرب في تلك المناطق. ولهذا عندما ضغطت روسيا على الصرب لتقديم مساعدتها بعد هزيمة القوات اروسية أمام قلعة بلفنا أخذت الصرب وقتاً طويلاً للرد, وطلبت من روسيا تقديم مساعدة مالية, وإشارة واضحة بشأن المكاسب الإقليمية التي ستحصل عليها. وهكذا لم تدخل الصرب الحرب إلا في العاشر من ديسمبر وبعد ثلاثة أيام من سقوط بلفنا. حقيقة أن روسيا قدمت بعض الأموال للصرب لكنها لم تعد بشيء بشأن المكاسب الإقليمية التي تطلبها.
وأما اليونان فكانت شأن الصرب لم تحدد موقفها من الحرب إلا في اللحظة الأخيرة. ففي أثناء تمرد البوسنة وإندلاع الحرب الصربية-العثمانية من قبل لم تقم اليونان بأية حركة أو خطوة لمساعدة جيرانها وذلك إمتثالاً للضغط البريطاني. وقد وضع هذا الموقف برمته اليونان أمام صعوبات كان عليها مواجهتها تشبه إلى حد كبير الصعوبات التي واجهتها بشأن موضوع نائب البطريرك. ولم تأت الصعوبات في هذه المرة من جانب الدولة العثمانية بل جاءت من جانب حكومات البلقان السلافية المنافسة التي أصبحت تهدد بقطع الطريق على تحقيق الأمال القومية لليونانيين. فقد كانت اليونان تريد أن يدخل تحت سيادتها كل من كريت وتساليا وإيبروس وتراقيا وأكبر مساحة من مقدونيا كلما أمكن. وعلى هذا فإن قيام شعوب البلقان بحملة ناجحة ضد الدولةالعثمانية من شأنه الإضرار بالمميزات التي تتمتع بها اليونان إن لم يؤد إلى تدهور الموقف تدهوراً سيئاً. ورغم تلك الحقائق الصعبة الواضحة, إلا أن اليونانيين إنقسموا في الرأي فيما بينهم بشأن التعامل مع الحرب مثلما رأينا في كل من رومانيا والصرب. فكثير من اليونانيين كانوا يخشون إستبعاد بلادهم من ترتيبات الصلح في المستقبل إذ لم تدخل الحرب. وفي الوقت نفسه كان هناك حماس هائل شأ، حال الصربيين للقيام بأي عمل ضد الدولةالعثمانية حتى ولو لم تكن الظروف مواتية. ولقد كانت هذه الدوائر العامة تمثل ضغطاً كبيراً على الملك وعلى الحكومة في آن واحد.
على كل حال . . ففي 1876 رأس الوزارة اليونانية الكسندر كوموندوروس Koumoundouros وكان يقف إلىجانب المحافظة على حالة السلام مع تحقيق المكاسب الإقليمية عن طريق الدبلوماسية. ولهذا فقد تعرضت حكومته لهجوم من العناصر التي كانت تؤيد إعلان الحرب على الدولة العثمانية وإثارة التمرد في مقدوينا. وأصبح اليونانيين في وجل كبير وخشية وخوف من الخطط التي قدمت لمؤتمر الآستانة بشأن تكوين بلغاريا الكبرى من أراضي تطالب بها اليونان خاصة وأنه لم توجه دعوة لحكومة اليونان لحضور هذا المؤتمر. آنذاك وفي وقت هذا الخطر على المصالح القومية اليونانية تشكلت حكومة إئتلافية في يونية 1877 برئاسة الأدميرال كاناريس Kanares محل خاريلاوس تريكوبيس Charilaos Trikoupes, وإتخذت الإستعدادات اللازمة لتقوية اليونان عسكرياً, وحشدت القوات على الحدود العثمانية. ولهذا فعندما طلبت روسيا بعد محنة قلعة بلفنا المساعدة من اليونان وجدت الحكومة اليونانية نفسها في موقف صعب. فمن ناحية ضغطت بريطانيا عليها بشدة حتىلا تدخخل الحرب بل وتعمل على قمع المتمردين في المناطق العثمانية. وكان هذا يعني أنه لو دخلت اليونان الحرب فإن بريطانيا قد تساعد الدولة العثمانية فضلاً عن أن القوات العسكرية اليونانية لم تكن جاهزة للحرب. ومن ناحية أخرى إذا لم تدخل الحرب فمن المحتمل أن الحكومات السلافية وسف تجني وحدها فوائد إنتصار روسيا, ذلك أن صراع المصالح الصربية والبلغارية في مقدونيا كان شيئاً مخيفاً.
وفي مفاوضات مؤتمر الآستانة لم تقدم بريطانيا أو روسيا لحكومة اليونان أية ضمانات محددة بشأن مسألة المكاسب الإقليمية, بل إنه في أثناء أزمة حصار قلعة بلفنا قدمت روسيا وعوداً غامضة بتساليا وإيبروس دون إشارة إلى مقدوناي وتراقيا وهما محل جدل كبير. وهكذا ورغم أن جهود حكومة اليونان الدبلوماسية في تحقيق الآمال القومية قد أخفقت فقد واجهت الحقيقة القائلة بأن الرأي العام أصبح مع الحرب,وتحددت إحتمالات التحرك في إحتمالين: إما أن تدخل اليونان الحرب, وإما أن تحرض اليونانيين في الممتلكات العثمانية على الثورة.
على كل حال . . كان سقوط قلعة بلفنا في يد الروس صدمة لكل من الحكومتين اليونانية والصربية, وزادت المخاوف من أن الحرب قد تنتهي وتطوي معها إدعاءات اليونان أومطالبها, وزاد من إحتمال هذه النتائج سقوط آدريانوبل في يناير 1878. وآنذاك شعر اليونانيين أن ملكهم جورج كان في خوف حقيقي من أن يفقد العرش, ومن ثم أمر بتحريك جيشه بإتجاه الحدود. ولما كان هذا الإجراء غير دستوري فقد تسبب في أزمةداخلية سريعة أدت إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة كوموندوروس تولى وزارة الخارجية فيها تيودور ديليانيس Deliyannes الذي كان مع الحرب. وإندلعت المظاهرات في شوارع أثينا, وأصدرت الحكومة التي كانت مع الحرب بوضوح توجيهاتها لبدء حالة التمرد العام في تساليا وإيبروس ومقدونيا. وفي الثاني من فبراير أعلنت أن وقاتها قد تدخل مناطق عثامينة في الثالث من فبراير أن هناك هدنة وقعت بين روسيا والدولةالعثمانية في يوم 31 يناير لم يرد ذكر لليونان فيها. وعلىهذا وضحت المخاوف التي وضعتها اليونان في إعتبارها, فمن الممكن والحال كذلك أن تركز القوات العثمانية هجماتها على اليونانيين, وأن تنسحب القوات اليونانية خلف حدود بلادها, وتتدخل القوى الدولية لمنع مزيد من التحركات العثمانية. وفي نهاية الأمر وجدت اليونان نفسها في موقف ضعيف بالنسبة لشروط الصلح المقبلة, فقد تحصل علىمساندة روسيا وكذلك بريطانيا التي لم تكن ترغب من البداية أن تدخل اليونان الحرب.
لقد أدى إنتصار روسيا في الحرب ونهاية الصراع مع الدولة العثمانية على ذلك النحو إلى إزدياد مخاوف رومانيا والصرب واليونان على حد سواء, فقد عكست بنود إتفاقية الهدنة في يناير نيات روسيا تجاه البلقان, وكانت صدمة عميقة لهذه الدول الثلاث.وفي مقدمة هذه المخاوف البند الخاص بإيجاد دولة بلغاريا الكبرى, وهو ما إتضح بشكل محدد في معاهدة سان ستيفانو في 3 مارس 1878. وقد أدت هذه المعاهدة التي قامت على التفاوض الثنائي بين روسيا والدولة العثمانية إلى كسر سلسلة من المعاهدات الدولية عقدت قبيل الحرب بما فيها التحالفات التي عقدت مع النمسا. وكانت أهم ملامح هذه المعاهدة شأن إتفاقية الهدنة البنود الخاصة بإقامة بلغاريا والتي سوف تجمع في طياتها مناطق شمال وجنوب جبال البلقان أي تراقيا ومعظم مقدوينا, وبهذا سوف تكون أقوى دول البقان, وسوف تكون تحتهيمنة روسيا من خلال وجود جيش روسي على أراضيها لمدة عامين (طبقاً للمعاهدة), فضلاً عن إمارة الجبل الأسود التي كانت تتمتع بتأييد روسيا حصلت علىمكاسب ضخمة وإتسع حجم مساحتها ثلاثة أضعاف.
أما حكومات البلقان الأخرى فلم تنل من هذه الحرب إلا قليلاً من المكاسب بإستثناء اليونان التي لم يحصل على شيء على الإطلاق. فالصرب التي كانت تريد أن تضم باشويات نيش وبريزرن وسكوبيه ونوفي بازار فضلاً عن فيدين ومناطق أخرى محيطة أخذت فقط نيش وبعض اراضي أخرى بلغت مساحتها جميعاً حوالي 150 ميلاً مربعاً. أما رومانيا حليفة روسيا فربما تلقت أسوأ معاملة من الجميع إذ قامت روسيا بإعادة ضم الثلاثة أحياء جنوبي بسارابيا والتي كانت قد فقدتها بعد حرب القرم, رغم تعهدها لرومانيا بضمان وحدة أراضيها في مقابل تنازل الدولة العثمانية عن دلتا نهر الدانوب ودوبروديا لروماناي. ويضاف إلى هذه النتائج إعلان إستقلال الصرب ورومانيا والجبل الأسود دول مستقلة طبقاً لنصوص إتفاقية الهدنة.
والحق أن شعوب البلقان لم تكن وحدها التي فزعت من هذه التسوية (معاهدة سان ستيفانو) بل إن النمسا وبريطانيا وجدتا إستحالة قبولها, كما لم تتصور أي دولة من الدول الكبرى إاقمة دولة بلغارية قد تسيطر إستراتيجياً على شبهع جزيرة البلقان كلها مع وجود جيش روسي بين ظهرانيها وعلى مسافة قريبة من الآستانة, فضلاً عن تجاهل الإتفاقات التي منحت البوسنة والهرسك للنمسا من قبل, فضلاً عن أن روسيا بمقتضى التسوية حصلت على أحد الأقاليم العثمانية بآسيا وهو ما يضر بمصالح بريطانيا. وعلى هذا سرعان ما نشأت أزمة دولية حول بنود سان ستيفانو, وبعد فترة من المفاوضاتت المستمرة وافقت روسيا على أن تعرض المعاهدة للمراجعة بمعرفة الدول الكبرى في مؤتمر يعقد في برلين في شهر يونية. وقبل أن ينعقد هذا المؤتمر كانت روسيا قد إتفقت مع إنجلترا على التغيرات الأساسية التي يجب إحداثها وأهمها مواقفة روسيا على تقسيم دولة بلغاريا الكبرى.
وهكذا وقبيل المؤتمر في برلين وجدت حكومات البلقان نفسها في وضع العاجز اليائس فقد تم إتخاذ القرارات الكبرى مسبقاً في عواصم كل من المانيا وبريطانيا والنمسا وروسيا وقبيل عقد المؤتمر, وأصبح مصير تلك الحكومات يتوقف على قدر المساومة في يمكن أن تقوم بها القوى الكبرى الراعية لها. وربما كان أقوى رد فعل لشروط الصلح جاء من رومانيا التي حرمت من أراضيها القومية, وظل الجيش الروسي في اراضيها طبقاً لأحد مواد معاهدة سان ستيفانو التي نصت على مروره في ا{اضيها خلال العامين التي يحتل فيها هذا الجيش بلغاريا. وأكثر من هذا روسيا أخذت تضغط على رومانيا لعقد إتفاق جديد بخصوص مرور الجيش الروسي في أراضيها. ولما كانت رومانيا تخشى من أن تؤدي إطالة وجود القوات الروسية بها إلى إعادة إعتبارها محمية روسية فقد قاومت هذا الإجراء وطلبت المساعدة الخارجية للتغلب على هذا الضغط. ورغم أنه لم يكن لرومانيا أصدقاء حقيقيون أو رعاة من بين الدول الكبرى لمساندتها, إلا أن النمسا كانت ترغب في الإبقاء على صداقة رومانيا قدر الإمكان لا لشيء إلا لاحتمال إنفجار حرب جديدة نتيجة شرط الصلح, وهوماجعل علاقة رومانيا بالنمسا وثيقة.
أما الصرب فكانت في موقف مشابه لا تحسد عليه, فرغم ا، معاهدة سان ستيفانو قد أشارت بوضوح إلى تخلي روسيا عن إدعاءاتها في الصرب, إلا أن الدبلوماسيين الروس أبغوا مندوبي الصرب بوضوح أن عليهم أن يطلبوا مساعدة النمسا في هذا الشأن.كما أن الصربيين شعروا بمرارة شديدة من إقرار معاهدة سان ستيفانو قيام دولة بلغارية أقوى بكثير من دولتهم.ولما لم يكن أما الصرب أي بدائل أخرى فقد اتجهت النمسا للحصول على تأييدها بإعتبارها أحد القوى الكبرى, فما كان النمسا إلا أن أصرت على إجراء مفاوضات عاجلة لعقد إتفاقية إقتصادية بين الطرفين تم توقيعها في 8 يوليو 1878 بمعرفة ريستش وآندراسي كانت أكثر فائدة للنمسا وأقل إضراراً بمصالح الصرب, تناولت مشكلات التجارة والسكك الحديدية وحق النمسا في تحسين الملاحة في نهر الدانوب عند البوابات الحديدية كما تضمنت مادة بشأن عقد معاهدة في المستقبل بشأن التوحيد الجمركي بينهما.
ورغم أنه لم يسمح لأي حكومة بلقانية بالإشتراك إشتراكاً كاملاً في أعمال مؤتمر برلين, إلا أ، كل حكومة تمكنت من إرسال ممثلين لها لتوضيح وجهة نظرها أمام الجلسات التي كانت تخصص للمسائل المتصلة إتصالاً مباشراً بها. وفي كل الأحوال لم تفلح الحجج التي قدمها أولئك الممثلون في تغيير أي قرار من القرارات الكبرى, فمثلاً تحدث براشيانو وكوجلينشينو حديثاً طويلاً إحتجاجاً على فقدان بلادهم (الصرب) لجنوبي بسارابيا دون جدوى, وكذلك أبدى ديليانيس (رئيس حكومة اليونان) حججاً قوية بشأن حق بلاده في تراقيا وتساليا وكريت.وبينما كانت فرنسا تؤيد اليونان دون تحفظ, بدا لوهلة أن بريطانيا قد تؤيد مطالب اليونان كنوع من كبح مكاسب السلاف.
على كل حال . . لقد كانت معاهدة برلين التيتم التوصل إليها في ختام أعمال المؤتمر أهم الإتفاقيات قاطبة بالنسبة لشعوب البلقان خلال القرن التاسع عشر, وكان الإختلاف الرئيسي بينها وبين معاهدة سان ستيفانو ما يتعلق فقط بأراضي بلغاريا الكبرى التي قسمت بلغاريا إلى ثلاثة أجزاء وهي: بلغاريا (الحقيقية) وهي منطقة شمال جبال البلقان تشمل صوفيا وتصبح إمارة ذات حكم ذاتي تابعة للدولة العثمانية وتدفع جزية, والجزء الثاني يتكون من شرق روميليا جنوب الجبال ويكون ولاية شبه جكم ذاتي يحكمها مسيحي يختاره السلطان العثماني وتوافق عليه الدول الكبرى, والجزء الثالث وهو مقدونيا وتراقيا تستعيده الدولةالعثمانية. وتبقى القوات الروسية في بلغاريا الأصلية لمدةتسعة أشهر. أما الجبل الأسود فقد تم الإعتراف بإستقلالها وتقلصت مكاسبها ولكنها ظلت تحصل على توسعات إقليمية ملحوظة ولها مغزاها. وأما الصرب فقد أضافت لمساحتها مائتي ميل مربع من الأراضي بضمها كل من نيش وبايروت Pirot وفرانيه Vranje وليس فقط مائة وخمسون كما كانت تأمل كما تم الإعتراف بإستقلالها. أما بالنسبة لرومانيا فقد ظلت أمورها كما تم الإتفاق عليه في معاهدة سان ستيفانو وتم ربط الإعتراف بإستقلالها بشروط تتعلق باليهود سوف نناقشها فيما بعد.
وأما اليونان فلم تحصل على أية أراضي بشكل مباشر, ذلك أن المؤتمر دعاها والدولة العثمانية للتفاوض لضبط الحدود بينهما في تساليا وإيبروس ونصت المادة 24 من المعاهدة على أنه ف يحالة فشل المفاوضات فإن الدول الكبرى سوف تتوسط في الأمر. وقد حاولت اليونان تنفيذ هذا القرار بسرعة لكن الدولة العثمانية-كما كان متوقعاً-كانت تعمل قدر الإمكان على تأخير بدء التفاوض. وأخيراً إلتقى الطرفان في بريفيرا Preveza في فبراير 1879 ولما أخفقت المفاوضات بينهما إضطرت القوى الكبرى للتدخل حيث عقد مؤتمر في الآستانة من أغسطس إلى نوفمبر 1879 دون التوصل إلى شيء. لكن قضية اليونان حصلت على مساعدة من خلال وجود حكومة ليبرالية في بريطانيا في 1880 برئاسة وليام جلادستون عاشق الهللينية, وعلى هذا وفي مؤتمر دولي عقد في برلين في يونية 1880 حصلت اليونان علىتسوية حدود مرضية.ولكن فرض التسوية كان يستدعي إستخدام القوة فلم تكن الدولة العثمانية هي الوحيدة التي إعترضت على التسوية بل إن الألبانيين-كما حدث عند تسوية حدود الجبل الأسود-قاوموا أي تغيير للحدود. وأخيراً وفي يوليو 1881 نجحت القوى الكبرى في تسوية المسألة حيث أخذت اليونان تساليا وجزء من إيبروس فقط وهي مساحة أقل مما كانت تأمل ثم رسمت الحدود بشكل نهائي في عام 1882.
على أن التوسع الإقليمي لم يقتصر على الكيانات الصغرى بل إن الدول الكبرى تمتعت بهذا التوسع حي ثحصلت روسيا على جنوبي بسارابيا,وحصلت النمسا على حق إحتلال البوسنة والهرسك وإدراتهما وكذا إدارة سنجقية نوفي بازار. وأكثر من هذا أن الدولة العثمانية أرغمت على أن تتنازل لروسيا عن باطوم وقارص وأردهان وهي مناطق آسيوية فضلاً عن خسائرها في أوروبا ذاتها كما راينا,كما حصلت بريطانيا على جزيرة قبرص بمعاهدة منفصلة. وفي كل هذه التسويات والتوسعات كانت الدولة العثمانية هي الضحية الرئيسية لمعاهدة برلين ذلك أنكل من الصرب والجبل الأسود ورومانيا أصبحت دولاً مستقلة وأصبحت بلغاريا تتمتع بحكم ذاتي, ولو أن الدولة العثمانية ظلت تحتفظ بسيطرتها على تراقيا ومقدونيا والأراضي الألبانية وهي مناطق مصيرها إلا بعد خمس وثلاثين عاماً.
والخلاصة أنه بعد مؤتمر برلين أعادت القوى الرئيسية في أوروبا بناء تحالفاتها. ففي 1879 عقدت المانيا والنمسا حلفا ثنائياً إنضمت إليه إيطاليا في 1882 فأصبح يعرف بالحلف الثلاثي وظل قائماً حتى الحرب العالمية الأولى. وفي 1881 تجاوزت روسيا والنمسا ما بينهما من جراح قديمة ووقعتا مع المانيا إتفاقية أنعشت تحالف الأباطرة الثلاثة. وكانت المادة الثانية في معاهدة هذا التحالف تخص البلقان وتقضي بالتصرف الجماعي لمواجهة أية تغيرات قد تحدث هناك. كما نص التحالف على أن تقوم المانيا والنمسا بتأييد التفسير الروسي للإتفاقيات الدولية في حالة غلق المضايق العثمانية. وأبدى الثلاثة إستعدادهم لقبول رغبة روسيا في توحيد بلغاريا وشرقي روميليا مستقبلاً, وضم النمسا للبوسنة والهرسك حال تكون الفرصة متاحة في أي وقت. وبهذه التحالفات تم تأسيس توازن بين القوى الكبرى في البلقان على حين ظلت فرنسا معزولة عن هذه الترتيبات حتى تسعينيات القرن التاسع عشر.
الفصل الحادي عشر بلغاريا تحت الحكم العثماني 1878 – 1896
رغم أن أحداث السبعينيات كما عرضنا لها في الفصل السابق إنتهت بإنشاء كنيسة بلغارية منفصلة وإيجاد حكومة ذاتية بلغارية عام 1878, إلا أن القوميين البلغار إعتبروا هذه النتائج مخيبة للأمال وظلوا يعتبرون حدود بلادهم الحقيقية هي ما حددته معاهدة سان ستيفانو وليس مؤتمر برلين. ومع ذلك فلقد تحقق الكثير من الأمال فقد أصبح هناك حكم ذاتي بلغاري على الأقل رغم إستمرار السيادة العثمانية, وهناك عاصمة في صوفيا, وأمير حاكم, ونظام دستوري تضمنه الدول الكبرى, وتنظيم خاص لمنطقة شرق روميليا يستند إلى قانون تشريعي خاص, ويدير شؤنهاه محافظ عام مسيحي يعينه السلطان العثماني وتوافق عليه الدول الكبرى. والحق أن إنفصال بلغاريا وشرق روميليا عن بعضهما البعض على ذلك النحو كان في عرف مؤتمر برلين أمراً مؤقتاً وأنهما لابد أن يتوحا في النهاية. أما الجزء الثالث من بلغاريا الكبرى وفق سان ستيفانو ألا وهي مقدونيا فقد رجعت للسيادة العثمانية كما سبقت الإشارة.
غير أن هذا التقدم السياسي الذي حققته بلغاريا صاحبه بعض أوجه القصور وبعض العيوب, فقد أدركت حكومتها أنه كلما ضعفت السيطرة العثمانية كلما زاد النفوذ الروسي بشكل حاد مثلما كان حال إمارتي الدانوب (رومانيا) بعد الحرب اروسي-العثمانية 1828. ومن ناحية أخرى كانت بلغاريا أهمية إستراتيجية قصوى بالنسبة لروسيا لقربها من المضايق العثمانية وإستانبول, وكانت روسيا قد عزمت على جعل صوفيا (عاصمة بلغاريا) مركزاً أمامياً يعتمد عليه لمصالحها. ولما كانت الدول الكبرى قد إعترفت بوضع متميز وسيادي لروسيا في بلغاريا الجديدة فقد أصبح بإمكان المسئولين الروس أن يتصرفوا بحرية نسبية في هذه البلاد كما يحلوا لهم. وكان هؤلاء المسئواون مهتمون حقيقة وبإخلاص بوضع نظام إداري للبلاد متقدم قدر الإمكان, ووضع أساس بلناء علاقة صداقة حقيقة في المستقبل بين بلغاريا وروسيا مثلما كان الحال في إمارتي الدانوب أثناء إدارة كيسليف Kiselev
وفي هذا الخصوص كانت هناك مشكلتان تطلبا إهتمام روسيا بشكل عام,تتعلق الأولى بوضع دستور, والثانية تختص بإنتخاب أمير لحكم البلاد. وكان وضع الدستور له أولوية خاصة وأن مؤتمر برلين قرر أن الجيش الروسي الذي يحل بلغاريا سوف يرحل بعد تسعة أشهر من التصديق على معاهدة برلين. وللحيلولة دون وقوع فوضى سياسية وإدارية في البلاد قد تتخذها الدولة العثمانية أو بريطانيا وفرنسا ذريعة للتدخل في شؤون بلغاريا الداخلية فقد عزمت روسيا على وضع دستور قبل أن يحين موعد رحيل جيشها عن البلاد. وعلى هذا وفي نوفمبر 1878 إنتهى المندوب الإمبراطوري اروسي في بلغاريا الأمير دوندكوف-كورساكوف ومساعديه من وضع مشروع الدستور على نفس مبادئ دستوري الصرب ورومانيا.
ثم أرسل المشروع إلى روسيا لمراجعته بمعرفة وزيري الخارجية والحربية ولجنة خاصة. وكان رأي جيرز N.K. Giers القائم بعمل وزير الخارجية أنه يجب تركيز السلطة الرئيسية في الدولة في الهيئة التنفيذية أي الأمير الحاكم, على حين كان من رأي زميليه ميليوتين Miliutin وزير الحربية أن نفوذ روسيا في بلغاريا لا بد وأن يعتمد على التأييد الشعبي وليس على حاكم أجنبي يأتي ليحكم البلاد ولم يكن قد تم إختياره بعد, وهذا يعني أن السلطة المطلقة يجب أن توضع في هيئة تشريعية وليس في يد الحاكم. كما أثار ميليوتين مسألتين أخرتين الأولى: ألا يكون طابع دستور بلغاريا أكثر محافظة من دستوري رومانيا والصرب, بل ينبغي أن يكون نموذجاً يحتذى وليس صورة معكوسة, والثانية: الدستور ينبغي أ، يكون أكثر تقدمية من القانون الأساسي الذي وضع لشرق روميليا. فإذا ما تحقق هذا فإن أهالي شرق روميليا قد يتحمسون للدخول في وحدة مع بلغاريا. وبغختصار كان يريد أن تصبح بلغاريا نموذجاً لدولة تقدمية في البلقان. أما وقد شاءت فكرته فقد أصدر جيرز تعليماته إلى إلى دوندوكوف-كورساكوف لإخبار الجمعية الدستورية البلغارية التي كان يجري تشكيلها بأن الدستور الذي قدمته روسيا هو مجرد إقتراح وأن للوفود المعنية "الحرية الكاملة" لإبداء أرائهم بشأنه والتوصل إلى قرارهم الخاص. والحقيقة أن الحكومة الروسية لم تمارس أية ضغوط على أعضاء الجمعية خلال مناقشة مشروع الدستور.
وفي فبراير إجتمعت الجمعية التأسيسية لوضع الدستور في تورنوفو Turnovo وكانت تتكون من 231 عضواً منهم 89 تم إنتخابهم على أساس مندوب وأحد لكل عشرة آلاف رجل ذكر, والآخرون تم إختيارهم من السلك الكنسي ومن موظفي مجالس المدن والأحياء. وعلى هذا أصبح واضحاً وبسرعة أ، الجمعية منقسمة بين مجموعتين متعارضتين: مجموعة كونت حزب المحافظين والخرى كونت الحزب الليبرالي. وكان قوام المحافظين العناصر الأكثر ثروة وجاء وغنى والأفضل تعليماً, وكان من بينهم ديميتيور جريكوف Dimitur P. Grekov, وتيودور إيكونوموف Ikomonov, وقسطنطين ستويلوف Stoilov. وكان هؤلاء قبل عام 1878 (أي قبل مؤتمر برلين) يؤيدون إتخاذ سياسة إنتقالية متطورة تجاهالدولة العثمانية ويقاومون البرامج الثورية لتحقيق الإستقلال. كما كانو يعتقدون بضرورة أن تهيمن الهيئة التنفيذية على أمور البلاد والعباد طالما أن دولتهم ستصبح دولة دستورية. ولما كانوا يظنون أن الناخبين غير ناضجين سياسياً بدرجة كافية فقد أدركوا حاكماً قوياً أبوياً يقود رعاياه ويحسن تربيتهم. وأكثر من هذا كانوا يفضلون أن تكون الهيئة التشريعية من مجلسين, كما كانوا ضد حرية الصحافة. وفي السياسة الخارجية كانوا موالين لروسيا حيث كانت وجهات نظرهم السياسية بشكل عام تتطابق مع وجهة نظر خارجية الروسية.
أما وجهة نظر الليبراليين في الدستور فقد كانت أقرب إلى وجهة نظر وزير الحربية الروسي. وكان معظمهم قد جاءوا من المدن وليس من الريف وشاركوا من قبل في الحركات الثورية, وفي مقدمتهم بيتكو كارافيلوف Petko Karavelov, وبيتكو شلافيكوف P.R. Slaveikov, واستفان ستامبولوف Stambolov, ودراجان تزانكوف Dragan Tasnkov. ولأن كثيراً منهم تعلم في الخراج أو إطلع على أفكار الغرب بطريقة أو بأخرى فقد كانوا أحكثر ديموقراطية ولا يقبلون مساومة وجود حياة برلمانية وحريات مدنية فضلاً عن أنه كان بينهم خطباء مفوهين نجحوا في أن تسود أفكارهم في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور. وهكذا فإن دستور تورنوفو 1879 كان ثيقة ليبرالية غاية في التطرف إذ وضع السلطة الرئيسية في الحكم في الهيئة التشريعية.
ولقد نص الدستور على إنشاء مجلسين: الجمعيةالعمومية وهي هيئة تشريعية تقليدية, والهيئة القومية الكبرى Grand National ويدخل في إختصاصها التعامل مع الأمور غير العادية مثل التنازلات الإقليمية وتعديلات الدستور, وإنتخاب الحاكم الجديد. أما الجمعية العمومية فتتكون من أعضاء يتم إنتاخبهم بواقع مندوب واحد لكل عشرة آلاف شخص من السكان وعلى أساس حق التصويت العام, ولها حق التشريع ومراقبة الموازنة العامة,وللحاكم حق إصدار مراسيم حكومية أثناء وجودها في إجازة, ولا يمكنه فرض ضرئاب جديدة لأن هذا الإجراء من حق الجمعية العمومية فقط ودون منازع. وللأعضاء التعبير عن أرائهم في جلسات الجمعية في حرية تامة, ولهم حصانة قضائية, ولا تجتمع إلا مرة واحدة سنوياً وبدعوة من الحاكم ولمدة شهرين إبتداء من 15 أكتوبر من كل عام.
ورغم هذه السلطة التشريعية القوية التي تتمتع بها الجمعية العمومية, إلا أن الحاكم كانت له صلاحيات كثيرة فهو الذي يدعوها للإنعقاد, وهو الذي يأمر بفض إجتماعتها, وهو الذي يؤجل إنعقاد جلساتها لمدة تزيد على شهرين, وهوالذي يعين وزراء الحكوممة وكل المسئولين في الدولة, والوزارة مسئولون أمامه وأما الجمعية. غير أن الدستور لم يحدد ما الذي يتعين إتخاذه في حالة نشوب خلاف حول مسألة ما, ذلك أن إصدار القانون يتطلب توقيع الحاكم والوزراء. ومن ناحية أخرى فالحاكم يتمتع بالسلطة التقليدية التي لحاكم أي دولة, فهو القائد الأعلى للجيش, وهو الذي يتولى بالعلاقات الخارجية لبلاده.
كماتم تقسيم البلاد إدارياً إلى عدة محافظات Okruzi, وكل محافظة تنقسم إلى ماركز Okolii, وكل مركز إلى مدن أو قرى, وكل مدينة أو قرية إلى نواحي Obshtini, وكل محافظة يديرها محافظ يعينه الأمير الحاكم, ويساعده مجلس ينتخب أعضاؤه إنتخاباً عاماً لمدة ثلاث سنوات, ويختص بتقدير الضرائب وإعداد الموازنة وإدارة الشؤون العقارية والملكيات في المراكز والمحافظة. وأما المراكز فإنها تتبع المحافظات ويديرها نواب للمحافظ وكل منهم مسئول عن الشرطة وإقرار النظام. وأما الناحية وهي أصغر وحدة إدارية فقد أبقى عليها الدستور وعلى وظائفه حيث أنها لعبت دوراً له مغزاه في بلغاريا أثناء الحكم العثماني. ويدير الناحية مجلس منتخب يختار من بين اعضائه العمدة وإثنان مساعدين له يقوم العمدة بإدارة شؤونها ويقوم بدور همزة الوصل مع الإدارات الرئيسية في الحكومة. وبمعنى آخر فقد إحتفظت بلغاريا بمقتضى الدستور بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي بالقياس إلى غيرها من الحكومات البلقانية المجاورة.
وقد نص الدستور أيضاً على إيجاد نظام قضائي, وعلى حماية الحريات المدنية وضمان حرية الكلمة والصحافة والإجتماع والإتصال شأن دساتير بلاد البقان. كما نص على حماية الملكية الخاصة ومنع التفتيش بإذن قانوني,وإعتبار البريد والتلغراف من المسائل السرية لا يجوز التجسس عليها, وحق الشكوى مكفول للجميع. غير أن تطبيق هذه الضمانات كان يحتاج إلى وقت طويل شأن ما يحدث في كل مكان.
وبمجرد صدور هذا الدستور الليبرالي كانت المشكلة التالية هي إختيار الأمي رالحاكم ومثلما حدث في اليونان تولت الدول الكبرى تسمية امرشح وكانت قد أتفقت في برلين على ألا يكون الأمير المرشح أحد أبناء الأسر الملكية الكبيرة. وعلى هذا وبعد عدة مشاورات تم إختيار الكسندر البناتنبرجي Battenberg أمير إمارة هيس Hesse واكن في الثانية والعشرين من عمره ويعمل ليفتنات بالجيش. وهكذا تلقت بلغاريا شأن كل من رومانيا واليونان أميرا ألمانيا ليحكمها. وقد بدا أن إختيار الكسندر كان جيداً بنظره أولية, فقد كانت عمته إمبراطورة روسيا,أي أنه إبن أخت قيصر روسيا. ولما كانت من المفترض أن يكون لروسيا نفوذاً واضحاً في بلغاريا الجديدة فقد كانت تلك العلاقة على جانب كبير من الأهمية. ومن الطريف أن نذكر أن هذا المير الصغير لم يكن موضوع حسد القيصر وزوجته على هذا المنصب, فعندما ظهر إسمه كمرشح صرح الكسندر الثاني قيصر روسيا أنه لا يرغب لإبن أخته هذا الوضع الصعب. ورغم أنه غير رأيه فيما بعد, إلا أن زوجته الإمبراطورة ظلت تعارض بشدة تعريض قريبها للمشكلات التي قد يواجهها في بلغاريا.
ولقد قبل الكسندر عرش بلغاريا لا لشيء إلا أنه لم يكن يأمل كثيراً في الترقي في الجيش الألماني. ورغم روابطه العائلية الملكية العظيمة, إلا أن أصوله الأرستقراطية وحياته العسكرية زودته بخبرات محدودة لم تكن لتساعده في حكم دولة فلاحين وضع له دستور على درجة عالية من الليبرالية. ومثلما فعل الأمير تشارل ملك رومانيا رأينا الكسندر قد عقد نيته لحكم بلغاريا بطريقة أو بأخرى. وكانت مشكلته أنه وبخلفيته الأرستقراطية لم يكن ليقبل كثيراً القيود الدستورية الموضوعة ولا يقبل أيضاً أفكار الحزب الليبرالي المسيطرة هناك. وعلى هذا ومع أول قرار إتخذه وقع الصدام الذي لم يكن من الممكن تحاشيه, فبدلاً من أن يختار أحد أعضاء الحزب الليبرالي صاحب الأغلبية لتشكيل الحكومة, أو يشكل حكومة إئتلافية كما إقترح عليه البعض, عهد بتشكيل الحكومة إلى بوموف T.S. Burmov وهو شخص محافظ.وكانهذا معناه أنه أراد أن يفهم الجميع من اللحظة الأولى أنه سوف يحكم البلاد متجاهلاً الدستور والقوى الليبرالية.
وكان على بلغاريا لكي تدافع عن نفسها وتستعد للتوحد مع شرق روميليا في المستقبل أو ضمها أن تضمن وجود جيش نظامي مزوداً بالأسلحة المناسبة. وتحقيقاً لهذا الغرض لم يكن من الممكن الإستغناء عن مساندة روسيا وتأييدها. وعلى هذا ورغم أن الأمير الكسندر كان حراً في إختيار وزير الحربية فقد كان من المفهوم أنه لا بد وأن يتشاور مع عمه قيصر روسيا في هذا الإختيار الذي إنتهى بتعيين بارنسوف P.D. Parensov أحد جنرالات الجيش الروسي لكي يقوم بتدريب الجيش البلغاري. ولما كان بارنوسف يتصرف في ضوء توجيهات رئيسه ميليوتين فسرعان ما إختلف مع الأمير (الحاكم) ووقف إلى جانب الليبرالين. ورغم ذلك فلم يكن بإستطاعة الأمير أن يستغني عن خدماته أو عزله لأنه ضابط روسي عينه قيصر روسيا لهذه المهمة.
ولكي تتعقد الأمور أكثر وأكثر رأينا أن القنصل العام الروسي دافيدوف A.P.Davydov في صوفيا الذي يتلقى تعليماته من وزارة الخارجية الروسية يقف بكل ثقله خلف الأمير وجماعة المحافظين. وبمعنى آخر كان المسئولان الروسيان الروسميان في بلغاريا (مسئول الجيش والقنصل) يتبعان سياسات على طرفي نقيض, وأصبح من المفهوم أن الأمير والحزبين الرئيسيين والمواطنين البلغار الذين يتبع كل منهم سياسات الحزب التابع به قد وقعوا في إضطراب شديد.
والحاصل أن الصراع بين الأمير ومعه المحافظين من جهة وبين الليبراليين من جهة أخرى أخذ يشتد بوضوح على مدى العامين التاليين. فقد كان خصوم الأمير يتشككون كثيراً في مستشاريه الألمان, وقد أزعجهم إزعاجاً شديداً تفكيره في إدخال ضباط المان في جيش بلغاريا. وبدا الأمر كما لو كان الأمير يعمل للسيطرة على الجيش لإعداد إنقلاب Coup d'etat, وعلى هذا إزداد إقتناعه بأنه يجب إيقاف العمل بالدستور أو البحث عن وسائل للتحايل عليه. ومن باب الإستعداد للقيام بتغيير في الدستور وجدنا الأمير وعائلته يلتمسون من قيصر روسيا المساندة فيما ينوي الأمير عمله, ولكن دون جدوى. وفجأة وبشكل غير متوقع تم إغتيال القيصر الكسندر الثاني في 1881 وخلفه على العرش إبنه الكسندر الثالث وهو شديد الرجعية, والذي بفضل موقفه أصبح بإمكان حاكم بلغاريا أن يوقف العمل بالدستور في ظل موافقة روسية رسمية.
ورغم أن أمير بلغاريا كان يعتقد أن بإمكانه حكم البلاد حكماً قوياً, إلا أنه سرعان ما واجه مشكلة حادة تمثلت في أن قيصر روسيا (الكسندر الثالث) كان رجلاً اوتوقراطياً يطلب من الجميع إحترامه وطاعته بما فيهم حاكم بلغاريا. وأكثر من هذا أنه كان يعتبر بلغاريا مجرد تابع لروسيا أو مجرد إقليم في إمبراطوريته الشاسعة, على حين كان أمير بلغاريا يعتقد أنه يمكنه أن يتعامل مع القيصر كقريب وكشخص مساو له. وكان هذ يعني أن صراعاً وحشياً بين الرجلين لم يكن من الممكن تحاشيه, وأكثر من هذا فقد بدا واضحاً أن الروس البلغار لم يكونوا متعاونين في كافة المستويات الوظيفية والإدارية, ولم يقتصر الإضطراب العصبي على مستوى الحكام. وكان أكبر مظهر للصراع قد حدث في الجيش بين صغار الضباط البلغار والعسكريين من أصول بلغارية وبين رؤسائهم اروس وذلك بسبب تخصيص الرتب العسكرية في الجيش البلغاري من رتبة الكابتن فما فوق للوس, مما جعل شباب البلغار الطوح يدركون أن ترقياتهم في الجيش محدودة ومقيدة. كذلك مقعت مصادمات مشابهة داخل مختلف الأجهزة الإدارية في ابلاد بسبب تصرفات بعض الرسميين الروس التي كانت فوق الإحتمالات.
ونتيجة لكل هذه المواقف تدهورت العلاقات الروسية-البلغارية بشكل حاد, ففي عام 1883 زجد الليبراليون أنفسهم وهم الذين كانوا يقاومون الأمير بقوة قد إقتنعوا بأنهم إستبدلوا بالسيطرة العثمانية سيطرة روسية. ومن هنا ولكي ترهن الأحزاب السياسية المتنافسة على قدرتها في حكم أنفسهم بأنفسهم إصطفت جميعها وراء الأمير لتكوين جبهة متحدة في مواجهة المسئولين الروس. وبادر الأمير من جانبه بإعادة العمل بدستور تورنوفو وأصبح حاكماً حقيقياً لدولة بلغاريا, وأصبح هناك ولأول مرة منذ 1879 مظهر للوحدة في البلاد. على أن هذا النصر الذي أحرزته القوى السياسية في بلغاريا مع الأمير جعل قيصر روسيا يضيق ذرعاً ومن ثم قرر الإطاحة به. كما أصبح واضحاً للأمير الكسندر انه طالما يحكم بلغاريا فإن روسيا سوف تعارض وحدة بلغاريا وشرق روميليا. وآنذاك تطورت الحوادث في الإقليم تطوراً جعل مسألة الوحدة يمكن أن تثار بطريقة أو بأخرى.
ولما كانت روسيا قد إتفقت على إنشاء بلغاريا بحدودها وفق مؤتمر برلين في 1878 فقد ظلت منطقة شرق روميليا في يد هيئة دولية من الدول الكبرى. ولقد قامت تلك الهيئة بإصدار نظام سياسي للمنطقة في أبريل 1879 وهو نفس العام الذي صادقت فيه بلغاريا على دستور تورنوفو. وعلىالعكس من دستور بلغاريا الذي تمت صياغته بعناية ملحوظة كان النظام السياسي لروميليا المكون من 495 مادة غير قابلة للتطبيق, ذلك أن أعضاء الهيئة التي أصدرته تصرفوا بشكل فردي ولم يكن هناك تنسيق فيما بينهم, بل إن الذي حدث أن كل دولة من الدول الكبرى أنيط بها إعداد قسم معين في لائحة هذا النظام. وهكذا صاغ البريطانيون قوانين الإنتخاب. وصاغ الإيطاليون البنود المالية و وكان النمساويون مسئولون عن الجانب التشريعي, وقدم الفرنسيون نظامهم الإداري وتعاون معهم اروس في تنظيم الميليشيا العسكرية. وتم إهمال كل ما يتعلق بالحاجات المحلية وعادات الناس. ولكي يمكن إدارة شؤون هذا الإقليم وافقت القوى العظمى على قرار السلطان العثماني بتعيين آليكو باشا Aleko المسيحي حاكماً عاماً ومعه أحد الألمان للشؤون المالية, وتعيين بريطاني رئيساً للجندرمة, وفرنسي مسئول عن الميليشيا التي كان ضباطها روس أو بلغار مدربون تحت قيادة روسية. وتم منح الإقليم جمعية عمومية تتكون من 56 عضواً, عشرون منهم بالتعيين والباقي بالإنتخاب. وبهذا أصبحت روميليا الشرقية نمنوذجاً صعباً للدولة . . فمواطنوها قد ينجذبون إلى بلغاريا ذات النظام الدستوري الذي كان يأمله ميليوتين فيما سبق.
كانت المشكلتان اللتان واجهتا آليكو باشا تتعلقان بمصير الأراضي التي كان المسلمون يملكونها في السابق وتخلوا عنها ووضع السلكان المحليون يدهم عليها, وكذا إستمرار حماس أهالي روميليا للتوحد مع بلغاريا. أما المشكلة الأولى فقد تم حلها عن طريق إرهاب الملاك السابقين وترويعهم بالثأر منهم لما بدر منهم أثناء المعارك وبالتالي لا يمكن أن يعودوا للمطالبة بأراضيهم. أما أولئك الذين عادوا رغم التهديدات فقد وجدوا أن ضريبة قد فرضت على أراضيهم مقدارها 10% من قيمتها, ومن هنا لم يكن أمامهم إلا بيع أراضيهم للوفاء بالضريبة. أما بيوت العثمانيين وأراضيهم ومقاطعتهم فقد إشتراها فلاحو روميليا. كما تم إنهاء العمل بنظام الملكية والإيجار السابق,وأصبحت أراضي هذا الإقليم مثل أراضي بلغاريا الواقعة على شماله . . ملكيات زراعية صغيرة بشكل أساسي.
أما موضوع وحدة رميليا الشرقية مع بلغاريا فكان على جانب من الخطورة, فمن ناحية كان السكان إجمالاً يرحبون بالوحدة وعلى إستعداد لإتخاذ الخطوات لإتمامها, ومن ناحية أخرى كان المندوبون الروس في بلغاريا متحمسون بشكل ملحوظ لتحقيق الوحدة بل وشجعوا الأهالي للعمل من أجل تحقيق هذا الأمل. أما المسئولون الرسميون فقد عملوا من ناحيتهم سواء بموافقة حكومتهم أو عدم موافقتها على إحتضان مختلف الحركات التي تسعى لضم روميليا الشرقية وقاموا بتسليح الأهالي سراً. ورغم أن معاهدة برلين (1878) حددت حجم الميلشية العسكرية بالبلاد, إلا أنه تم إنشاء أندية رياضية ينخرط فيها الشباب للتدريب على مختلف الرياضيات بحيث يصبح من السهولة بمكان تحويل تلك الأندية إلى وحدات عسكرية عند الضرورة.
ولقد كان هذا التعاون المبدئي بين الروس وأهالي روميليا الشرقية بشأن موضوع الوحدة فوق كل المشكلات الأساسية التي رأيناها عند تكوين بلغاريا, ذلك أن بعض الروس في روميليا كانوا يعون للتمتع بمزايا خاصة لهم على حساب الأهالي, وكان صغار الضباط في ميلشيا روميليا من الأهالي يكرهون رؤساؤهم الروس, وقد شاركهم تلك الكراهية كثير من أعضاء الحزب الليبرالي البلغاري الذين إضطروا لمغادرة صوفيا بعد صدور الدستور بتصديق من قيصر روسيا. وفي عام 1884 وكان امير بلغاريا وقيصر روسيا قد أصبحا أعداء وجد آليكو باشا حاكم روميليا الشرقية نفسه موضع كراهية من قيصر روسيا (الكسندر الثالث). وإذا لم يكن بإمكان القيصر أن يرغم أمير بلغاريا (الكسندر) على التنازل عن عرشه بلغاريا فقد كان بإمكانه إبعاد آليكو باشا الذي السلطان العثماني قد عينه ولمدة خمس سنوات. وعلى هذا ففي 1884 رفضت روساي الموافقة على مد ولاية الرجل فترة أخرى وإختارت الدول العظمى جفريل أفندي كروستيفتش Grvril E.Krustevich الذي كان مقبولاً من روسيا بدرجة كبيرة نظراً لما كان يبدو عليه من ضعف وبالتالي يسهل السيطرة عليه ولم تكن أفكاره القومية الحماسية معروفة آنذاك.
وفي عام 1885 كانت الحركة الوحدوية في روميليا نشطة وقوية من خلال اللجان المحلية التي انتشرت في أنحاء الإقليم حتى إذا كان منتصف ليلة 17-18 سبتمبر 1885 أعلن قادة روميليا تدعمهم الميلشيا عزل حكومتهم وافتحاد مع بلغاريا, ولم يبذل كروستيفتش أية مقاومة لعزله. وعلى الفور قام الثوار في روميليا بدعوة من أمير بلغاريا لتولي رئاسة الدولة الجديدة المتحدة (إتحاد بلغاريا ورميليا الشرقية). غير أن تلك الدعوة وضعت أمير بلغاريا أمام قرار صعب, فأولاً أنه يعلم أن رعاياه البلغار يرغبون رغبة عارمة في تحقيق هذه الوحدة, لكن تحقيقها تحت قيادته قد يجعل وضعه في البلاد عرضة للخطر, وإذا إختار ألا يقود الوحدة فعليه أن يعد نفسه للتخلي عن العرش. ومن ناحية أخرى فهو قد سبق أن أكد لروسيا في أغسطس أنه لن يكون طرفاً في أية حركة تجاه الوحدة, وأن تغيير موقفه بعد شهر واحد قد تفتح من جديد باب المسألأة الشرقية برمتها دون ضمان أن تكون نتيجتها النهائية في صالح بلغاريا.وهكذا عندما أخبره أحد مستشاريه بوضوح أن عليه أن يختار قيادة الوحدة أوأن يغادر بلغاريا, إختار المغادرة بلا تردد.
وعلى الرغم من أن مسألة الوحدة لم يكن يتوقعها أحد, إلا أن طرحها تسبب في أزمة دبلوماسية لأن قيامها كان يعد خرقاً لمعاهدة برلين ومن شأنه بالتالي توريط الدول العظمى. والحال كذلك طفت على السطح مسألة تعويض اليونان والصرب عن الأراضي التي إنتزعت منكل منهما عند الإستقلال. ولقد جاء أقوى رد فعل لخطوة الوحدة من روسيا كما هو متوقع ولكي يعبر قيصرها عن رفضه الكامل لها سحب كل الضباط الروس من بلغاريا بقصد إقناع البلغار بأنه دون مساعدة روسيا ستكون الوحدة في خطر, وأنه سوف يتخذ خطوات لعزل أمير بلغاريا عن العرش. وبينما كان القيصر يتصرف في الموقف تحت تأثير غضبه الشخصي كان وزير خارجيته ينظر إلى المشكلة من وجهة نظر الضغط الذي يحتمل أن تواجهه عصبة الأباطرة الثلاثة, وإحتمال أن تنتهز النمسا الفرصة لكي ينضم البوسنة والهرسك, وأن تدخل اليونان والصرب الأراضي المقدونية.
وهكذا ولكي تحول روسيا دون وقوع إنقلاب مفاجئ وهائل في البلقان دعت لمؤتمر على مستوى سفراء الدول الكبرى إقترحت فيه إعادة الأوضاع في المنطقة إلى ما كانت عليه في السابق. وقد أيدتها في هذا الإقتراح حليفتيها النمسا والمانيا, على حين أيدت بريطانيا قيام الوحدة بعد أن غيرت سياستها التي كانت قد إتبعتها عام 1878 في مؤتمر برلين (توازن المصالح وتكامل الأراضي العثمانية). ولما كانت بلغاريا المتحدة تقف ضد التوجهات الروسية فكان هذا يعني أنها سوف تكون حاجزاً قوياً أمام النفوذ الروسي في البلقان وليس بالنسبة للقوى العظمى هي نفسها المشكلة التي برزت خلال مختلف مراحل الحركةالقومية الرومانية ولكن مع تبادل المواقف. وكل ما كان هنالك أن الحكومة العثمانية كانت ترغب في إستخدام القوة لحل الإتحاد, لكن روسيا كانت راغبة عن دعم السلطان العثماني في هذا الشأن.
على أن الأمور تطورت لصالح بلغاريا نتيجة لإجراء غير موفق أقدم عليه ميلان Milan أمير الصرب الذي رأى أن الوحدة قد تضر بالتوازن السياسي بين حكومات البلقان وتعطي لبلغاريا ميزة في الصراع الذي ينشأ حول مقدونيا, وحتى يحمي مصالح بلاده بغعلان الحرب على جارته بلغاريا. ونلاحظ أنه لم يوضح أهدافه أمام رعاياه الذين كانوا غير متحمسين كثيراً لهذا الصراع. وعلى الرغم من أن معظم المراقبين كانوا يتوقعون إنتصار الصرب في الحرب, إلا أن أمير بلغاريا الكسندر وجيشه الذي أصبح تحت قيادة ضباط صغار حلوا محل الضباط الروس نجحوا في إيقاع الهزيمة بجيش الصرب. وبعد هذا النصر الحاسم إضطرت روسيا للموافقة على الوحدة, وفي 1886 قبلت الدول العظمى أن يكون أمير بلغاريا حاكماً عاماً على روميليا الشرقية لمدة خمس سنوات. ورغم أنه لم تتم تسميته لهذا المنصب بشكل محدد, إلا أن الدول الكبرى فهمت أن الوحدة قد تكون دائمة.
وهكذا وبعد مرور سبع سنوات على توقيع معاهدة برلين (1878) تمت وحدة منطقتين من الثلاثة مناطق التي كانت بلغاريا تطالب بها, فبدأ أمير بلغاريا (الكسندر) في صورة المنتصر, وأخذ يتلقى مديحاً هائلاً لمهاراته الدبلوماسية, وتم تكريمه لإنتصاره على الصرب. غير أن هذا المجد العظيم كان له ثمنه العظيم أيضاً. فقد شعر قيصر روسيا (الكسندر الثالث) بالإهانة الشديدة لإنتصار قريبه أمير بلغاريا, وأصبح أكثر إقتناعاً بأن هذا الأمير هو العقبة الوحيدة أمام حسن العلاقات الروسية-البلغارية ومن ثم قرر الإطاحة به. وعلى هذا بدأ ممثلو القيصر في صوفيا ورجاله يحيكون المؤمرات للخلص من أمير بلغاريا وقد وجد هؤلاء مساندة من بعض كبار السياسيين البلغار الموالين لروسيا ومن بعض ضباط الجيش البلغاري الساخطين الذين ساورهم الإعتقاد بأنهم لك يكافأوا المكافأة المناسبة لدورهم في هزيمة الصرب. كما كان حلفاء روسيا من جهة أخرى لا يتصورون أن تحصل بلغاريا على مقدونيا دون مساعدة روسيا ومن ثم كانوا على إستعداد للتضحية بامير بلغاريا. وعلى هذا وبعد تخطيط محكم تمكن المتآمرون من القيام بإنقلاب في أغسطس 1886 حيث أرغموا أمير بلغاريا على التنازل عن العرش ورحل عن البلاد.
وبعد نجاح الإنقلاب قام كليمنت الموالي لروسيا بتشكيل حكومة بلغارية جديدة, إلا أنه سرعان ما إتضحت شعبية الأمير المخلوع فقد قامت ثورة مضادة بقيادة استيفان ستامبولوف أحد أبطال إنتفاضة 1876 البارزين وأحد الوزراء السابقين أرغمت حكومة كليمنت على الإستقالة بعد أيام قليلة من تشكيل الحكومة, وعاد الأمير المخلوع لعرش بلغاريا بعد عشرة أيام من إرغامه على التنازل عن العرش. وكان من بين الجماهير التي إحتشدت لتحيته نائب قنصل روسيا في بلغاريا مما جعل الأمير يعتقد أن قيصر روسيا قد سامحه وعفا عنه, ومن هنا بادر بإرسال برقية له دون أن يستشير ستامبولوف (قائد الحركة الشعبية) عبر فيها عن إخلاصه قائلاً: "حيث أن روسيا أعطتني تاج العرش فأنا على إستعداد تام لإعادته لأصحابه", فما كان من القيصر الذي لم يوافق على عودة الأمير إلا أن رد عليه بخشونة وفظاظة قائلاً: "لسوف تقدر جنابكم ما ينبغي أن تفعله", وهكذا لم يكن أمام الكسندر أمير بلغاريا إلا أن يتنازل عن العرش للمرة الثانية.
ورغم أن بلغاريا أصبحت بدون أمير يحكمها, إلا أنه كان من بين البلغاريين قائد سياسي عظيم ألا وهو ستيفان ستامبولوف الذي قام بتشكيل الحكومة. لكنه واجه مشكلتين أولهما مقاومة الضغط الذي تمارسه روسيا وثانيهما إختيار حاكم جديد. وعلى هذا تمت دعوة الهيئة القومية الكبيرة للتصديق على إختيار الأمير الجديد. لكن روسيا أصرت على إرجاء عملية الإختيار بدعوى أن الفوضى تضرب أطنابها في البلاد وتحول دون إرجاء عملية الإنتخاب بشكل سليم. وتحقيقاً لتلك الرغبة أسرع بإيفاد مبعوث خاص وهو الجنرال كولبارز N.V.Kaulbars لشرح وجهة نظر روسيا.
ولم يكترث ستامبولوف بوجهة النظر التي قدمها ذلك المبعوث لكن الغالبية العظمى من القيادات البلغارية كانت تؤيد المبعوث فشعر بكثير من الزهو والفخر وإنطلق يطوف بأنحاء البلاد يحاول إقناع الأهالي بوجهة نظر القيصر, وخطب فبهم متوعداً إياهم بالويل والثبور وعظائم الأمور بتدخل دولي شنيع في شؤون بلغاريا, وسرعان ما تحركت سفينتان حربيتان روسيتان بإتجاه ميناء فارنا على البحر الأسود. غير أن ستامبولوف لم يستسلم ولم يتنازل عما قرره من حيث إجراء الإنتخابات التي تمت بالفعل وأصبحت الجمعية مستعدة لإتخاذ قرار بشأن تعيين حاكم جديد. وإنتهزت حكومة روسيا الفرصة لتقطع العلاقات الدبلوماسية مع بلغاريا وكان هذا بعد مضي ثمان سنوات فقط من إندفاع روسيا لخوض غمار حرب من أجل سلاف البلقان وتأييد إنشاء بلغاريا الكبرى طبقاً لمقررات مؤتمر سان ستيفانو.
على أن إختيار أمير جديد لحكم بلغاريا لم يكن أمراًُ سهلاً نظراً لضرورة موافقة الدول العظمى على هذا الإختيار في الوقت الذي إعتزمت فيه روسيا على الإعتراض على أي ترشيح لهذا المنصب. وأكثر من هذا أن المرشحين الذين قدمتهم الهيئة القومية العامة رفضوا هم أنفسهم قبول المنصب. وفي النهاية وفي أغسطس 1887 وافق فرديناند الكوبورجي of Coburg وهو أمير الماني على المنصب ولو أنه لم ينعم بموافقة الدول العظمى, ومن ثم حفلت السنوات الأولى من حكمه بعدة صعوبات وقلاقل وعدم إستقرار. ولقد كان يعتمد في إدارة الشؤون الداخلية على ستامبولوف الذي كان وراء ترشيحه للحكم والذي كانت حكومته تحظى بتأييد الأهالي الذين إمتعضوا من المؤمرات والحيل التي إستمر حلفاء روسيا وأنصارها في البلاد يدبرونها. وقد بلغت هذه المؤمرات ذروتها بإغتيال وزير المالية في 1891 فأدرك ستامبولوف أنه هو المستهدف الحقيقي من كل المتآمرين. ولكي يقضي على مثل هذه المؤمرات ويحتفظ بشعبيته بين ناخبيه حصل على موافقة السلطان العثماني على تأسيس أسقفية بلغارية جديدة في مقدونيا. كما نجح في 1893 في تعديل الدستور بما يسمح بزواج فرديناند من أميرة كاثوليكية فظهرت مشكلة جديدة وهي أن أولادها لا يمكن تعمديهم أرثوذكسياً. وكان هذا الإجراء في حد ذاته يعد تحدياً مباشراً لتزعم روسيا حق الدفاع عن الأرثوذكس فكان علامة على تفوق ستامبولوف ولو أنه طرد من الحكم في 1894 بعد سنة واحدة من هذا الإجراء.
والحاصل أن فرديناند الكوبورجي كان حاكماً متكبراً وطوحاً ومتسلطاً وكان يحلم بأن تكون بلغاريا قوة مهيمنة في البلقان. ولكن نظراً للصعوبات التي كانت تواجهه في بدايات حكمه عهد إلى ستامبولوف بمسئولية إدارة شؤون الحكم إلى أن أدرك في لحظة معينة المخاطر التي تحوطه فكان عليه إعادة التآلف بين بلغاريا وروسيا مرة أخرى, ذلك أنه بعد مرور سبع سنوات عليه في حكم بلغاريا لم تعترف به اي حكومة من حكمات الدول العظمى كحاكم شرعي للبلاد, وأكثر من هذا أن توسعه في مقدونيا بدا مستحيلاً بدون مساندة روسيا. وعلى هذا بدا للأمير أن ستامبولوف يمثل عقبة رئيسية في طريق عودة العلاقات الطبيعية مع روسيا. وهكذا وفي 1894 عندما هدد ستامبولوف بتقديم إستقالته بسبب الإختلاف بينه وبين الأمير حول مسألة صغيرة, وكانت إستقالته مجرد مناورة كان يلجأ إليها من آن لآخر لإخافة الأمير الذي أصبح يعتمد عليه, فاجأه الأمير بقبولها. وفي أكتوبر 1894 مات قيصر روسيا (الكسندر الثالث) وخلفه نيقولا الثاني فأصبح الطريق ممهداً لتجديد العلاقات الروسية-البلغارية.
وعلى هذا كان على فرديناند أن يمهد الأرض لعودة العلاقات أولاً, وفي مقدمة الخطوات التي كان عليه أن يقوم بها تحويل إبنه بوريس Boris من الكاثوليكية إلى الأرثوذكسية وكان هذا ضد الخطوة التي قام بها ستامبولوف التي إعتبرت وقتها أحد نجاحاته العظمى. وكانت الخطوة الثانية ذهاب وفد برئاسة كليمنت الموالي لروسيا إلى العاصمة الروسية لكي يضع إكليلاً من الزهور على قبر الكسندر الثالث حيث إلتقى القيصر الجديد نيقولا الثاني بهذا الوفد, كما تم الإفراج عن السياسيين الموالين لروسيا من السجن. وهكذا وفي 1896 عادت العلاقات من جديد بين البلدين ومن ثم تمهد الطريق لإعتراف الدول العظمى بفرديناند ليس أميراً لبلغاريا فقط وإنما حاكماً لروميليا الشرقية مما يعني الموافقة رسمياً على الوحدة بين بلغاريا وروميليا الشرقية والتي كانت قد أعلنت من طرف بلغاريا فقط في عام 1885 كما سبقت الإشارة.
وبمجرد إعتراف روسيا والدول العظمى الأخرى بفرديناند حاكماً على بلغاريا أصبح بإمكان الأمير أن يركز جهوده في تنمية بلاده وحل مشكلاتها الداخلية وفي مقدمتها مسألة التوسع القومي. وكانت المشكلة المسيطرة على الحياة السياسية في بلغاريا بعد مؤتمر برلين 1878 هي مصير مقدونيا, وهو الموضوع الذي تجتمع عليه الأمة وتتوحد بشأنه الأحزاب السياسية, ذلك أن الحدود التي رسمتها معااهدة سان ستيفانو أصبحت تمثل البرنامج القومي لبلغاريا. وكان النضال من أجل تحقيق هذا الهدف قد شكل ملامح تاريخ بلغاريا المستقبلي.
الفصل الثاني عشر التطورات الداخلية لدول البلقان حتى عام 1914
بإستقلال كل من الصرب ورومانيا والجبل الأسود والإعتراف الدولي بهذا الإستقلال, وتمتع بلغاريا بحكم ذاتي فضلاً عن إستقلال اليونان من قبل في عام 1830, تم وضع أسس نظام الدولة الحديثة في البلقان. وبإستثناء البانيا التي لم تبدو في الأفق إلا في عام 1913 كانت معظم قوميات البلقان قد نجحت في إقامة وضع سياسي لها بعيداً عن السيطرة العثمانية المباشرة. ورغم أن تلك الدول جميعاً دخلت في صراع فيما بينها في الغالب, إلا أنها كانت تتفق فيما بينها في كثير من خصائص التطور القومي, فأربعة منها وهي رومانيا والصرب واليونان وبلغاريا كانت ملكيات دستورية ذات نظام حكم مركزي, والسلطة الفعلية في كل منها في يد البوليس والجيش. ولم يقتصر الصراع السياسي في كل منها بين القوى السياسية فقط, بل لقد كان أيضاً بينها وبين العرش. وطالما كان بإستطاعة الملك الإعتماد على القوات المسلحة فإنه يحتفظ بعرشه. أما إذا فقد هذا التأييد حدث مع كوزا في 1866 ومع أثون في عام 1843 وعام 1862 يصبح مركزه على شفا الهاوة, أو يرغم على التنازل عن العرش. ولقد إستمر هذا النموذج في تلك العلاقات بين العرش والقوة قائماً.
ولقد كانت تلك الدول تستلهم غرب أوروبا في التطور الإقتصادي-الإجتماعي رغم إعتمادها بشكل أساسي على روسيا بإعتبارها فضل مصدر للمساعدة ضد الدولة العثمانية. وعلى هذا فقد أخذت كل منها بالشكل السياسي الغربي وإستهدفت تحقيق مستويات التطور والتنمية التي حققتها دول غرب أوروبا. وبكلمات أخرى فإن دول البلقان ذات المجتمعات الريفية-الفلاحية كانت تسعى لأن تحقق بسرعة وفي وقت قصير ما أنجزته بلاد غرب أوروبا في عدة قرون.
ورغم تلك ارغبة الواضحة في التنمية السياسية والإقتصادية, إلا أن الأولوية التي وضعتها تلك الحكومات الجديدة لنفسها جعلتها تتجه إتجاهات أخرى. والحاصل أنه فور تحقيق هذه الدول إستقلالها القومي أو حكمها الذاتي إلتفتت جميعها نحو التوسع القومي لإستعادة حدودها الإثنية أو التاريخية التي كانت لها يوماً ما, فلم تكن أي منها راضية عن الحالة status quo التي وصلت إليها ذلك أنه بعد مؤتمر برلين (1878) كانت الدولة العثمانية لا تزال تضع يدها على تراقيا ومقدونيا والبانيا, والنمسا تسيطر على أماكن أخرى مثل ترانسلفانيا ودلماشيا وكرواتيا, كما كان التأكيد بإستمرار على التطرف القومي يفسر أهمية وجود الجيش في تلك الدو لليس فقط لتحقيق الأماني القومية أو لاستخدامه ضد الدولة العثمانية والنمسا, وإنما لإستخدامه ضد الدول المجاورة حسب مقتضى الحال, وعلى هذا كانت كل دولة ترقب القوة العسكرية للدول المجاورة لها.
وعلى هذا فإننا سوف نناقش في هذا الفصل التطور الداخلي لكل دول البلقان خلال الفترة قبل الحرب العالمية الأولى, وأيضاً قضايا السياسة الخارجية. أما قضايا الدول العظمى مثل طرد العثمانيين من أوروبا, ومصير الرومانيين, وكذا العناصر اللسافية التي كانت تعيش جنوبي الإمبراطورية النمساوية فسوف نتناولها في الفصول التالية.
اليونان سبقت الإشارة إلى أن اليونان حصلت في 1864 على دستور جديد وعلى أسرة ملكية دانمركية. وآنذاك كانت الطموحات القومية تمثل القضية الكبرى التي يلتف حولها اليونانيين, ورغم الأزمات المتلاحقة التي كانت تواجه اليونان, إلا أنها إستطاعت تحقيق قليل من المستهدف خلا العقد التالي, ذلك أنها وجهت إهتماماتها ناحية الشمال تجاه مقدونيا وناحيةالجنوب تجاه جزيرة كريت. ففي 1881 وبمقتضى قرارات مؤتمر برلين (1878) حصلت اليونان على تساليا وجزء من إيبروس كما سبقت الإشارة . لكن تطلعهما لضم مقدونيا كان يحول دونه معاهدة سان ستيفانو التي إعتبرتها اليونان أسوأ حل ممكن لمشكلة مقدونيا لأن بلغاريا الجديدة وليس اليونان كانت محط آمال سلاف مقدونيا. كما كان توسع الصرب في الجنوب في ذات الوقت يمثل خطراً على اليونان فضلاً عن بقاء كريت تحت سيطرة العثمانيين. وحيث أنه لم تكن هناك قوة أخرى تنافس اليونان في المطالبة بضم كريت فقد ركزت اليونان على مقدونيا, كانت على إستعداد للتخلي عن مقدونيا في مقابل حصولها على كريت.
غير أن فقر اليونان الذي حال دون إمتلاكها القوة العسكرية الضرورية لتحقيق آمالها القومية الطموحة كان يمثل أحد العقبات الرئيسية لتقدمها. وفي هذا الشأن كانت اليونان في أسوأ وضع بالنسبة لمنافسيها بين دول البلقان, فلم تكن تملك أي أساس لإتخاذ سياسة خارجية قوية إذ كانت بلداً ريفياً نصف أراضيه غير صالحة للزراعة. وشأن بقية دول البلقان كانت تعتمد على أساليب بدائية في الزراعة, فالتربة فيها فقيرة لا تستطيع توفير الغلال اللازمة لحاجات الناس, والأرض المزروعة مقسمة لوحدات صغيرة يقوم أهلها بزراعة ما يسد رمقهم بالكاد. لكن بضم تساليا كسبت الدولة إقليماً زراعياً غنياً كان في السابق عبارة عن إقطاعيات كبيرة في حيازة ملاك مسلمين أتراك ولم يحدث أن تم توزيع هذه الإقطاعات على الفلاحين بعد أن تركها المسلمون, بل لقد وقعت في يد كبار ملاك الأراضي اليونانيين. وكانت تلك الإقطاعيات مثلما كان الحال في رومانيا تزرع بنظام المشاركة حيث يقوم الفلاح بفلاحة الأرض مقابل أن يعطي للمالك ثلث أو نصف المحصول. والحال كذلك فلم يكن هناك أي دافع أو حافز لإدخال تحسينات على أسلوب الزراعة بل لقد ظلت مساحات كبيرة عبارة عن أراضي مراعي.
كانت مشكلة اليونان أنها لكي توفر أمولاً لشراء القمح ومنتجات أخرى من الخارج لم يكن أمامها إلا تصدير الزبيب. وهنا كانت تكمن خطورة الإعتماد على غلة واحدة في السوق العالمي قد تتعرض لأية هزة لأسباب طارئة, وهو ما حدث فعلاً, فقد زادت صادرات الزبيب من 42 ألف طن عام 1861 إلى مائة وسبعمائة ألف طن في 1878 لأنه في ذلك العام هاجمت حشرة الفاكهة مزارع الكروم في فرنسا الأمر الذي جعل تجار النبيذ الفرنسيين يستوردون حاجتهم من الكروم من اليونان. على أن الحكومة الفرنسية بدأت تبذل جهودها لحماية محاصيلها الزراعية أمام المنافسة الخارجية, وفي 1892 وضعت تعريفة جمركية جديدة على الواردات أضرت بطبيعة الحال بصادرات اليونان من الكروم أو من النبيذ. وعلى هذا بدأت اليونان في البحث عن محصول بديل لمواجهة الأزمة فوجدته في الدخان ألأذي أصبح تجارة مهمة ورائجة ورئيسية بعد الحرب العالمية الأولى.
على كل حال . . لقد ظلت الأحوال الإقتصادية في اليونان قبل الحرب العالمية الأولى متخلفة ومتدهورة ففي 1870 كان هناك خط سكة حديد واحد طوله تسع كيلومترات ما بين أثينا وميناء بيرا Piraeus. ولم تتخذ أية خطوة تجاه التصنيع ففي عام 1875 كان هناك 89 مصنعاً فقط فضلاً عن مشكلة الديون التي وقعت فيها البلاد للصرف على نفقات الثورة وعلى الحكومات الأولى في عهد الاستقلال, بل إن الحكومات التالية إضطرت أيضاً للإستدانة من الخارج. وربما أدت هجرة أعداد كبيرة من اليونانيين إلى الخارج إلى تخفيف وطأة الأوضاع المالية السيئة فخلال تلك الفترة هاجر من البلاد حوالي نصف مليون إلى الولايات المتحدة الأمريكية, وأرسل هؤلاء أمولاً كافية للبلاد خلال الفترة من عام 1905-1914 كان من شأنها تعديل ميزان المدفوعات.
ومن ناحية أخرى كانت السياسات الداخلية للحكومات اليونانية تعكس بدقة المشكلات الرئيسية التي تواجهها, فقد ظل التوسع الإقليمي هاجساً قومياً عاطفياً عند تلك الحكومات, على حين كان المطلوب الإصلاح الداخلي والتنمية الإقتصادية. ولقد إتضحت معالم الجذب والشد بين هذين الإتجاهين (أي التوسع الإقليمي والإصلاح الداخلي) في الصراع السياسي الذي ساد العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر, وكذا في المنافسة الشديدة بين كل من خاريلاوس تريكوبيس Charilaos Trikoupes, وتيودور ديليانيس Deliyannes. ففي اليونان كما هو الحال بلاد البلقان الأخرى كانت الأحزاب السياسية عبارة عن مجموعات من الناس تتحلق حول شخص أكثر من أن تلتف حول برامج تنظيمية عكس ماكان قائماً في الغرب. وكان الملك جورج قد وافق في 1875 على مبدأ أن تتشكل الحكومات بواسطة أي حزب سياسي يتمتع باغلبية برلمانية. وبمقتضى هذا القرار برز إلى الساحة السياسية نوعان من الأحزاب, وشكل تريكوبيس أول حكومة من حكوماته السبع التي شكلها في حياته, ومن البداية كان محل معارضة قوية من كوموندوروس وأتباعه, ثم من حزب ديليانيس بعد عام 1885.
لقد وضع حزب تريكوبيس برنامجه الإصلاحي على أساس الحاجة لتحسين أوضاع اليونان الداخلية, وتمتع بتأييد المهنيين والتجار, وخلال فترة حكمه الكبرى من مارس 1882-أبريل 1885, ثم من مايو 1886 إلى نوفمبر 1890 قدم كمية كبيرة من التشريعات في هذا الخصوص. ورغم أنه لم يتردد في تعيين خلصائه وأتباعه في المناصب العامة, إلا أنه حاول بكل إخلاص تحسين الخدمات المدنية والنظام الإداري البلاد, إذ نجح في تعيين القضاة بشكل دائم, كما أصلح من شأن البوليس, وتبنى برامج للأشغال العامة لتوسيع الطرق والسكك الحديدية, وتسهيلات للموانيء, فضلا عن تقوية الجيش. وفي هذا الشأن إستقدمت حكومته بعثة عسكرية فرنسية لتدريب الجيش خلا المدة من 1844-1887.
لقد صادف تريكوبيس وضعاً لا يستهان به فقد كانت خططه الطموحة تتطلب أمولاً كثيرة إضطرته للوقوع في شرك القروض التي بلغت 630 مليون فرنك ذهبياً خلال الفترة من 1879-1890, وتضاعفت الضرائب على الأهالي بين عامي 1875-1895. كما تعرضت سياسته الخارجية لنقد شديد بسبب ميله للعمل تحت جناح بريطانيا وإتباع نصائحها التي كانت تقول بأسبقية التنمية الداخلية على التوسع الخارجي-القومي.
ونتيجة لحركة المعارضة ضد سياسة الحكومة في فرض الضرائب وضد سياستها الخارجية بشكل عام تم تكليف ديليانيس بتشكيل الحكومة ثلاث مرات في أعوام 1885, 1890, ثم في 1895. وقد ركز سياسته على التوسع القومي إبتزازاً للمشاعر القومية لدى الجماهير ولم يهتم بخطط الإصلاح الداخلي والتنمية. والحقيقة أن تداول السلطة بين هاتين المجموعتين الحزبيتين المتعارضتين, وتدهور الوضع الإقتصادي للبلاد كان كارثة حيث إزدادت المشكلة المالية سوءً. ففي عام 1892 كانت خدمة الديون تستهلك ثلث الميزانية حتى لقد أفلست اليونان تماماً في العام التالي (1893). وفي عام 1895 إعتزل تريكوبيس السياسة على أثر سقوطه في الإنتخابات ثم توفى في العام التالي وخلفه في رئاسة الحزب جورج ثيوتوكيس Theotokes.
على أن تركيز ديليانيس على مجال السياسة الخارجية وإهمال الإصلاح الداخلي لم يأت بنتيجة إيجابية في مجال التوسع الإقليمي بل لقد فشلت سياساته في هذا الخصوص ففي نوفمبر 1885 وعندما دخلت الصرب الحرب إلى جانب بلغاريا وكان ديليانيس في السلطة كان اليونانيون شأن الصربيين يشعرون بأحقيتهم في ضم باقي إيبروس تعويضاً عن شرقي روميليا التي إلتهمتها بلغاريا. ولما لم يتحقق شيء من هذا بدأت اليونان في تعبئة الجيش إستعداداً للدخول في معركة والحصول على ما تريد بالقوة, لكن الدول الكبرى فيماعدا فرنسا تحركت بسرعة وطلبت من اليونان إيقاف التعبئة وعدم تحريك الجيش. وعندما رفضت اليونان الإمتثال فرض عليها حصار بحري في مايو (1886). ونظراً لفشل سياسة ديليانيس على ذلك النحو عاد تريكوبيس للحكم ولم يكن أمامه إلا الإستسلام للأمر الواقعولم تكسب اليونان من تلك المغامرة إلا زيادة الضغط على الميزانية المرهقة بإضافة تكاليف التعبئة العسكرية التي تمت.
لقد ظلت الأهداف القومية الرئيسية لدى حكومات اليونان ثابتة ومحددة ليس فقط في الحصول على إيبروس ولكن الحصول أيضاً على مقدونيا وكريت بدرجة أقل. وحتى عام 1913 كانت مشكلة كريت تشغل حيزاً كبيراً في السياسات الداخلية إلى أن صبحت جزء من مملكة اليونان. والحاصل أنه بعد ثورة اليونانيين ضد الحكم العثماني في عشرينيات القرن التاسع عشر وضعت كريت تحت حكم محمد علي في مصر مكافأة له على دوره في إخماد الثورة, وظلت كذلك حتى رجعت إلى الدولةالعثمانية بمقتضى تسويات لندن عام 1840 التي جردت محمد علي باشا من كل سلطاته خارج حدود ولاية مصر. وبعد هذا أصبحت الجزيرة مسرحاً لحركات عصيان متكررة إختلطت فيها الأبعاد الإجتماعية والقومية بدرجة تشابهت في كثير من ملامحها مع الموقف في البوسنة والهرسك. وتتخلص المشكلة في أن نصف سكان كريت كانوا يونانيين تحول معظمهم إلى الإسلام بعد الغزو العثماني للجزيرة, وإمتلك المسلمون أجود الأراضي وأكبر الإقطاعيات, وكانت حركات التمرد والعصيان تحدث ضد سيطرة هؤلاء الملاك على الحياة السياسية والإقتصادية. وقد إنتهت الإنتفاضات التي حدثت في عامي 1841, 1858 بحصول أهالي الجزيرة على بعض مظاهر الحكم الذاتي في إطار السيادة العثمانية. وع ذلك فقد إستمرت حركة العصيان المسلح قائمة بين عامي 1866-1868.
على أن تلك الأحداث كانت تمثل ضغطاً كبيراً على ملك اليونان جورج الأول حيث كان رعاياه يتوقعون منه التصرف بقوة تجاه المسائل القومية. ولكنه وفي وسط تلك الأزمة تزوج منالدوقة أولجا الروسية (1867), وبالتالي كان يأمل في الحصول على بعض التأييد من روسيا في مجال الأهداف القومية. وفي 1868 أطلق على مولده إسم قسطنطين في إشارة إلى تركيز بيزنطة على "الفكرة الكبرى". ولكنه شأن سلفه الملك أوثون لم يكن بإمكانه التصرف ضد رغبات معظم الدول الكبرى. وعلى هذا فإن التدخل من جانبه فقط في شؤون كريت لميكن مطروحاً على الساحة بصرف النظر عن الضغوط الداخلية عليه بالتدخل. ورغم أن ثورة ستينيات القرن التاسع عشر إنتهت إلى تطبيق القانون الأساسي لعام 1868, ومع ذلك لم يهدأ الموقف ففي خلال الفترة من 1875-1878 وقع عصيان مسلح آخر جذب الإنتباه عن الأحداث الدرامية الكبرى التي كانت تحدث في بلاد اليونان.وفي أكتوبر 1878 وافقت الدولة العثمانية على ميثاق هاليبا Halepa Pact وهو عبارة عن إتفاق يدعو إلى إنتخاب جمعية تشريعية وفقاً لقواعد تضمن سيطرة المسيحيين عليها. وفي هذا الخصوص رشح السلطان العثماني شخصاً مسيحياً لحكم الجزيرة ووعد بإدخال إصلاحات اخرى. غير أن إستمرار التوتر أدى إلى عدم تطبيق هذا الإتفاق وعلى هذا تولى حكم الجزيرة حكام مسلمون خلال تسعينيات القرن التاسع عشر ولم يحدث أن إجتمعت الجمعيةالتشريعية أبداً.
على كل حال . . لقد ظلت مشكلة كريت جزء لا يتجزأ من سياسة حكومات اليونان التي كانت تواجه أكثر من مشكلة قومية. ففي 1894 تكونت الرابطة العرقية Ethnike Hetairia وكانت تستهدف تعزيز قضية القومية اليونانية وإنضم إليها ثلاثة أرباع ضباط الجيش. ورغم أنها كانت مهتمة أساساً بموضوع مقدونيا, إلا انها اقمت بدور في شؤون كريت حيث تحولت مكاتبها في انحاء اليونان لمراكز ترسل منها متطوعين وأسلحة للجزيرة من وراء ظهر الحكومة.
وفي 1896 وبعد عدة إضطرابات في الجزيرة وافق السلطان العثماني على إعادة العمل بميثاق هاليبا مع وعد بغتخاذ إجراءات تؤدي إلى الحكم الذاتي. وفي الوقت نفسه وجدت الحكومة اليونانية نفسها تح ضغط هائل من الدول العظمى التيكانت ترغب في إيقاف تدفق المتطوعين والأسلحة لكريت من القوميين اليونانيين الذين كانوا يريدون فتح الباب لغزو الجزيرة. وفي فبراير 1897 أعلنت القوى الثورية في كريت وحدتهم مع اليونان وعلى الفور وصلت قوة من خمسة عشر ألف يوناني إلى الجزيرة. وفي مارس أعلنت الحكومة اليونانية برئاسة ديليانيس التعبئةالعسكرية, وفي أبريل دخلت القوات اليونانية الأراضي التركية وأصبح الجيش اليوناني تحت قيادة الأمير قسطنطين الإبن الأول لملك اليوان وأصبح الأسطول تحت قيادة الأمير جورج الإبن الثاني.
غير أن الحرب التي إستغرقت شهراً واحداً أوضحت مدى نقص التجهيزات والإستعدادات العسكرية لدى اليونان على حين أثبتت القوات العثمانية تفوقها الهائل, فضلاً عن أن اليونان لم تتلق أية مساعدات من جيرانها, فقد وقفت كل من الصرب وبلغاريا على الحياد تحت ضغط الدول الكبرى و خاصة روسيا والنمسا. وأمام توغل الجيش العثماني في تساليا بعمق تدخلت الدول العظمى لحفظ السلام حي ثتم توقيع الهدنة في مايو ومعاهدة صلح ف يدسيمبر (1897). ورغم أن اليونان خسرت الحرب, إلا أنها لم تعاني إلا قليلاً فقد تخلت فقط عن بعض المراكز على الحدود مع إعفائها من غرامة قدرها مائة مليون فرنكاً. أما فيما يتعلق بالمسألة الكريتية فقد وافقت الدولة العثمانية تحت ضغط الدول الكبرى على تقرير الحكم الذاتي في كريت, وتم تعيين الأمير جورج الإبن الثاني لملك اليونان في منصب المندوب السامي على كريت.
ورغم إحراز بعض التقدم في الشؤون السياسية بخصوص كريت, إلا أن الحرب تسببت في إهانة كبرى للأمة اليونانية. ومرة أخرى تصبح الأسرة الملكية هي كبش الفداء, إذ تعرض كل من الملك وإبنه الأمي رقسطنطين لهجوم شديد للمظهر المتواضع الذي ظهر به الجيش. وأكثر من هذا فقد أدت الأعباء المالية للحرب والحاجة إلى دفع غرامات مالية إلى فرض رقابة مالية دولية على البلاد, ومن ثم تكونت بعثة مراقبة دولية في أثينا لها حق جمع ضرائب معينة (لاحظ صندوق الدين في مصر زمن الخديو إسماعيل-المترجم). ولكن ورغم أن تلك الرقابة الدولية كانت ضربة في صميم كبراياء اليونان وتحجيماً لسيادة الدولة, إلا أن الموقف المالي للبلاد تحسن في السنوات التالية حيث تم تخفيض حجم الديون.
وهكذا دخلت اليونان القرن العشرين وهي في حالة من خيبة الأمل وعدم الرضا, ومع الإعتراف بالحاجة للإصلاح الإداري وتحسين أحوال الجيش, إلا أن المشكلة كانت تكمكن في عدم توفر الموال اللازمة للإقدام على أي شيء, فضلاً عن أن النظام السياسي القائم لم يكن في صالح النهضة القومية إن لم يكن معادياً, فخلال المدة من أبريل 1897 إلى ديسمبر 1905 تغيرت الحكومة عشر مرات ثم تشكلت حكومة برئاسة ثيوتوكيس الذي ظل رئيساً لحزب تريكوبيس حتى يوليو 1909. وفي مارس 1905 تم إغتيال ديليانيس وإنقسم حزبه إلى فريقين أحدهما برئاسة كيرياكوس مافرو ميخاليس Kyriakoulkes Mavro Michaels, والآخر برئاسة ديمتروس راليس Delerious Ralles فأصبح هناك ثلاثة احزاب فضلاً عن حزب رابع تشكل بقيادة زايميس Zaimes. ولم يكن تعدد الأحزاب يعني تغييراً في أسلوب الحكم إذ بقيت السياسات التقليدية كما كانت من قبل, حيث يقوم الحزب المنتصر في الإنتخابات بوضع أتباعه في مناصب الدولة وأجهزتها, وإستمرت المنافسات الشخصية والرشوة, والوساطة والمحسوبية والفوضى أحد سمات ملامح الحياة السياسية. كما أن الجمعية التشريعية أصابها الشلل بسبب مناورات العرقلة وإعاقة تطبيق اللائحة البرلمانية.
أما كريت فلم تكن أسوارها بأفضل من اليونان إذ سرعان ما إصطدم حاكمها الأمير جورج مع القوى السياسية بالجزيرة بمن فيهم إليوثيريوس فينيزيلوس Eleutherios Venizelos الذي سرعان ما أصبح الشخصية السياسية المهيمنة في البلاد. وإستمر أهالي كريت يأملون في تحقيق الوحدة مع اليونان enosis, ولم تكن حكومة اليونان تعارض هذا ولكنها كانت تخشى التدخل الدولي, كما لم تكن ترغب في أن تكون في وضع يضطرها لمبادلة سيطرتها التامة على كريت مقابل الأراضي السلافية في مقدوناي. ولهذا وبمجرد أن أعلنت الجمعية الكريتية في ربيع 1905 إتحاد الجزيرة مع اليونان تدخلت الدول الكبرى وعاد الأمير جورج حاكم الجزيرة إلى أثينا وتولى الحكم مكانه الكسندر زايمس.
لقد أدت هزيمة الجيش اليوناني أمام القوات العثمانية إلى إدراك أن إصلاح الجيش أصبح أمراً جوهرياً. ففي مطلع 1900 كان عدد أفراده أكثر من 25 ألف مقاتل لكن أوضاعه لم تكن ترضي أحداً, وفي أبريل تم تعيين الأمير قسطنطين قائداً له بصلاحيات إعادة تنظيمه. وفي 1904 وضع برنامج لإصلاح الجيش أبقى على أفراد القوات المسلحة عند 25 ألف مقاتل معه زيادته إلى 60 ألف وقتالحرب, كما تم إدخال التحسينات اللازمة على البحرية. غير أن الأزمة المالية الدائمة حالت دون إتخاذ إجراءات أخرى في سبيل الإصلاح من حيث إعادة تجهيز تلك القوات بالأسلحة والمعدات اللازمة. ولهذا كان جيش اليونان أضعف من جيش الصرب أو بلغاريا وكانت مشكلة الأمير قائد الجيش رغبته في أن يلعب دوراً سياسياً.
على أن الإجراءات التي إتخذت في مطلع القرن العشرين بشأن تقدم الدولة وتحديثها لم تؤد إلى إنهاء حالة السخط المتزايدة وذلك بسبب بطء الإجراءات الواجب إتخاذها للتوسع القومي. وعلى هذا كان برنامج "حزب اليابان" (أخذ إسمه من إنتصار اليابان على روسيا في 1905 وتقدم اليابانيين بسرعة في وقت ضئيل) بقيادة ايون دراجوميس Ion Dragoumes بعكس الرغبة العامة في التغيير, لكنه لم يحقق شيئاً بل سرعان ما إتفرط عقد أنصاره. ومن هنا يمكن فهم أحداث عام 1909* التي كانت في مجملها ضد تدهور العملة ووضع الصعوبات أمام عربة التقدم.
وفي يولية 1908 نشات أزمة بلقانية كبيرة بسبب إستيلاء جمعية تريكا الفتاة على السلطة في الدولة العثمانية حيث تبعها إعلان إستقلال بلغاريا, وقيام النمسا بضم البوسنة والهرسك. وكانت لهذه الأحداث التي سوف نناقشها في الفصل التالي عقابيل في ولايات الدولة العثمانية. ففي أكتوبر من العام نفسه أعلن الكريتيون مرة أخرى الإتحاد مع اليونان, لكن حكومة اليونان خشيت أن تستجيب تحسباً لتدخل الدول الكبرى. كما لم تستجب لإعلان كريت الإنضمام لليونان مرة أخرى في يوليو 1909, ومع ذلك تدخلت الدول الكبرى مرة أخرى.
والحاصل أن عجز الحكومة عن الإصلاح الداخلي والفشل الستمر في السياسة الخارجية أدى إلى وقوع إنقلاب عسكري قامت به منظمة تدعى "العصبة العسكرية" قوامها صغار الضباط من الوطنيين والقوميين بقيادة الكولونيل زورباس N.K.Zorbas الذي قاد حامية أثينا من ثلاثة آلف ضابط وجندي في مظاهرة عسكرية ضد الحكومة. ومثلما حدث ف يعامي 1843, 1862 أدت ثورة العسكريين إلى تغييرات كبيرة في الحياة السياسية في البلاد, إذ إستقالت حكومة راليس Ralles وخلفتها حكومة جديدة برئاسة كرياكوليس مفرو ميخاليسش الذي كان يتزعم مجموعة لها علاقات مع "العصبة العسكرية".
وفور وصول "العصبة" إلى الحكم أرادت إصدار تشريعات إصلاحية لكن أفرادها كانوا يعارضون وجود الأمراء على قيادة الجيش. ولما كان الضباط يدركون أن خبرتهم السياسية معدومة ولم تظهر بينهم قيادة يمكنها مباشرة السياسة, فقد إتجهوا إلى فينزيلوس السياسي الكريتي ليكون مستشاراً سياسياً للحكم الجديد, وكان قد جاء إلى أثينا في يناير 1910, وساعد الحكم الجديد في الدعوة إلى جمعية وطنية لتغيير الدستور. ورغم أن فيزيلوس كان يعمل مستشاراً للعصبة, إلا أنه كان يعرض الدكتاتورية العسكرية. ولهذا يبدو أن الملك عندما وافق على فكرة دعوة الجمعية الوطنية كانت موافقته تعني ضمنياً حل العصبة.
وعلى هذا الأساس قام فينزيلوس بتشكيل حكومته الأولى في أكتوبر 1910 ومنذ هذا التاريخ وحتى صيف 1912 من الهيمنة على سياسات اليونان, ولأنه أصر على ا، الجمعية ليس لها حق في تعديل الدستور فإن إصلاحاته لم تؤد إلى تغيير دستور 1964 تغييراً سياسياً, فأصبح الملك في وضع قوي. وإستهدفت التعديلات الدستورية 53 مادة تتعلق بتحسين الجهاز الحكومي القائم, ومن ذلك على سبيل المثال: حصول الموظفين على وظائف دائمة وتأسيس وزارة للزراعة, وجعل التعليم إلزامياً, وتعديل قاعدة الحد الأدنى لصحة إنعقاد الجمعية العامة من النصف إلى الثلث لمنع مناورات إعاقة الحركة عن طريق الغياب العمدي. وفي الوقت نفسه قدمت بعض مشروعات القوانين للإصلاحات الإجتماعية مثل قوانين المصالنع, ووضع حد أدنى لأجور التساء والأطفال, وتوزيع أراضي بعض الإقطاعيات الكبرى في تساليا. كما إهتم فينزيلوس إهتماماً كبيراً بإصلاح حال الجيش والبحرية وإحتفظ بتلك الوزارة لنفسه. وكانت الحصيلة النهائية للإصلاحات تحسن الموقف المالي بشكل عام, وتمتع فينزيلوس بشعبية كبيرة بدت واضحة في إنتخابات الجمعية العمويمة في مارس 1912 حيث حصلت أنصاره على 150 مقعداً نم إجمالي 181 مقعداً.
لقد كانت إصلاحات فينزيلوس إجراءات ثورية بكل المقاييس, ولكن النظام السياسي لم يتعرض إلا لتغييرات قليلة, حيث ظل النظام الملكي قائماً في الوقت الذي زاد هجوم اليونانيين عليه, ولكن أنشطة فينزيلوس أدخلت ملامح جديدة في الحياة السياسية القائمة من لذك أن حزبه كان منظماً على أساس جماهيري وله قيادة مركيزة, وإتسعت أجهزة الدولة الإدارية خلا سنوات حكومته, ولكن ظل كثير من العيوب قائماً وفي مقدمتها منح المناصب الرئيسية لأنصاره. ومهما يكن من أمر فلا شك أن هذه الحكومة حددت التوجهات وأعدت البلاد لحر بطويلة, وفي كلمة واحدة كانت علامة على خطوة محددة للأمام.
رومانيا مثلما كان الحال في بلاد اليونان تركت تسوية مؤتمر برلين 1878 حالة من عدم الرضا في رومانيا. حقيقة أن رومانيا قد إستقلت لكنها فقدت ثلاثة ضواحي من جنوبي بسارابيا وأوجدت تسوية حدودها سخطاً دائماً فضلاً أنها كانت تطالب بضم سيليستريا Silistria من دوبروديا وأيضاً دلتا الدانوب. لكن روسيا التي كانت تساند مطالب بلغاريا ساعدت على ضم تلك الأراضي إليها في يونية 1880.
وأكثر من هذا أن رومانيا حصلت على إستقلالها وفق شروط معينة حددتها المادة 44 من معاهدة برلين التي إشترطت "ألا تسمح الدولة بالتفرقة بين مواطنيها على أساس العقائد والمذاهب", أو تحرم أي مواطن من "التمتع بالحقوق المدنية والسياسية, ومن الإلتحاق بالوظائف العامة, ومن ألقاب الشرف, ومن ممارسة النشاط المهني والصناعي في أي مكان من البلاد". ورغم أن هذه المادة قصد بها الإشارة إلى المسلمين, إلا أن تأثيرها الرئيسي كان على وضع اليهود, حتى لقد أصبح هذا الموضوع قضية قومية كبرى في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر.
والحاصل أنه في منتصف القرن التاسع عشر وكنتيجة لتدهور أحوال يهود روسيا وسوء أوضاعهم بدأت أعداد كبيرة منهم تتدفق على إمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا-رومانيا). ففي عام 1859 كان يعيش في مولدافيا 118 ألف يهودياً, وفي ولاشيا 9200, ثم إراتفع هذا الرقم بشكل حاد حتى بلغ عددهم في مولدافيا 210000 في 1899, وفي ولاشيا 68 ألف, أي حوالي ربع مليون من إجمالي عدد السكان وقدرهم ستة ملايين. وفي المدن بلغ عددهم 215000 من إجمالي عدد السكان وقدره 1131000 نسمة أي بنسبة 19%.
على أن تركز اليهود في المدن لم تكن مسألة إختيارية بقدر ما كان لأسباب إقتصادية حيث أن المادة السابعة من دستور 1866 تنص على إمكانية منح الجنسية "للأجانب من الكاثوليك" فقط. وهكذا لم يكن بإمكان اليهود أن يصبحوا مواطنين رومانيين, وهذا يعني حرمانهم ليس فقط من الحقوق المدنية بل من شراء الأراضي وإمتلاكها. ولما كان حظهم من الزظائف العامة محدوداً بل نتج عنه زيادة فرص التصادم مع الرومانيين فقد عملوا حيث يمكنهم أن يعملوا. ففي المدن عملوا بالحرف والتجارة بشكل محدود, وكانوا من صغار الحرفيين وصغار التجار وهي أعمال كان الرومانيون يحتقرونها أصلاً وتركوها للأجانب. وفي الريف كانوا يعمولن بالفندقة وبالربا, أو إدارة شؤون إقطاعيات الملاك الغائبين, وهي أعمال كان من شأنها أن تؤدي إلى مشاحنات لا مفر منها بينهم وبين الفلاحين الرومانيين. ورغم أن كثيراً من اليهود كانوا أغنياء فعلاً, إلا أن أغلبهم كان يعيش في أماكن حقيرة في المدن الكبرى.
وقبل معاهد(1878) تسببت أحوال يهود رومانيا في إثارة مشكلات في علاقاتها الدولية, فقد كانت مشكلة رئيسية في المفاوضات التجارية مع مختلف الدول مثل بريطانيا, وتسببت في تعقيد العلاقات مع المانيا فيما يتعلق بخط السكك الحديدية. كما كانت الحكومة الرومانية محل هجوم من المنظمات اليهودية الأوروبية مثل "التحالف الإسرائيلي Alliance Isrealite نظراً لأن زعماء رومانيا كانوا يرفضون المداة (44) من معاهدة برلين بإعتبارها تدخلاً في شؤون رومانيا الداخلية خاصة وأن روسيا مثلاً لم تحفل بوضع قواعد مشابهة في علاقاتها بسكانها من اليهود جرياً على إعتبار أن مثل هذه القواعد تعتبر من قبيل الإحتجاجات الخارجية على ما يحدث في داخل البلاد.
ولما أصبح معروفاً أنه لا يمكن الإعتراف بإستقلال رومانيا دون أن تحدث تغييرات في القواعد المنظمة للعلاقات بين السكان طبقاً للمادة 44 من معاهدة برلين . . إلخ, بادرت الجمعية الوطنية بتمرير بعض القوانين في أكتوبر 1879 ترتب عليها إمكانية أن يصبح يهود رومانيا مواطنون طبيعيون على أن يصدر لكل حالة قرار خاص بها, ولكن الشرط الخاص بقصر تملك الأراضي على المواطنين الرومان ظل قائماً. والحقيقة ان الإجراءات التي أقرتها حكومة رومانيا في هذا الخصوص جاءت على غير رغبتها وتمت تحت ضغط قوي من المانيا ولم تكن تتمشى مع روح معاهدة برلين. ورغم أن القوى الأوروبية إعترفت بإستقلال رومانيا بعد 1880, إلا أن المسألة اليهودية ظلت شوكة في حلق سياسات رومانيا الداخلية,فلم يكن الرومانيون أو اليهود يرغبون في أن يستوعب كل منهما الآخر حيث لعبت الإختلافات الدينية والثقافية دوراً أساسياً في الصراعات التي تكررت بينهما.
وعلى هذا كان تحقيق الإستقلال بعد إنتصاراً شخصياً لأمير رومانيا الذي كان يكره وضع تبعيته للدولة العثمانية. وفي مارس 1881 وبمصادفة الجمعية الوطنية تم تتويجه ملكاً على رومانيا وأصبحت بلاده مملكة, وحينذاك إتخذ خطوات لتدعيم أسرة هوهنزوليرن Hohenzollern التي ينتمي إليها, وحين أصبح أنه واضحاً لن يكون له وريثاً للعرش قام في نوفمبر 1881 بتسمية إبن عمه الأمي رفرديناند الهوهنزوليرني خليفة له, ولقد جاء هذا الأمير لرومانيا ليتعرف على أهل البلاد وعاداتها, وتزوج في 1913 من الأميرة ماري الإدنبرية of Edinburgh حفيدة الملكة فيكتوريا والقيصر الكسندر الثاني عاقدين بذلك تحالفاً ملكياً عظيم الشأن.
على كل حال . . كان الحزب الليبرالي في الحكم خلال معظم ثمانينات القرن التاسع عشر, فقد تولى ايون براشيانو رئاسة الحكومة حتى أبريل 1881 حين حل محله بصفة مؤقتة ديمترو براشيانو الذي أدار شؤون البلاد على النمط الفرنسي وسيطر على النظام السياسي وعلى أحوال البلاد من خلال محافظي الأقاليم وقوات الشرطة. وإستمر هذا الحزب يمثل سكان المدن بشكل عام من المهنيين والموظفين وأيضاً صغار ملاك الأراضي الزراعية, على حين ظل حزب المحافظين حزب كبار ملاك الأراضي الزراعية بدرجة أكبر رغم وجود بعض منم في صفوف المعارضة. وخلال تلك الفترة كان كاتارجيو لا يزال الرئيس الفخري للحزب ولكن الحزب إنقم على نفسه بخروج عدد من الشباب الذين كانو يشكلون "جمعية الأدباء الشبان", وكان أبرزهم بيتر كارب Carp, مرغليومان Marghiloman من الذين تعلموا في المانيا أكثر من فرنسا, وكانوا يتطلعون إلى دول أوروبا الغربية, ويؤيدون برنامج إصلاح ريفي معتدل.
ولما كان الحزب الليبرالي يسيطر سيطرة تامة على الجمعية التشريعية فقد أصبح بإمكان قيادته أن تتقدم بمشروع قانون لتغيير قانون الإنتخاب من باب تقوية وضعهم في الحكم. وعلى هذا جرت إنتخابات لجمعية تأسيسية جديدة لوضع دستور فاز الليبراليون فيها ب134 كقعداً للمحافظين ومن ثم قاطع المحافظون إجتماعات الجمعية. وأقر الدستور الجديد أن يتكون مجلس الشيوخ من هيئتين ومجلس النوب من ثلاث هيئات. وفي 1884 صدر قانون إنتخاب جديد للبرلمان بمجلسيه أعطي حق الإنتخاب للمواطنين الذكور دافعي الضرائب. وتتكون الهيئةمن ملاك الأراضي الزراعية الذين يملكون مساحة تدر 1200 فرنكأً وكان عدد هؤلاء 15973 فرداً في عام 1905. أما الهيئة الثانية فتتكون من الذين أنهوا مرحلة التعليم الإبتدائي على الأقل ويقيمون في المدن ويدفعون ضريبة مباشرة قدرها 20 فرنكاً على الأقل وكان عددهم 37742 فرداً. أما الهيئة الثالثة فتتكون من باقي السكان. ومن حق الهيئتين الأولى والثانية التصويت مباشرة, أما الهيئة الثالثة فعلى العكس تقوم بالتصويت غير المباشر, أي أن كل خمسين ينتخبون من بينهم مندوباً واحداً هو الذي يكون له حق التصويت المباشر (أي إنتخاب على درجتين). وكانت الهيئة الأولى تمثل 105% من الناخبين وإختاروا 41% من 83 مندوباً, والهيئة الثانية كانت تمثل 305% من الناخبين وإختاروا 38%, والهيئة الثالثة التي تشمل غالبية الناخبين لإإنهم يختارون 21% فقط. وأما حق الإنتخاب لمجلس الشيوخ فكان أكثر محدودية وتقييداً ويتم إنتخابهم بواسطة هيئتين,واحدة تتكون 10659 ناخباً, والأخرى من 13912 ناخباً. وفي يونية 1887 صدر قانون إنتخاب جديد للمجالس الشعبية يقوم على نظام الهيئتين.
والحق أن هذا النظام السياسي من الناحية العملية التطبيقية وضع السلطة الفعلية في يد الملك الذي أثبت قدرته على المناورة السياسية, وحيث أن الوزارة اليت في الحكم تستطيع التحكم في الإنتخابات من خلال إشرفها على العملية الإنتخابية وفي حماية البوليس, لإغنه يصبح بإمكان الملك تعيين الحكومة التي يرغب فيها, ثم يحل الجمعية التشريعية وهو على يقين من حصوله على أغلبية برلمانية في الإنتخابات التالية. كما أن هذا النظام سمح للملك بأن يتلاعب بالأحزاب ويوقع بينها لتحقيق التوازن بين اقلوى. ورغم وجود حزبين على الساحة السياسية, إلا أنهما لم يكونا يمثلان إلا نسبة قليلة من السكان, ولم يكن للفلاحين في الريف والعمال في المدن نصيب في الحياة السياسية في البلاد. ومن ناحية أخرى كانت الأحزاب نفسها تعاني من الإنقسامات الداخلية بسبب الخلافات الشخصية أحياناً أو بسبب الخلافات حول بعض القضايا. وكان الشغل الشاغل لكل الحكومات حتى 1914 ينحصر في ثلاثة مسائل: السياسة الخارجية, والشؤون العسكرية, والتقدم الإقتصادي.
ورغم أن السياسة الخارجية كانت تهيمن على الحياة السياسية لروماناي كما هو الحال في بلاد البلقان الأخرى, إلا أن رومانيا كانت تنفرد بخصوصية في هذا المقام. فبينما كانت رومانيا والصرب وبلغاريا مشغولة بضم أراضيها القومية الخاضعة للسيادة العثمانية, كانت رومانيا تطالب بضم مناطق تحت سيادة الإمبراطورية الروسية والنمساوية ألا وهي بساراربيا وترانسلفانيا. وحتى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن هناك ما يشير إلى قرب إنحلال هاتين الإمبراطوريتين حتى يمكن لرومانيا أن تحقق مطالبها. لكن كانت هناك قلة قليلة من الرومانيين يدركون أن السبيل الوحيد لضم تلك الأراضي يكمن في وقوع كارثة أوروبية كبرى تؤدي إلى حصول رومانيا على ما تطالب به. ومن هنا إنصرفت رومانيا لمواجهة إدعاءات بلغاريا في دوبروديا, ووضع الولاشيين في مقدونيا.
لقد كان الإنطباع الذي خرجت به قيادة رومانيا (الملك والحكومة) منأزمة سبعينيات القرن التاسع عشر أن رومانيا عرضة للخطر والتهديد من قبل روسيا, ذلك أن إشتراك رومانيا في الحرب الروسية-العثمانية لم ينته فقط بفقدان رومانيا لأقاليم جنوبي بسارابيا الثلاثة بل الخوف من إحتمال إعادة الحماية السشابقة. كما أن رعاية روسيا لبلغاريا أصبحت مسألة مكروهة بشدة, وكان من شأن هذا الموقف أن يدفع إلى إقامة علاقات وثيقة مع النمسا لولا وجود عقبات في هذا الطريق أيضاً, ذلك أن موقف الرومانيين في ترانسلفانيا بعد ميثاق "أوزجليخ" Ausgleich قد تدهور كثيراً, بل إن مسألأة وضع القومياتفي الإمبراطورية النمساوية بدأت تلفت النظر بشكل متزايد. وفي الوقت نفسه كانت رومانيا ترغب في الحد من توسع سيطرة النمسا على الملاحة في نهر الدانوب. وتجنب إقامة علاقة إقتصادية غير مستحبة. ولم يكن هناك إلا القليل الذي يمكن القيام به أو تحقيقه في مسألة الدانوب, ذلك أن النمسا كان بإمكانها في عام 1883 تحقيق أغراضها في الدانوب وتأكيد سيادتها على مجرى النهر.
وعلى هذا ورغم نقاط الخلاف الكثيرة بين رومانيا والنمسا فلقد إضطرت الظروف رومانيا إلى الدخول في تحالف سياسي وثيق مع النمسا أثبتت تجارب السنوات السابقة التي أوهنتها حاجتها لتحالف خارجي حماية لها ضد روسيا. كما كانت رومانيا تفضل تحالفاً وثيقاً مع المانيا لولا أن بسمارك أصر على أ، أي علاقة المانية-رومانية لا بد وأن تكون من خلال النمسا. وعلى هذا وفي أكتوبر 1883 عقدت رومانيا والنمسا معاهدة دفاعية سرية موجهة أساساً ضد روسيا, وإنضمت إليها فوراً ثم إنضمت إيطاليا في 1888, وبهذا إنضمت رومانيا لدول الحلف الثلاثي بشكل غير مباشر. وقد ألزمت نصوص الإتفاق أن تقدم النمسا مساعدتها لرومانيا ضد أي دولة, كما ألزمت رومانيا بتقديم مساعدتها في حالة هجوم روسيا أو الصرب على النمسا. وهذا التحالف الذي تقرر تجديده بصفة دورية وأصبح فاعلاً في 1914 كان سرياً ولهذا لم يعرض على البرلمان كما لم يخبر الملك وزرائه عنه.
ورغم هذا التحسن الذي طرأ على العلاقات السياسية بين النمسا ورومانيا, إلا أن العلاقات الإقتصادية كانت مضطربة, ذلك أن الإتفاقية التجارية بينهما في عام 1875 الذي سبقت الإشارة إليها لم يعد فيها أية ميزات لرومانيا, وكانت الحكومة قد عقدتها لأسباب سياسية أكثر منها إقتصادية, فعلى سبيل المثال كانت المنتجات النمساوية تدخل رومانيا دون جمارك على حين أن منتجات رومانيا الزراعية التي تدخل بلاد النمسا والمجر تفرض عليها جمارك لحماية مصالح المجر. وفي الواقع فإن منتجات النمسا غمرت بلاد رومانيا حتى لقد أضرت بالصناعات الصغيرة فيها إن لم تقضي عليها. لكل هذا أقدمت رومانيا على إلغاء تلك الإتفاقية في يونية 1885. وكان هذا يعني أن قانون الحماية الجمركية الصادر في 1874 أصبح يطبق على الواردات النمساوية. وفي مايو 1886 صدر قانون حماية جمركية جديد فما كان من النمسا إلا أن منتعت إستيراد المواشي من رومانيا, وفرضت حظراً جمركياً على كافة البضائع الواردة من رومانيا. وكانت النتيجة قيام سلسلة طويلة من الحرب الجمركية بين البلدين إستمرت من مايو 1866 إلى ديسمبر 1893, وكانت حرباً تشبه إلى حد ما "حرب الخنازير" التي نشبت من قبل بين الصرب والنمسا, حيث إستخدمت النمسا سلاح الحجر الصحي على واردات المواشي من رومانيا والصرب بحجة منع إنتشار الأمراض.
ولقد تزامن مع قانون الحماية الجمركية محاولة أخرى من الحكومة لتشجيع الصناعة وكان الحزب الليبرالي الحاكم يقف إلى جانب إصدار تشريعات الحامية, وتوفير الإعانات الحكومية للصناعة. وهذا ما حدث طوال ثمانينات القرن التاسع عشر وكان أبرز تلك التشريعات قانون مايو 1887 لتشجيع الصناعات الكبرى وبمقتضاه منحت إمتيازات للمشروع الصنعي الذي يعمل به 25 عاملاً على الأقل. وكانت رومانيا بهذا القانون تقود دول البلقان نحو سياسة تشجيع الدولة الصناعية. ومع هذا لم تكن جهود رومانيا في هذا الخصوص ناجحة تماماً من وجهة النظر القومية, ذلك أن المشروعات الصناعية الجديدة لم تكن تعتمد على رأس المال المحلي رغم أن بعض ملاك الأراضي الزراعية والتجار المحليون إستثمروا في الصناعة, ولكن جاء رأس المال الرئيسي من المانيا والنمسا. ولقد ظلت درجة التصنيع حتى الحرب العالمية الأولى منخفضة رغم أن نسبة الإنتاج لرأس المال المستثمر كانت أكثر من الضعف بالنسبة لكل من بلغاريا والصرب واليونان.
أما بالنسبة للزراعة فقد تدهورت هي الأخرى مع نهاية القرن التاسع عشر مثلما كان حالها في دول البلقان الأخرى وذلك بسبب منافسة القمح الأمريكي الذي بدأ يتدفق على الأسواق الأوروبية في ثمانينات القرن مماكان له تأثيره المباشر على إنتاج رومانيا, فضلاً عن أن "الحرب الجمركية" مع النمسا التي سبقت الإشارة إليها كانت لها آثارها السيئة على تربية المواشي خاصة وأنه لم تكن هناك سوق بديلة مناسبة لتسويق المنتجات الرومانية غير النمسا والمجر رغم أن معظم صادرات رومانيا الزراعية وجدت طريقها إلى بلجيكا وبريطانيا. ورغم أن الروابط الإقتصادية مع المانيا كانت تتوثق أكثر وأكثر إلا أن سوق المانيا أيضاً لم تكن هي البديل المرضي عن الأسواق الأخرى.
على كل حال . . في عام 1888 إنتهت فترة حكم الحزب الليبرالي فقي رومانيا, وفي مارس جاءت حكومة جديدة من مجموعة الشباب برئاسة تيودور روزتي فيها بيتر كارب وزارة الخارجية, وفي الوقت نفسه إستمرت السياسة المحافظة قائمة حتى عام 1895 رغم حدوث تغييرات بين المسئولين كانت تعكس الصراعات بين أجنحة الحزب. وخلال فترة وجود هذه الحكومة في الحكم صدرت عدة إجراءات إصلاحية في مقدمتها الأخذ بقاعدة الذهب في التعامل, وتأميم السكك الحديدية, وإقامة جسر على نهر الدانوب إلى كيرنافودا Cernavoda إنتهى العمل به في 1895, كما تم عقد إتفاقيات تجارية مع معظم دول أوروبا بما فيها إتفاقية مع النمسا عام 1893 أنهت الحرب التجارية بين الدولتين, وبدأت أيضاً عمليات إستغلال مصادر النفط.
لقد شهد مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر (1891) وفاة زعيما الحزب الليبرالي اللذان كانا مسئولين إلى حد كبير عن تأسيس دولة رومانيا المستقلة وهما يون برايشيانو, وكوجلينشينو, ورأس الحزب ديمتري ستورزا Dimitrie A.Sturdza الذي شكل الحكومة في 1895. ومنذ ذلك التاريخ وحتى إنفجار الحرب بالعالمية الأولى كان الحزبان (الليبرالي والمحافظ) يتبادلان رئاسة الحكومة. على أن التبادل الوزاري بين هذين الحزبين لم يكن يعني تغييراً رئيسياً أو ملحوظاً في سياسات الحكومة, إذ إنحصرت القوة السياسية في يد قلة وظل الملك يقوم بدور ضبط محوري بين الحزبي المتنافسين. وفي العشر سنوات السابقة على الحر بالعالمية الأولى مباشرة كانت المشكلة الرئيسية في السياسات الداخلية تتعلق بأحوال الفلاحين الذين كانت أوضاعهم تتدهور بشكل سريع.
أما الأوضاع الرثة والبائسة للفلاحين بعد إصلاحات الستينيات فقد سبق أ، شرحناها ورغم تلك الإصلاحات فقد ظلت رومانيا عبارة عن بلد قوامه أصحاب إقطاعيات كبرى وفلاحون فقراء يعانون البؤس والفاقة. وهكذا إستمرت المشكلة الإجتماعية والسياسية تكمن في سوء توزيع الأرض الزراعية حيث أدى تركز الملكية الزراعية في يد قلة قليلة, والتفتيت المستمر لحيازات صغار الفلاحين بفعل التوريث إلى إفتقار البلاد إلى وجود طبقة وسطى جيدة التكوين من أصحاب الحيازات المتوسطة وتشغل مكانة بارزة في المجتمع وهكذا وفي مطلع القرن العشرين بلغ حجم ملكية خمسة ألاف إقطاعي كبير نصف الأراضي الزراعية على حين أن 85% من الفلاحين كانوا عديمي الملكية أو يحوزون مساحات ضئيلة لا تكفي إحتياجاتهم ويضطرون للبحث عن أعمال أخرى.
على أن تركيز الملكية الزراعية في إقطاعيات كبيرة في بلاد مثل بريطانيا وبروسيا كانت له فائدة, فقد ساعدت على إستخدام وسائل الإدارة الحديثة والعلمية في إستغلالها مما أدى إلى زيادة ملحوظة في الإنتاج. ولكن هذا لم يحدث في رومانيا فبعد عام 1829 كما رأينا حدث توسع كبير في الأراضي الزراعية لكنه توسع جاء نتيجة زراعة أراض جديدة كانت مهملة مع إهمال لتربية المواشي في الوقت نفسه بحيث كانت رومانيا في عام 1814 رابع دولة في العالم في تصدير الغلال وخامس دولة في تصدير القمح ولم يكن هذا التفوق راجع إلى إستغلال الأرض الزراعية إستغلالاً ذكياً.
ومن أسباب هذا الوضع أن كبار الملاك الأراضي الزراعية لم يكونوا يديرون شؤون إقطاعياتهم بأنفسهم وإنما كانوا يفضلون تأجيرها ويعيشون في العاصمة (بوخارست) أو في باريس, ويقوم المستأجرون بدورهم بتأجير الأرض في مساحات صغيرة للفلاحين بنظام المشاركة في المحصول أو بالإيجار النقدي حتى بلغت نسبة الإقطاعيات التي تدار بهذا الأسلوب 72% في عام 1900. ومن المفهوم أن المستأجرون كان يهمهم في الأساس تحقيق ربح سريع أكثر من الإهتمام بتحسين أوحال الزراعة أو رخاء الفلاحين. ولهذا كانت سمعة هؤلاء المستأجرين سيئة للغاية وأسهم في بروز المشاعر المعادية للسامية, رغم أن 27% فقط من كبار المستأجرين هؤلاء كانوا من اليهود. وفي الواقع كانت الأرض تفتح بواسطة الفلاحين الرومانيين الذين كانوا يقدمون كل من الجهد وحيوانات الشغل مما يعني أن الملكيات الزراعية الكبيرة لم تؤد إلى تحسين مناهج الزراعة وأساليبها أو إنتشار الميكنة في الزراعة.
والحال كذلك ومع زيادة السكان في مطلع القرن العشرين كانت أوضاع الفلاحين تزداد سوءً. وكان تفتيت الملكيات إلى قطع في مساحات صغيرة بفعل نظام التوريث لم يكن يسمح بال فواء بغحتياجات تلك الأسر التي كانت في حاجة ملحة لأرض أخرى. ولهذا فقد زاد عدد صغار الملاك الذين يستأجرون أرضاً إضافية مما أدى إلى إرتفاع قيمة الإيجار. وأمام زيادة أحوال الفلاحين سوءً بدت الإضرابات وعدم الإستقرار ظاهرة سائدة على نهاية القرن التاسع عشر.وكانت الأحزاب السياسية الحاكمة تحاول تخفيف وطأة مشكلة الفلاحين عن طريق إجراءات خاصة بنظام الإيجارات الزراعية وببيع أراضي الحكومة, وكان تدخل الدولة لحماية الفلاح مبدأ معترف به ولكنه لم يطبق إلا قليلاً.
على أن تلك الأوضاع في مجمله أدت إلى قيام ثورة فلاحية كبرى في 1907 بدأت في مولدافيا في مارس وإنتشرت في بقية البلاد وقد إكتنفتها نغمة عالية معادية للسامية لم تكن موجهة أساساً ضد كبار المستأجرين وضد الملاك الغائبين. أماالحكومة التي لم تكن تضم إلا عدداً قليلاً جداً من الممثلين الحقيقيين للفلاحين تصرفت بعنف تجاه الإنتفاضة حيث قام الجيش بقيادة الجنرال الكسندر آفيرشكو Averescu بسحق الإنتفاضة حتى لقد قتل حوالي أحد عشر ألف شخص.
ومع سحق التمرد إعترفت الحكومة بالحاجة إلى الإصلاح ومن ثم صدرت قوانين جديدة خاصة بنظام إيجار الأرض وتنظيم العلاقات بين الفلاحين وملاك الأراضي الزراعية ولكن بقيت المشكلة قائمة نظراً لأن فرض تشريعات من هذا النوع في بلد تخضع الحكومة فيه إلى أشخاص تتعارض مصالحهم الإقتصادية والإجتماعية مع مصلحة الفلاحين لا يقود إلى نتائج إيجابية. ولا شك أنه مع عام 1914 كان هناك ثمة إعتراف برغبة الفلاحين في تملك الأرض مع ضرورة القضاء على الملكيات الزراعية الكبرى وعلى هذا وفي عام 1908 تم التصديق على قانون بتأسيس بنك زراعي لمساعدة الفلاحين لشراء الأرض. وحدثت محاولة لضبط الأراضي المؤجرة لكن الإصلاح الحقيقي كان عليه الإنتظار حتى بعد عام الحر بالعالمية الأولى.
ورغم أن رومانيا كانت تعتبر أغنى دولة في البلقان, إلا أنها كانت تعاني-كما رأينا-من نفس المشكلات التي كانت تعاني منها بلاد البلقان الأخرى. وأكثر من هذا كان على الحكومة شأن غيرها من حكومات البلاد المجاورة أن تساند جهود زيادة الميزانيات المتعلقة بالإنفاق على تحسين الأحوال الداخلية, وتوسيع دائرة الخدمات المدينة, والإجتفاظ بجيش قوي وهذا له أهميته. لكن رومانيا شأن اليونان لجأت إلى الإستدانة الخارجية كأفضل حل للصعوبات المالية التي تواجهها فأوقعتها في مشكلات أخرى.
الصرب كانت الصحوة التي أفاقت عليها بلاد البلقان من حوادث الفترة بين عامي 1875-1878 واضحة أشد الوضوح في الصرب التي أفاقت لتجد البوسنة وبلاد أخرى أصبحت في يد النمسا, ولتكتشف أن روسيا التي كانت مقربة منها في السابق قد ألقت بكل ثقلها الدبلوماسي ونفوذها السياسي وراء إدعاءات بلغاريا في أراضي الصرب. وعند نهاية الحرب كان يوفان ريستتش Jovan Ristic لا يزال على رأس حكومة ليبرالية وكان عليه أن يواجخ مشكلات عاجلة تتمثل في سوء الوقف المالي الناتج من سنوات الأزمة, وكذا رسم ملامح العلاقات الخارجية في المستقبل وخاصة مع النمسا بعد أن رفضت روسيا طلب الصرب بمساعدتها في إستئناف العلاقات.
كان أمير الصرب (ميلان) شأن حال أمير رومانيا يتمتع بوضع قوي فهو الذي يختار الوزراء الذين يصبح بإمكانهم التأثير على نتائج إنتخابات البرلمان. لكنه لم يكن في قوة أمير رومانيا (شارل) في ضبط الموقف السياسي, أو في قوة الكسندر الباتنبرجي الذي تمكن من توحيد البلاد خلفه ضد التدخل الأجنبي, بل كان رجلاً ضعيفاً وكسولاً وفاسداً وتافهاً صغير الشأن قادر على صنع أعدائه بسهولة, ولم يكن بإمكانه وضع أساس لبناء قوة قومية, كما لم يكن مؤهلاً لقيادة بلد ضعيف ومتخلف لتحقيق آماله القومية.
ولقد شهدت فترة حكمه صعود مجموعتان سياسيتان: التقدميون, والراديكاليون وكل منهما تحدي هيمنة الحزب الليبرالي فيما بعد. ولقد إنبثق التقدميون من الجناح اليساري لحزب المحافظين مثلما ظهرت مجموعة الشباب Junimists في رومانيا. ولما كانوا يرون في غرب أوروبا مثالاً متقدماً فقد أرادوا أن يتبعوه, وكانوا يعتبرون روسيا دولة متخلفة وبدائية بالقياس إلى ذلك الغرب. وقد إمتازت هذه المجموعة بأنها تعلمت جيداً وإكتسبت خبرات من كثرة الترحال, لكن برنامجها السياسي كان يأخذ بالنموذج الليبرالي الكلاسيكي للقرن التاسع عشر, ويدعو لإصدار تشريع قوي للحقوق المدنية ينص فيه على حرية الصحافة, وحرية الإجتماعات, وإستقلال القضاء, وتوسيع صلاحيات الحكم الذاتي للمحليات. والخلاصة أن التقدميين كانوا يريدون إستنساخ حضارة الطبقة الوسطى لأوروبا الغربية في الصرب.
أما الراديكاليون فكانوا على العكس لهم جذور في التيارات الشعبوية والماركسية الفوضوية التي كانت سائدة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. وكانت أفكارهم في أقصى اليسار من التقدميين, فهم يقفون إلى جانب ما تقاسيه البشرية من الآم ومعاناة, وإلى جانب ضرورة هيمنة الهيئة التشريعية على الحكومة, وفرض الضرائب المباشرة بشكل تصاعدي, ووضع برنامج قوي للحقوق المدنية, وإقامة حكم ذاتي للمحليات. كما كانوا يهتمون بشكل خاص بكبح نفوذ البوليس في الإنتخابات حتى يمكنهم الفوز فيها. ولعل أفضل إسهاماتهم محاولة إدخال الفلاحين لأول مرة في الحياة السياسية في البلاد, ولوأنهم لم يركزوا جهدهم في هذا الإتجاه في البداية, لكن الحزب تحت قيادة نيقولا باشيك Pasic, وبيرا تودورفيتش Pera Todorovic نجح في صياغة برنامج لجذب تلك القاعدة الجماهيرية.
وفي تلك الأثناء حاول ميلان ووزراؤه الليبراليون التوصل إلى تفاهم مع النمسا حول إقامة السكك الحديدية, وإقامة علاقات تجارية, وعقد معاهدة سياسية في النهاية. وفيما يتعلق بمشروع السكك الحديدية كانت النمسا تريد أن تتأكد من أنه سيكون لفائدتها, وعلى هذا تم النظر في مد شبكة الخطوط الصربية تجاه الجنوب, وفي أبريل 1880 وافقت الصرب على مد الخط من بلجراد إلى فرانيه Vranje مخترقاً نيش Nis. ولكن سرعان ما واجه ميلان لسوء حظه فضيحة كبرى كانت لها نتائجها الوخيمة تشبه فضيحة ستراوزبيرج Strousberg. والحاصل على أن ميلان كان قد وقع عقداً في مارس 1881 مع شركة بونتو الباريسية E.Bontoux بموافقة النمسا. وما لبثت هذه الشركة أن إنهارت في الصرب التي خسرت في هذه الصفقة أكثر من دخلها الكلي في عام واحد. وأكثر من هذا أنه خلال تلك الأزمة سرت شائعات خصة بالرشوة والفساد بين المسئولين الصربيون طالت ميلان الذي أصاب سمعة ميلان نفسه. والخلاصة أنه بفضل مساعدة النمسا خسرت الصرب 12 مليون دينار لكن التدمير الذي أصاب سمعة ميلان وحكومته كان هائلاً.
أما المفاوضات بينالصرب والنمسا بشأن عقد إتفاقية تجارية بينهم فلقد كانت أكثر صعوبة من موضوع خط السكك الحديدية, فقد كانت الصرب تريد إتفاقية جديدة لأن مؤتمر برلين 1878 قرر أن دول البلقان المستقلة ينبغي أن تستمر في إلتزامها بالإتفاقيات التي تم التفاوض بشأنها مع الدولة العثمانية, وكانت التعريفة الجمركية المسموح بها طبقاً لتلك الإتفاقيات تمنح الصرب 3% من قيمة الواردات, على حين أنها كانت تريد زيادة نصيبها. وفي الوقت نفسه كانت النمسا متحمسة للتوصل إلى ترتيبات جديدة ولكن خلال التفاوض معالصرب لجأت النمسا لإستخدام الحظر على إستيراد المواشي من الصرب بدعوى الخشية من الأوبئة وأمراض الحيوانات مثلما فعلت مع رومانيا. والحق أ، النمسا كانت تسعى للتوصل إلى شروط مجحفة بالصرب وغير متكافئة وخاصة فيما يتعلق بالمنتجات الصناعية النمساوية. وكانت شروط في غير صالح الفلاح الصربي رغم حاجته إلى سوق النمسا في الوقت الذي لم يكن لدى الصرب صناعات تحتاج الحماية. ولأن الصرب أصرت على شروط متكافئة فقد رفض رئيس الحكومة دوفان ريستتش مقترحات النمسا وإستقال في أكتوبر 1880. وهكذا تخلى الحزب الليبرالي عن الحكم للتقدميين بعد إثنا عشر عاماً في الحكم, ونجح التقدميون في أن يسيطروا على الحياة السياسية طوال سبع سنوات. وقد بادر رئيس حكومة التقدميين الجديدة ميلان بيروشاناك Pirocanac, ووزير الخارجية والمالية كادوميل ميياتوفتش Cadomil Mijatovic وبالتوقيع على الإتفاقية التجارية مع النمسا في أبريل 1881. وكانت شروطها في صالح الإنتاج الزراعي للصرب ولو أنها سمحت للصناعات النمساوية بدخول الصرب وفق مميزات وارداتها من النمسا ويرتبط 82% من صادراتها بهذاالسوق النمسوي أيضاً.
على أن إعتماد الصرب على النمسا كما عكسته الإتفاقية التجارية بينهما برز بوضوح في الإتفاقيات السياسية التي عقد بين البلدين آنذاك. وكانت الصرب بحاجة إلى أن تحصى مصالحها في المنطقة التي تريد أن تتوسع فيها ألا وهي مقدوينا وخاصة في ضوء سيطرة النمسا على البوسنة والهرسك ووجود بلغاريا التي تدعهمها روسيا, فضلاً عن أن ميلان (أمير الصرب) مثل شارل (أمير بلغاريا) كان يرغب في أن يتمتع بلقب "ملك". وعلى هذا فإن المعاهدة التي عقدت في 28 يونية 1881 بين البلدين تضمنت تأكيداً من النمسا بمساندة الصرب في التوسع تجاه الجنوب حسب مقتضى الحال. كما تضمنت الموافقة على رفع مكانة دولة الصرب إلى مملكة, وأيضاً تضمنت مواد تنص على أنه في حالة وقوع أي من الدولتين في حالة حرب تقف الأخرى على الحياد. وأخذت الصرب على نفسها الإلتزام بأمرين: الأول أنها لن تسامح إزاء المؤمرات السياسية والدينية وغيرها التي تحاك ضد النمسا على أرضها, أو في البوسنة والهرسك, أو في نوفي بازار. أما الأمر الثاني والأكثر مغزى وأهمية ما نصت عليه المادة الرابعة من "أن الصرب لن تتفاوض مع أية حكومة أو تعقد إتفاقية سياسية دون التفاهم المسبق مع النمسا, ولن تقبل بوجود قوات عسكرية على أرضها سواء نظامية أو غير نظامية أو حتى متطوعة".
وفور تسريب أخبار نصوص المعاهدة إلى الصرب نشأت أزمة فإضطر بيرشاناك رئيس الحكومة إلى تقديم إستقالته إحتجاجاً على أن تصبح بلاده في حالة تبعية سياسية للنمسا بمقتضى تلك المعاهدة ثم ذهب إلى النمسا وحصل على تصريح من حكومتها بأن المادة الرابعة "لن تضر بحق الصرب في التفاوض من أجل عقد معاهدات مع أي حكومة حتى ولوكانت ذات طابع سياسي". وبهذه الضمانة بقي بيروشاناك في الحكم ولم يكن يعلم أن الأمير ميلان وعد النمسا في خطابات متبادلة بأنه "لن يدخل في مفاوضات قد تكون لها علاقة بأية معاهدة سياسية بين الصرب ودولة ثالثة دون الرجوع إلى النمسا أولاً والحصول على رضاها. وبهذه الحركة ضمن ميلان لنفسه دعم النمسا. والحق أنه رغم عدم تكافؤ في العلاقات بين البلدين على ذلك النحو, إلا أن الصرب لم يكن أمامها بديل آخر إذ كانت شأن رومانيا بحاجة إلى مساندة قوة كبرى في العلاقات الدولية ولم تكن هذه القوة إلا النمسا في مواجهة مساندة روسيا لبلغاريا.
وفي تلك الأثناء بدأت الحكومة التقدمية برئاسة بيروشاناك في تنفيذ برنامجها السياسي حيث إجتهدت في تمرير سلسلة قوانين تتشابه مع تلك التي أصدرتها أحزاب مشابهة في البلاد المجاورة. وسرعان ما تم تنفيذ إجراءات تتعلق بحرية الصحافة, وإستقلال القضاء, وفرض التعليم الإبتدائي الإلزامي. وفي 1833 أصبح الخدمة العسكرية إجبارية وتم تأسيس بنك قومي. وقد كان هذا البرنامج التقدمي يعكس مصالح الطبقة الوسطى وليس الأغلبية من الفلاحين. ومثلما فعلت حكومة الليبراليين السابقة قام الحزب التقدمي بإحلال رجاله في وظائف الدولة مثلما حدث في كل بلاد البلقان المجاورة.
ويلاحظ أن فترة حكم الحزب التقدمي في الصرب شابتها فضائح داخلية وكوراث خارجية. فبالإضافة إلى إنهيار شركة بونتو كما سبقت الإشارة, قام ميلان بطرد ميخائيل Michael بطل الصرب الشعبي خارج البلاد مما أدى إلى إندلاع إحتجاجات شعبية. وقد كانم ميخائيل المؤيد للحزب الليبرالي ولروسيا يعترض على الدعوة لفرض ضرائب على املاك الكنيسة, وعلى طرد أنصار الحزب الليبرالي من وظائف الدولة. وقد قام ميلان بتعيين ثيودويسيوس Theodosius مكان ميخائيل وعندما لم يؤيد سنودس الصرب هذا التعيين إضطر ميلان للرجوع لبطريرك الرصب في سرمسكي كارلوفيتش Sermski Karlovic في مملكة النمسا. وفي النهاية وافق بطريرك استانبول وكذا الكنيسة اليونانية والرومانية على تعيين ثيودوسيوس لكن روسيا لم توافق على هذا الإحلال.
والحقيقة أن تدهور مكانة ميلان وكذا الحزب التقدمي إنعكس في إنتخابات عام 1883, إذ حصل الحزب على أغلبية ضئيلة بنسبة 2 : 1 أي الضعف فقط ولما كان ميلان يرفض هذه النتيجة فقد قام بتكليف هريستيتش Hristic بتشكيل الوزارة وبهذا عاد المحافظون إلى الحكم. لكن لم يلبث أن عاد الحزب التقدمي للحكم في 1884 في أعقاب إنتفاضة وقعت في منطقة تيموك Timok في نوفمبر 1883 بسبب طلب الحكومة فيما يبدو أن تقوم ميليشيات الفلاحين بتخزين أسلحتها في ترسانة عادية وليس في البيوت. ويبدو أن العناصر التقدمية كانت متورطة في هذا التمرد تروطاً تاماً إذ إضطروا لمغادرة البلاد نفياً بعد قمع التمرد عسكريا. وتمت محكامتهم غيابياً حيث صدر الحكم بغعدام نيقولا باشيك الذي قد غادر البلاد قبل وقوع التمرد بأسبوع. ونفذ حكم الإعدام في عشرين واحد فقط, وكان الحكم قد صدر ضد 94 واحداً وتدفق عدد كبير من الهاربين عبر نهر تيموك.
ولقد أدى وجود هؤلاء الهاربين في بلغاريا إلى تدهور العلاقات بين البلدين رغم أن ميلان وأمير بلغاريا (الكسندر) كانا صديقين على المستوى الشخصي. ثم أصبح الموقفق اكث رسوءً نتيجة حادث طريف لم يخطر على البال, ذلك أن نهر تيموك الذي يمثل الحدود بينالبلدين تغير مجراه فجأة,وأدى هذا إلى تجريف حافة النهر نتج عنها تحريك مساحة منها دخلت حدود الصرب. وأرادت الصرب الإحتفاظ بتلك المساحة الجديدة بإرسال فرقة عسكرية لحراستها وإثبات حقها. وعلى هذا وقع الصدام بين البلدين وقامت بلغاريا بطرد الفرقة العسكرية وظل النزاع قائماً بين البلدين حتى 1888.
وكان العداء قد وصل ذروته في 1885 وعندما أصبح واضحاً أن روميليا الشرقية قد تنضم فعلياً إلى بلغاريا طلبت الصرب تعويضاً وكانت تعتقد أن يكون التعويض إعتراف بلغاريا بوضع الصرب يدها على الأرض الجديدة. وفي نوفمبر 1885 وبناء على تقدير خاطئ بضعف الجيش البلغاري لخلوه من ضباط روس, قامت الصرب بالهجوم على بلغاريا فكانت الحرب كارثة على الصرب التي هزمت في معركة سيلفنيتسا Silvanitsa ولم ينقذها من خسارة أفدح إلا تدخل النمسا حليفتها, وعاد السلام بين البلدين على أساس الأمر الواقع.
على كل حال . . لقد تدهورت مكانة أسرة ابرونوفيتش الحاكمة في الصرب إبتداء من ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى ثورة 1903 نتيجة تورط أفرادها في عدة فضائح لم تؤد فقط إلى إضطراب الحياة السياسية في البلاد بل لقد تسببت في تحطيم مكانة الصرب بين الدول. وأكثر من هذا أن ميلان وزوجته نتاليا دخلا في معارك سياسية علنا ذلك أن نتاليا وهي إبنة ضابط روسي من أصل روماني كانت تفضل أن تقوم بدو موال لروسيا في السياسة الخارجية, وتعارض رغبة زوجها ميلان في أن يتعلم إبنهما الكسندر في النمس. وقد بلغ الخلاف بين الإثنين درجة لا يمكن معها إصلاح ذات البين حتى ولقد سعى ميلان لتطليق زوجته, وهي قضية أدت إلى إنشقاق داخل الحكومة. وفي 1887 غادرت نتاليا البلاد ومعها إبنها الكسندر. وكانت تلك الفضائح بمثابة خطر محدق ومتواصل بالأسرة الحاكمة نظراً لوجود مرشح محتمل لتولي عرش البلاد يتمثل في بيتر كارديوريفيتش الذي كان يعيش في المنفى ولكنه يتابع ما يحدث في الصرب عن كثب. وفي 1883 تزوج من زوركا Zorka إبنة نيقولا أمير الجبل الأسود فتعزز مركزه ووضعه أكثر وأكثر بهذه المصاهرة.
وعلى هذا وفي 1888 كان ميلان قد سئم وضعه خاصة وأن أنصاره لم يتمكنوا من تحقيق نصر واضح في الإنتخابات رغم سيطرته على البوليس الذي ينظم العملية. أما وقد قرر التنازل عن العرش فقد رأى أن تكون آخر أعماله دعوة جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد إجتمعت في ديسمبر 1888, وكان خمسة أسداس أعضائها من الحزب الراديكالي, والسدس الباقي من الليبراليين, وفشل التقدميون في الفوز بمقعد واحد. وقد حددت هذه الوثيقة التي كانت أكثر ديموقراطية من الدستور السابق بشكل واضح ودقيق مسألة الحريات المدنية, وجعلت للبرلمان سلطة نسبية, فضلاً عن تقوية سلطة المحليات وإدارتها. كما نصت على سرية الإنتخابات, ومنح حقوق الإنتخاب لجميع دافعي الضرائب. وفور إتمام صياغة الدستور ميلان عن العرش في مارس 1889 لإبنه الكسندر الذي كان في الثالثة عشر من عمره.
والحق أن حكم الكسندر ابرونوفيتش في كثير من ملامحه كان فاصلاً حزيناً في تاريخ الصرب, فلم يكن الرجل يمتمع بأية قدرات ملفتة للنظر, وإنصرف إلى حياته الخاصة وحياة أمه ووالده وأخيراً عشيقته, وجميعها كانت مصدراً خصباً للضحك والسخرية في كل بلاد أوروبا. يضاف إلى هذا أنه عاش طفولته وحيدأً مع تربية عسكرية صارمة, ولم يتورع أبواه عن إستدامه في شجارهما. والحاصل أنه قبل أن يغادر ميلان البلاد بعد تنازله عن العرش قام بتعيين مجلس وصاية على العرش من ثلاثة أوصياء برئاسة يوفان ريستيتش. ولما كان تنازله عن العرش يعد إنتصاراً للحزب الراديكالي فقد تسلم الحزب زمام الأمور, وأصبح الجنرال سافا جريوش Sava Grujic رئيساً للوزراء, وعاد باشيك من المنفى. وهكذا أتيحت الفرصة للراديكاليين ليضعوا برنامجمهم السياسي موضع التنفيذ.
ولما كانت القوة الإنتخابية للحزل ترتكز على اصوات الفلاحين, فقد جاءت قيادة الحزب الراديكالي من بين أبناء الطبقة الوسطى وخاصة المثقفين. ولكنهم بمجرد توليهم الحكم أثبتوا أنهم لا يقلون عن سابقيهم رغبة في السيطرة على أداة الحكم حيث قاسوا بملء الوظائف المدنية بأنصارهم. وكان للحزب برنامجاً حاول تنفيذه على الأقل جزئياً بين سنوات 1889-1892 ورغم أن كثيراً من الراديكاليين كانوا يكرهون الغرب الرأسمالي نظرياً, إلا انهم كانوا يرغبون في أن تكون الصرب دولة ديموقراطية تتكون من عدة كوميونات تقوم كل منها على الحكم الذاتي. ومن الناحية التشريعية قام الحزب بتوسيع حق الإنتخاب العام, وتدعيم الحقوق المدنية, وزيادة سلطة المحليات.
غير ان تلك الإجراءات لم يكن لها تأثير على التخفيف من وطأة المشكلات الشخصية التي كان يعاني منها الكسندر (الأمير الشاب) لأن أبواه لم يتوقفا عن الشجار العلني بعد أن خرجا من البلاد وكأنهما كانا يتنافسان على الإضرار بمصير إبنهيما, فقد كان ميلان في حاجة إلى أموال بصفة دائمة, وظلت مسألة طلاقة قضية قومية عامة. وفي الوقت نفس كانت الأوضاع السياسية أخذة في التدهور, ففي يونية 1892 حلت حكومة ليبرالية محل حكومة الراديكاليين وضمنت الحكومة الجديدة وضعاً قوياً داخل البرلمان بفضل إستخدام البوليس والجيش في عملية الإنتخابات. وفي أبريل 1893 أمسك الكسندر ذو السبعة عشر ربيعاً بزمام الأمور في البلاد وأصبح ملكاً بفضل تشجيع والده وبمساعدة الجيش, وإختار وزراءه من الحزب الراديكالي في ضوء إنتخابات جديدة جاءت ببرلمان راديكالي, وفي 1894 ألغي دستور 1888 وأعاد العمل بدستور 1869. ومع كل تلك الإجراءات وتمكن الملك من السيطرة على النظام السياسي في الأعوام التالية عن طريق التلاعب بالأحزاب والسيطرة على الإنتخابات, إلا أن وضعه السياسي القوي نسبياً تحطم على صخرة رد الفعل الشعبي لحياته الشخصية غير السوية
ولم تقتصر محنة الملك الكسندر على إستمرار أبواه (ميلان ونتاليا) في الشجار علناً للإنفراد بالسيطرة عليه, بل إن هذا الملك سيء الحظ دخل في علاقة أثارت حساسية الصربيين, إذ إلتقى وهو في بيت والدته بأرملة تدعى دراجا ماسينا Draga Masina تكبره باكثر من عشر سنوات, وسمعتها سيئة بسبب تعدد علاقاتها مع الرجال, وأبوها مات متأثراً بجنونه, وأمها سكيرة تعاقر الخمر, وإتخذها الكسندر عشيقة له في 1897 وسرعان ما أعلن نيته الزواج بها. غير أن والداه رفضاه هذا الزواج, ورأى قيصر روسيا في الأمر فرصة لإستعادة نفوذه على بلاط الصرب فأرسل نائباً عنه لحضور حفل الزواج.
على كل حال . . لقد مضت بقية سنوات حكم الكسندر بتردد الفضائح التي إرتبطت بالمملكة الجديدة (عشيقته السابقة) وعائلتها, فلم تنجب وذاعت تقارير عن حملها غير حقيقي ليؤكد أن أسرة اوبرنوفيتش المالكة تحتضر دون وريث. وأكثر من هذا ففي أبريل 1901 أصدر الملك دستوراًأخراً دون جمعية تأسيسية نص على أ، تكون الهيئة التشريعية من مجلس منتخبين: مجلس نواب, ومجلس شيوخ, يعين الملك ثلاثة أخماس الأعضاء في كل منهما. ورغم أن الحكومة إستمرت في كسب الإنتخابات بالإرهاب والتهديد, إلا أنها لم تستطع خنق موجة السخط العامة التي كانت تتصاعد يوماً بعد يوم.
وفي ليلة 10-11 يونية 1903 وضعت نهاية لحكم الملك الكسندر بإنقلاب نظمته مجموعة من 120 من صغار ضباط الجيش الذين شعروا بلإهانة من ملكهم, وبأن بلدهم لا يمكن أن تتقدم تحت حكمه حيث إقتحموا القصر الملكي وأطلقوا الرصاص على الملك ومزقوا جشده بالسيوف وقتلوا الملكة وأشقائها ورئيس الوزراء ووزير الحربية. وقد أثار الحدث الرعب في أوروبا كلها.
كانت قيادة الإنقلاب قد أقامت حكومة مؤقتة برئاسة يوفان آفاكوموفيتش Jovan Avakumovic, بادرت بدعوة البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ طبقاً لدستور 1901, وقد إختار البلرمان بيرت كاراديوريفيتش ليكون ملكاً على البلاد, وكان مرشحاً وحيداً للعرش وفي الستين من عمره ولا يعرف إلا القليل عن البلاد الذي سيحكمه رغم أنه كان ثالث أبناء الكسندر كاراديوريفيتش, وإشترك في معارك حرب البوسنة كأي صربي يشعر بقويمته. ولكنه تعلم في فرنس وسويسرا, وكان زواجه من الأميرة زوركا الروسية يربطه بروسيا بشكل أو بآخر لكنوفاتها في 1890 ربما جعله يتحرر من تلك الروابط. وفي 1903 قام الملك الجديد بإلغاء دستور 1901 وأعاد العمل بدستور 1899 مع إضافة تعديلات معينة.
كانت أول مهمة واجهت الملك الجديد هي كيفية مواجهة صدمة رد الفعل لدى القو الأوروبية تجاه الإنقلاب الذي جاء به إلى العرش. فبينما إعترفت كل من روسيا والنمسا بالتغيير الجديد قامت بريطانيا وهولندا بسحب سفيريهما من الصرب, فلم يكن أي منهما يرحب بأن يشغل الإنقلابيون السلطات العليا في البلاد. لكن التخلص تدريجياً من هؤلاء الإنقلابيين ساعد كثيراً في إعادة العلاقات الخارجية للصرب إلى طبيعتها ما عدا بريطانيا التي لم تعترف بالوضع الجديد حتى عام 1906.
وفي عام 1904 تم تتويج بيتر ملكاً وأصبحت الحياة السياسية بسيطة سهلة بشكل أو بآخر. وآنذاك كان أقوى حزبين على الساحة الحزب الراديكالي, وحزب الراديكاليين المستقلين, والإثنان في الأصل من سلالة الحزب الراديكالي الأصلي. وبعد تغيير الحكومة خمس مرات بين عامي 1904-1906 إستقر الراديكاليون في الحكم حتى عام 1918.
في تلك الأثناء كانت الرابطة بين أسرة اوبرونوفيتش التي كانت تحكم الصرب والنمسا بدأت تتكسر بتولي العرش أسرة كاراديورفيتش, ورغم الرابطة التي تربط روسيا بملك الصرب الجديد (بيتر كاراديوريفيتش) وبالراديكاليين الذين إعتمد عليهم إلا أنها كانت منشغلة بحربها ضد اليابان وبالتالي لم يكن بإمكانها أن تساعد الصرب في مكشلاتها. وسرعان ما بدأت الصراعات بين الصرب والنمسا حول بعض المشكلات في مقدمتها مشروع السكك الحديدية, وشراء الأسلحة, والقروض. فقد كانت النمسا تريد من الصرب أن تشتري بنادق سكودا بالأموال التي تقرضها إياها, على حين كانت الصرب تريد شراء أسلحة فرنسية كتلك التي تستعملها بلغاريا ودون أن تتقيد بطلب النمس. وأثناء التفاوض بين النمسا والصرب علمت النمسا أن الصرب وبلغاريا وقعتا إتفاقية جمركية في يونية 1905 يبدأ تنفيذها في 1906 قد تنتهي بوحدة إقتصادية بينهما بحلول 1917. ولما كانت النمسا تعتبر أن هذا الإتفاق الجمركي بين الصرب وبلغاريا يضر بمصالحها في البلقان قررت تعليق المفاوضات مع بلغاريا وخاصة تلك المتعلقة بالمعاهدة التجارية, وضغطت على الصرب لكي تتخلى عن الإتفاق مع بلغاريا, وأغلقت حدودها أمام إستيراد المواشي من الصرب بدعوى الخوف من إنتشار الأوبئة.
وهذا الصراع الذي كان يعرف بإسم " حرب الخنازير" كان يتوازى مع صراع مماثل بين النمسا ورومانيا ولم يتصل إلى إتفاق بشأنه إلا في 1911. ورغم أن مقاطعة إستيراد المواشي من الصرب كان كارثة بالنسبة لبعض المناطق, إلا أن الموقف أجبر الصرب على بحث إنهاء إعتمادها الإقتصادي التام على النمسا, والبحث عن أسواقهابديلة, ومن ثم عقد معاهدات تجارية مع عدة دول. بدأت الصرب في تصنيع ثروتها الحيوانية, وإتجهت إلى فرنسا للحصول على التجهيزات والمعدات العسكرية اللازمة. وهكذا أدى تغيير الأسرة الحاكمة في الصرب وتداعيات حرب الخنازير إلى قطع الروابط السياسية والعسكرية والإقتصادية التي كانت تربط بينها وبين النمسا في سالف الأيام. ومنذ ذلك الوقت أخذت الصرب توجه أنظارها إلى روسيا.
ويلاحظ أن حكم الملك بيتر كاراديورفيتش تميز بازمات متلاحقة في السياسة الخارجية وحيث أن تلك الأزمات تخص دول البلقان الأخرى وكذا الدول الكبرى فسوف نناقشها فيما بعد. ولكن يتعين أن نذكر هنا أن حكومة الصرب دخلت في السنوات التالية فترة ركزت فيها على التوسع القومي حيث إستهدفت ضم الأراضي التي كانت لا تزال تحت الحكم العثماني في القوت الذي أبدت فيه الدول الكبرى إهتماماً كبيراً لمصير سلاف الجنوب تحت حكم النمسا.
بلغاريا بعد إستقالة ستامبولفو Stambolov قام الأمير فرديناند بتعيين قسطنطسن ستويلوف Stoilov خلفاص له وهو من المحافظين بهدف أن يتوصل إلى تآلف ما مع روسيا كما سبقت الإشارة. وكان فرديناند قد عزم على أن يكون حاكماً قوياً يمسك بزمام الأمور السياسية في الدولة, وظلت أهدافه تتلخص في تقوية بلاده, والتوسع القومي,وإنتظار اليوم الذي يحظى فيه بلقب "الملك" الذي يحكم دولة مستقلة مثلما كان ينتظر شارل (أمير رومانيا), وميلان (أمير الصرب). ومما ساعده على تحقيق رغبته في تقوية مركزه تطور النظام السياسي في البلاد. وكان الحزبان السابقان الليبرالي والمحافظ قد إنشقا إلى تنظيمات جديدة لكل منها برامج متانافسة. وفي ضوء هذه التعددية الحزبية كان بإمكان فرديناند دائماً أ، يعثر على أي حزب سياسي أو إئتلاف ما يشاركه تنفيذ سياسته. وعلى هذا تناولت هذه الأحزاب السياسية على الحكم حوالي إثنا عشر مرة خلال الفترة من 1894-1913.
وقبل الحرب العالمية الأولى كان يتنافس على الحكم تسعة أحزاب سياسية, ثلاثة منها مجموعات منشقة من الحزب الليبرالي وهي" "الليبراليون القوميون" بزعامة ديميتور بيتكوف Dimitur Petkiv خليفة ستامبولوف, و"الليراليون" بزعامة فاسيل رادوسلافوف Vasil Radoslavov, و"الليبراليون الشبان" بزعامة ديمتيور تونشيف Tonchev. ويعود الإختلاف بينها إلى الإختلاف بين شخصية زعاماتها, وكانوا جميعاً ضد روسيا أساساً ومع الغرب في السياسة الخارجية, ووجدوا سندهم بين مثقفي المدن وبين الفلاحين. وتمثلت المعارضة الرئيسية لكل منها في التيار المحافظ الذي كان يعرف بإسم "الحزب القومي" بعد 1894 تحت قيادة قسطنطين ستويلوف الذي كان يتعاون مع الحزب الليبرالي التقدمي بزعامة دراجان شانكوف Dragan Tsankov في الصراعات السياسية الناشئة. وكانت هذه المجموعة تميل لروسيا في الشؤون الخارجية وجاء أعضاؤها من الطبقة الوسطى والشرائح العليا من ملاك الأراضي الزراعية. أما الحزب الديموقراطي برئاسة بيتكو كارافيلوف Petko Karavelov فكان يقف موقفاً وسطاً بين الحزبين السابقين, وكان يفضل إتخاذ سياسة حرة في الشؤون الخارجية لكنه كان أكثر إنحيازاً للغرب من روسيا. أ/ا الأحزاب الثلاثة الأخرى فكانت: حزب الزراعيين, ورابطتين للإشتراكية اليدموقراطية, وجميعهم كانوا أنصار جدد للسياسة البلغارية نسبياً.
على أن السنوات الخمس التي تولى فيها ستويلف رئاسة الحكومة كانت بمثابة تحديد بوصلة حكم الأمير الذي كان مهتماً شأن الأمير تشارل بتحسين الأحوال الداخلية, فقد كان يرغب في تشجيع التصنيع في لباده ومن ثم اصدر في 1894 قانوناً لحماية الصناعةالمحلية, ومنح قروض للورش التي تزيد رأسمالها على 25 ألف ليفا Leva ويعمل فيها عشرون عاملاً على الأقل, وفي 1897 طلب من كل الموظفين أرتداء ملابس وأحذية صناعة محلية. ورغم أنتلك الإجراءات الخاصة بتشجيع الآلي أضرت الصناعات اليدوية لكن كان المعتقد أنها إجراءات ضرورية للتقدم الإقتصادي.
كما كان الأمير مهتماً إهتماماً كبيراً بتطوير المواصلات الداخلية وخاصة بناء السكك الحديدية. لكن بلغاريا شأن كثير من بلاد البلقان كانت تواجه صعوبات كثيرة بسبب الإمتيازات الأجنبية الممنوحة لبناء السكك الحديدية, ذلك أنه قبل نعاهدة برلين عام 1878 كانت الحكومة العثمانية قد تعاقدت مع شركات غربية إنجليزية ونمساوية في المقام الأول لبناء السكك الحديدية, ونصت على غلتزام إمارة بلغاريا بتلك التعغاقدات. وهكذا وخلال الثمانينيات وجدت بلغاريا نفسها تحت ضغط متواصل من أصحاب الإمتيازات من المقاولين وكان بعضهم منروسيا واذلين كانوا معنيون في الدرجة الأولى بتحقيق الأرباح لأنفسهم ولحملة الأسهم في الشركة, مع أن بعض خطوط السكك الحديدية المقترحة تعتبر قليلة الفائدة لبلغاريا. وفي 1888 إكتمل الخط الحديدي الرئيسي الذي يربط استانبول بفيينا والمدن الرئيسية في أوروبا ويمر خلال بلغاريا. وأصبح لدى البلاد خطوط حديدية طوله 693 كيلومتراً. ولكن ولكي تمضي بلغاريا في إتمام الخطوة الثانية وهي إقامة الخطوط الفرعية إقترضت من بنوك نمساوية بفائدة عالية في الغالب. وهنا برزت مشكلات أخرى حين دفعت الدولة مبلغاً كبيراً لشراء خط السكك الحديدية من الشركة الشرقية في روميليا التي كان يمتلكها بنك برلين دويتش Berlin Deuhsche Bank حتى ولقد إضطر ستويلوف لتقديم إستقالته في يانير 1899 بسبب هذه الضفقة التي أرهقت ميزانية البلاد. ورغم إستمرار العمل في مد خطوط السكك الحديدية التي بلغ طولها 1931 كيلومتراً عام 1911 إلا أن تكاليفها كانت عبئاً ثقيلاً على الإقتصاد القومي.
وكانت الزراعة في بلغاريا تعاني من المشكلات نفسها القائمة في البلاد المجاورة, فبعد عام 1878 (مؤتمر برلين) وعن طريق تقسيم الإقطاعيات الكبيرة التي كانت في يد ملاك أتراك أصبحت بلغاريا أمة من صغار الفلاحين المزراعين, ذلك أن الإستيلاء على تلك الأراضي لم يؤد إلى تحسين مستوى معيشة الفلاح, إذ توزعت قطع الأرض بين عدة ملاك وتفتت بفعل نظام التوريث مثلما حدث في أماكن أخرى ودون أن يطرأ تحسن على أساليب الزراعة. وسرعان ما نمت مشاعر السخط في صدور الفلاحين وعدم رضاهم بدرجة ملحوظة, فقد كانت لهم مطالب محددة في مقدمتها وعلى سبيل المثال الحصول على القروض بفائدة معقولة, وضمان تسويق المحاصيل, وتوفير السلع الرئيسية مثل الكبريت والصابون والسكر بأسعار منخفضة. فقد كان الفلاحون يضيقون بإرتفاع تكاليف إستهلاكهم لبضائع بينما دخولهم تقل. ثم وصل سخط الفلاحين مداه عندما فرضت الحكومة في 1899 على كل فلاح تسليم 10% من الحصول عيناً رغم تدهور أحوال الزراعة فإرتفعت الإحتجاجات. وكان جريكوف D.Grekov زعيم الحزب القومي الليبرالي الذي يرأس حكومة إئتلافية مع الحزب الليبرالي وراء هذا الإجراء. لكن إستخدام الجيش لفرض الإجراء الذي إنتهى بقتل بعض الفلاحين كان بمعرفة حكومة رادوسلافوف الذي خلف جريكوف. على أن هذا الإجراء أدى إلى تكوين حزب بإسم الإتحاد الزراعي كرس نشاطه لحماية مصالح الفلاحين اذلين أعطوا أصواتهم من قبل للحزب الليبرالي.
ولم يكتف رادوسلاف بإتخاذ إجراءات عنيفة ضد الفلاحين بل لقد قام بحل مجالس الكوميونات وكل الأجهزة الحكومية المحلية بطريقة غير قانونية. ولما كان الأمير فرديناند قلقاً من تدهور شعبية رئيس حكومته فقد أقام في 1901 على تعيين حكومة إئتلافية جديدة من الديموقراطيين والتقدميين برئاسة كاريفيلوف بادرت فوراً بإلغاء قانون نسبة ال10% التي كانت مقررة على الفلاحين. لكن سرعان ما تبدد الأمل الذي نتج عنه هذه الخطوة حين سعت الحكومة لإحتكار الدخان لضمان الحصول على قرض من المانيا وهو إجراء لم تكن الجمعية التشريعية توافق عليه.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية في عهد فرديناند فكانت مسألة مقدوينا مسيطرة على الأذهان وفي هذا الخصوص لم تكتف دولته برعاية المنظمات الثورية في مقدونيا. بل لقد سعت للقيام بخطوات عن طريق التفاوض مع الدولة العثمانية وروسيا. وبينما تحقق لبلغاريا بعض النجاح مع الدولة العثمانية بصدور قرار من السلطان في 1897 بإنشاء أبروشية جديدة تحت ولاية نائب بطريرك استانبول Exarch لم تحصل من روسيا إلا على مساعدة قليلة. ورغم أن الأزمة البلغارية 1885-1887 تسببت في حل تحالف الأباطرة الثلاثة ووقوع النفور والتباعد بين روسيا والنمسا, إلا أن الدولتين كانت لهما مصالح مشتركة أواخر التسعينيات في شؤون البلقان. وبينما كانت روسيا مشغولة بما يجري في الشرق الأقصى (اليابان) كانت النمسا مشغولة بكثير من المشكلات الداخلية الكبرى. وعلى هذا وفي 1897 وافقت الدولتان على التعاون معاً للحيلولة دون وقوع أزمة في دولة البلقان, وفي السنوات التالية عملا سوياً تجاه مسألة مقدونيا. وفي ضوء تلك الظروف لم تكن بلغاريا تتوقع أن تؤيدها روسيا في أغراضها.
وبتحقيق إستقلال بلغاريا على ذلك النحو بدأت تعطي كل إهتمامتها إلى مقدوينا وآنذاك كانت بلغاريا قد تخلت عن أمل ضم مدقونيا وبدا أن أفضل الحلول يكمن في تقسيم مقدوينا بين دول البلقان بإتفاق مع روسيا. غير أن المادة 18 من الدستور كانت تقف عقبة أمام التفاوض مع دول أخرى والتي كانت تشترط موافقة الجمعية التشريعية لعقد إتفاقيات من هذا النوع. وهكذا لم يكن هناك إمكانية للدخول في مناشقات سرية بهذا الخصوص وأصبحت هناك ضرورة لتعديل الدستور. وفي مارس 1911 تكونت حكومة إئتلافية من كل من الحزب القومي والتقدميين برئاسة جيشوف E.Gechov وكان المزاج العام للأمة البلغارية وألهمية التي علقت على حال مسالأة مقدوينا قد بدا واضحاً عندما وافقت الجمعية القومية الكبرى بالإجماع على تعديل الدستور. وبهذا أصبح بإمكان فرديناند الدخول في معاهدات سرية مع الدول المجاورة.
على أن بلغاريا تمكنت من تحقيق تقدم في كثير من المشكلات الداخلية رغم كثرتها خلال السنوات السابقة على عام 1913, فكما سبقت الإشارة تضاعفت خطوط السكك الحديدية من 693 كيلومتراً في عام 1887 إلى 1931 كيلومتراً في عام 1911, وزاد عدد الطرق من 3727 كيلومتراً إلى 8945 كيلومتراً خلال الفترة نفسها, وإمتدت خطوط التلغراف من 3548 كيلومتراً إلى 6517 كيلومتراً, وخطوط التليفون من 195 كيلومتراً إلى 2231 كيلومتراً. يضاف إلى هذا أن دستور تورنوفو Turnovo ضمن الحريات والتعليم الإجباري للجميع, ولو أن هذا البرنمج لم ينفذ فوراً بسبب النقص في المدرسين المهرة وكذا عدد المدارس. ولكن في عام 1910 تم تطبيق نظام تعليمي يقوم على إدارة المدارس من خلال هيئة, ونص على أن تكون مدة التعليم الإبتدائي أربع سنوات, وثلاثة سنوات قبل التربية البدينة, وخمس سنوات للتربية البدنية. وفي 1888 تأسست المدرسة العليا في صوفيا التي أصبحت جامعة في 1904.
المشكلات الإقتصادية-الإجتماعية وتدخل القوى العظمى ناقشنا في الفصول السابقة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في دول البلقان سواء بإعتبارها جزءً من الحياة السياسية الداخلية أو بإعتبارها جزءً من العلاقات الخارجية لكل دولة. وقبل أن نمضي في إستعراضنا للموقف الدولي المعقد الذي أفضى إلى الحرب العظمى عام 1914 قد يكون من المستحسن أن نلخص تطورات ذلك الموقف وخاصة في الفترة التي تلت مؤتمر برلين (1878), وأن نقدم موجزاً مختصراً لمستوى الحياة الذي حققته شعوب البلقان خلال القرن التاسع عشر الذي يعرف بعصر التحرر القومي, كما سوف نركز على دور الدول الكبرى في هذا الجانب من نشاط البلقانيين.
وبمجرد نجاح شعوب البلقان في تحقيق بعض مظاهر الإستقلال تطلعت لإتخاذ صفات الدول الحديثة من حيث إيجاد جهاز بيروقراطي ضخمو وتكوين جيش قوي كفؤً, وتحسين الأحوال الداخلية وخاصة وسائل الإتصال. وكانتحقيق مثل هذه التطلعات يحتاج إلى نفقات كبيرة في الوقت الذي لم تكن تتوفر في أية دولة من دول البلقان قاعدة مناسبة لتحصيل الضرائب للصرف منها, أو ثروة كافية مخزونة لمواجهة تلك النفقات العاجلة, فاليونان على سبيل المثال إضطرت للإستدانة بشكل كبير للصرف على حركة الثورة القومية نفسها. ونتيجة لهذا الوضع المالي الحرج سعت دول البلقان للحصول على رأس المال والمنتجات الصناعية من القوى الإمبرالية الكبرى التي كانت بدروها متحمسة لمنح القروض لإكتساب حلفاء, وكانت تعتبر هذه الدول الجديدة الخارجة من تحت عباءة الحكم العثماني مناطق للإستغلال الإمبريالي. ومن هنا لم يكن من الممكن أن تكون العلاقة بين الطرفين (دول البلقان الجديدة والغرب الأوروبي) علاقة متكافئة, خاصة وأن الدولة العثمانية ودول البلقان لم تكن تملك القوة اللازمة لمقاومة إعتداءات تلك الإمبراطوريات القوية. وأكثر من هذا فإن الدول الكبرى كانت تمر بفترة من المنافسة الإقتصادية الشديدة فيما بينها, وبدخولها مجال الصراع البلقاني لم تتورط بنفسها فقط في الجدل البلقانيبل لقد جرت الدول الصغيرة معها في المنازعات القائمة.
وربما أن مسألة مد السكك الحديدية تعتبر أفضل مثال للإختلاف بين مصالح القوى الكبرى والمشكلات المرتبطة بالإستثمار الأوروبي. ففي منتصف القرن التاسع عشر كانت جميع الأمم تتوق إلى بناء خطوط سكك حديدية في أراضيها. وفي هذا الخصوص لم تكن حكومات البلقان تتجاهل مثل هذا المشروع رغم إنشغالها بعميلة الإستقلال السياسي, لكن المسألة بالنسبة لها كانت تتمثل في صعوبة توفير اموال اللازمة لتحقيقه. وفي الوقت نفسه كانت دول أوروبا الغربية الكبرى تؤيد رغبة دول البلقان في هذا المشروع لأن من شأن خط السكة الحديدية تسهيل تجارتها, فقد كان الغرب يريد صلة مباشرة مع الدولة العثمانية للأغراض الإقتصادية والإستراتيجية, ولكل هذه الإعتبارات تم إقامة السكك الحديدية في البلقان لمقابلة إحتياجات القوى العظمى أكثر من إحتياجات دول البلقان ذاتها. وتم بناء أول خطان للسكك الحديدية بين كونستانتا-كيرنافودا Constanta-Cernavoda, وبين فارنا-روزيه Ruse لخدمة المصالح النمساوية والبريطانية بالربط بين البحر الأسود ونهر الدانوب. وبحلول عام 1868 تم تحقيق معظم الخطة الطموحة لبناء شبكة سكك حديدية في البلقان. وفي هذا الإطار منحت الدولة العثمانية البارون هيرش Hirsch النمساوي إمتياز مدخط سكك حديدية بين استانبول وآدريانوبل, وبلوفديف, وصوفيا, ونيش, وبلجراد حتى حدود مملكة النمسا. وقد بدأت عملية الإنشاءات في 1872 لكن توقفت بسبب الحروب التي نشبت في النصف الثاني من السبعينيات. وفي عام 1888 تم توصيل الخط الحديدي بين فيينا واستانبول.
على أن القضايا المتصلة بموضوع بناء السكك الحديدية كانت مصدراً للصراع بين الدول كما في حالة رومانيا والمانيا في سبعينيات القرن التاسع عشرو وبين النمسا والصرب في 1882. كما نشب نزع مشابه بين النمسا وروسيا في 1908 بسبب رغبة روسيا والصرب إقامة خط حديدي بين الشرق والغرب من الدانوب إلى البحر الإدرياتي الذي كان يتصادم مع رغبة النمسا في مد خط حديدي من الشمال إلى الجنوب يمر عبر الأراضي العثمانية على حدود النمسا إلى تسالونيكا.
والحقيقة أن بناء شبكة سكك حديدية كاملة في البلقان تمت ضد المصالح الإقتصادية لبعض الدول التي يمر الخط خلال أراضيها حيث تحملت أمولاً للمشروع. والحال كذلك كانت النتائج الأولى غير مشجعة بدون شك ذلك أن زيادة تغلغل المصنوعات الأوروبية في دول البلقان بفعل سهولة الإتصال بالسكك الحديدية أطاح بالمنتجات المحلية وادى إلى تهميش الصناعات اليديوية الأهلية. كما أن تمويل مشروع السكك الحديدية أصاب حكومات البلقان بقدر كبير من الإضطراب بما فيها تورط أعضاء في حكومات رومانيا والصرب في فضائح مالية كما سبقت الإشارة.
ورغم تلك المساوئ فلا شك أن بلاد البلقان تمتعت بإنشاء السكك الحديدية. وكان أول خط في اليونان بطول تسعة كيلومتراً من أثينا إلى ميناء بيرا Piraeus تم إنشاؤه بين عامي 1867-1869, وبحلول عام 1914 بلغ طول الخطوط 2196 كيلومتراً. وفي رومانيا كان أول خط سكك حديدية يمتد من بوخارست إلى ميناء جيورجي Giurgiu على دانوب. وبحلول عام 1914 بلغ طول شبكة السكك الحديدية فيها 3754 كيلومتراً, وفي الصرب بغت 1567 كيلومتراً وفي بلغاريا 2227 كيلومتراً. وكان الخط الرئيسي في بلغاريا إمتداد لسكك حديد استانبول-فيينا الذي يخترق البلاد وكان خطاً قومياً فخماً يمول نفسه بنفسه ولا يسهم في التنمية الإقتصادية للبلاد إلا بقدر محدود. وتنبغي الإشارة إلى أن كل تلك الخطوط الحديدية تم إنشاؤها بواسطة رأس المال الأجنبي الخاص ثم آلت ملكيتها إلى الدولة فيما بعد في رومانيا عام 1888, وفي الصرب بين عامي 1889-1892, وفي بلغاريا عام 1885. أما اليونان فكانت ملكاً للدولة من بدايتها.
وقد تزامن مع إنشاء السكك الحديدية في بلاد البلقان مد شبكة جيدة من الطرق البرية,وتحسين الملاحة النهرية, وتطوير الموانئ وبصفة خاصة إستكمال إاقمة جسر كرنافودا عبر الدانوب, وشق قناة كورنثا Corinth بين البلوبونيز وجسم بلاد اليونان خلال تسعينيات القرن التاسع عشر. وهكذا عندما إنفجرت الحرب العالمية الأولى كانت طرق النقل والإتصال في شبه جزيرة اليونان أفضل بكثير عما كانت عليه زمن الحكم العثماني.
ومن المعروف أن كل مشروعات تطوير البنية الأساسية والتجهيزات العسكرية في دول البلقان تمت بالقروض المالية من الخارج مما وضع هذه الدول في صعوبات حقيقية لتسديد الديون مع نهاية القرن التاسع عشر. ومما زاد من حجم الديون وعبئها الفوائد المقررة والتي كانت تبتلع نسبة كبيرة من ميزانية الدولة. وعلى هذا كان على اليونان عشية القرن العشرين أن تقبل بعثة دولية لمراقبة ميزانية البلاد, وأن تسمح الصرب وبلغاريا بترتيبات مشابهة تتعلق بإحتكارات الدولة. والحال كذلك تولى المستشارون في كل دول البلقان المدينة مراقبة عملية تحصيل الضرائب والتحكم في التصرف فيها. ورغم أن رمانيا بفضل صادراتها من الغلال وتقدم صناعات النفط كانت أفضل وضعاً من غيرها من دول البلقان, إلا أنها كانت تقترض هي الأخرى بشكل مكثف لتجهيز الجيش وبناء خطوط السكك الحديدية وقد كان 52% من ديونها لألمانيا. وهكذا وبحلول عام 1914 كانت جميع دول البلقان تعاني من عبء الديون العامة, إذ بلغت ديون بلغاريا 580 مليون فرنكاً, والصرب 903 مليوناً, واليونان 1.25 بليوناً, ورومانيا 1.7 بليوناً.
ولقد ترافق مع رغبة دول البلقان في تكوين جيوش حديثة الرغبة في بناء الإقتصاد الصناعي بأسلوب غرب أوروبا ولكن نظراً لفقر إمكانيات تلك البلاد لتحقيق مثل هذه التنمية فلم يتحقق إلا القليل خلال القرن التاسع عشر, ومع بداية القرن العشرين أوشكت التنمية الصناعية على أن تتحقق لكن إنفجار الحرب العالمية أبقى هذه البلاد في إطار الإقتصاد الزراعي. وكان أبرز إنجازات الدولة تتم بسبب تنمية حقول النفط بشكل أساسي, ومع هذا فإن الصناعة لم تكن تحتل إلا نسبة قليلة جداً في الإقتصاد الكلي للبلاد. ففي 1863 كان في رومانيا 565 مزرعة تستخدم كل منها خمسة عمال بإجمالي 5500 عاملاً, فكانت الصناعات الغذائية ومواد البناء والمنسوجات تمثل المشروعات الأساسية في هذه المزارع وفر 1902 بلغ عدد الورش 625 ورشة يعمل فيها أربعون ألف عامل, وفي 1912 أصبحت حقول النفط الخام والصناعات الكيماوية القائمة عليها في غاية الأهمية. وفي هذا المجال كان رأس المال الأجنبي هو المسيطر حيث بلغت نسبة الإستثمارات المحلية في إستغلاله 8% فقط.
وهناك نموذج آخر يمن العثور عليهفي اليونان ففي 1877 كانت هناك 136 صناعة يعمل فيها 7350 عاملاً زادت في عام 1917 إلى ألأفي مشروع في الصناعات الغذائية, والنسيج يعمل فيها ستة وثلاثون ألف عامل, فضلاً عن وجود قاعدة صناعات حرفية قوية. وكان رأس المال الأجنبي في هذه البلاد أمراً ملحوظاً ذلك أن اليونانيين أنفسهم كانوا يفضلون إستثمار أموالهم في بناء السفن داخل بلاد البلقان وهو تقليد قديم. غير أن إستثمارهم في السفن البخارية steam إنتهى بنكسة لهم سرعان ما تم عبورها. ولسوء الحظ فإن نهوض صناعة السفن بمعرفة اليونانيين لم يعد بالفائدة على البلاد ذلك أن تلك السفن لم تكن تسجل داخل البلاد بغرض التهرب من الضرائب أو لأسباب أخرى.
أما الصرب وبلغاريا أبطأ تقدماً في الصناعة إذ كانت كل منما عبارة عن سوق للمنتجات النمساوية والإنجليزية. ومع هذا ومع مطلع القرن العشرين حققت الدولتان قدراً من التقدم, ففي 1910 كان هناك 470 مشروعاً صناعياً في الصرب يعمل فيها ستة عشر ألف عامل نصفها في ورش صغيرة مع تقدم العمل في مناجم الفحم والنحاس, وكانت المشروعات الصغيرة تمثل الطابع العام لتنمية إقتصاديات الصرب.
وفي بلغاريا إنتهت الحركة القومية لتحرير البلاد بإنهيار إقتصادي بعد أن فقدت السوق العثماني. كما أدت هجرة الحرفيين الأتراك من البلاد بعد 1878 وبناء السكك الحديدية التي حملت معها منافسة البضائع الأجنبية إلى توجيه ضربة قاصمة للمنتجات المحلية. ولكن منذ سبعينيات القرن التاسع عشر أقيمت بعض الصناعات وخاصة في النسيج والمواد الغذائية بحيث كانت هناك 110 ورشة فب عام 110 يعمل فيها 1400 عاملاً, و 76 مصنع نسيج يعمل فيها 4400 عاملاً, فضلاً عن مصانع البيرة والكحول والكبريت والسيراميك. وفي 1911 كان بالبلاد 345 صناعة يعمل فيها ستة عشر ألف عامل.
ورغم هذه البدايات البطيئة فإن الحكومات البلقانية كانت تشجع التنمية الصناعية ولو أنه لم يكن تشجيعاً كالذي كانت تنمحه الإمبراطورية النمساوية لنصفها المجري. وكان التشجيع يتمثل في فرض حماية جمركية على الواردات الصناعية. وإعفاء المصانع من الضرائب,وفرض جمارك على إستيراد المادة الخام والآلات. ومع هذافلم تكن تلكالمساعدات من حيث المستوى والشكل كافية لتحقيق النتائج المرجوة في التنمية الصناعية رغم مختلف المناقشات التي كانت تجري في مختلف الجمعيات الوطنية حول تنسيق الجهود لرعاية الصناعة والتنمية الإقتصادية بشكل عام. ومن ناحية أخرى كانت الحكومات البلقانية مقيدة بسبب إصرار القوى العظمى على المحافظة على علاقات إقتصادية غير متكافئة مع دول البلقان والإمبراطورية العثمانية, فضلاً عن مشكلة الفقر السائد في تلك البلاد. كانت كل من الصرب وبلغاريا ورومانيا كما رأينا تواجه معاً مشكلة واحدة ألا وهي أن الجمارك المحدودة التي تتبعها سبق تقريرها بمقتضى معاهدة برلين 1878 التي نصت على بقاء المعاهدات التجارية العثمانية مع الدول الأوروبية (الإمتيازات) المعقودة سابقاً كما هي وعدم المساس بها. ولقد ظل الأمر كذلك حتى بداية القرن العشرين حين اصبح بالإمكان التخلص من تلك المعاههدات ذلك أن الإعتبارات الدولية آنذاك كانت تحول دون إنتهاج سياسة حماية جمركية حقيقية في الوقت الذي كان على كل دولة من دول البلقان أن تضع في إعتبارها مصالح شعبها, فضلاً عن أن الصناعات القائمة آنذاك والمطلوب حمايتها كانت لا تزال وليدة, فإذا ما رفعت الحكومات التعريفة الجمركية لتنشيط التنمية الصناعية فإن بعض حكومات الدول الأخرى قد تلجأ إلى الرد بغجراءات قد تضر المصالح الزراعية. فمثلاً كان فلاحو الصرب ورومانيا يحتاجون إلى سوق خارجي لتصدير منتجاتهم من الغلال والثروة الحيوانية. والمعاهدات التجارية بين دول البلقان والنمسا-المجر والتي كانت تسمح بإدخال المنتجات الصناعية النمساوية بسهولة لم تكن لتضر أغلبية سكان تلك البلاد بشكل مباشر. ولكن عندما بدأت سياسة فرض الجمارك في كل تلك البلاد بدأت معاناة الفلاحين والتجار. ومع ذلك كان بإمكان كل دولة من دول البلقان أن ترفع التعريفة الجمركية في الوقت الي تريده, فقد رفعت بلغاريا جماركها في عام 1905, ورفعتها الصرب أثناء حرب الخنازير,روفعتها اليونان في عام 1910.
وبالإضافة إلى السياسيات التجارية التي إتبعتها حكومات البلقان فإنها قدمت مساعدات مباشرة معينة للمشروعات الصناعية بواسطة التشريعات القانونية تتعلق بالإعفاءات الجمركية, وحرية إستيراد الآلات والخامات الصناعية, ووضع تعريفات تفضيلية فيما يتعلق بالسكك الحديدية, ومنح أراضي لإنشاء المصانع عليها, وضمان التعاقدات الحكومية. وفي هذا الخصوص أصدرت رومانيا قانوناً في 1887 كما رأينا بمنح مميزات معينة للمصانع التي يشتغل فيها أكثر من 25 عاملاً,وأصدرت الصرب قوانين مشابهة في 1898 للمصانع التي يزيد عدد العمال فيها على خمسين عاملاً, وإتخذت بلغاريا إجراءات مماثلة في عامي 1894, 1897.
وفي الوقت نفسه كانت حكومات البلقان تسعى لتشجيع التنمية الصناعية في بلادها بإيجاد مناخ مناسب للإستثمارات الأجنبية. وحي ثكان الإعتقاد قد ساد بأهمية هذا المصدر الخارجي فقد أدت التشريعات الرسمية دورها في إجتذاب الأموال الخارجية التي لعبت دوراً كبيراً في الإستغلال الأولي للمصادر الطبيعية في البلاد. وكان هذا واضحاً بصفة خاصة في رومانيا التي كانت أكثر دول المنطقة تقدماً في هذا المجال حيث إستقر الجانب الأعظم من المشروعات الصناعية في يد الإستثمارات الأجنبية. ففي 1914 كان رأس المال المحلي في صناعات النفط يبلغ 8% فقط على حين بلغت نسبة رأس المال الألماني 27.5%, والبريطاني 23.7%, والهولندي 20%. وكذلك الحال في صناعات أخرى مثل الغاز و الكهرباء والأخشاب حيث هيمن رأس المال الأجنبي عليها. وفي الصرب كان رأس المال الأجنبي موجود بشكل مكثف في استغلال المناجم والتعدين وخاصة فيما يتعلق بالفحم والحديد والنحاس والرصاص والكروم والزنك. وبطبيعة الحال إهتم المستثمرون الأوروبيون بتنمية المجالات التي تمكنهم من الحصول على أكبر قدر من الأرباح وبالتالي لم يسهم نشاطهم في التنمية الإقتصادية الحقيقية للبلاد أو الوفاء بالحاجات اٌقتصادية الأساسية للبلاد,وبل إن إستفادة عناصر منت حكومات البلقان من المشاركة في بعض تلك المشروعات وحصولهم على أموال بشكل جانبي أثار قضية الفساد السياسي في العلاقات الحكومية الداخلية.
على أن الجهود التي بذلت لتصنيع دول البلقان عرقلها التخلف الزراعي الشديد في تلك البلاد. فمن ناحية بقيت الإختلافات الإقليمية المهمة كما هي لكن العجز في القدرات كانت سمة مشتركة بين دول المنطقة في كل مكان سواء كان مزرعة صغيرة أو إقطاعية كبرى كانت الوسائل الزراعية المتبعة بدائية للغاية لا تمكن من إنتاج محصول ينافس في السوق الالمية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد تقدمت الزراعية في الصرب وبلغاريا ورومانيا بنفس الوسائل تقريباً حيث تحول الفلاح من تربية المواشي إلى زراعة الغلال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أدى هذا التحول إلى زيادة حجم الأراضي المزروعة وبالتالي زيادة حجم المحاصيل. كما تحول الهدف الأساسي من عملية الزراعة نفسها من الإكتفاء الذاتي إلى زراعة المحاصيل النقدية أو محاصيل السوق حين بدأ القمح الأمريكي والأسترالي يغمر أسواق أوروبا في ثمانينات القرن التاسع عشر, وفي الوقت نفسه أضيرت المصالح الزراعية للصرب ورومانيا بسبب رغبة المجر في حماية سوق النمسا من الغلال والثروة الحيوانية.
والحقيقة أنه في الوقت الذي تدهورت فيه الميزة التنافسية للزراعة البلقانية برزت المشكلة السكانية. ففي 1878 كان عدد سكان الصرب 1.7 مليوناً أصبح 2.9 مليوناً في 1919. وكان سكان بلغاريا وشرق روميليا مليوناً ونصف في 1881 بلغ 4.3 مليوناً في 1910. و1815 كان عدد سكان إمارتي الدانوب (مولدافيا وولاشيا – رومانيا) مليوناً ونصف بلغ 6.9 مليوناً في عام 1910. أما اليونان فقد إرتفع عدد سكانها من ثلاثة أرباع مليوناً عام 1829 إلى 2.7 مليوناً في عام 1911 بسبب ضم كل من تساليا وجزر أيونيا, وجزء من إيبروس في 1882.
على أن هذه الزيادة السكانية لم يصحبها تحسن في وسائل إستخدام الأراض الزارعية, ففي خلال الجزء الأول من القرن العشرين كان من الممكن إستيعاب الزيادة السكانية في تنمية الأراضي غير المستغلة لكن بمجرد زيادة الطلب على تلك الأراضي بدأت الصعوبات والعقبات وأخذت الغابات اهائلة تتلاشى تدريجياً. والحاصل أن الزراعة البلقانية لم تستفد من تجارب البلاد الأخرى والتي تمثلت في رفض أساليب تراكم الثروة وتركزها والأخذ بإنتاج محاصيل السوق على مساحات واسعة وإدارتها بأسلوب راسمالي يقوم علىالعمل المأجور من أجل التصدير, وإستخدام التقنيات الحديثة والميكنة الزراعية المتقدمة والمخصبات الكيماوية الجديدة مما أدى إلى زيادة غلة الأرض. ولكن البلقان أخذت الزراعة إتجاهاً عكسياً تماماً إذ ظل الفلاحون يستخدمون وسائل بدائية في الزراعة بل إن الإقطاعيات الكبيرة في إمارتي الدانوب وتساليا كانت تزرع بأسلوب المشاركة. ورغم توفر بعض وسائل الميكنة الزراعية فقد إستمر غالبية الفلاحين في إستخدام المحراث الخشبي في الحرث والأبقار في النقل, وفي بلغاريا وفي عام 1900 على سبيل المثال كان 10% فقط من الفلاحين يستخدمون المحراث الحديدي, ثم إراتفعت النسبة إلى 20% في عام 1910. وكان إستخدام الوسائل المتخلفة في الزراعة التي أدت إلى إنخفاض غلى الأرض يعني أن الفلاح لا يستطيع أن ينافس المزراع الأمريكي حيث لم يكن يوفر لنفسه مستوى معيشي بدائي.
وبحلول عام 1914 كان الموقف قد أصبح حرجاً فلم تكنت مساحة الأرض الزرعية الموجودة تتناسب مع عدد السكان, وإزدادت مشكلة البطالة حدة خاصة وأن الوظائف المتاحة لا تحتاج إلى أعداد كبيرة من الناس.ولسوء الحظ فإن ما حدث من تغيرات حدث في الطريق الخطأ,ذلك أن الفلاح كان يرى أن حل مشكلته ببساطة يكمن وبشكل رئيسي في حيازة أكبر مساحة ممكنة من الأرض, ومن هنا كان يريد تقسيم الإقطاعيات الكبيرة بين الفلاحين. وفي الوقت نفسه كان يؤيد قوانين الميراث مثل القانون الذي صدر في بلغاريا عام 1890 وكان يبقي على تقسيم الميراث بالتساوي بين أبناء العائلة. وقد أدى هذا الأسلوب مع زيادة السكان في آن واحد إلى تفتيت الأرض إلى مساحات قزمية حرص أغلبية فلاحي البلقان علىالإحتفاظ بها لمساعدتهم على المعيشة. وهكذا سعى الفلاحون إلى إصلاح مواقفهم عن طريق الحصول على مزيد من الأرض وليس عن طريق تحسين طرق الزراعة ووسائلها.
وبالإضافة إلى المشكلات الإقتصادية الأساسية المرتبطة بنظام الملكية الزراعية في البلقان فإن أغلبية الفلاحين في تلك البلاد وقع عليهم العبء الأكبر في مساندة الجيوش الوطنية وجهاز الإدارة والحكمو فقد تبين بعد أن تم تنظيم تحصيل الضرائب بشكل دقيق وشامل وكان مهملاً زمن الحكم العثماني, أن الفلاح البلغاري خلال الفترة من 1879-1911 كان يدفع ضرائب للدولة بنسبة 15-20% من إجمالي دخله. فإذا أراد أن يتملك أرضاً كان عليه أن يدفع أمولاً كثيرة فعلى سبيل المثال وعلى الرغم من إضطرار ملاك الأراضي الأتراك في بلغاريا إلى مغادة البلاد بعد مؤتمر برلين (1878) إلا أنه كان على الفلاح الذي يريد أن يحل محلهم أن يدفع تعويضاً عما فقدوه. وعندما كانت الحكومة تعرض أراضيها للبيع أو عندما كان أصحاب الأراضي يعرضونها للبيع أيضاً ترتفع الأسعار بمقتضى قانون العرض والطلب, فضلاً عن أن إيجار الأرض كان يرتفع بين آن وآخر, وكانت هذه أحد الأسباب الرئيسية لثورة فلاحي رومانيا عام 1907.
ولقد ترتب على تلك الظروف والحوال أن الفلاح كان بحاجة مستمرة للمال, ولم يكن أمامه إلا الإقتراض لكي يقيم أوده. وكانت مشكلة قروض الفلاحين مشكلة مستمرة ومتواصلة طوال القرن التاسع عشر وحتى عام 1914 لقد كانت أعباء الربا أمر شائع مشترك في ريف البلقان في الوقت الذي لم تفعل الحكومات إلا القليل لحماية الفلاح من المرابين, ومن ذلك إصدار بعض القوانين مثل القانون الذي صدر في الصرب عام 1836 بتحريم بيع منزل الأسرة وفاءً للدين Homestead Law. ومما زاد من أعباء الفلاح أنه كان قد إكتسب عادة التمتع بإستهلاك الشاي والقهوة والسكر والمنسوجات وهي مواد كان يتم إستيرادها بأسعار مرتفعة ويشتريها نقداً وليس على أقساط. ومع الأزمة فقد رغبته في إستهلاكها رغم أنها أصبحت في متناول يده.
والحقيقة أن حالة الفقر والإفقار التي كانت عليها جماهير الناس أصابت بدورها البناء الكلي لكل دولة من دول البلقان فمن الواضح أن الفقراء لم يكن بإمكانهم دفع ضرائب كافية لتجنيب الحكومات الصعوبات المالية التي تواجهها. كما كان من شأن تلك الأحوال أن تحول دون قيام سوق لزيادة المنتجات المحليةاللازمة للإستهلاك, ولا توفر رأسمال للتنمية الصناعية أو التجارية. وكان من شأن إخفاق حكومات البلقان في توفير قاعدة صناعية حرمان الفلاحين من الحصول على فرص عمل بديلة.
وفي هذا الخصوص لم تحظ أحوال العمال إلا بقليل من الإهتمام وذلك نظراً إلى غلبة الطابع الزراعي على دول البلقان من ناحية, ولأن عملية التصنيع بدأت متأخرة وظلت ضعيفة. وعلى هذا تنبغي الإشارة إلى الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية وخاصة في كل من رومانيا وبلغاريا نظراً للأهمية العظمى التي حظت بها في المستقبل. فلقد صاحبت بداية عملية التصنيع في دول البلقان كل مشكلات العمل وعلاقاته التي كانت شائعة في بلاد أخرى. فالعمال كان يعملون ساعات طويلة تصل إلى إثنى عشر ساعة أو ستة عشر ساعة في اليوم باجور منخفضة وفي ظروف معيشية سيئة. فالسكن والطعام في المدن حيث يعمل العمال في حالة يرثى لها. وهي أحوال كانت وراء تكوين عمال البلقان للنقابات, وقيادة الإضرابات, وتأسيس التنظيمات السياسية لحماية مصالحهم مثلما كان أقرانهم في دول الغرب الصناعية. وقد سعوا إلى تدخل الدولة لضبط سلوك أصحاب الأعمال ولتحسين أحوال العمال. وعلى هذا فقد تولت أحزاب الإشتراكية الديموقراطية النشاط السياسي تحت قيادة المثقفين من الطبقة الوسطى وإستناداً إلى قاعدة عالمية التعبير عن مطالب العمال السياسية.
ففي رومانيا تكونت المنظمات العمالية المهمة في ثمانينات القرن التاسع عشر وآنذاك كان قسطنطين دوبروجينو-غيريا Constantine Dobrogeanu-Gherea أحد أبرز الكتاب الماركسيين شهرة وتأثيراً وتنظيماً في عالم الإشتراكية. وفي 1893 إجتمع 54 مندوباً من مختلف مدن رومانيا في العاصمة بوخارست وكونوا الحزب الإشتراكي الديموقراطي الذي سرعان ما تلاشى في 199 بدخول عدد كبير من أعضائه إلى الحزب الليبرالي. وفي تلك الأثناء كانت الحركة العمالية النقابية بخطى ثابتة للأمام حيث تمكنت في 1906 من عقد مؤتمرها الأول وتكوين الأول وتكوين هيئة عامة لها (الإتحاد العام). وفي العام التالي تم تكوين الإتحاد الإشتراكي الذي أصبح قاعدة لإحياء الحزب الإشتراكي الديموقراطي من جديد في 1910 حيث أصبح حزباً مناضلاً ثورياً في مواقفه تحت قيادة كريستيان راكوفسكي Rascoveski, وكان برنامجه السياسي يدعو إلى إقرارر حق التوصيت العام, والإصلاحات الإجتماعية وخاصة الإصلاح الزراعي, ووقفوا إلى جانب الفلاحين في ثورتهم 1907.
وفي بلغاريا حدثت تطورات مماثلة ومن الطريف أن نذكر أن هذا البلد الضعيف في التنمية الصناعية قدم أكبر حركة إشتراكية أثارت جدلاً واسعاً. فقد كان لديها-شأ، رومانيا-زعيماً إشتراكياً له سعة دولية عظيمة ألا وهو ديمتور بلاجوييف Dimiyur Blagoev تمكن في 1891 ومعه عشرون شخصاً من تأسيس الحزب الإشتراكي الديموقراطي في البلاد. لكن سرعان ما نشب صراع بينه وبين يانكو ساكوزوف Ianko Sakazov الذي كان يرى أن على الحزب أن يركز نشاطه على تحسين أحوال العمال عن طريق تقليل ساعات العمل والحصول على اجور أعلى بدلاً من النشاط الثوري سياسياً. كما كان يرحب بمساندة الفلاحين الذين بفضل تأييدهم إنتخب في الجمعية الوطنية عام 1894, وعكس بلاجوييف الذي لم يكن يثق في الفلاحين ولا يعتبرهم عناصر ثورية, ويركز على عمال الصناعة رغم قلة عددهم المتناهي, فضلاً عن أن برنامجه كان متطرفاً يقوم على مصادرة الملكيات الخاصة "من أكبر آلة إلى إبرة الخياط . . ومن أكبر المساحات الزراعية إلى أقل مساحة حتى ولو كانت بوصة". وبسبب تفسيره الضيق للماركسية أطلق على أتباعه "ضيقو الأفق" Narrows على حين أطلق على أتباع ساكوزوف الأقل دوجماتية "واسعو الأفق" Broads.
ويلاحظ أ، نصيب الحزب بجناحيه في إنتخابات الجمعية الوطنية كان يتأرجح زيادة ونقصاناً من إنتخابات لأخرى فعلى سبيل المثال فاز ستة إشتراكيون في إنتخابات 1899 وثمانية في إنتخابات 1902 بأصوات الفلاحين أساساً. فلما تكونت النقابة الزراعية خسر الإشتراكيون تأييد الفاحين لم تكن لهم مقاعد في الإنتخابات التي جرت بين عامي 1903-1912. ولكن في إنتخابات 1913 فاز ستة عشر من جناح بلاجوييف (ضيقو الأفق), وواحد وعشرون من جناح ساكوزوف (واسعو الأفق). ولم يكن هذا الفوز راجع للبرنامج الإشتراكي بقدر ما كان بسبب هزائم حروب البلقان.
ورغم أن الأشتراكيين لم يكن لهم وجود بارز على الساحة السياسية, إلا أنهم أثبتوا قيادتهم داخل الحركة العمالية وفي تنظيم الإضرابات, ففي تسعينات القرن التاسع عشر وقعت عدة إضرابات من عمال النسيج والطباعة والدخان والأخشاب, كما قام عمال السكك الحديدية بإضراب كبير في 1907. وفي 1904 كون أنصار بلاجوييف الإتحاد العام لنقابات العمال على حين كون أنصار ساكوزوف تنظيماً مضاداً بإسم الإتحاد الحر لنقابات العمال. وبحلول عام 1914 كان كل من الإتحاديين يضم أقل من عشرة آلاف عضوالً أغلبهم من المدرسين والموظفين وما شابههم وليس من عمال الصناعة. ورغم جوانب القصور تلك إلا أن أساساً لإقامة حركة إشتراكية قوية في المستقبل قد تم وضعه.
أما في الصرب فقد تأسس الحزب الإشتراكي الديموقراطي في 1903 وبعد عامين من تأسيسه (1905) كان عدد أعضائه ثلاثمائة عضواً أصبح 2889 في عام 1911. ومثلما حدث في رومانيا وبلغاريا تكونت في الصرب النقابات العمالية ونظمت الإضرابات التي كان أطولها إضراب عمال مصنع سكر شوكاريسا Cukarica في بلجراد عام 1907. أما اليونان فلم تكن الأحزاب الإشتراكية قد تكونت فيها حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى, لكن النقابات العمالية كانت ققد تكونت في ثمانينات القرن التاسع عشر وخاضت حركة الإضرابات. وقبيل عام 1910 كان لكثير من تلك النقابات ممثلون لدى أصحاب الأعمال من الموظفين وليس من العمال وإنتهى هذا التمثيل بصدور قانون عام 1910 نفسه مما أدى إلى تحسن وضع العمال.
على أن الإضرابات العمالية والفوران السياسي في مختلف مدن البلقان من أجل تحسين الأحوال السيئة للعمال وأوضاع المعيشة بشكل عام كشفت أن حركة التحرر الوطني في تلك البلاد كانت تستهدف فقط إقامة حكومات مستقلة تتمتع بالحكم الذاتي دون إهتمام برفع مستوى معيشة غالبية السكان وبعبارة أخرى غياب البعد الإجتماعي في حركة التحرر الوطني. ولم تتحسن إلا أحوال نسبة قليلة من السكان ألا وهم ملاك الأراضي الزراعية وأصحاب المهن الحرة الذين يعيشون في المدن عادة ويتخلقون بأخلاق أهل غرب أوروبا وعاداتهم. وكان هذا الموقف نتاجاً طبيعياً للظروف الإقتصادية والسياسية العامة في البلاد.
والحقيقة أن حكومات البلقان حاولت قبيل عام 1914 تمرير تشريعات قانوينة لمساعدة الفلاحين والعمال خاصة وأنها قبلت المبدأ القائل بأن على الدولة أن تتدخل لحماية مصالح جماهير السكان, لكن تلك الحكومات كانت تهتم أكثر في سياستها بالشأن القومي من حيث السعي لضم المناطق التي يعيش فيها بني قومها تحت سيادة دولة أخرى, وبالتالي تلك السياسات هباءً فسرعان ما جاءت الفرصة التي كانت تتطلب إستخدام الجيش, وذلك حين بدأت القوى العظمى تتخلى خلال المدة من 1912-1922 عن سياسات القرن التاسع عشر الخاصة بكبح جماح الحركات القومية, والإحتفاظ بتوازن سياسي في شبه جزيرة المورة. ففي خلال تلك السنوات إنهمكت دول البلقان في حروب متواصلة قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها كان لها تأثيراً هائلاً, ذلك أنها لم تكن تتطلع فقط إلى ضم باقي الأراضي التي كانت لا تزال في يد الأتراك العثمانيين, بل لقد تطلعت إلى الأراضي التي تحت سيطرة إمبراطورية النمسا التي يسكنها عناصر سلافية جنوبية ورومانية. وعلى هذا شهد العقد الأول من القرن العشرين بداية طرد الحكم العثماني من البلقان فيما عدا مدينة استانبول وما حولها, وشهد العقد الثاني إستكمال طرد العثمانيين من المنطقة وتصفية مملكة النمسا-المجر.
الفصل الثالث عشر طرد العثمانيين من أوروبا
رغم تقلص أراضي افمبراطورية العثمانية بعد مؤتمر برلين 1878, إلا أنها كانت لا تزال تسيطر على أراضي واسعة ممتدة, فقد كانت لها سيطرة مباشرة على بلاد مقدونيا وألبانيا. ورغم أن إمبراطورية النمسا كانت تسيطر على البوسنة-هرسك وسنجق نوفي بازار من الناحية الرسمية, إلا أنها من الناحية النظرية كانت "تدير" مناطق كانت في الأصل تحت السيادة العثمانية. ولقد إستمر الموقف كما هو خلال السنين التي تلت 1878, فالدولة العثمانية متمسكة بعدم التنازل عن ممتلكاتها, ودويلات البلقان تعيش في حالة من التجزئة والإنقسام. وأكثر من هذا بدت رغبة النمسا في ضم البوسنة-والهرسك لأراضيها في المفاوضات التي تمت فيما بعد بين أطراف تحالف الأباطرة الثلاث (التحالف الثلاثي). وهكذا بقي البلقان حتى 1914 مركزأً دولياً رئيسياً للصراع بين دول البلقان فيما بينها وبين القوى العظمى, وهو الصراع الذي خرجت مقدونيا منه بفوز كبير.
المسألة المقدونية تحدد مقدونيا جغرافياً بأنها الأرض التي تحدها من الشمال جبال صار Sar, ومن الشرق مرتفعات رودوبيه Rhodope, ومن الجنوب بحر إيجه وجبل الأوليمب وجبال بيندوس Pindus, ومن الغرب بحيرة أوهريد Ohrid. ويضم هذا الإقليم كل من نهري الفردار Vardar وستروما Strume ومدن تسالونيكا وكاستوريا Kastoria وفلورينا Florina وسيرس Serres وبيترايخ Petrich وسكوبيه, وأوهريد وغنياً بحال من الأحوال فقد كانت محاصيله الرئيسية عبارة عن القمح والدخان والأفيون (نبات الخشخاش), فضلاً عن الثروة الحيوانية وخاصة تربية الأغنام, وسكانه أقل من مليون نسمة يعيشون على مساحة خمس وعرين ألف ميل مربع وينقسمون بين تسع مجموعات: أتراك, وبلغار, ويونانيين, وصرب, ومقدونيون, وألبان, وفلاخيون Vlachs أو كوتزو-فلاخ Kutzo-Vlachs, واليهود, والغجر.
ونظراً لهذه الأخلاط المتعددة للسكان فقد كان من الصعوبة بمكان رسم خطوط قومية مميزة لكل منهم,فكل مدينة من مدن الإقليم تضم عناصر تريكة ويونانية ويهودية, وفي كل قرية كانت عدة قوميات تعيش جنباً إلى جنب, ولم يكن من الممكن تقدير وزن كل مجموعة قومية بالنسبة للمجوعات الأخرى من حيث العدد والقوة, كما لم يكن للإحصاءات السكانية التي تتم من أجله الإحصاء. فالإحصاءات مثلاً تتناول عدد المدارس وعدد اللغات المستعملة وعدد العقائد الدينية, لكن يمكن أن يكون كل منها مضللاً لنفس السبب, فمثلاً كان من المعروف أن السلافيين الأورثوذكس يدخلون الكنائس اليونانية عندما لم تكن الخدمة الدينية بالسلافية غير ممكنة. كما كان الصرب والبلغار يذهبون إلى كنائس بعضهم البعض طالما أن خدمة الشعائر الدينية متوفر, وبمعنى آخر كانت الظروف القائمة أو السياسات الجارية أو المجموعات القومية نفسها هي التي تحدد عضوية الكنيسة. أي أن الإنتماء لكنيسة ما لم يكن يحدد الإنتماء القومي أو العرقي وهكذا.
وعندما إحتدم الصراع على مقدونيا بعد مؤتمر برلين (1878) أسرع علماء الأنثروبولوجيا واللغويون وعلماء النفس من مختلف بلاد البلقان كل في تخصصه يستند إلى حجة أو ذريعة تبرر مشروعية المطالبة بضم مقدونيا لتلك الدولة او لأخرى فالبلغاريون مثلاً أستخدموا حجة اللغة لإثبات أن سلاف مقدونيا إخوتهم, ورد علماء الغة الصرب بأن قواعد لغةالصرب قريبة جداً من اللغة التي يتكلمها المقدنيون, كما قال الأنثروبولوجيون الصرب بأن عيدهم "سلافا" Slava الذي يحتفل به أيضاً أهالي مقدونيا يجعل من المقدونيين صرباً. وسعى اليونانيين لإثبات أن أي مقدوني تحت سلطة البطريرطية المسكونية (العالمية) فإنه يعتبر يوناني. هكذا إستخدمت كل دولة قويمة ما أمكنها من حجج لتدعيم إدعاءتها, وكان كل إدعاء يقابل بتحد من إدعاء آخر.
ويبدو واضحاً أن الموقع الجغرافي الإستراتيجي لمقدونيا كان سبباً في تكالب دول البلقان والقوى العظمى عليها,فقد كانت بلغاريا واليونان والصرب ترغب في الإستيلاء على مقدونيا كلها أو على أكبر جزء منها لثلاثة أسباب: أولها أنه يؤدي إلى تكبير مساحة دولة أي منها إضافة شعوب إليها. والثاني أن ضم وادي نهري الفردار وستروما والسكة الحديد التي تخترق كل منهما لها فوائد إقتصادية عظيمة, وثالث الأسباب ولعله اهمها يبدو في أن الذي يسيطر على مقدونيا سوف يكون أقوى قوة في البلقان, وهو ذات السببالذي أطمع الدول العظمى في مقدونيا, فضلاً عن إدراك تلك الدول أن الإستحواذ على مقدونيا يعطي حائزها مركزاً إستاريتجياً أمامياً تجاه استانبول والمضايق التركية. وفي هذا الخصوص وجدنا أن إنجلترا كانت تعارض بشدة إنشاء بلغاريا بمقتضى معاهدة سان ستيفانو لتلك الإعتبارات العسكرية لأنها بهذا سوف تكون تحت سيطرة روسيا. وكانت النمسا توافق إنجلترا في هذا الموقف لسبب آخر يتمثل في سعيها لتنمية روابط إقتصادية مع تسالونيكا مما يساعد على مد نفوذها جنوباً بإتجاه إيجه.
وحتى إنشاء الإكسارخية Exarchate البلغارية في صوفيا في 1870 (أي الكنيسة السلافية ذات البطريرك البلغاري نائباً) كان نفوذ اليونان متفوقاً بين البلغار إذ كان لها مجموعة ميزات نسبية يبدو لأول وهلة صعوبة التشكيك فيها أو مهاجمتها, فمن المؤكد أن مشاعر الهللينية السائدة (أي حب الثقافة اليونانية) الذي كان سائداً آنذاك في مطلع القرن أشعر اليونان بإمكانية تمتعها بمساندة أوروبية مهمة. ومن ناحية أخرى فإن كثيراً من الأوروبيين كانوا يعتقدون بيونانية المنطقة قومياً أو ثقافياً, فقد إعتاد المسافرون منهم في أنحاء البلقان أن يقيموا في مدن وأحياء يوجد بها عدد كبير من اليونانيين خاصة وأنهم هم الذين كانوا يديرون الفنادق والخانات. وأكثر من هذا فإن البطريركية المسكونية كما رأينا كانت تقوم بتقوية المصالح اليونانية القومية في كل البلقان. وفي مقدونيا قاومت البطريركية أية تحديات من جانب البلغار والصرب بل إن روسيا قبل 1870 لم تكن مستعدة للدخول في عملية تستهدف تقويض سلطة البطريركية لصالح شعوب البلقان الأخرى. كما كانت الكنيسةاليونانية تسيطر على مؤسسات التعليم القائمة في المنطقة آنذاك,فكثير من غير اليونانيين الذين يلتحقون بالمدارس اليونانية كانوا يتعلمون اللغة اليونانية, ويدخلون في مجال الثقافة اليونانية بطريقة أو بأخرى, ومن ثم كانوا على إستعداد لقبول سيطرة اليونانيين سياسياً.
وأمام تلك الميزات التي كانت اليونان تتمتع بها في المنطقة كانت تواجه مشكلات إستغرقتها كثييراً من ذلك أنها كانت مشغولة معظمالقرن التاسع عشر بمشكلات جزيرة كريت وبكيفية ضم تساليا وإيبروس اللتان تفصلها عن مقدونيا. ومن ناحية أخرى كانت أي محاولة مناليونانيين للتوسع هنا أو هناك تقابل دائماً برفض إنجلترا طالما تمسكت بمبدأ المحافظة على وحدة الإمبراطورية العثمانية. كما أن سيطرة البحرية الإنجليزية في البحر المتوسط حال دون تحرك اليونان بإتجاه الشمال دون أن تتوقع الخطر. ويضاف إلى هذا أن وضع اليونانيين كان آخذ في الضعف مع نهاية القرن التاسع عشر, ومن هنا فإن تأسيس الإكسارخية البلغارية كان بمثابة ضربة قاصمة لليونان. ونظراً لهذا التآكل في قوة اليونان مع نهاية القرن التاسع تمسكت أكثر بالمحافظة على الوضع القائم إنتظاراً لموقف يطرأ يساعدها على تحقيق ما تصبو إليه في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تفضل أن تكون مقدونيا في حيازة البلغار أو الصرب.
أما بلغاريا فقد تحسن وضعها بمرور الوقت عكس بلاد البونان ذلك أن معاهدة سان ستيفانو أقرت حدوداً لبلغاريا إعتبرت حدود مثالية. لكن سرعان ما فقدتها وأصبح إستعادتها من جديد أملاً يراود زعاماتها. وعلى هذا وخلال تلك الفترة سعت بلغاريا للتعجيل بإيجاد حل فوري لتلك المشكلة, وكانت روسيا كما رأينا, تساند بلغاريا في مطلبها وعندما تخلت روسيا عنها تعاطفت إنجلترا والنمسا مع الآمال البلغارية. وقد ترافق مع تلك المساعدة الخارجية دور الإكسارخية البلغارية التي لعبت دوراً مهماً وبالغ التأثير في مد النفوذ البلغاري على كل البلاد التي يعيش في بلغاريون, حتى إذا ما طلب ثلثا أهالي أي ناحية من نواحي تلك البلاد الإنضمام للإكسارخية إستجابت لطبلهم. ولقد كان من اليسير نسبياً إقناع سلاف المنطقة بوجوب الإنضمام لإكسارخية سلافية أكثر من إقناعهم بطريركية يونانية وهو أمر أسهمت في بلورته الدولة العثمانية.
وبالرغم من تلك العلامات المشجعة لبلغاريا نحو تحقيق أهدافها داخل حدودها المعترف بها والتي تسعى لإستعادتها, إلا أنه كان عليها أن تواجه عدة مشكلات في سبيل ذلك لعل أكثرها خطراً المنافسة بينها وبين اليونان والصرب ومن ورائهما روسيا. ولما شعرت هاتان الدولتان بتهديد مصالحهما الحيوية من التأثير البلغاري عملتا على توظيف التعليم والدين والسياسة لمواجهة مطامع بلغاريا ومما زاد من صعوبة الأمر إنضمام رومانيا لمنافسي بلغاريا عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ورغم أن القوى العظمى كانت تساند بلغاريا إلا أنها مساندة لم تكن مضمونة على الدوام, ذلك أن سياسات تلك القوى تجاه البلقان كانت تحددها المصالح الدولية لكل منها وبالتالي فقد كانت سياسات متأرجحة بين آم وآخر حسب مقتضى المصالح.
وفي هذا الخصوص كانت الصرب أضعف القوى الثلاثة في المنطقة نظراً لطوحاتها الكبرى فقد كان هدفها الأساسي إقناع القوى العظمى باحقيتها في السيطرة على البلقان ورغم أن القوى العظمى كانت تعترف بمصالح اليونان والبلغار, إلا أنها لم تكن تعترف بإدعاءات الصرب. ففي ثمانينات القرن التاسع عشر كانت المآخذ على الصرب كثيرة جداً, فأولاً ومنذ عام 1804 كانت تسعى للتوسع في المناطق الواقعة إلى الغرب منها في كل من البوسنة والهرسك والإدرياتي, فضلاً عن إهتمامها بصرب المناطق الشمالية في كل من سريم Srem وباشكا Bascja, وبانات Banat في فويفودينا Vojvodina, كما لم يكن سهلاً عليها تحويل طموحها إلى الجنوب الذي أصبح المنال بعد إحتلال النمسا للبوسنة والهرسك. وثانياً لم يكن لدى الصرب مؤسسات دينية بالمقارنة بالإكسارخية البلغارية والبطريركية اليونانية و كما لم تكن تتمع بطبيعة الحال بمساندة روسيا حتى إعتلاء بيتر كاراديوريفيتش عرش الصرب والذي عوضها بعض الشيء عن الميزات لممنافسيها. وثالثاً فإن تحالف أسرة أوبرونوفيتش (الصرب) والهابسبورج (النمسا) في عام 1881 لم يكن يسمح أساساً بسياسة قومية وعدائية, أي أنه لم يكن بإمكان أمير الصرب (ميلان) وإمبراطور النمسا (ألكسندر) حشد شعوبها وراء طموحاتها, فرغم أن النمسا وقفت إلى جانب الصرب في مؤتمر برلين 1878 إلى حد ما, إلا أنها لم تكن على إستعداد لدعم وجهة نظر الصرب في التوسع تجاه سلاف الجنوب الذين يعيشون تحت سيادة النمسا.
ومن ناحية أخرى كانتلكل من اليونان وبلغاريا والصرب ورومانيا إدعاءات معينة تجاه مقدونيا. ففي مقدونيا ذلك الإقليم المتنوع العناصر السكانية كان هناك عدد كبير من الفلاخين Vlachsh الفتجار ورعاة الأغنام بصفة أساسية, لكن عدد ذوي الأصول الرومانية منهم غير معروفة. ورغم هذه الصلة الضعيفة بين رومانيا ومقدونيا إلا أن رومانيا في عام 1900 قدمت إعانات مالية للمدارس الفلاخية بلغت مليون فرنكاً في عام 1912. وفي عام 1905 تم إغراء السلطان العثماني لكي يعترف بملة فلاخية منفصلة عن البطريركية العامة. والحقيقة أن نيات رومانيا كانت واضحة فلم يكن بإستطاعتها صناعة إدعاءات حقيقية بشأن مقدونيا أو أن تأمل في ضم أية أراضي هناك. لكنها كانت تتسخدم إدعاءاتها في مقدوينا للمساومة على ضم أراض إضافية في دوبروديا من ناحية, ولقطع الطريق على بلغاريا والحيلولة دون إعادة الحدود التي أقرتها معاهدة سان ستيفانو لبلغاريا من ناحية أخرى.
وفي تلك الأثناء بدأت حركة اليقظةالقومية السلافية المقدونية وكانت طليعتها من سلاف مقدوينا الذين لم يكونوا بلغاراً أو صرباً لكنهم كانوا فرعاً آخر متميز ومنفصل من العنصر السلافي له لغة قومية متفردة. وقد إستحوذت هذه الفكرة على إهتمام كبير فيما بعد ممن القوى البلغارية والصربية ولكنها مسألة بعيدة عن موضوع هذا الكتاب.
ورغم أن الصراع حول مقدوينا كان أمراً يخص المسيحيين أساساً, إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن الأقليم كان يضم عدداً كبيراً من المسلمين معظمهم من الأتراك أو الألبان وبعضهم من السلاف الذين تحولوا إلى الإسلام مبكراً. وكان هؤلاء يفضلون بطبيعة الحال الإبقاء على الحكم العثماني ويتطلعون إلى السلطان عبد الحميد الثاني لحمايتهم, وكان اللسطان من ناحيته يبذل كل ما يمكن من جهود للدفاع عن وضع مقدونيا.
علىكل حال . . دخلت القوى الثلاثة المتنافسة على مقدونيا وهي بلغاريا واليونان والصرب فيما بينها في معراك بشكل منتظم خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بشأن السيادة على مقدونيا, وكانت الأسلحة في تلك المعارك الكنائس والمؤسسات التعليمية والجمعيات الوطنية. وقد إستمرت الحرب الإكليروسية (الكنسية) على أساس الأوضاع الدينية السابقة. فبينما كان البلغار يسعون للحصول على موافقة السلطان العثماني على إنشاء عدة إسقفيات مستقلة كان اليونانيون يعملون من خلال البطريركية العامة في إستانبول لقطع الطريق على مطالب البلغار. أما الصربيون فكانوا يسعون لتأسيس منظمة دينية مستقلة لهم وهو أمر لم يتحقق إلا في عام 1902 عندما سمح لهم بتأسيس أسقفية في سكوبيه. وفي نهاية القرن التاسع شعر تمكنت كل قومية من تأسيس عدد كبير من المدارس أصبحت أدوات لسياسة الدولة حيث إنتشرت كتب مبادئ القراءة وقواعد النحو والتاريخ ونشرات الدعاية كل منها تتناول قضية أو أخرى من القضايا القومية.
على أن تنظيم الجميعات القومية/الوطنية المتنافسة كان من شأنه أ، يؤدي إلى صعوبات عظمى. ورغم أن مقاصد بعضها كان ثقافياً بحتاً كان البعض الآخر يعتمد العنف وسيلة لتحقيق الأهداف. وقد تكونت أول جمعيتين في هذا الخصوص في عام 1884 وهما جمعية سيريل Cyril وجمعية ميثوديوس Methodius بهدف تنشئة سلاف مقدونيا على الإيمان بالقضية البلغارية وترسيخها في أذهانهم. وبعد ذلك بعامين ردت الصرب بتكوين جمعية القديس سافا St. Sava التي سميت بهذا الأسم نظراً لأن هذا القديس راعيهم كان يؤيد نفس الأهداف. وفي عام 1894 بادر اليونانيون بتكوين جمعية إثنيكه هيتايريا Ethnike Heyairia التي كان لها تاثير في جزيرة كريت.
روغم أ، معظم تلك الجمعيات كانت لأغراض الثقافة والدعاية ولم تشارك في أية نشاطات تنتهك الحرمات العامة, إلا أن بعضها تجاوز الآداب المرعية وكان أبرزها تطرفاً جمعيات بلغارية. وفي 1893 ظهرت على المسرح السياسي "المنظمة الثورية المقدوينة الداخلية" Internal Macedonian Revolutionary Organization المعروفة إختصاراً بإسم الإيمروا IMRO وكان هدفها الإطاحة بالحكم العثماني من مقدونيا وإقامة حكومة ذاتية مقدوينة وشعارها "مقدونيا للمقدونيين", وكانت عواطفها بلغارية بدون شك وكانت تنافسها "لجنة السيادة المقدونية" Macedonian Supreme Committee أو المنظمة الخارجية External Orgainzation وكان مقرها في صوفيا عاصمة بلغاريا, وأعضاؤها من لاجئ مقودنيا بشكل أساسي وعرف أنصارها "بأصحاب السيادة" أو "السياديون" وكانت تتمتع بدعم بلغاريا بشكل غير علني وهدفها ضم مقدونيا لبلغاريا وبينما كانت الإيمرو تكرس نشاطها للإعداد للقيام بإنتفاضة مخططة بعناية في المستقبل كان السياديون يقومون بإرسال جماعات داخل مقدونيا لترويع أهل القرى أو إغتيال الأتراك بامل أن يقوم المقدونيون بالثأر مما قد يدفع السكان إلى الثورة.
أما اليونانيون والصربيون فقد تمثل رد فعلهم في القيام بأعمال العنف والترويع طبقاً لما ورد في تقاير القناصل الأوروبين وكذا المراسلين عن الأعمال الوحشية التي إرتكبتها كل الأطراف المعنية. ولم يقتصر أمر المعاناة والقسوة والوحشية التي قامت بها العناصر المتعصبة دينياً على أهالي البلاد فقط بل إن الدولة العثمانية أصبحت في ورطة شديدة جراء تلك الأحداث, فإذا ماأقدمت على إعتقال تلك العناصر الوحشية وعاقبت المذنبين منهم من واقع مسئوليتهم عن حفظ الأمن, قامت الصحافة الأوروبية بحملة تشهير ضدها تصفها بالبربرة والعدوان حتى ولو كان الأمر لا يستحق الإهتمام.
على أن حكومات دول البلقان وأيضاً القوى العظمى كانت تعترف بخطورة تلك الإضطرابات والفوضى التي قد تؤدي إلىأزمة كبرى جديدة في الشؤون الدولية كتلك التي وقعت في سنوات 1875-1878, ولهذا كانت المفاوضات بين الأطراف المعنية تصب في هذا السؤال. ففي خلال عامي 1892-1893 حاولت كل من الصرب واليونان تجاوز الخلافات القائمة بينهما على حساب البلغار لكنهما لم يتفقا على تحديد مجال نفوذ كل منهما. وفي 1897 أصبحت المشكلة المقدونية جزء مهماً من أزمة كريت والحرب اليونانية-العثمانية. ولعل اهم المناقشات التي درات حول هذا الموضوع من حيث مغزاها تلك التي دارت بين فرانز جوزيف (إمبراطور النمسا) ونيقولا الثاني (إمبراطور النمسا) في أبريل 1897. ولما كان الطرفان لا يرغبان في قيام إنقلاب بلقاني فجائي آنذاك فقد توصلا إلى تفاقهم بعيد المغزى حيث إتفقا على تقسيم البلاد العثمانية, وأدركا أن ضم البوسنة والهرسك وسنجق نوفي بازار للنمسا يعد خطوة نهائية لخلق ألبانيا مستقلة, وتقسيم ما يتبقى من ولايات عثمانية في البلقان بالتساوي بين دول البلقان, وقد وضع هذا القرار في الإعتبار إدعاءات الصرب ومطالبها. لكن لم يكن من الممكن تنفيذ تلك الخطط في القريب العاجل وإنما تركت المستقبل البعيد حيث ا، الدولتين (النمسا وروسيا) عزمتا على الحيلولة دون قيام حكومات البلقان بإحداث أزمة أوروبية بدرجة أو بأخرى أو تغيير الحالة الراهنة.
ولا شك أن القوى العظمى وكذا كل من بلغاريا واليونان واليونان والصرب قد كثفت كل أشطتها بدلاً من إيقافها أو التراجع عنها, تلك الأنشطة التي بلغت ذروتها في أغسطس 1903 عندما عجلت الإيمرو بالإنتفاضة في آلندين Ilinden للإستيلاء على ولاية موناستير كمقدمة لتحريراً كاملاً من السيطرة العثمانية. غير أنها كانت ثورة غير ناضجة وفقيرة الإعداد شأن غيرها من الثورات التي "تفشت" بين البلقانيين في القرن التاسع عشر, وواجهتها القوات العثمانية بوحشية غير عادية حيث تم تدمير ما يقرب من تسعة آلاف منزل في البلاد.
ورغم أن تلك الثورة لم تنجح في تحقيق أهدافها العامة ألا وهي تحرير مقدوينا, إلا أنها دفعت روسيا والنمسا للتدخل, ففي 1903 إلتقى إمبراطور الدولتين في مورشتيج Murzsteg حيث وافقا على برنامج جديد لإصلاح الحال في مقدونيا يقضي بوضع الحامية العثمانية في البلاد تحت سيطرة ضباط أجانب, وتعويض ضحايا إنتفاضة أيلندين مقدونيا لكنها مهمة ظلت مستحيلة. وفي 1905 وافق الباب العالي على أن تتم عملية جمع الضرائب في مقدونيا تحتإشراف دولي, وفي السنوات التالية قدمت القوى العظمى مشروعات إصلاحية كثيرة, ثم ما لبثت مقدونيا أن تأثرت بقيام ثورة الإتحاد والترقي في إستانبول يولية 1908 وهو الحدث الذي أثار من جديد وضعية جميع ممتلكات الدولة العثمانية.
ثورة تركيا الفتاة لم تواجه الحكومة العثمانية تمرد رعاياها المسيحيين فقط بل لقد واجهت سخط رعاياها المسلمين أيضاً, ورغم أن السلطان عبد الحميد الثاني كان يحكم البلاد حكماً أوتوقراطياً, إلا أنه كان يعتقد في أهمية الإصلاح. ففي خلال حكمه تم التوسع في إنشاء المدارس الإبتدايئة والثانوية, وتأسيس الكليات الطبية, وإنشاء جامعة إستانبول, وتم تحسين أحوال الجيش, وزيادة خطوط المواصلات والسكك الحديدية والبرق. ولأنه كان مشغولاً بما تعرضت له إمبراطوريته من خسائر في سابق الأيام نراه وقد إقتنع بأن السبب في هذا يعود إلى دور القوى الأوروبية في إستقلال بعض ممتلكاته سياسياً وإقتصادياً, يؤخذ موقفاً معادياً للغرب عن طريق تقوية مركزه بإعتباره خليفة المسلمين, والعمل على توحيد ثلاثمائة مليون مسلم في أنحاء العالم ضد التدخل الأجنبي. وبطبيعة الحال لقي هذا الإتجاه تأييداً شعبياً من الزعامات الدينية ومن كثير من رعاياه المسلمين, لكنه واجه سخطاً وعدم رضا وخيبة أمل بين المثقفين وعدد كبير من رجال الجيش الذين لم يكونوا يعتقدو أن الحكم الأوتقراطي هو الحال رغم أنهم كانوا يشاركون السلطان إنزعاجه من احوال الإمبراطورية.
كانت هناك ثلاث تصورات أساسية كوسيلة لإنقاذ السلطنة وحمايتها . .أولها فكرة "الجامعة الإسلامية" التي كان عبد الحميد يفضلها وتعني أن دولته التي تستند إلى وحدة المسلمين تفترض بداهة التخلي عن البلاد البلقان المسيحية. والفكرة الثانية تقوم على "الرابطة العثمانية" وقد سبقت مناقشتها وتقوم على العمل على إيجاد مواطنة عثمانية عامة مشتركة, وهي فكرة قد يضيق بها كل من المسلمين والمسيحيين على السواء لأنها تمثل إتجاهاً مضاداً بشكل مباشر للحركات القومية ليس فقط بين المسيحيين ولكن بين العرب أيضاً. وأما الفكرة الثالثة فهي "الرابطة الطورانية" التي تعني توحيد الشعوب التركية بما فيهم أولئك الذي يعيشون في روسيا. وهي فكرة كانت تتشابه إلى حد كبير مع التصورات القومية المعصرة آنذاك وكانت نقطة الضعف فيها تمكن في عدم التكافؤ العسكري بين الإمبراطوريتين العثمانية والروسية.
ومن الملاحظ أن تلك الأفكار الثلاثة وكذا المشكلات الفعلية التي كانت تواجهها الدولة كانت مجالاً للتحليل والمناقشة والجدل في أنحاء السلطنة طوال ثلاثة عقود من الزمان قبل ثورة 1908. وكان النفي والإبعاد إلى الأقاليم البعيدة من الإمبراطورية مصير أولئك الذين كانوا يطالبون علناً بتغيير النظام السياسي وفرنسا وهناك تمكنوا من إصدار مجلات وعقد إجتماعات وكان معظمهم يؤيد الدعوة إلى إعادة دستور 1876 الذي كان السلطان عبد الحميد قد أوقف العمل به. وقد تركز نشاطهم في التأكيد على حق المساواة بين كل راعايا الدولة العثمانية مع المحافظة على وحدة السلطنة في القوت نفسه. وقد نجح هؤلاء في توثيق علاقتهم بالجيش وخاصة الجيش الثالث الذي كاتنت قيادته في تسالونيك بمقدونيا.
وفي هذا الخصوص ينبغي التأكيد على أن ضباط الجيش التريك كانوا عمليين وواقعيين في نظرتهم للأأمور. ولأن تدهور أحوال الإمبارطورية المستمر قد أزعجهم فقد صمموا على العمل على إستعادة قوتها ومكانتها وفي الوقت نفسه ساءهم ما كان يحدث في مقدونيا, وشعروا بمرارة بالغة بسبب عجز الحكومة عن السيطرة على المتمردين البلغار, ورفضوا إشراف ضباط أوروبيين على الحامية العسكرية في مقدوينا تطبيقاً لبرنامج مورشتيج الإصلاحي الذي سبقت الإشارة إليه, فضلاً عن غضب كثير من أولئك العسكريين لعد إنتظام رواتبهم. وعلى هذا وفي عام 1908 إنضم بعضهم إلى الخلايا السرية التي كانت تخطط آنذاك للمستقبل, وكان قائد تلك الخلايا على إتصال بزملائهم الذين يعيشون في المنافي بالخارج. والحقيقة أن تلك العناصر كانت تمثل نسبة مهمة من عضوية جمعية الإتحاد والترقي التي كانت قد تأسست في تسعينيات القرن التاسع عشر وقدرت عضويتها في عام 1908 باكثر من خمسة عشر ألف عضو وتحدد هدفها في إستعادة دستور 1876 والتخلص من السلطان عبد الحميد مع الإبقاء على أسرة السلاطين الحاكمة. غير أن السلطان عبد الحميد عرف أخبار الذين يتآمرون ضده عن طريق جواسيسه لكنه لم يقدر قوة الحركة حق قدرها. وعندما بدأ في التحقق من الأمر إنفجرت ثورات متلاحقة ومتزامنة بين صفوف الجيش الثالث خلال يونية ويولية 1908,وعجزت القوات الموالية للسلطان عن قمع إنتفاضة يقودها ضباط الجيش. وهكذا وفي 23 يوليو 1908 طلبت جمعية الإتحاد والترقي من السلطان إعادة العمل بدستور 1876 وفي اليوم التالي إستسلم لمطلب الجيش الثالث الذي كان يعد أفضل وحداته العسكرية.
ولما كان شعار جمعية الإتحاد والترقي "العدالة والمساواة والأخوة" فقد سارع زعماء التمرد وقد أخذتهم نشوة النصر وإيمانهم بحماية الإمبراطورية, وإلى إضافة هذا الشعار الذي عبر عن أملهم في تحقيق المساواة بين كل من المواطنين إلى مواد الدستور. غير أنهم لم يتمكنوا من عزل السلطان فوراً لأن جنودهم الذين يعتمدون عليهم يعتبرون أن الحاكم هو السلطان-الخليفة رغم رغبة أولئك الزعماء في إقامة حكومة دستورية وعلى هذا بدأت البلاد تستعد لإجراء إنتخابات للجمعية التشريعية.
غير أن الحركة الثورية سرعان ما تلقت ضربة قاصمة خلال يومي 5-6 أكتوبر, ففي حركة بدت بتنسيق ظاهر أعلنت بلغاريا إستقلالها عن الدولةالعثمايننة, وأعلنت النمسا ضم البوسنة والهرسك مما أثار حنق جمعية الإتحاد والترقي (تركيا الفتاة) فقد وصل زعماؤها إلى الحكم بهف إنقاذ الإمبراطورية وحمايتها. لكن في أقل من ثلاثة شهور بعد الإستيلاء على السلطة فقدت السلطنة أقاليم أوروبية مهمة, وهي أزمة شجعت العناصر المحافظة على القيام بثورة مضادة في أبريل 1909. ورغم أن الجيش نجح في سحق تلك الثورة المضادة وعزل كل من السلطان عبد الحميد ومعه شيخ الإسلام الذي يمثل أعلى سلطة دينية في السلطنة, إلا أنه كان واضحاً أن الحكم الجديد سيواجه سلسلة مستمرة من حركات المعارضة. وأكثر من هذا فإن تصرف النمسا وبلغاريا على ذلك النحو أدى إلى نشوب أزمة دولية,وأعاد فتح ملف المسألة الشرقية, وهي إجراءات كان من شأنها تهديد المصالح العثمانية.
أزمة البوسنة ينبغي أن نتذكر أن البوسنة والهرسك بمقتضى معاهدة برلين 1878 بقيت جزء من الإمبراطورية العثمانية رغم إحتلال النمسا لهما. وعلى هذا كان يتعين أن تضم الجمعية التشريعية (مجلس المبعوثان) التي دعت لإنعقادها جمعية الإتحاد والترقي الحاكمة في استانبول نواب من البوسنة والهرسك وكذا من بلغاريا ذات الحكم الذاتي. وكان من الطبيعي ألا تسمح النمسا وبلغاريا بذهاب نواب إلى ذلك الإجتماع ذلك أن أمير بلغاريا (فرديناند) كان قد العزم منذ مدة السيطرة على البوسنة والهرسك مسألة جوهرية تمامامً خاصة بعد صعود بيتر كاراديورفيتش لعرش الصرب وأاقم حكاً موال للروس, ولم تكن السيطرة على البوسنة والهرسك توفر ظهيراً إستارتيجياً عسكرياً لدلماشيا لكن كان من شأنه أن سههم في كبح جماح إنتشار نفوذ الصرب في تلك المناطق فضلاً عن أن أسرة الهابسبورج في النمسا كانت تبدي إهتماماً معيناً بكل المنطقة وأسهمت كثيراً في تقدمها المادي.
على أن إستعدادات النمسا لضم البوسنة والهرسك لم تتم بالتنسيق مع بلغاريا أو مع روسيا, ففي سبتمبر إلتقى وزير خارجية النمسا آلوا فون آهرنثال Alois Von Aehernthal بنظيره الروسي ايزوفولسكي A.P.Isvolsky في بوشلاو Buchlau في مورافيا. ورغم أن وقائع هذا الإجتماع لم تسجل بشكل رسمي مما أثار كثيراً من الجدل حول حقائق الموضوع, إلا أنه يفترض أن روسيا وافقت على رغبة النمسا في موضوع الضم, وفي المقابل وافقت النمسا على مساندة خطة روسيا في تغيير قواعد الملاحة في مضايق البوسفور والدردنيل بما سمح بمرور السفن الحربية للدول المطلة على البحر الأسود. ثم نشأت مشكلة حالت دون الإتفاق وكانت خاصة بالتوقيت فقد كان ايزفولسكي يتوقع ألا تسرع النمسا بضم البوسنة والهرسك حالاً لكنه فوجئ بأمر الضم وكذا إعلان إستقلال بلغاريا من الصحف وهو في طريقه إلى باريس.
وسرعان ما وقعت أزمة دبلوماسية إذ جاء رد الفعل الأكثر عنفاً من الصرب ذلك أن القوميين الصرب كانوا يضعون البوسنة والهرسك ضمن حدود القومية الصربية رغم إحتلال النمسا لهما, وكان الأمل يراودهم بإلحاقهما بالصرب الكبرى طالما بقيتا تحت سيادة الإمبراطورية العثمانية الضعيفة, ولكن ضم النمسا لهما أشعر هؤلاء القوميين بضياعمها إلى الأبد. وعلى هذا دعت بعض صحف الصرب وكذا بعض الزعماء السياسيين إلى تحدي قرارالنمسا ورفضه, وكانهؤلاء يعولون إلى حد ما على مساندة روسيا في هذا الأمر. وظلت الصرب متشددة في مواقفها ومتصلبة طوال خمسة شهور ثم إضطرت إلى الإستسلام أمام موافقة روسيا على عملية الضم وإنذار المانيا بعدم التحرك.
وأخيراً تم تسوية مسألتي ضم البوسنة والهرسك وإستقلال بلغاريا بمقتضى مفاوضات بين الدولة العثمانية وبلغاريا والنمسا. وفي مقابل موافقة الباب العالي على تلك التغييرات تم تعويضه عن خسائره بإعادة سنجق نوفي بازار تحت سيادته الكاملة. والحاصل أن تلك الأزمة أنهت فترة من التعاون كانت قائمة بينالنمسا وروسيا ضد دول البلقان إبتداء من عام 1897 وأدت نتائجها إلى إذلال كل من الصرب وروسيا بفضل تأييد المانيا القوي للنمسا الذي أرغم روسيا على التراجع. ومن هنا عملت روسيا على تغيير هذا الموقف عن طريق تنظيم دول البلقان في جبهة ضد النمسا. ولكن كان على دول البلقان أن تبرهن على رغبتها في المضي في هذا الطريق لكن كل دولة كانت ترغب في أن تسعى لتحقيق أغراضها بشكل مستقل ودون توجيه من روسيا أو غيرها.
حروب البلقان 1912-1913 كانت الرابطة البلقانية التي إستهدفت العمل على طرد العثمانيين من أوروبا قد تكونت بإيعاز من روسيا في البداية, ذلك أنه بعد قيام النمسا بضم البوسنة والهرسك وضعف روسيا في أولويات سياساتها منطقة البقلان مرة أخرى. وعلى هذا وفي هذا وفي أكتوبر 1909 عقدت مع إيطاليا إتفاقية في راكونيجي Raconigi تتعاون الدولتان بمقتضاها في شؤون البلقان. وفي 1911 إحتلت إيطاليا طرابلس الغرب وهي إحدى ولايات الدولة العثمانية ولقد شجعت هزيمة الدولة العثمانية في تلك الحرب أمام إيطاليا وكذا إستمرار القلاقل والإضطرابات في أنحاء دول البلقان في أن ياملوا أن تشهد مقدونيا تقسيماً خلال فترة وجيزة.
وكانت بلغاريا والصرب من أوائل دول البلقان التي شرعت في الدخول في مفاوضات للتنسيق فيما بينها, خلال السنوات من 1904-1907 دخلتا في روابط ثقافية وإقتصادية بل وسياسية أيضاً. وفي الجدل الذي دار بعد أزمة البوسنة كانت لكل منهما أغراضنا تختلف عن الأخرى, فقد كانت بلغاريا ترغب في عقد إتفاق يوجه أساساً وبصفة مباشرة ضد الدولةالعثمانية ويستهدف بصفة رئيسية إقامة حكومة ذاتية في مقدنيا قد تصبح جزءً من بلغاريا فيما بعد طوعاً أو كرهاً. أما الصرب فكانت على العكس ترفض فكرة الحكومة الذاتية في مقدونيا وتطلب عقد إتفاق بتقسيم مقدونيا بينهما. ولما كانت الصرب تعتبر نفسها مهددة بأطماع النمسا فقد سعت لعقد ميثاق يشمل حماية أقاليمها في حالة تعرضها لهجوم من الشمال. وأخيراً تم توقيع تحالف دفاع مشترك بين الدولتين (بلغاريا والصرب) في 13 مارس 1912 يقضي بأن يتخذ إجراء مشتركاً ضد أي دولة تهدد بالإستيلاء على الأراضي العثمانية.
على أن أهم ما في إتفاقية التحالف إن لم يكن جوهره الملحق السري الذي وضع ترتيبات محددة لتقسيم مقدونيا نصت على أن تكون الأراضي إلى الشمال من جبال صار Sar من نصيب الصرب, وتكون من الأراضي شرق نهر ستروما وجبال رودوب من نصيب بلغاريا. وقد ترك هذا التفاهم غالبية أراضي مقدونيا دون تخصيص معين. ولا شك أن الصرب وافقت ضمناً فيما يتعلق بالأراضي غيرالمخصصة, كانت أقصى إدعاءاتها في مقدونيا تمتد بطول خط من كريفا بلانكا Kriva Palanka بالقرب من حدود بلجيكا شمال شرقي مقدونيا ثم إلى الجنوب الغربي لمدينة فيليه Veles ينتهي شمال أوهريد. وحيث أنه تعذر على الحليفتين (الصرب وبلغاريا) الإتفاق بشأن وضعية تلك المنطقة غير المخصصة والواقعة بين جبال صار إلى الشمال وبين خط كريفا بالانكا-فيليه-أوهريد إلى الجنوب فقد إتفقا على أن يقبلا قرار قيصر روسيا في هذا الشأن. وبكلمات أخرى فإن أقصى مطالب الصرب في هذه المنطقة الحصول على حوالي ثلث أراضي مقدونيا التي يسكنها سلاف, وما يتبقى يقسم بين بلغاريا واليونان. وينبغي الإشارة إلى أن مسألة السيطرة على تلك المنطقة تحديداً سوف تمثل خلافاً محورياً بين الصرب وبلغاريا إنتهى إلى قيام حرب البلقان الثانية. ولقد تبع هذا الإتفاق عقد حلف عسكري إتفق بمقتضاه أن تقدم بلغاريا مائتي ألف من قواتها العسكرية وأن تقدم الصرب مائة وخمسون ألفاً أرسل منها مائة ألف إلى فاردار أي إلى جبهة مقدونيا.
أما التفاهم التالي بين دول البلقان ما حدث بين بلغاريا واليونان وكانت العلاقات بينهما لقد تحسنت تدريجياً في السنوات السابقة. وفي 1911-1912 كان هناك تعاون ملحوظ بين إكسارخية بلغاريا والبطريركية اليونانية, وهدأت عمليات الإرهاب والترويع المتبادلة في مقدونيا. وتم تبادل طلابي بين البلدين, وأصبحت الإمبراطورية العثمانية عدوهما المشترك ويلاحظ أن الإتفاقية التي عقدت بين البلدين كانت مجرد حلف دفاعي عكس الإتفاقية بين بلغاريا والصرب التي سبقت الإشارة إليها, ذلك أن بلغاريا لم تتمكن من الحصول على موافقة اليونان بشأن إقامة حكومة ذاتية في مقدونيا, كما كان كل منهما يريد الحصول على تسالوينك. ولهذا ونظراً للتنافس بينهما في الإدعاءات فقد إتفقا على توقيع وثيقة لا تحتوي على كلمة مقدونيا بطريقة أو بأخرى.
أما الإتفاق الأخير بين دول البلقان فكان بين الصرب وبلغاريا من جهة وبين الجبل الأسود من جهة أخرى وكان يهدف إلى إعداد المسرح بدفع الجبلالأسود تلك الدويلة الصغيرة لإختلاق شجار مع الدولةالعثمانية وعلى أثره تقوم دول البلقان الأخرى بهجوم مشترك مرة واحدة على الأقاليم العثمانية في المنطقة.
ومن الملاحظ أن المفاوضات بين الأطراف المعنية بشأ، تلك الإتفاقيات والترتيبات إمتدت على مدى عام, لكن سرعان ما بدا لروسيا أن مصلحتها من قيام الرابطة البلقانية لقطع الطريق على النمسا أصبح هدفاً ثانوياً بالنسبة لدول البلقان فضلاً عن أن المواد المتعلقة بوضعية الأراضي الخاصة بمطلب بلغاريا في أدريانوبل المدينة القريبة من استانبول والمضايق إحتلت إهتماماً حقيقياً لدى حكومة روسيا. وآنذاك لم تكن روسيا في وضع يسمح لها بمواجهة أزمة تفتح الباب لتدخل القوى العظمى منه لتحديد مصير المنطقة. وعلى هذا بدأت روسيا في العمل على تهدئة شعوب البلقان عن طريق إقتراح برنامج إصلاحي جديد بالتعاون مع دولة أوروبية أخرى يفرض على الدوةلالعثمانية. ففي الثامن من أكتوبر 1912 وجهت روسيا والنمسا رغم تناقض مصالحهما تحذيراً لدول البلقان نيابة عن القوى العظمى بأنهما لن تعترفا بأية تعديلات منشأنها تغيير مبدأ المحافظة على تكامل أراضي الدولةالعثمانية. غير أن هذا التحذير جا متأخراً جداً, ففي نفس ذلك اليوم كانت الجبل الأسود قد بدأت في مهماجمة المراكز العثمانية وسرعان ما لحق بها حلفاؤها وفقاً للترتيبات السابقة. وتقدمت العمليات العسكرية بكل سهولة حيث نجح الأسطول اليوناني في منع وصول إمدادات عسكرية للجيش العثماني وهجمت قوات البلقان المتحالفة والمكونة من سبعمائة ألف مقاتل على قوات الدفاع العثمانية المكونة من ثلاثمائة وعشرين ألف مقاتل. وإندفعت قوات بلغاريا مباشرة بإتجاه استانبول حيث وصلت إلى أطرافها وتمكنت بمساعدة قوات صربية من ضرب الحصار على مدينة أدريانوبل, كما وصلت تسالونيك فوجدوا أن القوات اليونانية كانت قد إحتلت تلك الجوهرة في اليوم السابق (أي 8 نوفمبر). وفي تلك الأثناء تقدمت قوات الصرب إلى أبعد من المنطقة التي تم تخصيصها لها في مقدونيا حسب الإتفاق الذي سبقت الإشارة إليه وإستولت على كل من بريلب Prilep, وبيتولا Bitola, وأوهريد, وهي المدن الواقعة جنوب خط كريفا بالانكا-فيليه-أوهريد.
ولم تقتصر الأعمال العدائية على أراضي مقدونيا ذلك أن الصرب من واقع خبرتهما السابقة في حرب الخنازير قررت الإستيلاء على مكان يعطي لها مخرجاً للبحر. وكان ميناء دوريس Durres (دورازو Durazzo) شمال ألبانيا أفضل ميناء يوفر هذا المخرج ورغم أنه يقع في ألبانيا جغرافياً, إلا أن الصرب بررت مطلبها على أسس إستارتيجية وإقتصادية. ولم يقتصر الأمر على هذا الحد بل لقد كانت بقية أراضي البانيا مطمعاً لبقية دول البلقان المتحالفة فقامت قوات الصرب والجبل الأسود بحصار مدينة شكوردر (سكوتاري Scutari) وهاجمت قوات اليونان مدينة يانينا الأمر الذي جعل مصير سكان البانيا محل إنتباه القوى العظمى.
لقد كان معنى نجاح العمليات العسكرية لدول البلقان أن الإمبراطورية العثمانية أوروبا مع مطاع عام 1913 قد تقلصت إلى أربعة مدن واقعة تحت الحصار وهي: استانبول وأرديانوبل في الشرق, وشكودر ويانيا في الغرب. وعند هذا المنعطف تدخت الدول العظمى لإيقاف العمليات العدائية وفرضت معاهدة لندن في مايو 1913 التي قضت بأن يكون خط إينوس-ميديا Enos-Media حد للإمبراطورية العثمانية داخل أوروبا, وإستبعاد أدريانوبل, وتقليص مساحة استانبول بإبقاء ظهير صغير لها, وتخصيص كريت لليونان. وبقيت المشكلة الكبرى في وضعية مقدونيا والبانيا وجزر بحر إيجه. لكن أصبح واضحاً أن القوى العظمى وليس الحلفاء البلقانيين سوف يقررون مصير تلك المناطق بشكل نهائي.
على أن قضية مقدونيا كانت ترتبط بشكل مباشر مع قضية البانيا ولما كانت النمسا وإيطاليا قد قررتا إبعاد الصرب من البحر الإدرياتي فإن إقامة دولة ألبانية مستقلة يخدم هذا الغرض. يضاف إلى هذا أن إيطاليا بدأت تدخل في منافسة مع النمسا وروسيا للحصول على نصيب من مناطق النفوذ في البلقان شأن جاراتها, ومن ثم أصبح من الممكن إنشاء دولة ألبانية بفضل دعم إيطاليا القوي وضمان النمسا. غير أن هذا القرار كان من شأنه التأثير سلباً على التسوية التي سبق أن أقرتها دول البلقان في السابق. وهكذا أدركت الصرب في الشمال واليونان بإدعاءاتها في جنوبي البانيا إحباط خططهما في ضم أراضي البانية وبالتالي طالبت كل منهما بالحصول على تعويض في مكان آخر.
ولما أنكرت القوى العظى على الصرب حقها في مخرج على الإدرياتي بإستيلائها على ميناء دوريس فلم يكن أمامها من بديل إلا الأراضي التي تم تخصصيها لبلغاريا. وبما أن قواتها قد تحملت العبء الأكبر في القتال في مقدونيا نراها تطالب بأن يمتد نصيبها في أراضي مقدونيا وراء خط كريفا بالانكا-فيليه-أوهريد. ولم تكن حجة الصرب في هذا المطلب أن سكان المنطقة التي تطالب بها صربيون أم بلغار خاصة وأن بعض العلماء الصربيين يشيرون إلى هؤلاء السكان بإعتبارهم مقدونيون-سلاف, لكن المسألة تتعلق أكثر بتوازن القوى بين دول البلقان ذلك أن إمتداد نفوذ بلغاريا حتى شواطئ بحر إيجه بالإضافة إلى الأرض المخصصة لها في مقدونيا قد يجعلها القوة المسيطرة الرئيسية أو القوة صاحبة السيادة في البلقان. ومن ناحية أخرى وجدنا أن اليونان التي لم تكن تطيق وجود القوات البلغارية على مسافة أميال قليلة شمال تسالونيك تشارك الصرب في تحليلها للموقف. وعلى هذا رفضت الصرب ترك الأراضي التي إحتلتها في مقدونيا بما فيها الأراضي التي تخرج عن نطاق ما تطالب به هناك على حين أن بلغاريا كانت ترى تطبيق شروط معاهدة التحالف الأصلية.
وفي هاذ الإطار وكما سبقت الإشارة كان سهلاً على حكومتي الصرب واليونان أن يتوصلا إلى إتفاق بشأن الموقف أكثر من إمكانية التوصل إلى تفاهم بين أي منهما وبين بلغاريا فمثلاً كان يمكن وببساطة تقسيم مقدونيا بينهما بحيث تأخذ اليونان جنوبي مقدونيا وتأخذ الصرب الجزء الشمالي. غير أن إمتداد المصالح البلغارية عبر المنطقة إلى البانيا أدى إلى تقطيع أوصال المناطق التي تطالب بها الصرب واليونان. ونظراً لحدوث توتر في العلاقات بين الأطراف المختلفة بين دول البلقان حول شروط الصلح كان من الطبيعي أن تتعاون الصرب واليونان معاً بإعتبارهما أصحاب مصلحة مشتركة ومن ثم عقدا إتفاقية سرية لوضع حدود مشتركة مع مقدونيا إلى الغرب من نهر الفاردار تركت بمقتضاه جزءً شرقياً لبلغاريا, كما تواعدا على أن يساعد كل منهما الآخر في حالة وقوع حرب, وكان بإمكانهما الحصول على تأييد الجبل الأسود وحتى رومانيا التي كانت لها أفكار بشأن وجود دوبروديا في أيدي بلغاريا كما توصلت المناقشات والمباحثات مع الدولة العثمانية.
في تلك الأثناء وصلت القيادات المدنية والعسكرية البلغارية إلى إقتناع مؤداه أن التوصل إلى حل عن طريق القوة قد يكون أمراً ضرورياً. ومن ناحية أخرى كان المشهد الدبلوماسي الدولي غاية في التعقيد . . فروسيا تقترح أن يقوم قيصرها بدور الوساكة للتغلب على الخلافات بين دول البلقان المعنية وبادر بدعوة رؤساء حكومات بلغاريا والصرب واليونان إلى الإجتماع به في سانت بطرسبرج (عاصمة روسيا). ووافقت بلغاريا على الإشتراك بشرط التوصل إلى قرار تحكمي خلا أسبوع واحد كخطوة ضرورية لتهدئة الجيش الذي كان يطالب بالعمل العسكري. وقد فهمت روسيا هذا الشرط على أنه إنذار ومن ثم رفضته, ووقفت إلى جانب الصرب, كما عملت النمسا بالتنسيق مع اليونان ورومانيا على عرقلة نشاط رابطة البلقان. وقد إنتهت تلك المباحثات بعزل بلغاريا وحدها دون حليف من دول البلقان ودون دعم من الدول العظمى على حين توصل خصومها فيما بينهم لإتفاقيات دفاعية مشتركة قوية. وهكذا أصبح من الواضح أن بلغاريا أخفقت في إدراك حقيقة الورطة التي وجدت نفسها فيها.
وعلى هذا وفي ليلة 29-30 يونية 1913 شنت القوات البلغارية هجوماً على الصرب وعلى اليونان ثقة في تفوقها العسكري ومن هنا بدأت حرب البلقان الثانية. وسرعان ما دخلت الدولةالعثمانية والجبل الأسود ورومانيا الحرب ضد بلغاريا التي لم يكن أمامها فرصة لمواجهة التحالف ضدها فبادرت بتوقيع هدنة مسلحة في 31 يوليو.
وفي 10 أغسطس 1913 تم توقيع معاهدة بوخارست لتسوية النزاع حول تقسيم أراضي البانيا ومقدونيا أدت إلى تدمير بلغاريا تدميراً تاماً, إذ تم إعادة أدريانوبل ومعظم شرق تراقيا إلى الدولة العثمانية, وأخذت رومانيا جنوبي دوبروديا, ومدت اليونان حدودها حوالي خمسين ميلاً إلى الشمال من تسالونيك وإلى ما وراء قوله جهة الشرق. وفي الغرب ضمت اليونان إيبروس بما فيها يانينا, وضاعفت الصرب حجمها بالإستيلاء على جزء عظيم من مقدونيا السلافية إشتمل على أراضي لم تكن ضمن دائرة مطالبها سابقاً. وتم تقسيم سنجق فوني بازار بين الصرب والجبل الأسود فأصبحت حدودهما مشتركة. وكوفئت بلغاريا بجزء صغير من شرقي مقدونيا في وادي نهر ستروما لكنها ضمت إلى أراضيها مساحة ثامنين ميلاً بطول ساحل بحر إيجه ضمنها ميناء ديدياجتش Dedeagatvh, كما نصت المعاهدة أيضاً على إيجاد دولة ألبانية مستقلة.
لقد كانت معاهدة بوخارست ذات مغزى عظيم بالنسبة لدول البلقان ذلك أن الحدود التي رسمتها ظلت ثابتة مع بعض التعديلات الطفيفة فضلاً عن أنها كانت تمثل بداية طرد العثمانيين من أوروبا بإستثناء استانبول وجزء صغير من تراقيا. وهكذا إنتهت حروب البلقان بتحقيق الهدف النهائي الذي رسمه معظم زعماء البلقان خلال القرن التاسع عشر, ألا وهو سعي كل حكومة بلقانية لضم أراض تعيش فيها عناصر قومية خاصة بها, وهي أهداف أصبحت ثانوية خلال عامي 1912-1913 أمام إعتبارات أكبر ألا وهي المحافظة على توازن القوى في شبه جزيرة البلقان, والرغبة في ضم أراض أكثر لأسباب إستراتيجية وإقتصادية. ولم تتردد أي منها في المطالبة علناً بضم أراض يسكنها ألبان. وأظهرت كل دولة أن أولوياتها تمكن في تطوير مصالحها الخاصة أكثر من العمل على حماية المبادئ القومةي ككل. وأخيراً إنتهت تلك الفترة من الحروب بظهور ألبانيا آخر دولة بلقانية في الخريطة.
الفصل الرابع عشر إقامة ألبانيا
كانت الحركة القومية الألبانية فريدة في نوعها بالمقارنة مع الحركات القومية التي سبق أن عرضنا لها على الأقل فيما يتعلق بزعمائها قبل عام 1912 الذين لم يكونوا يرغبون في الإنفصال عن الدولة العثمانية, كما لم يكونوا يتطلعون لإقامة دولة مستقلة, بل على العكس كانوا يخشون في حالة سقوط الدولة العثمانية أن يتم توزيع بلادهم بين جيرانهم,ومن هنا كانوا يرون أن التمتع بالحكم الذاتي في إطار الدولة العثمانية خير ضمان للمحافظة على شخصيتهم القومية.
والحقيقة أن موقف الألبان هذا أمكن فهمه عندما بدأت مشكلة الألبان المعقدة محل نظر وإعتبار القوى الدولية. فقد كانوا يمثلون قومية واحدة ويتكلمون لهجات من لغة واحدة,وينقسمون بين مجموعتين رئيسيتين هما: الجيجيون Gegs, والتوشكيون Tosks, وتسود بينهم ثلاثة مذاهب دينية: الإسلام, والأرثوذكسية, والكاثوليكية. وكان الجيجيون وهم أغلبية السكان يعيشون في النصف الشمالي للبلاد وسكان الجبال منهم يعيشون حياة قبلية قوية ومحافظون بطبيعة الحال, وليس لهم إتصال بالخارج إلا قليلاً. أما التوشكيون فكانوا على العكس يتركزون في جنوب البلاد وكانت لديهم فرص كثيرة للإتصال بشعوب أخرى أو الهجرة من البلاد,وكان معظمهم من الفلاحين الذين كان عدداً كبيراً منهم يعمل في زراعة أراضي كبار ملاك الأراضي من الألبان في الغالب الأعم.
وبعد الغزو العثماني لألبانيا إعتنق معظم أهاليها الإسلام وفي عام 1914 بلغت نسبة المسلمين منهم 70% ونسبة الأرثوذكس 20% والكاثوليك 10%. وكان الكاثوليك الذين يعيشون في مناطق السواحل جهة الشمال على صلة بجيرانهم في إيطاليا والنمسا. أما الأرثوذكس الذين يتركزون في الجنوب فكانوا بطبيعة الحال على إتصال وثيق بالبطريركية (اليونانية) وأكثر خضوعاً لتأثير الثقافة اليونانية. وأما المسلمون الأغلبية فكانوا يحظون بالمواقع الوظيفية المهمة في البلاد وكان إعتناق الإسلام في ألبانيا قد أخذ نفس النموذج الذي حدث في البوسنة والهرسك إلى حد ما, فقد قبلته الأرستقراطية الزراعية من كبار ملاك الأراضي الزراعية للمحافظة على مكانتها السياسية والإقتصادية, كما تحول الفلاحون إلى الإسلام. وبينما إنتمى معظم المسلمين الجيجين إلى مذهب السنة المحافظة كان التوشكيون من السنة المتصوفة على الطريقة البكتاشية. وكان أولئك السنة يقفون بقوة إلى جانب المحافظة على التقاليد العثمانية والولاء للسلطان وأقل تأثراً بأفكار الإصلاح السياسي, وكانوا يفضلون إقامة حكم ذاتي قبلي قائم على العادات والأعراف المحلية ويلاحظ أن ثلاثين شخصاً من الذين تولوا منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية كانوا من المسلمين الألبان, وبعض العساكر العثمانية الذين إتصفوا بالشجاعة والإنضباط قد ولدوا في هذا الأقليم. وخلال القرون السابقة كان الألبان بشكل عام يمثلون عنصر القوة في الإمبراطورية.
ولكن بالغرم من ولاء الأبلان للدولة العثمانية إلا أن بلادهم ظلت واحة من أعظم مناطق الدولة تخلفاً, كانت أشبه ببلد على حافة الهاوية يعيش أهله على تربية الماشية وزراعة ما يسد رمقهم بالكاد, وبالتالي كان نظامها السياسي يعكس حالة التنمية فيها, فالشعب يعيش في تجمعات متباعدة تحت زعاماتهم المحلية. وحتى اواخر القرن التاسع عشر كانت البلاد تفتقد الأسس اللازمة لتنمية الشعور القومي-الوطني الذي كان قائماً في الولايات العثمانية الأخرى. ومن ناحية أخرى كان الإتصال بين أجزاء البلاد أمر غاية في الصعوبة فلم يكن فيها حتى عام 1912 سوى مجموعة طرق ممهدة تبلغ 200 كيلومتر, والتدريس بالمدارس يتم باللغة التركية أو اليونانية فيما عدا مؤسسات الكاثوليك في شكودر. وأما الدين الذي كان عامل وحدة قوية في مختلف بلاد البلقان كان في البانيا عامل إنقسام. واللغة التي كانت رابطة مشتركة بين الجميع لم تكن لغة تعليم في المدارس ولم توضع لها أبجدية وبالتالي لم تكن هناك أية مطبوعات أو كتب بالألبانية.
لكل هذه العوامل والإعتبارات لم تظهر حركة قومية البانية حتى عام 1878, وعندما ظهرت في ذلك التاريخ كان ظهورها إلى حد كبير رد فعل للتهديدات الخارجية. وقبل ذلك لم يكن تارخ حركات النضال والمقاومة ضد الحكم العثماني قد أنتج إيدلوجية قومية أو قيادات قومية. والحاصل أن أسلاف أولئك الألبان وهم الإليريون Illyrians القدامى كانوا قد إستقروا في شبه جزيرة البلقان قبل السلافيينز وعلى الرغم من أن محمد علي باشا والي مصر وعلي باشا والي نانينا كانا من الألبان, إلا أنهما كان يعملان من أجل مصالحهما وليس من أجل مصالح بلادهما البانيا.ورغم أنه بعد 1830 حدثت عدة إنتفاضات ضد الحكم العثماني جاء معظمها إحتجاجاً على الضرائب العالية التي فرضت للإنفاق على إصلاح الجيش, أو نتيجة للتغييرات في الإدارة المركزية, إلا أن الألبان في كل الأحوال كانوا راضون بوضعهم الراهن وإدارتهم المحلية للأأمور. وبالجملة كان وضعهم المتميز داخل الإمبراطورية يرجح إمكانات عضوية بلادهم في نظام سياسي كان في طريقه إلى الضعف والتدهور بشكل سريع.
على أن زعماء الألبان أدركوا لأول مرة الخطر الذي يحق بوضع بلادهم عندما أعلنت مواد معاهدة سان سيتفانو في مارس 1878 التي كان من المفترض بمقتضاه أن تضم أجزاء من شرق بلادهم إلى بلغاريا الكبرى, وأن تمنح الجبل الأسود أراض في الشمال يسكنها ألبان بشكل رئيسي. وعلى هذا فأراضي البانيا القومةي تم توزيعها بين دولتين سلافيتين أرثوذكسيتين لم يكن من المتوقع من أي منهما التعامل برفق مع المسلمين الذين كان عليهم إنقاذ أنفسهم من جيرانهم وليس من الحكومة العثمانية, وهذا ما كان على الألبان أن يواجهوه, وأن يتعاملوا معه.
وعلى الفور تم تنظيم الإحتجاجات على المعاهدة, وتشكلت لجان في انحاء البلاد لدراسة الأمر, وأصبح مقر المقاومة مدينة بريزرن في إقليم كوسوفو الذي أصبح جزءً من يوغوسلافيا فيما بعد. وهناك وفي يونية 1878 إجتمعت نخبة من مسلمي شمال البلاد من كبار الملاك الإقطاعيين المحافظين وعدد من النبلاء ومعهم مندوبون من جنوب البلاد وخاصة عبد اللاه الفراشيري Frasheri محرك الروح القومية آنذاك, وأسسوا "رابطة بريزرن" أو العصبة الألبانية وهدفها ببساطة اتلدفاع عن وحدة الأراضي الألبانية وتكاملها. كما تقرر تكوين لجان في مدن أخرى وخاصة في شكودور لمواجهة إجتياح الجبل السود للبلاد. كما إتفق الزعماء الأبلان على إتخاذ خطوتين عمليتين: الأولى العمل على مساندة مبدأ تكامل أراضي الإمبراطورية العثمانية ووحدتها في مؤتمر برلين, والثاني تقديم التماس للسلطان لكي يوافق على توحيد الولايات الأربع: يانينا, وموناستير, وأوسكوب Uskub, وشكودور في وحدة واحدة ومنحها الحكم الذاتي. وبمعى آخر كانوا يرغبون في توحيد السكان الألبان في وحدة إدارية وسياسية واحدة.
والحاصل أن مؤتمر برلين (1878) إنتهى دون المساس بأراضي البانيا ليس بسبب إحتجاجات الألبان وإنما بسبب الصراع بين القوى العظمى. وما حث في المؤتمر كان تقسيم بلغاريا الكبرى حيث عادت الأقسام الألبانية للسيطرة العثمانية مرةأخرى, وأخذت اليونان قسماً صغيراً من مطالبها بما فيها يانينا, وأخذت الجبل السود بعض الأراضي التي كان الألبان يطالبون بها وكانت أقل مما كانت تطمح إليه. على أن الإجراءات التي كان الأبلان يقومون بها آنذاك تجاوزت حدود الكلام والخطاب والبيان وإتخذت في بعض الأماكن شكل المعارك المخيفة الوحشية مما جعل الدول الأوروبية قلقة بشأن وجود هذا الشعب الذي يرغب في وحدته وعدم تقسيمه بين جيرانه.
ورغم تعاون الألبان مع الحكومة العمثانية في مقاومة مطالب كل من بلغاريا واليونان والصرب والجبل السود, إلا أن السلطان رفض توحيد الولايات الأربع (الألبانية) في حكومة ذاتية كما سبق الإشارة. وكانتحقيق هذه الوحة أمر حاسم بالنسبة لمصالح القومية الألبانية وأكثر من هذا فإن المادة 23 من معاهدة برلين فرضت إحداث تغييرات إدارية ف يالإقليم دون تحديد ماهيتها. وعلى هذا ففي نوفمبر 1878 إجتمع زعماء جنوب البانيا في مدينة فراشر Frasher برئاسة عبد الله الفراشيري الذين سبق وأن وافقوا على برنامج توحيد الولايات الأربع,الأمر الذي ترتب عليه موافقة زعماء شمال البانيا على مبدأ التوحيد والحكم الذاتي. لكن قيادتي الشمال والجنوب لم تتفاق على تفاصيل التوقيت المناسب وكيفية التنفيذ, فبينما كان الجناح الرايدكالي في الحركة يرى ضرورة إتخاذ خطوات فورية لتحقيق الحكم الذاتي, كان الجناح المحافظ تحت سيطرة بكوات الإقطاع يفضلون الإعتدال والإقتراب بحذر من إستعدادهم للتعاون مع السلطات العثمانية.
وعند هذا المنعطف بدأت فترة من المناورات بين الجناحين: المحافظ, والريداكالي, ولكن بحلول عام 1880 تمكنت العناصر المطالبة بالوحدة في كل من رابطتي بريزرن وفراشر من السيطرة على الرابطة الألبانية. وكان كبار ملاك الأراضي الزراعية الذين ظلوا على ولاتهم للسلطان-الخليفة العثماني يعارضون تلك العناصر بشدة, وبتشجيع منهم أرسل السلطان في أبريل 1881 قوة عسكرية بقيادة درويش باشا للقضاء على رابطة بريزرن وسحق الحركة المطالبة بالحكم الذاتي. ورغم هذا التدهور الذي حاق بالحركة إلا أن الثلاث سنوات السابقة على موقف السلطان هذا أنتجت إنجازات لها مغزى بالنسبة للحركة القومية, فأولاً بدأ كثير من زعماء الألبان يعترفون بأن الإمبراطورية العثمانية على وشك الإنهيار وأن عليهم التخطيط لمشتقبل بلادهم,وثانياً ثمة خطوات أولية إتخذت بشأن وضع سياسة مشتركة في الشمال والجنوب وسط مناطق لا يوجد بينها إتصالات وثالثاً والأكثر أهمية أن برنامج الرابطة الألبانية نصاً وروحاً قبلته مختلف أجنحة الحركة القومية الذي كانوا مختلف حول كيفية تحقيق الأهداف المشتركة, وهكذا تم إتخاذ الخطوات الصحيحة تجاه إيجاد دولة ألبانيا.
لقد رافقت الحركةالقومية الألبانية شأن الحركات القومية في أي مكان في العالم فترة من اليقظة الثقافية. والحاصل أنه في غياب العقيدة المشتركة بين الألبان داخل المركز الجغرافي بقيت الغة تمثل الرابطة الأساسية بينهم. ومع ذلك لم يكن لهم مستوى لغوي واحد في الكتابة كما لم تكن هناك أبجدية متفق عليها بينهم. وفي منتصف القرن التاسع عشر إجتذبت المنطقة إهتمامات العلماء والباحثين الأجانب أبرزهم الباحث بوب F.Bopp الذي كان أول من أكد أن لغة الألبان تنتمي إلى عائلة اللغة الإندو-أوروبية, وكذلك العالم النمساوي فون هان J.G. Von Hahn الذي يعتبر الأب الروحي "لعلم اللغة الألبانية", وله فضل وضع قواعد نحو وصرف لها وجمع مجموعات من ادبياتها الشعبية. ومع نهاية القرن التاسع عشر أصبح معروفاً "أن الألبانيين ينحدرون من العناصر الإندو-أوروبية التي كانت تقيم قديماً في المنطقة. وقد لعب هذا الميراث دوره في تعزيز الكبرياء القومي بين المثقفين الألبان مثلما حدث بالنسبة لليونانيين الإيطاليين في إستنادهم للحضارة اليونانية والرومانية القديمة. ومن ناحية أخرى شاع بين المثقفين وخاصة بين ألبان إيطاليا دراسة تايرخ ألبانيا ولغتها وأدبياتها الشعبية (الفولكلور).
ثم حظت الحركة الأدبية بين الألبان بمساعدة كبرى بتأسيس "جمعية طبع الكتابات الألبانية" في استانبول عام 1879 وإستهدفت الإتفاق على تحديد مستوى لغوي واحد في الكتابة والقراءة يكون في متناول الجميع ويؤدي إلى نشر الكتب والجرائد والمجلات, وكذا ترجمة أمهات الكتب الأجنبية لتلك اللغة. ولقد نصت اللائحة الأساسية للجمعية في ديباجتها على تلك الروح بالقول "إن كل الأمم المستنيرة أصبحت متحضرة بالكتابة بلغتها الخاصة . . وكل أمة لا تكتب بلغتها, ولا تملك أعملاً بلغتها فإنها تعيش في ظلام وبربرية . . والألبان لا يكتبون بلغتهم وليست لديهم أعمال بلغتهم فإنهم والحال كذلك في حالة ظلام وبربرية.
لقد كان موضوع الإتفاق على مستوى معين في التعبير اللغوي يتضمن بطبيعة الحال إختيار لهجة محلية أو أحد اللهجات المحلية الأكثر شيوعاً بين الناس لتكون أساساً للإختيار. وعلى هذا اخذ الباحثون المحليون والأجانب يتبارون فيما بينهم لتقديم الشكل المناسب للغة مشتركة. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن كل واحد من أولئك الباحثين يفضل اللهجة التي يتكلمها أو الأقرب إليه في التعامل. وبعد كثير من الجدل والمناقشة بينهم تم عقد مؤتمر في بيتولا في نوفمبر 1908 حيث تقرر الأخذ بالأبجدية اللاتينية لكتابة اللهجة الألبانية, وهو القرار الذي واجه معارضة كبيرة وخاصة بين المسلمين في شمال البلاد الذين كانوا لا يزالون يفضلون "حروف لغة القرآن", بل إن جماعة تركيا الفتاة التي كانت تحكم الدولة آنذاك وقفت بشدة ضد إتخاذ الأبجدية اللاتينية. وفي مارس 1910 أعلن الصدر الأعظم "إن الحكومة تعتبر أن الرغبة في الأخذ بالأبجدية اللاتينية من جانب الألبان تمثل الخطوة الأولى للإنفصال عن الدولة العثمانية . . ويجب على الحكومة أن تعمل . . ولسوف تعمل ما في وسعها للحيلولة دون إتخاذ الأبجدية اللاتينية. وعلى هذا ورغم قرار الأخذ بالأبجدية اللاتينية لم يتوصل إلى لغة أدبية مشتركة بين الكتاب آنذاك.
وكان التعليم في بلاد الألبان مشكلة أخرى كبيرة ذلك أن عدداً قليلاً من المدارس الألبانية يتم التدريس فيها بالألبانية. وكما كان الحال في بلاد البقلان الأخرى في مطلع القرن كان التعليم المتاح تعليماً دينياً: إسلامي أو أرثوذكسي أو كاثوليكي. والمدارس الإسلامية التي كانت الحكومة العثمانية تدعمها لم تكن فقط دينية في مقرراتها بل كان التدريس فيها يتم بالتركية, وكان غرضها الأساسي توحيد المسلمين ضد جيرانهم المسيحيين وجعلهم رعايا مخلصون للدولة العثمانية. وأما المدارس الأرثوذكسية فقد كانت لها أغراض أخرى إذ كان التدريس فيها يتم باليونانية ومن ثم كانت وسيلة للسيطرة الثقافية الهللينية. والحاصل أن كلا من الحكومة العثمانية والبطريركية الأرثوذكسية-اليونانية باستانبول كانتا تعارضان إقامة مدارس مدنية غير دينية في بلاد الألبان, إذ كانت السلطات ترى أن إنشاء هذا النوع من المدارس سوف يصبح أساساً للمطالبة في المستقبل بالإستقلال أو بالحكم الذاتي على الأقل. وأما البطريرك فكان يخشى أن تكون هذه المدارس مقدمة للمطالبة بإيجاد كنيسة أرثوذكسية البانية مستقلة وخاصة بعد تجربته المريرة مع إكسارخية بلغاريا.
وأما المدارس الكاثوليكية الألبانية فكان التدريس فيها يتم باللهجة المحلية على العكس من المدارس الإسلامية والأرثوذكسية. والحقيقة أن النمسا كانت تتمتع ببعض ميزات معينة في أنحاء الدولة العثمانية كان أحدها الإبقاء على المدارس والكنائس الكاثوليكية حي ثتوجد والمحافظة عليها. وقد قام الفرنسيسكان والجزويت بدورهم في تطوير وتنمية تلك المؤسسات, كما كان للإيطاليين الكاثوليك في الدوةل العثمانية مؤسساتهم الخاصة بهم. ومن ناحية أخرى كان للمدارس الإيطالية والنمساوية أهدافاً سياسية ودينية على السواء في أنحاء الدولة العثمانية حيث كانت تجعل من التعليم سلاحاً لفرض شخصيتهما القومية ومواجهة التأثيرات السلافية.
وبناء على تلك الأوضاع أصبحت الحاجة ماسة لإنشاء مدارس مدنية تحت رقابة ألبانية. وفي الحقيقة كانت ثمة مدارس من هذا النوع قد أقيمت بشكل سري في جهات ما في تحد سافر لرفض السلطات العثمانية والأرثوذكسية, ثم أقيم بعضها بعد أن نجح بعض أصحاب النفوذ من الألبان في الحصول على موافقة المسئولين العثمانيين في الوحدات امحلية. وهكذا إفتتحت أول مدرسة للبنين في كورشيه Korce (كوريتسا Koritsa) عام 1885 تبعتها مدرسة للبنات في 1891 لكن سرعان ما أغلقت هذه المدارس جميعاً بأوامر من الحكومة العثمانية وأصبح الموقف صعباً في ضوء إستمرار معارضة السلطات والحكومية والدينية (البطريركية) لإقامة مثل هذه المدارس. فقد قررت الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية "الحرمان من رحمتها" للتلاميذ الذين يلتحقون بتلك المدارس الجديدة. وتشددت الحكومة العثمانية أكثر وأكثر في فرض القيود على "التعليم الألباني" , ففي 1902 وعلى سبيل المثال منعت حيازة الكتب المكتوبة بالألبانية, ومنعت إستخدامها في المراسلات وظل الموقف هكذا دون تحسن حتى قيام ثورة الإتحاد والترقي (يولية 1908) التي وافقت أولاً على تعليم "اللغة الألبانية" في المدارس الإبتدائية والثانوية, وعلى إفتتاح مدارس ومؤسسات أخرى ثانياً.
ومن الملاحظ أن ذلك النشاط التعليمي الذي أشرنا إليه يلقى تشجيعاً وتحمساً من الألبان الذين كانوا يعيشون في كل من إيطاليا ومصر واستانبول ورومانيا وبلغاريا والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من إختلاف كل مجموعة ألبانية عن غيرها في تلك البلاد من حيث الخطط الإستراتيجية والأهداف, إلا أن رغبتهم جميعاً كانت واحدة في تشجيع تنمية الشعور القومي الألباني وتقويته. وفي هذا الإطار قام الألبان في كل تلك البلاد بغصدار كتب وصحف ومجلات, وحملوا قضيتهم القومية إلى الخارج, ونجحوا في حشد بعض قطاعات مؤثرة من الرأي العام الأوروبي بجانبهم.
ورغم هيمنة الأنشطة الثقافية التي كان الألبان بها هنا وهناك وخاصة بعد تصفية الرابطة الألبانية في 1881, إلا أنها لك تكن كافية لتحقيق القومية الألبانية لكن الذي جعل شرارة القومية تزداد إشتعالاً في السنوات التالية أحداث ثورة كريت في 1897 عندما إستخدمت السلطات العثمانية قوات ألبانية لقمعها, فعند نهاية معارك الثورة إنتهزت القوات الألبانية الفرصة وقد إمتلكت السلاح الذي منحتهم إياه الحكومة العثمانية, وأعلنت عن مطالبها السياسية ورفضت تسليم السلاح . . وهكذا وقعت الفوضى والإضطرابات.
وفي تلك الأثناء كانت مشكلة مقدونيا تمثل الصعوبة الأكبر أمام السلطات العثمانية, ذلك أن بلغاريا واليونان والصرب تجاهلت كثيراً كما سبقت الإشارة وجود أغلبية ألبانية وتركية في أنحاء مقدونيا كانت لها مصالح مشتركة في مقاومة دويلات البلقان المسيحية وهو الأمر الذي عمل الباب العالي على إستغلاله. ولكن ورغم دعم السلطات العثمانية للألبان في هذا الشأن, إلا أن زعماؤهم وقفوا عند حدود مصالحهم الخاصة ولم يتعاونوا مع الدولة العثمانية. وعلى هذا وفي ظل الفوضى التي سادت المنطقة قبيل ثورة "الإتحاد والترقي" بنحو عشر سنوات كان يبدو للمراقب أن الألبان يحاربون أحياناً من أجل مصالح الدولة العثمانية, لكن عندما تصبح الظروف مواتية لهم كانوا يتصارعون مع الدولة من أجل توسيع نطاق حكمهم الذاتي, ولم يقفوا مع القوميين المسيحيين في جبهة واحدة ضد الدولة العثمانية.
لقد كان نجاح ثورة الإتحاد والترقي (يوليو 1908) باعثاً للأمال الكبرى بين القوميين الألبان ذلك أن كثيراً منهم كان له نصيب في تنظيم الثورة بما فيهم إسماعيل كمال, وكانتت بيتولا أحد المراكز الرئيسية للثورة. وكان برنامج الإتحاد والترقي محل ترحيب شديد بين الألبان بطبيعة الحال لأنه يركز على إعادة العمل بدستور 1876, واللامركزية, وحقوق غير الأتراك في البلاد, وإفتتاح مدارس ألبانية. وعلى هذا الأساس تكونت الجمعيات والروابط القومية, وتم إنتخاب 26 ألبانيا في البرلمان التركي الجديد, ولم تحدث معرضة حقيقية للنظام الجديد في تركيا إلا من كوسوفو في الشمال حيث ظل البكوات المحافظين على ولائهم السلطان يدافعون عن الحقوق والإمتيازات التي يتمتعون بها في البلاد عبر التاريخ. ولكن بعد أن فقدت تركيا بلغاريا والبوسنة والهرسك إنقلب الحكم الجديد على البرنامج الذي أعلنته جماعة الإتحاد والترقي وأخذ يعمل على فرض إدارة تركية تورانية مركيزة, فتم إغلاق المدارس الألبانية الطابع, ومنعت الروابط القومية, وتم حظر إصدار الصحف, بل عملت الحكومة على إشاعة إنطباع لدى الرأي العام الخارجي بأن الشعب الألباني لا يريد الحكم الذاتي.
وبناء على هذا التحول في سياسة حكومة الإتحاد والترقي وقف القوميون الألبان والعناصر المحافظة في الشمال (كوسوفو) ضد تلك السياسات الجديدة. وكانت كوسوفو مركز المقاومة الرئيسي حيث نظم السكان أنفسهم لحماية حقوقهم التقليدية, وعارضوا دفع الضرائب المقررة وإجراءات التجنيد الإجباري. وعلى هذا وفي مارس 1910 دفع الباب العالي بقوة عسكرية لكوسوفو. ولعل أوضح علامات المرارة التي نمت بين الألبان فرار حوالي عشرة آلاف ألباني إلى الجبل الأسود المسيحي السلافي. وهكذا وبينما كان القتال يجري بضراوة في الشمال (كوسوفو) كانت المقاومة تحدث في الجنوب, وظل الألبان متمسكون بهدفهم في تحقيق الحكم الذاتي في إطار الدولة العثمانية. ولما أدركت حكومة الإتحاد والترقي إستحالة قمع حركة الألبان بالقوة غيرت موقفها . . ففي مارس 1911 تقرر إعادة فتح المدارس الألبانية, والموافقة على إتخاذ الأبجدية اللاتينية أساساً لكتابة اللغة الألبانية ولكن الحكومة أصرت في الوقت نفسه على بقاء تحفيظ القرآن بالحروف العربية وفقاً لما سبق تقريره في عام 1869. وهكذا وبعد ثلاثة عقود من الجهود المتواصلة أصبح للألبان مدارسهم الخاصة, وأصبح لهم الحق في إستخدام لغتهم في التعليم والكتابة. ولكن على الرغم من أن أهالي الشمال وأهالي الجنوب قد عملوا سوياً ضد الحكومة العثمانية-التركية لبلوغ أهداف معينة, إلأ أنهم لم يتفقوا على إتخاذ سياسة قومية مشتركة أو إختيار زعامة مشتركة مقبولة من الجميع.
ثم جاء القرار الأخير بشأن المسألة الألبانية كنتيجة لحالة الحرب الطويلة التي بدأت الدولة التركية تواجهها عام 1911, ففي سبتمبر من ذلك العام بدأت الحرب مع إيطاليا في طرابلس الغرب (ليبيا), ودخلت دويلات البلقان في مفاوضات مشتركة لتكوين "عصبة البلقان". ولكي تدعم الحكومة التركية الجديدة وضعها في الداخل ولمواجهة التهديدات الخاصة بشكل أفضل بادرت بغجراءات إنتخابات جديدة للبرلمان إنتهت بحصول أنصارها على 215 مقعداً من أصل 222 مقعداً. وهذه الأغلبية التي حصلت عليها الحكومة كانت نتاجاً لعملية التخويف والإرهاب والوزير التي مارستها مما عجل بالوقيعة والإنقسام بين جماعة الإتحاد والترقي وأعوانهم من الألبان, حتى لقد أصبحت ألبانيا جميعها في أغسطس 1912 في ثورة مفتوحة ضد السلطات التركية. ورغم نجاح الألبان في إحراز مكاسب عسكرية سريعة إلا أن زعماءهم ظلوا منقسمون بشأن الأهداف النهائية للثورة. فبينما كان بعضهم يفضل العمل على إرجاع السطان عبد الحميد الثاني وإستعادة نظاك الحكم السابق على ثورة الإتحاد ووالترقي, كان البعض الآخر يرغب في تفعيل نصوص دستور 1876. وواصلت الأغلبية متابعة طريقها نحو تحقيق هدف الحكم الذاتي المراوغ الذي يشتمل على وضع شروط محددة لوحدة الولايات الأربع, وإيجاد إدارات قومية منفصلة, ومراقبة الضرائب المحلية والنفقات, وجعل اللغة الألبانية لغة رسمية, وحق حمل السلاح للجميع. وفي سبتمبر 1912 وافقت الحكومة التركية على المطالب الأساسية من حيث المبدأ ولكن وقبل أن تصدر القرارات التنفيذية لتلك المطالب إندلعت الحرب البلقانية الأولى في أكتوبر. وعند ذاك أدركت كل الفرق الألبانية التنمافسة والمتناحرة أن هدف إنقاذ بلادهم أصبح محل خطر كبير, بل إن بلادهم قد تخضع للتقسيم بين جيرانهم من السلافيين واليونانيين.
في البداية كان الزعماء الألبان يتمسكون بالهدف القديم ألا وهو إقام حكومة ذاتية في إطار الدولة العثمانية, ولكن عندما أحرزت دويلات البلقان إنتصارات أولية في المعارك ضد الأتراك, وبدا أن الدولة قد تفقد كل ولاياتها التابعة في البلقان, تحول زعماء الألبان إلى المطالبة بالإستقلال التام وإنضموا إلى هؤلاء الذين ينادون بالإنفصال عن الدولة العثمانية بعد أن كانوا يدافعون عنها. وعلى هذا وفي 28 نوفمبر 1912 إنعقدت جكعية قومية من 83 مسلماً ومسيحياً في مدينة فلور Vlore (فالونا Valona) وأعلنوا إستقلال ألبانيا, وإنتخبوا إسماعيل كمال رئيساً, ويتم تعيين مجلس وزراء من مسلمين ومسيحيين. ولكن تلك الخطوة لم تكن مجدية أمام تهديد بلغاريا واليونان والصرب والجبل الأسود الذين كانوا يطمعون في إقتسام أراضي ألبانيا, وأيضاً أمام العجز عن الحصول على تأييد بعض القوى الكبرى.
وفي الواقع الأمر كانت إيطاليا والنمسا تطمعان في ضم أجزاء من ألبانيا, وإيقاف توسع جيرانها السلاف فيها. فإذا تمكنت إيطاليا من ضم ألبانيا يصبح مجرى نهر أوترانتو Otranto الذي يبلغ عرضه خمسون ميلاً في أراضيها, ويصبح البحر الإدرياتي بحراً إيطاليا صرفا. أما إذا حدث العكس وفرضت النمسا نفوذها بطريقة أو بأخرى فإنها تضمن ممراً بحرياً آمناً لأسطولها في مضايق البوسفور والدرنيل. وعلى هذا ونظراً لإدراك كل من إيطاليا والنمسا لأهمية ألبانيا شرعتا بعد مؤتمر برلين (1878) في العمل من أجل فرض السيادة عليها. وتحقيقاً لهذا الغرض عملت إيطاليا على إستخدام الجالية الألبانية الضخمة التي تعيش على أراضيها, لكن توظيف هذا العامل كان يضعفه أن أغلب هذه الجالية كانوا من الكاثوليك أو من أنصار مذهب الطبيعة الواحدة Uniate وبالتالي لم يكونوا محل ثقة تامة من المسلمين والأرثوذكس. أما النمسا فقد إتجهت أكثر لجذب المثقفين الألبان إلى جانبها, وكانت قادرة على إكتساب تعاطف بعض المسلمين رغم روابطها مع الكنيسة الكاثوليكية حتى لقد طالب بعض صفوة الألبان عقب إندلاع حرب البلقان الأولى بقليل بوضع بلادهم تحت حماية النمسا في حالة إنهيار الدولة العثمانية. ومن ناحية أخرى تسارعت إيطاليا والنمسا لكسب ود الألباننن بالعمل على فتح المدارس والمستشفيات والملاجئ, وإجتهد العلماء في كل من الدولتين بدراسة الشؤون الألبانية, وبتثقيف عامة الناس بالهمية الإستراتيجية لمنطقة ألبانيا.
أما القضايا الرئيسية في المنطقة التي كانت محل تسوية بعد إنتهاء حروب البلقان فقد سبقت الإشارة إليها, وكانت تتلخص كما رأينا في أن الصرب تسعى للحصول على ميناء على البحر الإدرياتي لكي تتلخص من سيطرة النمسا على إقتصادياتها, وكان ميناء دوريس في شمال البانيا يحقق هذا الغرض, وإذا ما فقدت ألبانيا هذه المدينة وما جاورها فإن دولة ألبانيا التي قد تنشأ في المستقبل ستكون عاجزة وتواجه أزمات طاحنة. ولهذا فإن عزمت النمسا على إبقاء الصرب دولة داخلية برية لا منفذ لها على البحر, ووقفت ضد محاولة الجبل ألأسود الإستيلاء على مدينة شكودر وأراضي ألبانية أخرى. وأما إيطاليا فقد كانت راغبة في كبح جماح توسع الدول السلافية فضلاً عن أنها كانت معنية بخطط اليونان تجاه جنوبي ألبانيا, وتعرض ميناء فلور وجزيرة سازينو Saseno للتهديد وهما على الضفة الشرقية لمضيق أوترانتو. لكل تلك الإعتبارات وقفت إيطاليا والنمسا في جبهة واحدة صلبة ضد رغبة دول البلقان في إيجاد دولة ألبانية مستقلة وفق حدود عرقية معينة.
والحقيقة أ، روسيا كانت الدولة الوحيدة بين القوى بن القوى الكبرى التي أبدت إهتماماً جاداً بالمسألة الألبانية فقد كانت متعاطفة مع مطالب الدول السلافية في البلقان وخاصة رغبة الصرب في الحصول على ميناء على الإدرياتي, وكانت فرنسا تساندها في مواقفها بشكل عام, على حين أخذت إنجلترا والماناي موقفاً حيدياً. وفي أثناء مؤتمر السفراء في لندن الذي حسم المسألة سادت وجهة نظر إيطاليا والنمسا في الموضوع, ومن ثم إتفقت الدول الكبرى في ديسمبر 1912 على الإعتراف بقيام دولة ألبانية . . وبهذا أعلنت آخر دولة بلقانية في 1913.
وكانت الخطوة الأخيرة من جانب الدول الكبرى العمل على رسم حدود الدولة الجديدة مثلما حدث في باقي دول البلقان, وتقرير شكل حكومتها, وإختيار حاكمها. والحقيقة أ، موضوع الحدود كان مسألة معقدة, فالزعماء الألبان يتطلعون إلى أن تكون الحدود على أسس عرقية, وقد ساندتهم في هذا إيطاليا والنمسا. وأما روسيا فكانت على العكس تريد أن تمنح الصرب والجبل الأسود بعض الأراضي التي تطالبان بها رغم وجود ألبان يعيشون فيها. وأما الصرب فقد ظلت متمسكة بالحصول على مخرج على البحر الأدرياتي, والجبل الأسود كانت ترغب في الحصول على مدينة شكودر. ولقد كانت المفاوضات في هذه الموضوعات دقيقة وطويلة حيث تناولت موضوع وجود قوات من الصرب والجبل الأسود في المناطق محل التفاوض, ولم تنسحب هذه القوات إلا بعد أن هددت النمسا بالحرب. وفي المقابل وافقت النمسا مكرهة على التخلي للدول السلافية عن مدن بيش Pec (Ipek), وبريزرن, ودياكوفيكا Djakovica (Gjakove), وديبار Debar (Diber). وبهذا تم إخراج عدد كبير من الألبان من ديارهم القومية.
وبينما رسمت الحدود الشمالية والشرقية لألبانيا على حساب مصالحها القومية فإن حدودها الجنوبية مع اليونان كانت عادلة, فقد كانت اليونان ضم جنوبي ألبانيا (المعروفة في المصطلح اليوناني بشمال إيروس), وضاحيتي جياروكاستر Gjirokaster (أرجروكاسترو Arggrokastro), وكورشيه Korce وتبلغ مساحتها 2800 ميلاً مربعاً تضم خليط من المسلمين والأرثوذكس. ولما كانت الدول الكبرى قد قررت أن ترسم الحدود وفق الأساس القومي فإن اللجنة المسئولة عن رسم الحدود خصصت معظم الأراضي محل النزاع لألبانيا الأمر الذي أدى إلى ترك حوالي 35 ألف يوناني يعيشون تحت حكم أجنبي ومثلهم من الألبان يعيشون تحت حكم اليونان. ورغم عدم رضا كل من اليونان والصرب والجبل الأسود لم عن تلك التسوية النهائية للحدود, إلا أن الحدود التي رسمت في 1913 ظلت دون تغيير جوهري.
أما المشكلة التالية وهي مشكلة تكوين حكومة ألبانية فلم تكن محل جدل دولي أي بين القوى العظمى, فقد رأس إسماعيل كمال حكومة مؤقتة تم تشكيلها في نوفمبر 1912 لمدة عام لم يمر دون صراع ومعارضة من الزعماء السياسيين المتنافسين كان في مقدمتهم وكثرهم أهمية إسعد باشا التوبتاني Toptani وهو أحد أفراد عائلة كبيرة في تيرانا Tirana لها مكانتها, إذ تحدى ومعه أتباعه الحكومة الجديدة المؤقتة. كما قاومها الألبان المنشقون في جنوبي كورشيه بدعم من اليونان, فضلاً عن أن أمراء الإقطاع في أنحاء البلاد لم يكونوا على إستعداد للتنازل عن حقوقهم وإمتيازتهم القديمة لأي حكومة سواء أكانت عثمانية أو ألبانية. وكان من شأن هذه المواقف أن تجعل إقامة إدارة قانونية نظامية أمراً مستحيلاً. وأمام هذا قامت الدول الكبرى في أكتوبر 1913 بتعيين هيئة مراقبة دولية لإدارة شؤون البلاد وإستقال إسماعيل كمال من رئاسة الحكومة المؤقتة في يناير 1914.
وفي أبريل 1914 إنتهت الهيئة الدولية التي إنضم إليها أحد الألبان من وضع مشروع دستور تقرر بمقتضاه أن تكون ألبانيا إمارة ذات سيادة تضمن الدول الكبرى حيادها, ويتألف المجلس التشريعي فيها بواقع ثلاثة نواب من كل سبع أقسام إدارية بالإنتخاب العام, ويقوم الأمير الحاكم بتعيين عشرة نواب بمعرفته بالإضافة إلى رؤساء طوائف المسلمين والأرثوذكس والكاثوليك ومدير البنك الأهلي بحكم وظائفهم, وأنتكون مدة الدورة البرلمانية أربع سنوات وللأمير حق تعيين مجلس لوزراء الذي يكون مسئولاً أمامه. وهكذا حددت الدول الكبرى مرة أخرى شكل الحكم والحكومة لدولة بلقانية جديدة.
وعند إختيار الأمير الذي سوف يحكم إمارة ألبانيا إتجهت القوى العظمى إلى المانيا كما حدث من قبل في حالة اليونان ورومانيا وبلغاريا. وعلى هذا وفي مارس 1914 قدم إلى ألبانيا ويليام الفيدي Wiliam of Wied وكان كابتن في الجيش الألماني في الخامسة والثلاثين من العمر وإبن عم اليزابيث ملكة رومانيا. وبعد ذلك بنحو ستة أشهر وبعد إندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل غادر الإمارة ولم يعد. وسرعان ما تبين أن الصعوبات التي تواجه جكم الإمارة الجديدة لا يمكن تذليلها, فقد كان تذليلها, فقد كان الأمير يفتقد الخبرات الإدارية اللازمة وأثبت ضعفه ف يقيادة الأمور. وبصرف النظر عن ضعفه ونقص خبراته فالحقيقة أ، مشكلات ألبانيا قبيل الحرب كانت أكبر من أن يتعامل معها أي حاكم حتى ولو كان موهوباً, فضلاً عن أن الرجل كان يعاني كثيراً من النظر إليه بغعتباره ألعوبة في يد النمسا وخاصة من جانب إيطاليا التي تآمرت ضده علناً وبدعم من بعض الألبان الذين كانوا يرون أنفسهم أحق بعرش البلاد. كما تبين أيضاً ضعف مجلس الوزراء في إدارة شؤون البلاد, فقد كان يرأسه أسعد التوبتاني المتنافس الطموح وكان يتولى في الوقت نفسه وزراتي الداخلية والدفاع وهما وزرتان لهما أهميتهما الإستراتيجية. وبدلاً من أ، تهدأ عواطفه وطموحاته بهذه المناصب نجد أن صلاحياته الوزراية أعطته الفرصة لكي يتآمر ضد الأمير حيث أخذ يرعى خصومه في طول البلاد وعرضها. وكان الأمير من ناحية أخرى قد ضم لحكومته مندوبين عن طبقة الإقطاعيين الأمر الذي ترتب عليه إبعاد صغار المثقفين عن دائرة الحكم رغم أنهم هم الذين تولوا حركة الدعوة إلى الحكم الذاتي لألبانيا ثم الدعوة إلى إستقلالها التام. وفي شمال البلاد تجدد الصراع التقليدي بين المسلمين والكاثوليك . . ولو أن الأمير وليام كان قد تمتع بسنوات من الهدوء والسلام لكان بإمكانه التغلب على تلك المشكلات ولكن الذي حدث أن الظروف لم تكن مواتية وكان يتعين إنتظار إنتهاء الحرب العالمية الأولى لكي تأسس في ألبانيا حكومة مستقرة وحدود نهائية معترف بها.
على كل حال . . فرغم إنهيار أول حكومة ألبانية شهدت البلاد خلال السنوات الستة والثلاثين بعد مؤتمر برلين 1878 تغييرات كثيرة. فقد كان تاريخ ألبانيا عبارة عن إنقسام بين ولاءات إقليمية,وتطاحن بين عقائد دينية مختلفة, وتناحر بين مجموعات بيم مجموعات سياسية متنافسة. ثم توارت هذه الخصومات جانباً أمام خطر التقسيم الذي كان يهدد البلاد. وخلال تلك الفترة توارت أيضاً المصالح المحلية التي كانت تفرض نفسها على الجميع طوال عدة قرون لحساب إعتبارات أكبر أحاطت بكل الألبان. وقد دعت ضرورة التعاون للدفاع عن البلاد كل الألبان من مختلف الجهات لكي يعرف بعضهم بعضاً. وجاءت قيادة الحركة القومية من كل إقليم قوامها مجموعات إجتماعية وإقتصادية مختلفة ومن كل أصحاب المذاهب الدينية الثلاثة (مسلمون وكاثوليك وأرثوذكس). ورغم أشياء كثيرة كانت تنقص الحركة القومية إلا أن جهود الألبان إنتهت بتأسيس دولة مستقلة ووضعت أساس التطورات التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى.
الفصل الخامس عشر قوميات البلقان
في إمبراطورية النمسا والمجر مع اليقظة القومية في أنحاء الإمبارطورية العثمانية وتنامي الفكرة القومية بقوة في شرقي أوروبا, كان من الطبيعي أن تطفو على السطح مشكلة مصير النمسا وهي إمبراطورية متعددة القوميات. ففي مطلع القرن التاسع عشر كانت تلك الإمبراطورية تحت حكم أسرة الهاسبورج عبارة عن تجمع من عدة أقاليم يختلف كل منها عن الآخر في المساحة وعدد السكان والتقاليد والثقافة والإقتصاد واللغة. وكانت هذه الأسرة قد ضمت تلك البلاد على مدى سنوات طوال بطريقة أو بأخرى مثل الميراث أو المصاهرة أو الدبلوماسية أو بالحرب. وتقلبت حدودها وتذبذبت من قرن لآخر حتى لقد شملت في فترة ما لإمبراطورية أسبانيا العظمى في العالم الجديد (أمريكا الجنوبية). ولقد كانت الأسرة نفسها رمز وحدة الإمبراطورية, وكان مركزها قد أصبح قوياً بلا منازع من خلال الحروب الكبيرة التي دخلتها ضد العثمانيين خلال القرون 16-18 حيث كانت الأسرة تمثل المركز الأمامي في خط الدفاع عن المسيحيين ضد الأتراك. وقبل القرن الثامن عشر كان وزن الحكومة المركزية والبلاط الملكي يقع في الأطراف البعيدة مع فترات إستثناية قليلة. وكانت الأسرة تهتم بالجيش وبالسياسة الخارجية تاركة مجتمع الريف لسيطرة النبلاء. وفي القرن الثامن عشر وأثناء حكم ماريا تريزا وجوزيف الثاني حدثت محاولة لوضع نظام إداري واحد في البلاد, بحيث تكون الألمانية لفة الحكومة, ولكنها واجهت مقاومة شديدة كتلك التي واجهت الولة العثمانية حين فكرت في فرض بعض الإصلاحات في الدولة.
وفي القرن التاسع عشر كان يعيش بين ظهراني الإمبراطورية النمساوية أحد عشر قومية كل منا تختلف عن الأخرى إختلافاً كبيراً في النفوذ والتقاليد. والذين كانت لغتهم هي لغة السياسة والأدب في الحكومة والمجتمع وطالما أمدوا الجهاز الحكومي والجيش بالعناصر اللازمة على مدى التاريخ. ويليهم المجريون الذين كانوا يتمتعون بالكبرياء القومي والوعي بذاتيتهم وكانوا قادرين دوماً على المحافظة على سيطرتهم على أقاليمهم الخاصة تاريخياً والتي كانت تعرف بأراضي تاج القديس ستيفن وتضم عدداً كبيراً من الرومانيين والسلوفاك وسلاف الجنوب. ويلي الجرمان والمجريون في المكانة والنفوذ كل من التشيك, والبولنديين, والكروات, والإيطاليين ولكل منهم أهمية معينة داخل الإمبراطورية. وفي قاع السلم الإجتماعي يأتي السلوفاك والصربيين والسلوفينيين والرومانيين والروثينيين Ruthenians. ويلاحظ أن التراتب القومي لكل شعب من تلك الشعوب إنعكس على وضعه الإجتماعي, فبينما كان الكروات يمثلون في السلم الإجتماعي طبقة وسطى وأخرى ارستوقراطية, كان الصربيون والرومانيون والسلوفينيون فلاحين في عمومهم.
ومن بين شضعوب إمبراطورية النمسا الذين كانوا أكثر تأثراً بما يجري في الإمبراطورية العثمانية أولئك الذين كانت تربطهم ببعض روابط عرقية وهم كل من الرومانيين وسلاف الجنوب الصربيين والكرواتيين. فالرومانيين يعيشون في ترانسلفانيا بشكل أساسي لكن لهم وجود في بوكوفينا وبانات. ولغتهم وقوميتهم تتطابق مع سكان ولاشيا ومولدافيا. وأما سلاف الجنوب فكان موقفهم أكثر تعقيداً فالسلوفينيون يعيشون أساساً في كارنيولا Carniola, وستيريا Styria وهم كاثوليك وفلاحون ويتكلمون لغة اللساف الغربيين غير المفهومة لمعظم الصربيين والكروات. وأما الكرات فكانوا يعيشون أساساً في دلماشيا وكرواتيا وسلافونيا Slavonia والبوسنة والهرسك التي إحتلتها النمسا 1878 وهم كاثوليك ويتكلمون اللغة التي يتكلمها الصرب ولكن بحروف لاتينية. ودلماشيا عبارة عن أرض تابعة للبندقية إستولت عليها النمسا في 1797 وسكانها من الفلاحين الكروات أساساً لكن المدن كانت تضم عدداً كبيراً من الإيطاليين من الطبقة الوسطى. وفي كل من كرواتيا وسلافونيا كروات نبلاء وطبقة وسطى وفلاحون. وأما الصرب الإمبراطورية فكانوا يتركزون أساساً في فويفودينا على حدود كرواتيا وفي البوسنة والهرسك, وهم أرثوذكس شأن أقرانهم في بلاد الصرب ويستخدمون الأبجدية السيريلية Cyrillic في الكتابة (السيريلية أبجدية أخترعها القديس سيريل ولا تزال أشكالها الحديثة تستعمل في الصرب وبلغاريا والإتحاد السوفييتي سابقاً – المترجم).
ولقد ظلت سلوفيينا Slovenia ودلماشيا وبوكوفينا على علاقات وثيقة مع أسرة الهاسبورج والحكومة النمساوية. وبصرف النظر عن الجدل السياسي القومي الذي كان قائماً في القرن التاسع عشر في الدولة, إلا أن مراكز الحركات القومية المحلية كانت توجد في ترانسلفانيا وكرواتيا-سلافونيا, وهي مناطق كانت ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمجر خلال العصور الحديثة, وكانت ضمن أراضي تاج القديس ستيفن, ولم يكن يدور بين صفوة أهلها منازعات سياسية حادة حول العلاقة مع أسرة الهاسبورج وحكومة النمسا كتلك التي كانت تحدث بين صفوة المجر. ومثلما كان يحدث في إمارات البلقان عندما كان اللساف والرومانيون يعملون على التخلص أولاً من الثقافة اليونانية وهيمنة اليونانيين السياسية في إمبراطورية النمسا كان الصراع خلال الفترة محل دراسة ضد المجر التي كانت تعمل على فرض القومية المجرية على ترانسلفانيا وكرواتيا-سلافونيا. فإذا علمنا أن زعماء المجر في القرن التاسع عشر كانوا يهتمون بشكل رئيسي بالحصول على حقوق كاملة في الحكم الذاتي من أسرة الهاسبورج أدركنا كيف أن صراع ثلاثي الأبعاد كان يحدث قوامه حكومة النمسا والمجريون, والقوميات الأخرى التي كانت جزء من مجال المجر تاريخياً. وعلى هذا سوف نفرد الصفحات التالية للحديث عن الحركات القومية في الأقاليم الثلاثة: ترانسلفانيا, وكرواتيا, وسلافونيا. وبطبيعة الحال لن نناقش تطور إمبراطورية الهاسبورج بشكل عام أو موضوعات أخرى خارج نطاق المسألة القومية إلا إذا كانت تتصل بتكوين دول البلقان قومياً.
ترانسلفانيا يتشابه تاريخ ترانسلفانيا السياسي في كثير من الوجوه مع تاريخ مقدونيا من حيث التعقيد والصراع الذي كان يدور من أجل السيطرة عليها بين سكانها من الرومانيين والمجريين. ومعظم أصول تلك المشكلات والعلاقات تعود إلى العصور الوسطى, ففي نهاية القرن التاسع ظهر المجريون في أوروبا وغزوا البلاد التي أصبحت يعيشون عليها وأخذت إسمهم. وفي القرن التالي (العاشر) إستولوا على ترانسلفانيا, ثم إستقدموا قبائل الساكسون Saxons والمجرمان من منطقة الراين ليستقروا على الحدود وايكونوا بمثابة حرس لها, وفي القوت نفسه يعملون بالتجارة وبفلاحة الأرض حيث إزدهرت الزراعة بفضل مهارتهم. كما سكن المنطقة التشيك Szeklers وهم عناصر تمت بصلة قرابة للمجريين ويتكلمون نفس لغتهم. وقد تلقى الساكسون والتشيك مواثيق من ملك المجر يعترف بمقتضاها بأن كل منهم يمثل عشيرة Natio أي أمة بالمعنى السائد في العصور الوسطى, ولهم حق حكم أنفسهم في منطقتهم حكماً ذاتياً, ومن ثم كانوا يختارون "الكونت" الذي يدير شؤونهم والذي كان مسئولاً أمام ملك المجر, على حين كانت شؤون العباد تدار بمعرفة الدايت Diet أي البرلمان الترانسلفالي. وماأن جاء القرن الخامس عشر حتى كان هذا الأقليم الذي أصبح تحت سيطرة العناصر السكانية الثلاثة (الساكسون والتشيك والمجريون أنفسهم) قد أصبح دولة شبه مستقلة بإسم المجر. وبعد عام 1526 سقطت ترانسلفانيا والمجر في دي العثمانيين لكت الأقليم ظل محافظاً على وضعه الإنفصالي. ومن ناحية أخرى تركت الحروب الدينية التي أشعلتها حركة مارتن لوثر الإصلاحية آثارها في المنطقة, إذ نتج عنها أن الساكسونيين أصبحوا لوثريون, والمجريون إنقسموا بين كاثوليك وكالفينيين, والتشيك بين كاثوليك ولوثريين وأنصار الطبيعة الواحدة. وهكذا وفي نهاية القرن السادس عشر كان بالمجر ثلاثة قوميات تنقسم شعوبها بين اربعة مذاهب: الكاثولكية, والكالفينية, واللوثرية, ونصار الطبيعة الواحدة, وكل منها له نبيل معين يدير شؤونه الإقتصادية السياسية, وكاهن يتولى شؤون عقيدته الدينية.
وفي إطار تلك الترتيبات القومية والمذهبية في المنطقة لم يكن هناك مكان للكنيسة الأرثوذكسية أو للرومانيين رغم ضخامة عددهم حيث كانوا يمثلون أغلبية مطلقة في القرن الثامن عشر, وكان المؤرخون الرومانيون والمجريون يناقشون بحرارة مسألة أصل إستيطان الرومانيين في تلك المنقطة وأنه يعود إلى قرنين من الزمان. وبدون الدخول في عملية تقييم لتلك الأراء فإنه يمكن القول إن الرومانيين ينحدرون من الداشيين Daciansh ومن الرومان القدامى الذين إستوطنوا المكان وعاشوا بشكل مستمر في ترانسلفانيا منذ زمن بعيد, وأنهم أسبق من المجريين في المنطقة بعدة قرون. أما المؤرخون المجريون يقولون إن الرومانيين وصلوا إلى المكان في القرنين الثالث عشر والرابع عشر من جنوب الدانوب, وكانوا مجرد فلاحين فقراء يرعون الأغنام, وبالتالي لا يمكن إعتبارهم متساوون مع الثلاثة قوميات المميزة في المكان. والحقيقة أنه يصعب ترجيح أحد وجهتي النظر على الأخرى لكن تبقى الحقيقة الواضحة أن أغلبية الرتانسلفانيين من الرومانيين في القرن الثامن عشر لم يكونوا يتمتعون بحقوق سياسية,وكنسيتهم غير معترف بها.
وبمقتضى معاهدة كارلوفيتز Karlowitz 1699 (سرمسكي كارلوفيتش Sermski Karlovci) إستعادت النمسا ترانسلفانيا من الدولة العثمانية. وكان إمبراطور النمسا ليوبولد قد اصدر في 1691 وثيقة تحدد وضع ترانسلفانيا ظلت سارية المفعول حتى 1848 أكد فيها حقوق الثلاث قوميات والأربعة عقائد, وإعترف بالحكم الذاتي هناك. وفي 1722 تم الإعتراف بأن ترانسلفانيا جزء من أراضي التاج المجري مع إحتفاظها ببرلمانها (الدايت) ونظامها الإداري, وفي الوقت نفسه إحتفظ الإمبراطور والبلاط بالسيطرة السياسية المطلقة على الأقليم فهو الذي يعين حاكمها, ويختار أعضاء الدايت من أبناء الطبقات العليا في القوميات الثلاثة والعقائد الأربعة.
في إطار تلك الظروف السياسية لم يكن للرومانيين إلا فرصة ضئيلة للتقدم بشؤونهم كأحد التجمعات العرقية القائمة خاصة وأنهم كانوا يشكلون الشريحة الدنيا إجتماعية وإقتصادياً ومعظم الفلاحين يعيشون في إقطاعيات كبار الملاك ويعملون في إطار الإلتزامات الإقطاعية من حيث الضرائب والسخرة التي سبقت الإشارة إليها, فضلاً عن أنهم كانوا أميون وليست لهم مواقف سياسية إيجابية, بل كانوا مستسلمون للواقع شأنهم في ذلك شأن نظرائهم بين قوميات البلقان, وليست لهم أية حقوق سياسية. وفي عبارات أخرى فإن الوضع المتدني سياسياً للرومانيين في ترانسلفانيا يعود إلى طبيعة وضعهم الإجتماعي وأصولهم القومية والدينية.
والحقيقة أن الكنيسة الأرثوذكسية في ترانسلفانيا خطت خطوات كبيرة في بواكير الحركة القومية شأن ما حدث بين شعوب البلقان الأخرى, ذلك أن رجال الدين كانوا هم المجموعة الوحيدة المتعلمة بين الرومانيين, وكانوا يعانون من عدم الإعتراف بكنيستهم, وطغيان الكاثوليكية في أنحاء الإمبراطورية النمساوية بشكل عام. وفي مطلع القرن الثامن عشر قام آباء الكنيسة الأرثوذكسية بتوقيع ميثاق الإتحاد مع الكاثوليك وأسسوا الكنيسة الموحدة Uniate أملاً في تحسين وضعهم. ورغم خيبة أملهم في تحسين أوضاعهم بمقتضى هذا المثياق, إلا أن الكنيسة الجديدة قامت بدور قيادي فيما بعد في تطور الحركة القومية الرومانية. وكان أول متحدث رسمي عن حقوق الرومانيين في ترانسلفانيا الأسقف ايون اينوشنتي كلاين Ion Ionchentie Clain أسقف الكنيسة الموحدة من 1729-1751. وعندما عجز عن تحقيق أية مطالب قومية لشعبه من الدايت الترانسلفاني (البرلمان), لجأ إلى المسئولين في فيينا عاصمة النمسا وطلب منهم بصفة خاصة أن يكون الرومانيون قومية رابعة معترف بها جنباً إلى جنب المجريين والساكسون والتشيك, وإحتج على الاستغلال الذي يتعرض له الفلاحون. وبناء على هذا الموقف بدأت محاصرته والتضييق عليه حتى إضطر إلى مغادرة البلاد في منفى إختياري. ولكن في 1761 إضطرت حكومة النمسا إلى السماح بتكوين كنيسة أرثوذكسية بناء على حالة السخط والغضب التي عمت ترانسلفانيا, ولو أنها كانت كنيسة أقل مرتبة من كنائس العقائد والمذاهب الأخرى المميزة والمعترف بها داخل الإمبراطورية. وفي عهد الإمبراطور جوزيف الثاني تمت محاولة لتحسين وضع الفلاحين.
ولقد ظلت الكنيسة الموحدة (الجديدة) والكنيسة الأرثوذكسية مركز الحياةى الثقافية للرومانيين, وكانت القيادات الثلاثة الرئيسية في بداية الرحكة القومية قد تعلمت في مؤسسات الكنيسة الموحدة وهم جورج شينكاي Sincai, وبيتر مايور Maior, وصموئيل كلاين (ميشو Micu). وقد أسس هؤلاء الثلاثة ما ريعرف بالمدرسة الترانسلفانية التي سعت لبناء فكرة أن الرومانيين هم أحفاد الداشيين والرومان القدامى, وأنهم السكان الأصليون في المنطقة (ترانسلفانيا), بينما المجريون قدموا حديثاً إلى المنطقة منذ العصور الوسطى فقط. ومن ناحية أخرى كان إسهام جورج شينكاتي وصمويل كلاين في بناء اللغة الرومانية على جانب كبير من الأهمية, ففي 1780 نشرا أول أجرومية رومانية بعنوان "عناصر اللغة الداشية-الرومانية أو الولاشية", وأحكما عملية إحلال الأبجدية السلافونية السابقة بالحروف اللاتينية, وإجتهد في إستبعاد الكلمات غير اللاتينية منها. وتتشابه جهودهما في هذا الشأن مع جهود كل من أوبرادوفيتش Obradovic وكاراديتش Karadzic في الصرب. وفي 1812 أكمل مايور كتابه العظيم "تاريخ أصل الرومانيين في داشيا" ولقد إمتد تأثير هؤلاء الرجال إلى ولاشيا ومولدافيا حيث أثارت أعمالهم الحركة القومية.
على أن أهم وثيقة سياسية خاصة بالحركة الرومانية في القرن الثامن عشر الإلتماس الذي قدم في 1791 إلى الدايت الترانسلفاني وعنوانه Valachorum Supplex Libellus وقد صاغه صمويل كلاين وقادة الرومانيون آخرون. وقد بينت الوثيقة تفسير الرومانيين لتاريخهم من وجهة نظرهم, وحددت مطالب بعينها تتلخص في الإعتراف بهم كقومية رابعة وتمثيلهم تمثيلاً نسبياً في كافة مستويات الإدارة في ترانسلفانيا. كما أبدى الموقعون على الوثيقة رغبتهم في الدعوة لمؤتمر قومي, وإطلاق الأسماء الرومانية على الأماكن التي تعيش فيها أغلبية رومانية, وهي مطالب رفضها الداين بسرعة. غير أن الوقت لم يكن مواتياً لإتخاذ إجراءات من أي نوع ذلك أن الإمبراطورية جميعها كانت في حالة إنتفاضة ضد الإجراءات الإصلاحية التي قام بها جوزيف الثاني فضلاً عن أحداث الثورة الفرنسية. ولاشك أن "الوثيقة" كانت تمثل برنامجاً قومياً ساندها الرومانيون وكذا الزعماء الدينيون.
وخلال السنوات التالية لم تحقق حركة الرومانيين القومية أي تقدم نحو أهدافها بل لقد واجهت أخطاراً متزايدة. ففي مطلع القرن التاسع عشر دخلت المجر في فترة حادة من المنافسة القومية لتحقيق هدفين إثنين, كان أولهما إقامة دولة موحدة ومركزية خارج أراضي التاج المجري, والثاني تحقيق الإستقلال التام عن النمسا. وكان الهدف الأول يعني بذل الجهود الممكنة لإستيعاب كل من السلاف والرومانيين والساكسون تحت ولاية إدارة مجرية أو بمعنى آخر "مجرتهم". وكانت الخطوة الأولى في هذا الإتجاه جعل اللغة المجرية لغة رسمية وحيدة في البلاد محل اللاتينية.
على أن هذه السياسة المجرية التي أصبحت أساس الصراع القومي فيما بعد كان لها ما يبررهاغ منطقياً في نظر المجريين, إذ كانت تعكس بشكل جوهري سياسة لويس كوسيوث Kossuth القائد المجري القومي العظيم في منتصف القرن, وبالتالي إذا إقتصر القوميون المجريون في برنامجهم على إقامة دولة مجرية على أساس العرق مثل الترانسلفانيون, والكروات, والسلافونيون, وأهالي فويفودينا, وسلوفاكيا. وبدون تلك الأراضي تكون المجر دولة فقيرة وضعيفة. أما إذا تم التمسك بكل أقاليم تاج القديس ستيفن فإنه يتعين إجراء بعض ترتيبات لإستيعاب القوميات الأخرى التي تمثل 50% من السكان بعيداً عن فكرة الحكم الذاتي لكل منها لتناقضها مع مشروع الدولةالمجرية القومية بشكل أساسي. وبالتالي فإن البديل الوحيد لتحقيق تلك الدولة هو "ميجرة" القوميات الأخرى عن طريق فرض اللغة المجرية على جميع القوميات في الإدارة والقضاء والتعليم, وكذا التجراة ومجال الأعمال. وقد ظلت تلك هي جوهر سياسة المجر حتى عام 1914 بإستثناء فترات معينة حدثتن فيها بعض المساومات والحلول الوسطى مثلما حدث خلال الفترة 1860-1866 وكان هذا يعني في النهاية أن على الرومانيين والسلافيين التغلب على تلك السياسة المجرية إذا ما أرادوا إحياء قوميتهم.
كان عام 1848 هو العام الحاسم بالنسبة للحركة المجرية, إذ إنهارت حكومة النمسا أمام الحركات الثورية التي إنتشرت في أحاء الإمبراطورية, ومن ثم أسس المجريون بدروهم حكومة منفصلة عن الحكومة المركزية ذات نظام دستوري تمشياً مع الأفكار الليبرالية لكن لم يرحبوا بهذا الإندماج. زعلى هذا تجمهر أربعون ألف روماني في مدينة بلاي Blaj ف يمايو 1848 في مكان يعرف "بأرض الحرية" وأعلنوا قرارات تدعو للإعتراف بالرومانيين كقومية منفردة, وبأن تكون الكنيسة الأرثوذكسية مؤسسة دينية على قدم المساواة مع الكنائس الأخرى, وأن يكون للرومانيين حق التمثيل النسبي في الدايت والإدارة, بل لقد رفض المجتمعون فكرة إندماج ترانسلفانيا مع المجر دون موافقة السكان.
غير أن الحكومة الثورية المجرية بقيادة كوسيوث لم ترفض فقط مطالب الرومانيين بل لقد رفضت أيضاً مطالب مشابهة تقدم بها الساكسون والصرب والكروات. وأمام رفض المجر وموقفهم المتصلب العنيد لجأ الزعماء الرومانيون إلى حكومة النمسا. ورغم أن النمسا كانت تواجه صعوبات كثيرة إلا أنها إهتمت بالوفد الذي جاء يعرض مطالب للرومانيين. ولأن النمسا لم ترفض مطالبهم فقد وقف الرومانيون وسلاف الجنوب إلى جانبها ضد ثورة المجر. وعلى هذا وعندما إقتحم الجيش النمساوي المجر في 1849 وجد تعاوناً من القوميات غير المجرية وكذا وجد الجيش الروسي التعاون نفسه عندما دخل المجر في يونية من العام نفسه لمساندة النمسا.
ومما زاد من خيبة أمل زعماء الرومانيين وسلاف الجنوب أن وضعهم السياسي لم يتحسن مع إخماد ثورة المجر وإستعادة النمسا لنفوذها هناك, بل لقد عملت النمسا على فرض إدراة مركزية على أنحاء البلاد عرفت بنظام باخ Bach Syste ففقدت ترانسلفانيا حقوق الحكم الذاتي وعادت لتكون تحت سيطرة النمسا مباشرة, في القوت الذي لم تعبأ كثيراً بالوفود التي كانت تترى إلى فيينا للإحتجاج بل وأهملت أيضاً الالتماسات التي كانت تقدم لها في هذا الشأن,وظلت الأهداف الرومانية كما هي: الإعتراف بالقومية الرومانية ضمن القوميات المعترف بها, وإقامة حكومة ذاتية لترانسلفانيا يتمتع الرومانيون فيها بوضع يتناسب معغ قوتهم غير المحدودة.
في تلك الأثناء كان الزعيم الروماني دون منازع هو الأسقف الأرثوذكسي آندريو شاجونا Andreiu Saguna الذي كرس جهوده لتحسين وضع الكنيسة الأرثوذكسية, ولتعليم الشعب الروماني. لكن ظلت العقية الرئيسية أمام هذه الكنيسة كما هي وتكمن في تخوف الكاثوليك من أن توجد مؤسسة أرثوذكسية قوية قد يؤدي إلى تدمير جهودهم في نشر الكاثوليكية بين الأرثوذكس من خلال الكنيسة الموحدة, فضلاً عن إعتراف بطريركية الصرب في كارلوفيتز التي يقع الرومانيون الأرثوذكس تحت تحت ولايتها. ومن ثم إنصرف شاجونا للعمل على تحسين مستوى تدريب رجال الدين ليكونوا أكثر قدرة على التأثير كمعلمين في المدارس التي إنتشرت وتوسعت بشكل ملحوظ آنذاك, فبعد عشر سنوات تقريباً تأسست حوالي خمسمائة مدرسة إبتدائية جديدة أضيفت للمائة القائمة. كما كان شاجونا مسئولاً أيضاً عن إنشاء مطبعة وإصدار صحيفة, وكان يؤيد حكم النمسا لترانسلفانيا بإعتباره أفضل من أ، تكون تحت حكم المجر.
وبحلول عام 1863 تمكن الرومانيون من تحقيق نجاح كبير في قضيتهم, ذلك أ،ه بعد هزيمة النمسا في 1859 في حرب الوحدة الإيطالية تخلت عن "نظام باخ" في ألوب الحكم, وعملت على إعادة الحكم في إعادة الحكم في الدولة إلى نوع من الشكل الدستوري. وكان هذا يعني بالنسبة لترانسلفانيا إعادة الدايت لنشاطه السياسي, وبالتالي إمكانية الرجوع إلى كل قومية من القوميات القائمة بما فيها الرومانيون لأخذ رأيها فيما يتعلق بالإصلاحات في المستقبل قبل إقرارها. لكن المجر عارضت بقوة تلك الإجراءات الجديدة التي إتخذتها النمسا على أساس أن الوحدة التي أعلنت في 1848 بينها وبين ترانسلفانيا لا تزال قائمة, وبالتالي ينبغي أن يكون لترانسلفانيا مجلس دايت خاص بها. وأجاب الرومانيون يساندهم كثير من زعماء الساكسون بأن تلك الوحدة لم تعد قائمة بهزيمة المجر في عام 1849, وبصدور "نظام باخ", ونجحوا في إستصدار قانون إنتخابي جديد محل قانون عام 1848 خصص للرومانيين ثلاثة نواب فقط في الدايت من إجمالي ثلاثمائة نائباً, فما كان من المجر إلا أن رفض الإشتراك في عضوية الدايت الجديد.
وبغياب المجريين عن الدايت الجديد أصبح بإمكان النواب الرومانيون والساكسون إصدار تشريعات لتغيير طبيعة الإدارة في ترانسلفانيا, وأعلن الرومانيون أن قوميتهم تتكافأ مع قوميات المجر والتشيك والساكسون. كما أخذت الكنائس الموحدة والأرثوذكسية نفس مكانة كنائس الأربعة مذاهب الأخرى, وأكثر من هذا فإن إمبراطور النمسا, وبفعل جهود الأسقف شاجونا وافق على فصل الكنيسة الرومانية الأرثوذكسية عن البطريركية الصربية, ومن ثم تأسست أسقفية أرثوذكسية رئاسية في مدينة شبييو Sibiu وأسقفيات في كل من آراد Arad, وكارنسبيش Caransebes, وتم الإعتراف باللغة الرومانية جنباً إلى جنب الجرمانية والمجرية. وبهذا أصبح الرومانيون ولأول مرة في التاريخ الحديث متساوون مساواة قانونية مع باقي أهالي ترانسلفانيا.
غير أن تلك الإصلاحات لم تستمر طويلاً, ذلك أن المجريين يتمتعون بوضع قوي في أنحاء إمبراطوريسة النمسا, على حين أن وضع الحكومة المركزية في فيينا كان ضعيفاً. ولهذا وبسبب إمتناع المجريين عن التعاون مع أجهزة الدولة إضطر الإمبارطور فرانز خوزيف لتقديم تنازلات لهم, ففي 1865 تم إلغاء قانون إنتخاب دايت ترانسلفانيا, وعرض مشروع قانون جديد يخصص للمجريين الذين يمثلون 29% فقط من إجمالي السكان 89 مقعداً على حين أن الرومانيين الذين يمثلون أغلبية خصص لهم ثلاثة عشر مقعداً. وهذا الدايت هو الذي قام بالتصويت على وحدة ترانسلفانيا مع المجر ذلك القرار الذي قبله الإمبراطور.
وهكذا تحولت ترانسلفانيا التي كانت جزء من المجر لها جهازها الإداري وبرلمانها (الدايت) إلى محافظة مملكة المجر. وبينما كان الرومانيون في 1863 يشكلون أغلبية في ترانسلفانيا تتمتع بالمساواة مع سائر القوميات الأخرى, أصبحوا أقلية تمثل 15% من رعايا المجر. وأكثر من هذا أن مستقبلهم أصبح نظلماً في كثير من المجالات خاصة وأن جيلاً جديداً من الساسة المجريين تولوا شؤون الحكم وأخذوا يعملون على تنفيذ مبادئ كوسيوث من حيث "الميجرة".
وبعد هزيمة النمسا على يد بروسيا كما سبقت الإشارة أعادت النمسا تنظيم سياساتها طبقاً لتسوية "أوزجليخ" Ausgleich في 1867. وكانت لهذه الهزيمة عواقب وخيمة على كل من الرومانيين وسلاف الجموب فمنذ ذلك التاريخ إنقسمت إمبراطورية النمسا-المجر أو ما كان يعرف بالمملكة الثنائية إلى وحدتين كل وحدة تتميز عن الأخرى ولكن تحت حكم واحد أصبح يعرف بإمبراطور النمسا وملك المجر ولها سياسة خارجية واحدة وجيشواحد على أن يلتقي وفدان من كل وحدة دورياً لحل المشكلات المشتركة, ولكل وحدة حكومة خاصة لها الحرية في مباشرة شؤون الإدارة الداخلية. والحال كذلك أسرع الرومانيون وسلاف الجنوب الذين أصبحوا تحت حكم وحدة المجر التابعة بتقديم إلتماسات إلى حكومة النمسا لرفع المظالم التي أصابتهم من جراء سياسة حكومة المجر.
وبشكل عام لم تكن تسوية أوزجليخ سيئة من حيث المبادئ التي أقرتها, ففي 1868 أعلن برلمان المجر أن جميع مواطني المجر متساوون, وتقرر إلغاء أية ميزات خاصة تنفرد بها قومية دون القوميات الأخرى. كما صدر قانون القوميات الذي يعتبر أكثر التشريعات التي صدرت في دولة متعددة القوميات تقدمية على الإطلاق, إذ أعطى الحق لكل قومية في إستخدام لغتها الخاصة في كل أوجه حياتها الثقافية والسياسية . . في التعليم بالمدارس الإبتدائية والثانوية, وفي التقاضي أمام المحاكم, وفي البرلمان ومجلس الإقليم, كما تقرر أن يتعلم المسئولون الإداريون في كل إقليم لغة أهله, وأن يشغل غير المجريين وظائف إدارية وقضائية. غير أن الذي حدث أ، تلك الإصلاحات ظلت حبراً على ورق ولم تنفذ شأن الإصلاحات التي كانت تقررها الدولة الحديثة.
ومن سوء الحظ أن جيل المجريين الذين عبروا ببلادهم من هزيمة 1849 إلى إنتصار 1876 السياسي مثل فرانسيس دياك Deak, وجوزيف إيوتوفوس Eotvos لم يكن بإمكانهم متبعة برامجهم حتى النهاية إذ كانت سياساتهم تعتمد على مبدأ التكيف مع القوميات على حين أن منافسيهم بقيادة كولومان تشيزا Koloman Tisza عزموا على أ، يجعلوا المجر دولة مجرية واحدة موحدة. وفي 1875 أصبح تشيزا رئيس وزراء المجر وظل حزبه (الحزب الليبرالي) يسيطر على الحكومة المجرية طوال الثلاثين عاماً التالية حيث كان يتم ترتيب الإنتخابات البرلمانية بحيث تأتي أغلبية مجرية دوماً تمكنت من تمرير قوانين تغير من أسلوب التعليم ولغته على أساس أن التعليم هو مفتاح نجاح عملية "الميجرة", أو كما شرحها بكل حيوية وحماس بيلا جرونفالد Bela Grunwald شريك تشيزا بقوله"إن المدارس الثانوية مثل آلة ضخمة إذا ألقيت فيها مئات الشباب السلوفاك من ناحية يخرجون من الناحية الثانية وقد اصبحوا مجريون. وعلى هذا وفي 1879 طلب من جميع معلمي المدارس الإبتدائية معرفة اللغة المجرية حتى أولئك الذين يعيشون في قرى رومانية أو سلوفاكية. وفيما بعد إقتصر أمر إنشاء مدارس أو مؤسسات تعليمية جديدة على المدارس المجرية فقط. وسرعان ما أصبحت التعليمات والملاحظات العامة تكتب بالمجرية, وكذا أسماء الشوارع وطوابع البريد, وإشارات السك الحديدية, وتعرضت العائلات للضغط لميجرة أسماء أفرادها, وإقتصرت المناصب القضائية والإدارية على المجريين. وأكثر من هذا تم تشجيع الفلاحين المجريين على الإستيطان في ترانسلفانيا, وإغراء المقاولين المجريين على إستثمار أموالهم في تنمية الصناعات في ترانسلفانيا.
على كل حال . . لقد إنتهت سياسة "الميجرة" بردود فعل متوقعة إذ إتحدت كل عناصر البلاد بكب طبقاتها والذين شعروا بالخطر المحدق بشخصيتهم القومية. وهكذا تأسس أول حزب سياسي روماني بإسم الحزب القومي في مدينة سيبيو في عام 1881 ودعا برنامجه إلى إستعادة سلطة ترانسلفانيا, وإستخدام اللغة الرومانية في الإدارة والقضاء, وتعيين الموظفين الذين يعرفونها. ثم إتخذ الزعماء الرومانيون سياسة المقاومة السلبية لمواجهة التهديد المجري فقاطعوا البرلمان ورفضوا تولي أية وظائف حكومية. وفي الوقت نفسه ظهر جيل جديد من الطلاب شبيه بطلاب مولدافيا وولاشيا في 1848 ووقف إلى جانب برنامج يدعو لإتحاد كل الرومانيين في مملكة واحدة, وهو هدف كان يعني بطبيعة الحال تفتيت أراضي مملكة المجر. وفي 1890 أشار الحزب إشارات مشابهة في خطابه عن "أمة رومانية عظمى قوامها أحد عشر مليوناً".
وخلال القرن التاسع عشر كان للإحداث التي وقعت في ترانسلفانيا صداها في إمارتي الدانوب (مولدافيا وولاشيا) وكانت المعاملة التي خضع لها الرومانيون في ترانسلفانيا نقطة حساسة في العلاقات بينهم وبين النمسا, فكلما زاد ضغط النمسا عليهم إزدادت رغبتهم في إعلان مملكة رومانية. وفي 1891 تكونت في بوخارست "رابطة الثقافة الرومانية" بمعرفة اساتذة الجامعة وطلابها سارعت بإعداد "مذكرة" بخمس لغات لتنبيه الرأي العام الأوروبي بمتاعب الرومانيين في ترانسلفانيا, فرد عليهم الطلاب المجريون في بودابست,وإندفع الطلاب الرومانيون في ترانسلفانيا بدورهم إلى تفنيد ما جاء برد الطلاب المجريين. أما كاتب رد طلاب ترانسلفانيا أوريل بوبوفيتش Aurel Popovici فقد حكم عليه بالسجن لكنه أفلح في الهرب إلى رومانيا حيث سيظهر إسمه فيما بعد في عام 1906 عندما أعد خطة شهيرة بشأن إعادة تنظيم المملكة. وسرعان ما تبنى الحزب القومي قضية أولئك الطلاب وأعد مذكرة حملها وفد إلى فيينا لمقابلة الإمبراطور فرانز جوزيف تطالبه مرة أخرى بإستعادة الحكم الذاتي لترانسلفانيا لكن الإمبراطور رفضها, بل لقد تم إعتقال زعماء الحزب بمعرفة حكومة المجر وتمت محاكمتهم. على أن هذه "المذكرة المحنة" كما وصفت فيما بعد كانت فرصة هائلة للرومانيين لفت إنتباه قطاع عريض من الرأي العام لقضيتهم. وعلى الرغم من أن محاكمة أعضاء الزب القومي قد دمرت مكانة الحزب وإنتهت بسجنهم إلا أن المشهد نفسه كان دعاية لها قيمتها للرومانيين شأن ما حدث فيما بعد لحركة سلاف الجنوب مما أدى في النهاية إلى تعاون الرومانيين معغ سائر القوميات السلافية. ففي 1895 عقد مؤتمر للقوميات في بودابست حضره الصربيون والسلوفاك وأكد المؤتمرون أن المجر دولة متعددة القوميات وليست دولة ذات قومية واحدة أو واحدة القومية.
على أن إحتجاج كافة القوميات لم يؤثر بدرجة أو بأخرى على سياسة المجر بشأن "سياسة الميجرة" بل على العكس وجدنا أن حكومة المجر تمد أهدافها القومية في إتجاه آخر وبالتالي دخلت مرة أخرى في صراع مع إمبراطورية النمسا. ففي 1905 عملت على إيجاد جيش منفصل بعيداً عن القوة العسكرية المشتركة التي تأسست بمقتضى "ميثاق أوزجليخ", وهو أمر لم يكن ليستسلم له لإمبارطور فرانز جوزيف بحال من الأحوال. فلما أرغمت المجر على التراجع عن رغبتها في إيجاد هذا الجيش المنفصل تشجع الرومانيون بدورهم على التخلي عن سياسة المقاومة السلبية التي لم تكن ناجحة بأي شكل من الأشكال وإشتركوا مرة أخرى في الحكومنة المجرية.
فلما عاد النواب الرومانيون لبرلمان وجدوا أنفسهم يواجهون إجراءات غاية في الشدة والقسوة تجاه خصوصيتهم القومية, ففي 1907 تقدم الكونت البرت آبوني Apponyi وزير التعليم بمشروع قانون جديد للمدارس إشترط إجادة المدرسين اللغة المجرية, وتدريس القومية المجرية في كل المدارس,وفي حالة عدم معرفة التلاميذ اللغة المجرية بعد أربع سنوات من الدراسة سوف يتم طرد المدرسين من المدارس, فضلاً عن تولي الدولة شؤون مدارس الكنائس عن دفع مرتبات عالية فلا تجد مدرسين. وفي 1909 تقرر تدريس الدين في المدارس المتوسطة بالمجرية وتمت عدة خطوات ضد الكنيسة الرومانية في 1912 عندما وافق بابا الفاتيكان على طلب المجر بإبعاد 83 كاهناً من الكنيسة الرومانية الموحدة, ووضع أبروشيتهم تحت إشراف الرئاسة الأسقفية المجرية اليونانية-الكاثوليكية في هايدودورج Hajdudorog التي كانت قد أنشئت مؤخراً على أن تباشر الطقوس الدينية باليونانية البيزنطية وإلى أن يتعلمها الكهنة تتم مباشرة الطقوس بالمجرية, وكان ذلك الإجراء محاولة أبعد في طريق الميجرة. وعلىالرغم من قيام حكومة المجر ببعض الجهود قبل عام 1914 لتهدئة الغضب القومي, إلا أنها لم تكن لتقبل على الإطلاق طلب الرومانيين بإعادة الحكم اذاتي لترانسلفانيا.
وفي عام 1914 أمكن القول أن الرومانيين في ترانسلفانيا نجحوا في تنمية الشعور القومي بشدة بينهم وهو شعور كان يزداد قوة مع زيادة حدة الضغط المجري عليهم. وظلت أهداف المعارضة الرومانية كما هي: إستعادة الحكم الذاتي لترانسلفانيا,وتمتع كل قومية بوشع سياسي يتناسب مع عدد أبنائها, إذ كان الرومانيون يمثلون 555 من سكان مملكة المجر, والمجريون أنفسهم يمثلون 34% وفق إحصاء عام 1910. ولكن ورغم أن الساكسون في كثير من القضايا كانوا يقفون إلى جانب الرومانيين ضد حكومة المجر, إلا أنهم لم يكونوا ليساندوا فكرة تصفية الإمبراطورية النمساوية آنذاك. وحيث أن الرومانيين كانوا يمثلون أغلبية صغيرة في الإقليم ويواجهون موقفاً أوربياً ثابتاً بشأن وضعهم داخل الإمبراطورية أصبح هدفهم السعي لإصلاح المملكة وليس تصفيتها. وأكثر من هذا ورغم وجود نشاط روماني سياسي في ترانسلفانيا إلا أنه لم يكن ليقارن بما كان يحدث في أراضي سلاف الجنوب حيث كانت تنتشر بينهم خلال القرن التاسع عدة برامج سياسية وأحزاب وحيث كانت تلك الأراضي محل النزاع تسكنا قوميات غير مجرية وتهيمن عليها تاريخياً وعرقياً.
وعلى الرغم من أن المسألة الترانسلفانية كانت موضع إهتمام كبير من الحكومة الرومانية, إلا أن الإستيلاء على ترانسلفانيا لم يكن جزء من سياستها الرسمية. ثم لعبت المسألة دراً كبيراً في العلاقات بين رومانيا والنمسا عشية الحرب العالمية الأولى أكثر من ذي قبل, وأصبح الرومانيون "الجدد" بما أصبح لهم من نفوذ سياسي أكثر حساسية للقضية القومية. وكانت النمسا في القرن التاسع عشر تخشى بإستمرار التأثير الذي يمكن أن تقدمه الحكومة الرومانية للرومانيين في ترانسلفانيا. كما كان خطاب الحزب الليبرالي يكرر بإستمرار الحديث عن الأراضي الرومانية تاريخياً التي تشتمل على ترانسلفانيا وبوكوفينا وبسارابيا كأراضي قومية لا يمكن التفريط فيها وتكون موضع مطالبة في المستقبل.
وعلى هذا وضعت قيود شديدة على تحرك الزعماء الرومانيين في بوخارست قبل عام 1914, فأولاً كانت رومانيا جزء من دول التحالف الثلاثي, والنمسا عضو فيه وثانياً ورغم أ، ملك رومانيا تشارل ذو ضمير حي ويؤدي واجبه على الوجه الأكمل, إلا أنه ظل في أعماقه وعواطفه أميراً جرمانياً ولم يكن ينتظر منه عكس بيتر ملك الصرب قيادة حركة قومية ضد بلاد يرتبط بها عاطفياً, وثالثاً أنه يجب ألا يغرب عن البال أن مشكلات رومانيا في المقام الأول آنذاك كانت إقتصادية وليست سياسية, ذلك أن رومانيا كانت قد خبرت في 1907 واحدة من أكبر ثورات الفلاحين ومن ثم كان وضع الفلاحين الرومانيين وتوزيع الأرض عليهم (الإصلاح الزراعي) في أولويات الأهداف القومية. وفي الوقت نفسه كانت رومانيا أكثر من دول البلقان الأخرى تتجه نحو تحول إقتصادي وتنمية مصادرها الطبيعية وطاقاتها الصناعية, وكان أعضاء الحكومة (الوزراء) مشغولون في تلك العمليات. ولم تصبح المطالبة بترانسلفانيا أمراً ملحاً من الناحية القومية إلا بعد إندلاع الحرب العالمية الأولى عندما ظهر على الساحة موقف غير متوقع كلية.
وواقع الأمر فلم يكن ضم ترانسلفانيا يمثل المشكلة الملحة في سياسة رومانيا الخارجية قبل 1914 لكن العلاقة مع بلغاريا كانت لها أولويتها, فقد كان قادة رومانيا شأن قادة اليونان والصرب يقفون بشدة ضد عزم بلغاريا إستعادة الحدود التي منحتها لها معاهدة سان ستيفانو, وبالتالي تكتسب مكانة زائدة في منطقة البلقان, فضلاً عن أن جنوبي دوبروديا ظلت مطلباً رومانيا وهو الأمر الذي أدخل رومانيا في عام 1913 في صراع ضد المجر التي سعت لحماية مصالح بلغاريا لكن هذا الصراع لم يفض التحالف. ومن ناحية أخرى كان الدور الذي لعبته رومانيا في حروب البلقان كما رأينا أدى إلى تعاون وثيق مع الصرب. وفي المقابل إنغمست الصرب في 1914 بعمق في الخلافات القومية القائمة في إمبراطورية النمسا وأصبح لها مطالب قومية وخاصة في البوسنة والهرسك سوف تطالب بها متى حانت فرصة مواتية.
مسألة سلاف الجنوب عرفنا أن المسألة القومية في ترانسلفانيا كانت تتمحور حول صراع الأغلبية الرومانية فيها مع حكومة المجر, لكن سلاف الجنوب في دلماشيا وكرواتيا وسلافونيا كانت مشكلتهم أكثر تعقيداً, فلم تكن تقتصر فقط على علاقات الأغلبية الكرواتية مع الإدارة المجرية المهيمنة, بل كانت أيضاً مع الأقلية الصربية في تلك المناطق. وكانت كرواتيا في العصور الوسطى شأن الصرب مملكة تشتمل على أراضي كرواتيا الحالية وسلافونيا ودلماشيا وجانب كبير من البوسنة. وفي عام 1102 بعد وفاة ملكهم وهزيمتهم أمام المجريين إختار الركواتيون حاكم المجر ملكاً عليهم. ومع هذا ظل البلدان (المجر وكرواتيا) مملكتين منفصلتين متحدتين تحت تاج واحد حتى عام 1527 حين إنهزمت المجر أمام العثمانيين وعند ذاك قام الكرواتيون بإختيار إمبراطور النمسا ملكاً عليهم.
وعلى العكس الصرب حين قضى الغزو العثماني على الطبقة الأرستقراطية فيها, كان لكرواتيا نبلاء حافظوا في الماضي على شخصية بلادهم وحموا مصالحها. وفي كرواتيا كانت غالبية الأرستقراطية كرواتية الأصل وإن كان معظمهم ينحدر من أصول أقل نبالة. بل إن بعضهم كان فقيراً لدرجة أنه كان من الصعب تمييزهم عن الفلاحين. وفي سلافونيا كان الوضع مختلفاً, فرغم وجود أرستقراطية كرواتية فيها إلا أن أكبر الإقطاعات حجماً كانت في يد ملاك من أصول جرمانية أو مجرية ويتكلمون اللاتينية كلغة شائعة وليس الكرواتية. وفي دلماشيا كانت الطبقة المهيمنة تعمل في المجالات التجارية والبحرية وتتكلم اللاتينية أيضاً والفلاحون كانوا الكروات. وكانت الكنيسة في تلك المناطق تشارك النبلاء مكانة وميزات ملاك الأرض الزراعية, حيث كان لكبار الكهنة مصالح إجتماعية وإقتصادية وسياسية شأن الأرستقراطية. وفي المدن كانت هناك طبقة وسطى صغيرة لها نشاط سياسي متطرف إلى حد كبير. وفي كل المناطق الثلاثة كان أغلبية السكان من الفلاحين الذين كانوا يسعون قبيل إندلاع الحرب العالمية الأولى لتحقيق إصلاح زراعي يغير من وضعيتهم لكنهم لم يكونوا قوة سياسية حقيقية.
وفي البلاد الكرواتية أيضاً كانت هناك أقلية صربية وخاصة في كرواتيا-سلافونيا حيث كانت نسبتهم 34.6% مقابل 62.5% لكروات طبقاً لإحصاء 1910 أي بمعدل واحد صربي من كل 2.5% كرواتي. وكان الشعبان (الكرواتي والصربي) يتكلمون لغة واحدة متطابقة ولكن يكتبونها بأبجدية مختلفة, وجميعهم سلاف جنوبيون فيما عدا أ، الصرب أرثوذكس والكروات كاثوليك. ومعظم الصرب في كرواتيا-سلافونيا كانوا يعيشون في منطقة تعرف "بالحدود العسكرية", هي منطقة حاجزة أقامتها النمسا أثناء القرن السادس عشر ضد الدولة العثمانية. ولكي تجذب النمسا مستوطنين يعيشون في تلك المناطق ويقومون بدور الحامية العسكرية للدفاع قدمت ميزات إقتصادية وإجتماعية وسياسية للتشجيع, فإنتهزت الفرصة أعداداً كبيرة من الصرب اللاجئين من الأراضي التي إحتلها العثمانيون. وبدأت منطقة الحدود العسكرية على البحر الإدرياتي جنوب مدينة ربيكا Rejka (فيوم Fium) حتى ما وراء بلجراد في الشرق, وكانت منطقة مطاطة في مساحتها ومختلفة في عرضها وتمتد بطول أكثر من عشرين كليومتراً جنوباً حتى نهر سافا Sava, وتضم كل أراضي كرواتيا تاريخياً. وتنبغي الإشارة إلى أن الصربيين كانوا يعيشون أيضاً في باشكا Backa وبانات وهما جزءان من فويفودينا لكنها لم تكن أبداً مجال صراع مع الكروات.
والحق أن توزيع السكان في تلك المناطق وضع إطار الصراع الذي نشب في القرن التاسع عشر فمع نمو الحركات القومية آنذاك كان أمام الصرب والكروات أحد إختيارين: أما أن يأخذوا طريقاً منفصلاً ويسعى كل منهم إلى إعادة مملكته التي كانت في العصور الوسطى على أساس الإستقلال, وإما أن يؤكدوا على روابطهم السلافية الجنوبية أو "اليوجوسلافية" ويعملون على بناء دولة مشتركة. وفي تلك الإستعادة واجهت الصرب ورطة كبيرة فقد كان عليها تكوين الصرب الكبرى على أساس قومية صارمة, أو تتزعم حركة التوحيد كل أراضي سلاف الجنوب. وبالنسبة لكرواتيا فكانت العقبة الرئيسية أمام إيجاد حكومة كرواتية مستقلة أو تتمتع بالحكم الذاتي وجود أقلية صربية معتبرة وسطها . . وأما العقبة الكبرى أمام تحقيق الصرب الكبرى أو يوغوسلافيا فكانت عدم رغبة زعماء الصرب في بلجراد في ذوبان شخصيتهم القومية في الإطار الأكبر. وهكذا وحتى عام 1914 كان الصراع القومي المزدوج قائماً في أراضي سلاف الجنوب التابعين لمملكة المجر ضد السكان السلافيين, والصراع بين السلافيين أنفسهم من أجل مستقبلهم السياسي. كما كانت العلاقة مع حكومة النمسا حاضرة في هذا الصراع. وفي اواخر القرن الثامن عشر إجتمع نبلاء كرواتيا والمجر على كراهية خطط الإصلاح التي قدمها إمبراطور النمسا جوزيف الثاني ووقفوا بجانب التقاليد والعادات المستقرة ضد الإمبراطور "الثوري", ومن ذلك أنهم دافعوا عن إستخدام اللاتينية التي ظلت وسيلتهم في الإتصال بالآخرين على مدى قرون ضد تهديد الجرمانية لتكون لغة الإدراة. وحتى عندما حاولت المجر فرض لغتها فيما بعد على البلاد بقي النبلاء الكروات المدافعون الأقوياء عن اللاتينية. ولكن وبرغم وجود معارضة ضد الهيمنة المجرية في هذا الموضوع, إلا أن المصالح الإجتماعية والإقتصادية للأرستقراطية الكرواتية كانت بحلول عام 1828 أكبر من المشاعر القومةي حتى أنهم وفي ذلك العام وافقوا على تعليم المجرية في المدارس الكرةاتية وكانت الخطوة الأولى في عملية "الميجرة".
ومن الملاحظ أ، القوميين الصادقين سواء كانوا كروات أو يوجوسلاف كانوا من الطلاب والمثقفين والطبقة الوسطى الصغيرة النشطة شأن الحال في قوميات وسط أوروبا. وأول فكرة قومية لها مغزى حقيقي تظهر من هذه المجموعة كانت الحركة الإليرية Illyrian التي إرتبطت أرتباطاً وثيقاً بشخص ليوديفيت جاي Ljudevit Gai الذي كان من أنصار تيار القومةي الرومانية الذي كان قوياً في أوروبا آنذاك ولهذا نراه قد تأثر بالعلماء والكتاب أمثال سافاريك P.J.Safarik, ويان كولار Jan Kollar, ودوبرفكسي J Dobroveski وجاءت نقطة التحول في حياته في عام 1835 عندما حصل من السلطات النمساوية على إذن بإصدار صحيفة كرواتية بإسم دانيشا Danica (أي نجمة الصباح). ويبدر واضحاً أن النمسا سمحت بهذه الصحيفة بعد أن أصبحت قلقة جداً من خطر تنامي القومية المجرية على الإمبراطورية ومن هنا شجعت التعبير لدى المعارضة الكرواتية ضد اليطرة المجرية. وخلال تلك الفترة لم يكن الكروات يملكون إلا التقدم بالتماسات للنمسا ضدالمجريين تماماً كما كان يفعل الترانسلفانيون.
لقد كان الإسهام الرئيسي لجاي مناصرة وحدة سلاف الجنوب لغة وثقافة وسياسة ومن هنا إستهدفت الحركة الإليرية العمل على تجاوز الخلافات التاريخية التي فصلت بين شعوب الجنوب على مدى قرون وتوحيدهم لمقاومة نفوذ المجر. وخلا ثماني سنوات 1835-1843 حدثت طفرة هائلة في النشاط الأدبي ولبنشر في ذلك الإتجاه. وفي هذا الإطار نجح جاي في إغراء الكتاب الكرواتيين بعدم إستخدام لهجة أهل زغب الكايفكيانية Kajkavian وإستخدام اللهجة الأشتوكافيانية Stokavian وهي لهجة أهالي البوسنة والهرسك ودلماشيا والصرب حيث أدرك أهمية وحدة اللغة المشتركة في تحقيق التعاون السياسي.
ورغم أن الحركة الإليرية تمعت بشعبية بين المثقفين الكروات, إلا أنها لم تلق نفس القبول بين السلوفيين والصربيين, فالسلوفيين وقد أرتبطوا إرتباطاً وثيقاً بالنمسا لم يشعروا بتهديد المجر فضلاً عن أن لغتهم واضحة وكانوا تريخياً بعيدين عن الصرب والكروات. وأما الصربيون فلم يقبلوا مغزى فكرة الإليرية وكان معظمهم زعماؤهم متمسكون بوجهة نظر إيليا جاراشنين في ناشرتانيه Nacertanje , ويفضلون العمل من أجل دولة صربية ذات عرق واحد. ومن ناحية أخرى لم يكن فوك كاراديتش Vuk Karadzic أعظم عالم صربي آنذاك متعاطفاً مع الفكرة, إذ كان يشعر بأن من يتكلم اللهجة الأشتوكافيانية فهو صربي وفي نفس هذا الإتجاخ كان رد فعل معظم المثقفين الصربيين في فويفودينا سلبياً تجاه الحركة الإليرية.
ورغم ضآلة فرص نجاح الصربيين والسلوفينيين في مسعاهم, إلا أن برنامج الحركة الإليرية ضايق زعماء المجر وعلى هذا وفي 1841 نجح زعماء المجر في تكوين أول حزب سياسي كرواتي بإسم الحزب الكرواتي-المجري دعا أعضاؤه لرفض الفكرة الإليرية بشدة وتأييد المحافظة على الروابط الوثيقة مع المجريين. كما بذلواجهوداً لإقناع النمسا بخطورة الحركة الإليريية من حيث أنها حليفة للرابطة السلافية وتمثل تهديداً للإمبراطورية. وعلى هذا وفي 1843 إتخذت النمسا إجراءات لقمع الحركة ووضعت جاي تحت المراقبة. ورغم كل هذا كان تأثير الإليرية عميقاً دون شك إذ اصبحت أساس الحركة اليوجوسلافية فيما بعد التي كان لها مركزاً أيضاً في كرواتيا.
كان أول إختبار عملي لإحتمال قيام وحدة لسلاف الجنوب حدث ثورات 1848-1849, ففي أثناء ثورة المجر كان أنصار الإليرية في دوائر الحكم في زغرب (كرواتيا) يقودهم يوسيب ييلاشيك Josip Jelacic ويتحدث بإسمهم وكان كولونيل في جيش النمس. وعندما طلبت حكومة كوسيوث بحق المجريين في حكومة ذاتية في إطار إمبراطورية النمسا طالب الكروات بذات الوضع في إطار حكومة المجر, إذ كانوا يريدون التحرر من سيطرة الإدارة المجرية المباشرة, ويريدون برلماناً منفصلاً, وإلغاء نظام قنية الأرض Serfdom, وإستعادة مملكة تريونه Triunne القديمة . . أي وحدة كرواتيا ودلماشيا وسلافونيا. وكانت النمسا تحكم دلماشيا بينما تسيطر المجر على كرواتيا وسلافونيا. وعندما رفضت المجر (حكومة كوسيوث) هذه المطالب بصراحة لجأ الكروات إلى النمسا مثلما فعل الترانسلفنيون.
وفي تلك الأثناء وجد زعماء الكروات في صرب فويفودينا حلفاء يمكن التعاون معهم لأنهم كانوا يتطلعون بدورهم لحكومة ذاتية محلية, ويرغبون في التوحد مع الكروات في دولةمشتركة. وكان من مظاهر هذا التعاون أن يوسيب رايكتش Josip Rajacic بطريرك الصرب الأرثوذكس في سرمسكي كارلوفيتش في فويفودينا منح بركته لمحافظ الإقليم الكاثوليك في زغرب ييلاشيك Jelacic. وعلى هذا دخل الصرب والكروات ومعهم متطوعون من صرب مولدافيا ولاشيا في معارك ضد المجريين. ومن ناحية أخرى قامت حكومة الأمير الكسندر كاراديورفيتش في بلجراد بتشجيع أقرانهم الصربيين وأمدتهم سراً بالسلاح والعتاد والرجال.
ورغم أن كلا من الصرب والكروات كانوا ضد المجريين بشدة, لكنهم لم يعارضوا حكومة النمسا آنذاك. ففي 1848 كانوا يرون أن البرنامج النمساوي-السلافي يعبر عن أفكارهم خير تعبير, وقد كان يستهدف تحقيق مساواة للسلاف ضمن إطار إمبراطورية فيدرالية الطابع. وفي 1849 إشتركت قوات صربية وكرواتية مع القوات النمساوية والروسية والرومانية في سحق ثورة المجر. وقاد ييلاشيك قواته بولاء للنمسا رغم أنه كان يعرف آنذاك أن حكومة النمسا لن تمنح الحكم الذاتي الذي يتطلع إليه السلاف والرومانيون.
لقد كان ثورات 1848-1849 تعني نهاية الحركة الإليرية ففي خلال عقد من الزمان نشأ تياران سياسيان معارضين, أولهما يؤكد على القومية الكرواتية, والثاني كان توسعياً وإمتداد للفكرة الإليرية. وفي 1861 قام كل من آنتيه ستارشفيتش Ante Starcevic, ويوجين كافاتيرنيك Kavaternik بتأسيس حزب العدالة,ودعا برنامجه في إستمرار الإنفصال بين الكروات والسلوفينيين, وكان يعتبر الكروات أرثوذكس, والسلوفينيين كروات, ووضع في تخطيطه إمكانية إدخال هذين الشعبين في "كرواتيا الكبرى" في المستقبل. وكان برنامج هذا الحزب الذي كان أقوى تعبير عن الإنفصالية الكرواتية حتى تاريخه ينكر ما يعتقده المجريون, وضد رغبة الذين يريدون التعاون مع حكومة النمسا, ويعتبر المجريين مجرد أعداء, بل لقد رفض أية محاولات للتكيف مع الصرب أو السلوفنيين. ولقد لعب برنامج هذا الحزب والذي كان عنوانه "برافاستوف" Pravastov دوراً كبيراً في تفريق سلاف الجنوب في الإمبراطورية, وأما صرب الصرب ذاتها فقد كان بإمكانهم إدراك مشكلات هذا البرنامج لأنه كان بمثابة نظيرهم الكرواتي المضاد للأفكار القومية الصربية الكبرى.
لقد أخذ الكاهنان الكاثوليكيان يوسيب ستروسمايرٍStrossmayer Josip Juraj وفرانيو راشكي Franjo على عاتقهما مسئولية تبني تقاليد الإليرية, وقد كانا رفيقان متلازمان لا يفترقان, فالكاهن ستروسماير أسقف دياكوفو Djakovo والمتحدث بإسم إكليروس كرواتيا كان سياسياً ماهراً له سلطات واسعة وتأثير طاغ على شعبه وعلى الرأي العام في الخارج. ولكن كانون راشكي Canon Racki كان أكثر ثقافة فكان له فضل تطوير الأفكار الأساسية "لليوجوسلافية" لتصبح عنوناً لبرنامجه السياسي. وهكذا وبينما رفض ستارشفيتس Starcevic (حاكم كرواتيا) الحركة الإليرية وجدنا ستروسماير راشكي يتوليان تطويرها وإشاعتها. وبينما كان هدف الإليرية العاجل توحيد سلاف الجنوب في الإمبراطورية, كانت "اليوجوسلافية" تستهدف تجميع كل سلاف الجنوب معاً سواء تحت التاج المجري أم بدونه. وبينما توجهت الإليرية لوسط أوروبا لكسب أنصارها وركزت على الوحدة اللغوية والثقافية والتغاضي عن المسائل الدينية, تجهت اليوجوسلافية إلى البلقانيين وسعى زعماؤها للتغلب علىالخلافات الدينية بين الصرب والكروات. وبينما كان ستارشفتش يرغب في كرواتيا المستقلة كان ستروسماير وفرانيو راشكي يريان كرواتيا جزء من فيدرالية سلاف الجنوب. وفي سبيل تعزيز أهدافهما قاما بتأسيس أكتديمية "يوجوسلافية" أكثر من أن تكون "كرواتية" للأداب والعلوم لتوفير سبل أخرى لنشر كل مؤلفات وكتابات سلاف الجنوب لإشاعتها بين أكبر عدد من الناس.
وتمشياً مع معتقدات ستروسماير نراه يحاول إقامة إتصالات مع حكومة الصرب. وآنذاك كان أمير الصرب ميشيل ووزير خارجيته جاراشنين كما سبقت الإشارة ينشطان في السياسة الخارجية لتوحيد كل من الجبل الأسود واليونان ورومانيا ضد الدولة العثمانية, وتراسلا مع ستروسماير بهدف إستخدامه لتحقيق أهدافهما أكثر من العمل على توحيد سلاف الجنوب (التابعين للنمسا), فقد كانت ولايات الدولة العثمانية هدفهما وليس النمسا. وفي الواقع عندما كان ستروسماير يعتقد في عام 1866 أنه توصل إلى تفاهم مع الصرب كان أمير الصرب يتفاوض مع المجر لتوقيع إتفاق على حساب الكروات.
وبالإضافة إلى هاتين المجموعتين (الإليرية واليوجوسلافية) كان هناك حزبان كرواتيان أيضاً أحدهما مع المجر والثاني مع النمسا. وكان أنصار المجر لا يزالون ييدون فكرة وجوب إنضمام كرواتيا مع المجر في جبهة واحدة ضد النمسا مع إستعادة الحقوق والميزات التي كانوا يتمتعون بها قبل عام 1848 وإلغاء نظام باخ Bach. وفي تلك الأثناء أيضاً كان إيفان مكازورانيتش Mazuranic وهو كاتب روائي شهير قد ألف حزب الإستقلال القومي وتتلخص أهدافه في إستعادة مملكة ترييونه Triune التي كانت تزال تحت حكم النمسا. ورغم إنقسام الوعي السياسي بين الكرواتيين بين أربع مجموعات سياسية, إلا أن سياسات ثلاثة منها كانت تقوم على التعاون مع المجموعات القومية الأخرى.
على أن ميثاق أوجليخ كان ضربة لكل تلك الأحزاب ماعدا حزب أنصار المجر الذين وافقوا عليه. وفي 1878 وقعت المجر وكرواتيا إتفاق آخر بإسم "ناجودبا Nagodba وهو نوع من التسوية منحت بمقتضاه كرواتيا-سلافونيا درجة هائلة من الحكم الذاتي حيث أصبح لكرواتيا سابور Sabor خاص بها أي مجلس برلماني, وأصبحت الكرواتية لغتها الروسية, وعلمها برفرف بجانب العلم المجري, فضلاً عن إشتراك نواب منها في البرلمان المركزي العام في بودابست عاصمة المجر. ومع هذا ظلت المجر تعين محافظ كرواتياً وتحتفظ برقابة معتبرة على ميزانيتها.
غير أن ستروسماير, وراشكي, وستارشفيتش, وكفاتيرنيك Kvaternik, ومازورانيتش رفضوا جميعاً ذلك الإتفاق لأسباب مختلفة. وتمكن محافظ كرواتيا الجديد ليفن راوش Levin Rauch من تزييف إنتخابات برلمان كرواتيا (السابور) لكي تأتي أغلبية تؤيد أنصار المجر. وهكذا وعندما أخفق كفاتيرنيك في إقرار برنامجه السياسي قام بتنظيم ثورة في راكوفيكا Racovica لتحرير كرواتيا بالقوة, لكن الجيش سحقها بسرعة وقتل قائدها,وتحرر ستروسماير من أوهامه النظرية وإنسحب من النشاط السياسي وإن إستمر يؤيد فكرة "اليوجوسلافية" ويدعمها في كتاباته ومحاضراته حتى وفاته عام 1905.
والواقع أن الإختبار الحقيقي للعلاقات الصرية-الكرواتية, وفكرة اليوجوسلافية خلال أزمة سبعينيات القرن التاسع عشر وخاصة بعد إحتلال النمسا والبوسنة والهرسك في 1878. وعند ذاك تم النظر إلى موضوع الإحتلال على أساس أن الأفكار القومية الكرواتية والصربية أصبحت في صراع مباشر. فمثلاً كانت إدارة النمسا للبوسنة والهرسك ضربة قوية للقومية الصربية حيث كانت الصرب تعتبر البوسنة والهرسك أرضاً صربية بحكم العرق. أما كرواتيا فمانت ترى أنه طالما أن البوسنة والهرسك أصبحت تحت سيادة النمسا فسوف يكونمن العسير عليها أن تؤكد على مطالبتها بهما أكثر مما لو بقيتا جزء من الدولة العثمانية, أو في حالة وقوع الأسوأ ألا وهو أن تصبح البوسنة والهرسك تحت سيطرة الصرب. وكانت مسألة إحتلال النمسا للبوسنة والهرسك تهم أنصار اليوجوسلافية,وأنصار كرواتيا المستقلة. ولكن نظراً لموقع الصرب وكرواتيا في الوسط فإن الذي يسيطر على البوسنة والهرسك يسيطر على سلاف الجنوب,وبدون البوسنة والهرسك تكون كرواتيا المستقلة ضرب من المستحيل.
ويمكن فهم الأهمية الجغرافية السياسية للبوسنة والهرسك بالنسبة لكرواتيا في سياق مملكة ترييونة القديمة في العصور الوسطى إذا علمنا أن دلماشيا وكرواتيا وسلافونيا لا يمثلون إستارتيجية إلا بضم البوسنة والهرسك وفي هذه الحالة تستعيد مملكة ترييونة القديمة حيويتها وتصبح دولة مربعة الأضلاع.وعلى هذا فإن قيام الصرب بضم البوسنة والهرسك يعد كارثة لكرواتيا فيما يتعلق بأراضيها التاريخية. ولأن النقاط ذات الأهمية العسكرية في المنطقة تتركز أكثر في أراضي الصرب فإن الخطر سوف يبدو واضحاً إذا ما نجحت الصرب في تنفيذ مشروع الصرب الكبرى بضم البوسنة والهرسك, ففي هذه الحالة فإن كرواتيا سوف تفقد دعواها بشأن البوسنة والهرسك وكثيراً من أراضيها في الجنوب الداخلة ضمن النقاط العسكرية. وإذا أخذت الصرب إقليم لايكا Lika جنوب شرقي كرواتيا الذي يضم عدداً ضخماً من الصربيين فإن الصرب بهذا قد تدق إسفيناً بين كرواتيا ودلماشيا. وبالتالي لا يمكن الحيلولة دون ضياع باقي أراضي وإبتلاع جيرانها لها. وفي هذا السياق فإن كرواتيا كانت تمثل الجانب الضعيف في الحسية. ذلك أن 20% فقط من سكان البوسنة والهرسك يمكن إعتبارهم كروات على حين أن 43% منهم صرب أرثوذكس, والقسم الثالث من السكان مسلمون بين صرب وكروات.
على أن ذلك الجدل الذي حدث بشأن البوسنة والهرسك كان تمهيداً لوقوع خصومة بين الصرب والكروات على مدى ربع قرن من 1878-1903. وفي تلك الأثناء كما سبق أن رأينا كان ميلان أمير الصرب وإبنه الأسكندر يعملان بتنسيق لصالح النمسا. وفي كرواتيا نجح المحافظ شارل خييون-هيدرفاري Khuen-Hedervary خلال فترة حكمه 1883-1903 في زيادة روح العداوة والخصومة بين الصرب والكروات بإستخدام سياسة فرق تسد, فنراه يتعاطف مع الأقلية الصربية في مطالبها بشأن التعليم والإقتصاد والسياسة فإكتسب تأييد الطبقة الوسطى الصربية وبعض المثقفين ورجال الدين. وإزاء هذا الموقف ساند الكروات حزب الحقوق الذي أسسه ستارشفتس بكل قوة حتى تمكن في ثمانينات القرن التاسع عشر تحت شعارات القومية الكرواتية المزعجة والخطاب المعادي للصرب من السيطرة على المسرح السياسي في كرواتيا. وفي التسعينيات كانت العلاقات بين الكروات والصرب غاية في السوء حتى لقد وقعت مصادمات دموية بينهم في زغرب وفي مدن أخرى أدت إلى رد فعل غاضب من كرواتيا حتى لقد طالب البعض بإعلان حرب التطهير العرقي بين سلاف الجنوب.
كما توارت جانباً في تلك السنوات فكرة "اليوجوسلافية" كبرنامج سياسي. ولكن وفي 1903 حدث تغير في المسرح السياسي لم يكن متوقعاً ففي ذلك العام كما ينبغي أن نتذكر أصبح بيتر كارديورفيتش ملكاً على الصرب وعزل محافظ كرواتيا (خييون-هيدرفاري), وعزل بنيامين كالاي Kallay محافظا البوسنة والهرسك رغم تحسن أحوال الإقليم كثيراً مدة ولايته التي إستمرت عشرين سنة. وفي الوقت نفسه كان الموقف السياسي يزداد سوءً إذ حاولت النمسا أكثر من مرة أن تتبنى حركة قومية بوسنية منفصلة وترعاها, لكن التغييرات الرئيسية حدثت في الصرب وكرواتيا, فبينما تحسنت علاقات الكروات والمجريين, تدهورت علاقات الصرب مع النمسا تدهوراً حاداً. وبقيام حكومة جديدة في الصرب كانت الفرصة مهيأة إحتمال إستغلال مشكلات قوميات النمسا لصالح الصرب.
عرفنا أ، الصرب تحت حكم الملك بيتر كانت في صراع مستمر مع جاراتها الشمالية, وكان من الطبيعي أن تكون بلجراد عاصمتها مركزاً ثقافياً وحضارياً لنشاط سلاف الجنوب إذ شهدت تجمعات للطلاب وللمدرسين والأطباء وعدة معارض فنية وحفلات موسيقية. وفي 1904 كون بعض الطلاب والمثقفين جمعية بإسم سلاف الجنوب Slovenski Jug لتوحيد الصرب والكروات والسلوفينيين معاً, ومعهم البلغار, وكانت تراقب ما يحدث في بلجراد ومدى تحسن العلاقات الإقتصادية والسياسية الظاهر بين الصرب وبلغاريا. وهكذا أصبحت الصرب تحت حكم كاراديوريفيتش منطقة جذب.
كما حدثت تغييرات أيضاً في كرواتيا فلقد أدى ضغط المجر على الكروات إلى تمسكهم أكثر بقوميتهم الخاصة وليس باليوجوسلافية, فبعد 1895 وفي إضطرابات طلابية حادة في زغرب غادرها كثير من الطلاب سلاف الجنوب للدراسة في براج (رومانيا) وهناك وقعوا تحت تأثير الأستاذ توماس مازاريك Masaryk الذي كان قد أصبح هو وستروسماير في صدارة دعاة "اليوجوسلافية". وقد دأب مازاريك الذي كان مراقباً جيدأ لسياسات النمسا وأستاذاً ذائع الصيت يتمتع بالقدرة على الإقناع, على أن يؤكد لطلابه كيف أن سياسة النمسا والمجر تستهدف تقسيم الصرب والكروات لصالح الإبقاء على صيغة الحكم الثنائي (إمبراطورية النمسا-المجر). وهكذا وبحلول عام 1903 ظهر جيل جديد من شباب الصرب والكروات إستقر رأيهم على العمل سوياً ومن مث عقدوا إجتماعات وحضروا مؤتمرات ومجالس في بلجراد.
ومما كان له مغزاه في إطار تلك التغييرات التفاهم الذي تم بين أغلبية الأحزاب السياسية الكرواتية والصربية في أنحاء إمبراطورية النمسا والمجر, والذي إنطلق من دلماشيا بعد تعاون بينها على مدى أربعين سنة إلا في حالات تعارض المصالح القومةي مثلما حدث بشأن البوسنة والهرسك. وعندما تكرر الصراع بين المجر والنمسا في عام 1905 حول موضع الجيش, وقرر الزعماء الكروات في دلماشيا إستغلال الخلافات بين مركزي الإمبراطورية (النمسا والمجر), وحيث أنهم شعروا أن النمسا أصبحت تمثل الخطر الرئيسي على طموحاتهم القومية فقد قرروا التعاون ليس فقط مع الصرب ولكن أيضاً مع المجر وحتى إيطاليا على أمل كسب مساندة المجر في إستعادة مملكة ترييونه القديمة. ولقد كانت تلك الإعتبارات وراء ما عرف بقرار مؤتمر رييكا Rijeka (فيوم Fium) في أكتوبر 1905 الذي إنتهى إليه الأحزاب الكرواتية في دلماشيا. وبعد ذلك بأسبوعين صدقت الأحزاب الصربية في أنحاء الإمبراطورية على هذا القرار في إجتماع في مدينة زادار Zadar (زارا Zara) في مقابل إعتراف كرواتيا بالقومية الصربية في أراضي مملكة ترييونه. وقد أدت جميع تلك الظروف إلى تكوين التحالف الكرواتي-الصربي في 1905 الذي إعتمد برنامجه على قرارات مؤتمري رييكا, وزادار وتكونت عضويته من كل حزب العدالة الكرواتي, والحزب التقدمي الكرواتي, وحزب الإستقلال الصربي, والحزب الراديكالي الصربي, والإشتراكيون الديموقراطيون, وشخصيات مرموقة غير مرتبطة بأي حزب من الأحزاب. وكان هذا التكوين يعكس الموقف المعقد في كرواتيا, ووقعت قيادة التحالف في يد كل من فرانو سوبيلو Frano Supilo, وآنتيه ترومبيتش Ante Trumic, ويوسيب سمودلاكيه Josip Smodlake, وسفتوزار بريبيكفيتش Svetozar Pribicevic وكل منهم لعب دوراً رئيسياً في بناء مستقبل شعوب سلاف الجنوب وكان هدف التحالف تحقيق وحدة سلاف الجنوب, في الإمبارطورية يتبعه في المستقبل وحدة كل اليوجوسلافيين.
غير أن سرعان ما إنهالت الجهود المتواصلة للتوصل إلى تفاهم بين الكروات والمجر خاصة وأن المجر تخلت عن مطلبها من النمسا بشأن إقامة جيش مستقل وتمت تسوية كل خلافاتها مع النمسا بشكل مؤقت. ورغم أن محاولات "ميجرة" الكروات ظلت مستمرة وأن جهوداً بذلت لكسر التحالف إلا أن جوهر الوضع ظل دون تغيير حتى عام 1918. ويبدو واضحاً أن المجر كانت تستهدف من التحالف دفعه تجاه الصرب ولم يكن هذا مفهوماً من المجر خاصة وأن كثراً من روابطها مع الصرب ظلت سرية. ومع ذلك لم ينجح التحالف في إخفاء رغبة الصرب في توحيد سلاف الجنوب بل وتمكنت من الفوز بوضع قيادي في البرلمان الكرواتي (السابور) بعد إنتخابات 1906, 1908. وعلى هذا وخلال ثلاثة سنوات تمكنت الأحزاب السياسية الكبرى الصربية والكرواتية من تسوية كثير من خلافاتها, وتشكيل جبهة مشتركة أصبحت الاتظيم السياسي الوحيد الأكثر نفوذاً بين سلاف الجنوب رغم عدم حصولها على أغلبية في الإنتخابات.
وفي تلك الأثناء برزت مرة أخرى مشكلة البوسنة والهرسك فبعد إحتلال النمسا لهما في عام 1878 أنفقت أموالاً ضخمة فيهما على بناء الطرق والمدارس والمباني العامة من أجل تحديث المناطق المتخلفة, وعملت على تهدئة سكانهما وخاصة أثناء ولاية المحافظ كالاي Kallay بين عامي 1883-1903, كما أقام أهالي البوسنة والهرسك أنفسهم بخطوات مهمة لتحسين وضعهم. ولكن عندما قامت النمسا بضم البوسنة والهرسك في 1908 في أعقاب إستيلاء جماعة الإتحاد والترقي على السلطة في الدولة العثمانية حدث رد فعل قوي وكبير في الصرب حتى لقد كان الكثير من الصربيين على إستعداد للذهاب للحرب لتخليص البوسنة. وعلى هذا وفي ديسمبر 1908 تكونت منظمة مدنية بإسم "جمعية الدفاع القومي" Narodna Odbrana لحشد الأمة وراء قضية البوسنة وإرسال متطوعين لمحاربة قوات الإحتلال النمساوي. وأما أنصار وحدة سلاف الجنوب في الإمبارطورية فقد عقدوا إجتماعات عامة وأصدروا بيانات وناشدوا الرأي العام في الصحف الأوروبية لتقديم الدعم والمساندة. وقد لاقى هؤلاء المساعدة المنشودة بفضل التصرفات الحمقاء لمسئول نمساوي يدعى آجرام Agram قام بعقد محاكمة سياسية لشخصيات صربية وكرواتية في كل من زغرب, وفريديونج Fredjung لها صلة بموضوع ضم البوسنة والهرسك والتحالف الكرواتي-الصربي.
بدأت محاكمة زغرب في مارس 1909 وإستمرت لمدة ستة أشهر وقد قام الإدعاء فيها على القول بأن التحالف الكرواتي-الصربي كان أداة في يد الصرب دون تقديم أية أدلة قوية فضلاً عن تزييف بعضها. ووجهت تهمة الخيانة لبعض أعضاء التحالف الكرواتي-الصربي, وكانوا من الصرب أساساً وإستهدفت المحاكمة تدمير العلاقات التنظيمية للتحالف بإثارة كل عضو ضد الآخر وإيقاع الفرقة بين الجميع. وبعد إدانة المتهمين قالت صحيفة بودابست المجرية "بستر لويد Pester Lioyd" أن المحاكمة كانت سياسية في كل شيء. ولكن وفي 1910 أصدر فرانز جوزيف إمبراطور النمسا قراراً بالعفو عن افلمسجونين.
أما محاكمة فريديونج فكانت أكثر صرامة لأنها كانت تستهدف تقديم تبرير للحرب ضد الصرب عندما بدا أن الصرب لن تقبل ضم النمسا للبوسنة. لكن الهدف الحقيقي من المحاكمة كان تدمير التحالف الكرواتي-الصربي وبعض أعضائه الذين وجهت لهم جميعاً تهمة خيانة حكومة الصرب. ومرة أخرى إستخدمت النمسا التزوير وتزييف الأدلة التي تم صياغة بعضها بمعرفة وزير خارجية النمسا الكونت آهرنثال Aehrenthal وعندما إتضحت الأمور أسقطت الإدعاءات وتم تبرئة المتهمين. والخلاصة أن كلا المحاكمتين قدمت مادة هائلة وعظيمة لدعاية سلاف الجنوب التي تلقت إهتماماً كبيراً من الصحافة الأوروبية.
ويلاحظ أن محاكمة فريديونج إستهدفت بشكل رئيسي شخص فرانو سوبيلو رئيس التحالف الكرواتي-الصربي ورغم عدم إدانته إلا أنه إستقال من منصبه لحماية التحالف. وبناء على هذا تم إنتخاب سفيتوازار بريبيكفيتش زعيم حزب الإستقلال الصربي رئيساً للتحالف. وبينما كان سوبيلو وهو كرواتي يقيم في دلماشيا ويعتقد أن كرواتيا يجب أن تقود وحدة اليوجوسلاف, وكان بريشتفتش وهو صربي يقيم في كرواتيا يرى أ، الصرب هي التي ينبغي أن تقوم بهذا الدور. ومعنى أن شخصية صربية أي بريشتفتش تقود التحالف كان مثالاً آخر من نجاح محاولات التوفيق بين الشعبين السلافيين (الصرب والكروات) منذ عام 1903, فضلاً عن أن بريشتفتش الصربي يمكن أن تستخدمه حكومة الصرب ذاتها ليكون همزة وصل لها تأثيرها.
وبصرف النظر عن أهداف التحالف فلابد أن نعرف أن شعبية فكرة "اليوجوسلافية" وسط دائرة كبيرة من الناس وإستمرار الأخطاء التي إرتكبها المسئولون المجريون والنمساويون من الشيوفونيين (المتعصبون قومياً) جعلت أغلبية الكروات عشية الحرب العالمية الأولى يتطلعون إلى الإصلاح في نطاق النمسا وليس تصفيتها وتكوين دولة سلاف الجنوب المتحدة مع الصرب, ومع ذلك ظلت مخاوف الكروات وترددهم قائمة. وهكذا تبنى "حزب العدالة الأصيل" الذي إنشق في تسعينيات القرن التاسع عشر من حزب المحافظين فكرة إقامة "كرواتيا الكبرى" والتي تضم البوسنة والهرسك ذات حكم ذاتي في نطاق الإمبراطورية النمسا, وكانت فكرة معادية للصرب. أما حزب الفلاحين برئاسة ستيبان راديتش Shjepan Radic الذي أصبح أقوى حزب كرواتي بعد الحرب العالمية الأولى فكان يساند فقط وحدة سلاف الجنوب التابعين للمجر. وقد رحب الإشتراكيون الديموقراطيون بهذه الفكرة وكانوا يتطلعون إلى وحدة قومية-ثقافية بين سلاف الجنوب بدون الإنفصال عن النمسا. يضاف إلى هذا أن برنامج "إقامة الثلاثية Trialism أي دخول سلاف الجنوب في وحدة سياسية بوضع متكافئ مع كرواتيا والصرب كان يحظى بإعجاب واسع, وهو البرنامج الذي إرتبط بإسم وريث العرش فرانز فرديناند رغم أنه لم يكن يؤيده في الحقيقة. ويلاحظ أن برنامج معظم الأحزاب الكرواتية كانت تعبر بطريقة أو بأخرى عن خشيتها من الإختلافات الدينية مع الصرب.
ومع ناية القرن التاسع عشر وحلول القرن العشرين حل عنصر آخر في سياسات كرواتيا, ذلك أن الكروات حتى ذلك الحين كانوا يستخدمون وسائل قانونية وسلمية لتحقيق أهدافهم, إلى أن ظهرت مجموعة من شباب الطلاب كفرت بكل من أنصار التحالف الكرواتي-الصربي ومعارضيه وتمسكوا بالعنف سبيلاً. وعلى هذا تمت محاولتين في 1912 لإغتيال محافظ كرواتيا سلافكو كافاي Slavko Cavaj, ومحاولتان آخرتان في 1913, 1914 لإغتيال خليفته إيفو سكرليش Ivo Skerlecz.
ورغم أننا نركز في هذا العرض بصفة أساسية على الوقائع التي حدثت في كرواتيا-سلافونيا, إلا أنه يتعين متباعة التطورات التي وقعت في سلوفينيا. ففي وسط سلاف الجنوب ظل السلوفينيون أكثر ولاء لمملكة المجر, وكان الحزب الإكليريكي Clerical Party أقوى أحزابهم يساند فكرة الثلاثية (ترياليزم) وليس فكرة اليوجوسلافية, كما أن جناحي الحزب الليبرلي السلوفيني كانا مهتمان بالحصول على حقوق أكثر في الحكم الذاتي لسلوفينيا في إطار الإمبراطورية النمسوية-المجرية وليس على حسابها, وكذا الإشتراكيون الديموقراطيون الذين كانوا يركزون أكثر على الحكومة الذاتية القومةي في الشؤون الثقافية وليس بالإنفصال عن مملكة المجر. وفي هذا السياق لم يكن هناك بين السلوفينيين من يعتقد أن قضية القومةي السلوفينية لا يمكن أن تحل إلا في إطار دولة كبرى لسلاف الجنوب إلا بعض الطلاب أعضاء مجموعة النهضة Preporod التي كونت أثناء حروب البلقان. وهذا يعني أن "اليوجوسلافية" لم تكن تمثل قوة حيوية بين السلوفنيين قبل عام 1914.
على أن رد الفعل في مملكة الصرب تجاه فكرة "اليوجوسلافية" مع كل الإعتبارات كان أقل تعاطفاً مما كان لدى سلاف مملكة النمسا والمجر. والحقيقة أن بيتر إلى حد ما كان قد أصبح رمزاً لوحدة سلاف الجنوب وكانت بياناته مثار إعجاب لكثير من الطلاب الصربيين والمثقفين في المجر وفي النمسا على السواء وكان المسئولون في المملكة يخشونها. غير أن القوى السياسية المسيطرة في الصرب من ضباط الجيش والسياسيين لم تكن معنية كثيراً بمصير السلوفينيين والكروات وإنما كانت مهتمة أكثر وعلى مدى قرن من الزمان بتكوين دولة الصرب الكبرى التي تشتمل على أراضي يعتبرونها صربية تاريخياً وعرقياً. على أ، الصربيين تحت حكم النمسا من المدنيين المسئولين والعسكريين وخاصة في البوسنة والهرسك كانوا يعترضون على مصالح القوى السياسية وتوجهاتها بطبيعة الحال. لكن هذين الفريقين كانا غير متفقين في الوسائل التي تستخدم في مواجهة تلك المواقف رغم تشابه مواقف كبل منهما فالسياسيون كانوا واقعيين وحذرين منهم والعسكريون وبدعم ملحوظ من رجال الدين الأرثوذكس كانوا يرغبون بالمخاطرة بالحرب ضد الدولة العثمانية أو إمبراطورية النمسا والمجر من أجل الأهداف القومية. ومن المفهوم أنالحكومة كانت تلاغب في تقرير سياسة الدولة, لكن الملك بيتر كان يراوغ, وكان المأزق أن الجيش الذي أتى به إلى الحكم في 1903 كان لا يزال يحتفظ بافكار الحكم الذاتي. وعلى هذا واجه بيتر طوال العشر سنوات السابقة على 1914 ضغوطاً من السياسيين ومن الجيش في الصرب الذي كان لكل منهما خططه الخاصة بالنسبة للمستقبل البلاد.
غير أن ضم النمسا للبوسنة والهرسك في 1919 كان ضربة قاصمة للجميع فحكومة الصرب إعترفت بأ، عليها التخلي عن القضية بل لقد كبحت نشاط منظمة "نارودنا أودبرانا" التي كانت تجمعاً مدنياً وليس عسكرياً. لكن الجيش لم يفهم موقف الحكومة هذا وشعر أن الدولة في أحسن الحالات تقودها شخصيات ضعيفة أو مجموعة من الخونة في أسوأ التقديرات. ولهذا قرر بعض ضباط الجيش الإستعداد لمواجهة أية أزمات دولية وإستغلالها لإستقدام صرب الدولة العثمانية و النمسا إلى أراضي الصرب وذلك لمواجهة ما بدا أنه خطر يهدد أمتهم.
وفي 1911 تكونت في الصرب جمعية سرية بإسم "الوحدة أو الموت" Ujedinjenje ili Smrt وكانت تعرف أيضاً بإسم "اليد السوداء" Crana Ruka بزعامة الكولونيل دراجوتين ديمتريفتش Dragutin Dimitrijevic, وبسيودونيم آبيس Pseudonym Apis . وكان ديمتريفتش وهو أحد المتآمرين في إغتيالات 1903 رجلاً شديد الوطنية ومشهوراً, لكنه يثق في أن يضع مصير الصرب في يد الحكام المدنيين. ومن ثم كانت نواة مجموعته من ضباط الجيش, وبعض ممكن فتنتهم مظاهر التآمر أو الذين تبنوا بشدة برنامج "الرابطة الصربية". ولقد قامت جمعية اليد السوداء بالتأكيد على غرضها في المادة الولى من لائحة نظامها الأساسي حيث نصت على أن غرضها "تحقيق النموذج المثالي لوحدة الصرب", ونصت المادة الثانية على بلوغ هذا الهدف يكون من خلال "العمل الثووري أكثر من الثقافي وعليه أن يبقى سراً عن عامة الناس". وفي عام 1913 أصبح ديمتريفتش رئيس المخابرات الصربية وهو منصب له أهمية كبرى, وكان للجيش شبكة من العملاء وسط صربيي الدولة العثمانية والنمسا, وبواستطهم كان ديمتريفتش يعمل من أجل توحيد الصرب وليس سلاف الجنوب.
ومن المفارقات أن مهمة السيطرة على الجيش في الصرب كانت من إختصاص الحكومة التي كان يرأسها نيقولا باشيك Pasic والذي كان في الوقت نفسه زعيم الحزب الصربي الراديكالي, وكان يدرك حدود قوة بلاده بإعتباره سياسياً متشدداً على درجة واضحة من الوعي والفهم, وإكتسب خبرات كثيرة أثناء إداراته للعلاقات مع النمسا وخلال جهوده الدبلوماسية أثناء حروب البلقان. وكان عليه أن يأخذ بأحد طريقتين: إما أن تركز الصرب على إقامة "الصرب الكبرى", وإما أن تسعى لإقامة دولة موحدة لسلاف الجنوب. ولاشك أن فكرة "الصرب الكبرى" كانت تلقى تأييداً غامراً من الصربيين بكل فئاتهم: السياسيون, والمهيمنون, والعسكريون, ورجال الدين, والفلاحون, ومعظم الطلاب والمثققفين وكان هو نفسه متمسكأ بها. وبينما كانت القومية الصربية جزء من تقاليد الماضي كانت اليوجوسلافية في أحسن الأحوال تصور غامض ومبهم فضلاً عن أنه لم يكن بإمكان باشيك أن يتجاهل طموحات الجيش الذي زادت قوته ومكانته بسبب دوره السياسي في 1903 وإنتصارته في حروب البلقان 1912-1913, وقد يتحدى الحكومة في بعض المسائل بشكل مؤثر.
وفي الوقت نفسه إعترف باشيك بأنه لا يستطيع مجافاة أنصار فكرة "اليوجوسلافية", إذ كان يتوقع إستمرار حالة العداء والخصومة مع إمبراطورية النمسا والمجر في المستقبل لأن الأراضي التي تطالب بها حكومته لا تزال في يد النمسا. وعلى هذا فإن أي فرد يمكنه تقديم المساعدة لتحقيق أغراض الصرب ينبغي تشجيعه بوضوح. وهكذا إحتفظت حكومة الصرب سراً بعلاقاتها ليس فقط مع الصربيين في الأراضي الأخرى ولكن أيضاً مع أنصار فكرة اليوجوسلافية في البوسنة والهرسك وفويفودينا وكرواتيا والبلاد التي تضم نسبة كبيرة من الصربيين. ولعل أبرز دليل على حدود إهتمامات باشيك باليوجوسلافية قلة إهتمامه بالسلوفينيين الذين نظر إليهم بإعتبارهم أعضاء أساسيين في حركة اليوجوسلافية ويحتاجون الصرب أكثر من إحتياج الصرب إليهم.
وبحلول عام 1914 كسبت اليوجوسلافية أنصاراً متشددين في كل بلاد سلاف الجنوب, إلا أنها كانت من حيث المبدأ مجرد تصور كرواتياً وينقصها مساندة جماهيرية كبيرة من الصربيين والسلوفينيين وحتى في كرواتيا ذاتها لأن التحالف الكرواتي-الصربي لم يكن يمثل أغلبية سكان إمبراطورية النمسا والمجر كانوا يفضلون أفكاراً تدعو إلى توحيد سلاف الجنوب ضمن الحدود السياسية القائمة. وفي الصرب أيضاً كما رأينا, كان هناك إتفاق قوي حول أن هدف الصرب في المستقبل ينبغي أن يكون إقامة الصرب القومية التي تضم كل أراضي الصرب حيثما كانت.
سراييفو تتلخص الأسباب المباشرة للحرب العالمية الأولى ف يالموقف المعقد الذي نشأ من قوة حركة القومةي الصربية, ومن ضم النمسا للبوسنة والهسك, ومن المشكلات التي سببتها حركة "اليوجوسلافية" لللإمبراطورية النمساوية-المجرية. كما أن الحادثة التي أدت إلى وقوع الحرب معروفة أيضاً, ففي 28 يونية 1914 كان الأرشيدوق فرانز فرديناند ولي عهد النمسا في سراييفو بعد أن حضر مناورات عسكرية في البوسنة وكان يوم الزيارة المحدد إختياراً سيئاً فقد كان يصادف ذكرى معركة كوسوفو وهي العيد القومي للصرب, ولم تكن الإجراءات الأمنية قوية إذ كانت فرقة الحراسة مكونة من ستة شباب البوسنة فقط ومسلحين بمسدسات وقنابل ويقفون على جانبي الطريق المقرر أن يمر فيه موكب الأرشيدق. وألقيت على الموكب أول قنبلة فلم تصبه إذ تدحرجت على السيارة ثم إنفجرت وجرحت بعض المرافقين. وترتب على هذا تغيير طريق الموكب غير أن سائق السيارة الذي لم يعلم بتغيير خط السير إضطر للوقوف عند نقطة معينة وحرك السيارة للخلف ثم تقدم ناحية تقاطع الطريق, وفي تلك اللحظة كان جفريلو برنسي Gavrilo Princip أحد المتآمرين يقف على ناصية الطريق فقفز على السيارة وأطلق الرصاص على الأرشيدق وعلى الجنرال بوتيوريك Potiorek قائد جيش البوسنة فقتل الأرشيدق وزوجته ونجا الجنرال.
كان عمر المتآمرين عدا واحد أقل من واحد وعشرين سنة ويعيشون في أفقر أحياء البلقان ومن ثوار البوسنة الرومانسيين, فمثلاً كان جفريلو برنسيب في الرابعة عشر من عمره عندما ضمت النمسا البوسنة, وخلال السنوات التالية إنغمس هو وزملاءه في العمل السري. وقد إنهمكوا في قراءة أدب الثورة المعاصر لكل من شيرنشفيكي Chernyshevsky, وباكونين Bakunin, ودوستويفسكي, وجوركي, وللكتاب الغربيين مثل إبسن, ووايلد, وبوى Poe, ودوماس. وقد أعجبوا بشكل خاص بنشاط بوجدان زارايتش Bogdan Zarajic وهو شاب بوسنوي إنتحر في عام 1910 بعد محاولة فاشلة لإغتيال أحد المسئولين. وكان الهدف المتآمرين التخلص من فرانز فرديناند الذي كان في رأيهم عقبة رئيسية أمام وحدة البوسنة والهرسك مع الصرب. وكانوا يخشون أن برنامج "الثلاثية" الذين إنضموا إليه عن طريق الخطر مع الأرشيدق قد يتم تنفيذه وتصبح البوسنة والهرسك جزء متكاملاً منن إمبراطورية النمسا بعد إعادة تنظيمها.
ويتعين علينا مراجعة ملمحين رئيسين من ملامح واقعة الإغتيال أولهما مدى مسئولية حكومة الصرب, وثانيهما درجة المخاوف من نشاط حركة اليوجوسلافية التي دفعت النمسا إلى إعلان الحرب على الصرب. أما الإجابة على الملمح الأول فإنها معقدة, ذلك أنه لم يسمح للمؤرخين بالإطلاع على وثائق هذا الموضوع في أرشيف الصرب لكن هناك قبول لبعض إستنتاجات عامة معينة. وأما بخصوص تواطؤ باشيك وديمتريفتش في النشاط المعادي للنمسا فأمر محسوم. ففي أواخر مايو أو أوائل يونية 1914 علم باشيك أن بعض شباب من البوسنة الذين يدرسون في بلجراد يخطون للقيام بعمل ما غير محدد ضد أرشيدق النمسا أثناء زيارته لسراييفو, وقد تأكد من أن مسئولين صربيين ساعدوا هؤلاء الشباب في عبور الحدود إلى البوسنة بشكل غير قانوني. وبناء على هذه المعلومات حاولت حكومة الصرب تحذير سلطات النمسا في الخامس من يونية عبر ممثليها في فيينا, لكن المسئولين النمساويين لم يأخذوا التحذير مأخذ الجد لأنه لم يقدم بشكل مباشر وصريح. والخلاصة أن باشيك ورجال حكومته لم يكونوا على علم بخطط المتآمرين بالضبط كما أنهم لم يساعدوا بشكل مباشر في الأنشطة غير المشروعة.
ورغم إمكانية تبرئة حكومة الصرب من تهمة التورط المباشر, إلا أنه لا يمكن تبرئة الكولونيل ديمتريفتش رئيس المخابرات العسكرية, فقد كان له عملاء في البوسنة’ وبإعتباره زعيم جمعية اليد السوداء أيضاً كان بإمكانه تجنيد الشباب الثائر والغاضب للقيام بعما ما ضد انمسا. وعلى هذا فمن المؤكد إلى حد كبير أن الشباب شرعوا في حياكة المؤامرة بأنفسهم وأن جمعية اليد السوداء قدمت لهم المساعدة حين طلبوها.ومهما يكن من أمر إختلاف التفسيرات وأيها يكون مقبولاً فالحقيقة أن المتآمرين إلتقوا مع ديمتريفتش في بلجراد في مايو 1914 حيث زودهم بالمسدسات والقنابل من مستودعات الجيش بأمر اللقاء مع ديمتريفتش أمرته بإيقاف تنفيذ الخطة لكن الأمر كان متأخرا جداً على التراجع.
على أن موضوع تورط الصرب أصبح يدور حول ما إذا كانت الحكومة مسئولة عن تحركات الضباط أم غير مسئولة, ذلك أن جمعية اليد السوداء آنذاك كانت عابرة عن دولة داخل الدولة, ولم يكن من الممكن السيطرة عليها حيث تحدت الحكومة في قضية مقدونيا (يونية 1914) وأرغمت الملك بيتر على التنازل عن العرش لإبنه الأمير ألكسندر. كما أن رئيس المخابرات العسكرية مد العناصر التي قامت بإغتيال الأرشيدق بالأسلحة, فضلاً عن أن مساعديه أعادوا المتآمرين إلى البوسنة بطريقة غير قانوينة. ولكل هذه الملابسات كان لدى النمسا سبب كاف للقيام بعمل شديد تجاه الصرب.
أما الملمح الثاني في القضية الخاص برأي النمسا في مدى مخاطر اليوجوسلافية من حيث وحدة سلاف الجنوب علىتكامل إمبراطورية النمسا-المجر ودور الصرب في كل هذا وهو أمر كان محل مناقشة واسعة بين المسئولين النمساويين فيمكن الإجابة عليه بوضوح. فقد كانت هناك مدرستان في النمسا لمواجهة "اليوجوسلافية": واحدة يمثلها القائد العام للجيش كونارد فون هوتزندروف Conard von Hotzendorf والخرى يمثلها فرانز فرديناند. وكان هوتزندروف يفضل إستخدام القوة لقمع الحركة وحيث أنه كان يعتبر الصرب هي القوة الأعظم تهديداً للنمسا فقد كان يطالب بإستمرار بعد عام 1906 بشمن حرب وقائية ضدها, إذ بدون مساندة صربية لا يمكن لحركة اليوجوسلافية أن تنجح وكان يفضل تقسيم الصرب بين النمسا وبلغاريا كحل مثالي. أما فرانز فرديناند الذي يؤيده الجيش أيضاً فكان على العكس يفضل التوصل إلىتفام مع الشعوب اللسافية والرومانيين ومنح مزيد من الحكم الذاتي للأعراق المختلفة في مواجهة المجريين الذين يمثلون إزعاجاً كبيراً.
والواقع أن إغتيال الأرشيدق فرض على النمسا وقد أصبحت مقتنعة بتورط الصرب في المؤامرة أن تختار أحد حلين لمواجهة الموقف: أما أن تدمر الصرب التي ظلت مركزاً للنشاط المعادي لها منذ 1903, وإما أن تنتظر التصفية البطيئة للصرب. وخلال شهر بين 28 يونية-28 يوليو 1914 كان موضوع إتخاذ إجراء ضد الصرب محل مناقشة, وكان من رأي وزير الخارجية الكونت ليوبولد فون بير ختولد Berchtold, ومعه هوتزندروف شن الحرب على الصرب, ومن ثم عملا على إقناع الإمبراطور والكونت ستيفن تشيزا Tisza رئيس حكومة المجر, كما كان عليهما إستشارة المانيا حليفة النمسا. وينبغي التأكيد على أ، أحداً من هؤلاء الرجال لم يكن يتوقع أن ينتهي الخلاف إلى إشعال حرب أوربية عامة رغم أن الإحتمالات كانت تتوقع ذلكز وبينما كان فرانز جوزيف مقتنع بقبول حل قوي دون صعوبة كثيرة, كان تشيزا متمسك برأيه في إعلان الحرب بشرط عدم ضم الصرب إلى النمسا, والمجريون لم يكونوا يريدون مزيداص من العناصرب السلافية. وأخيراً وبمقتضى إتفاقات داخلية وبمساندة ألمانيا أرسلت النمسا إنذاراً إلى الصرب بمطالب معينة عليها تنفيذها خلال 48 ساعة. كما ينبغي غلإشارة إلى أنه لم تحدث محاولة للتفاهم مع روسيا صاحبة العلاقة القوية مع الصرب وكان هذا يعد مخالفة للتقاليد القديمة التي ظلت سائدة على مدى قرنين من الزمان من حيث المشورة بين ملوك أوروبا.
لقد تمت صياغة إنذار النمسا بحيث ترفضه الصرب إذ كان يطالب بمنع المنشورات المعاديةللنمسا.وطرد المعلمين والضباط المعادين للنمسا من وظائفهم,وإشتراك مسئولين نمساويين في التحقيق في حادثة إغتيال ولي العهد, وإعتقال من تورطوا في الحادث, ومطالب أخرى مشابهة من ذلك النوع, ولقد وافقت الصرب على كل المطالب فيما عدا إشراك مسئولين نمساويين في التحقيق. وكان إستسلام الصرب للمطالب على ذلك النحو عدا مسالأة التحقيق أراح الدبلوماسيين في أوروبا فقد وصف إمبراطور ألمانيا وليام الثاني رد الصرب بأنه "إنجاز زكي ورائع بالنسبة لمدة محددة بثمان وأربعين ساعة . . وهذا أكثر مما يتوقعه أي أحد . . ونجاح أخلاقي عظيم للنمسا . . وأنهأسقط كل سبب للحرب. . لكن النمسا لسوء الحظ لم تقبل وبادرت بإعلان الحرب لعدم إستجابة الصرب لكل المطالب جملة وتفصيلاً.
وفي مطلع أغسطس 1914 دخلت الحرب النمسا وألمانيا ضد فرنسا وروسيا والصرب وإنجلترا, وبقيت إيطاليا ورومانيا على الحياد رغم عضويتهما في الحلف الثلاثي. ومرة أخرى وجدت القوى العظمى نفسها وكما حدث في حرب القرم تتجرجر إلى حرب بسبب مشكلات تتصل بالمسألة الشرقية وببروز الحركات القومية في البلقان. وعلى عكس ما حدث في حرب القرم إنتهت الحرب العالمية الأولى بكوراث لكل المشاركين فيها فلم تقتصر الخسارة على دول البلقان فقط بل إن التداعيات السايسية إنتهت بتصفية إمبراطورية النمسا-المجر والدولة العثمانية وكذا روساي القيصرية والإمبراطورية الألمانية. وقبل أن تستعرض خسائر الحرب في تلك الفترة يجدر بنا أن نناقش أولاً تطور ثقافة البلقان في الفصل التالي الذي يتضمن منجزات شعوب إمبراطورية النمسا والدولة العثمانية.
الفصل السادس عشر التطورات الثقافية في البلقان خلال اقلرن التاسع عشر
حدثت تطورات في الحياة الثقافية لأهالي البلقان تواكبت بشكل وثيق مع الأحداث السياسية التي مرت بهاالبلاد. فلقد عكست الكتب والفنون ونظم التعليم مع إستثناءات قليلة القضايا الكبرى المحورية المتعلقة بإقامة الدولة القومية, والتوترات الإجتماعية التي نتجت عن مجمل التغيرات السياسية والإقتاصدية. ولهذا ذكرنا في الصفحات السابقة أسماء أدباء وإفتتاح جامعات ومكتبات وغير ذلك من مؤسسات. وعلى هذا يبدو من الصعوبة بمكان أن لم يكن مستحيلاً أن نتحاشى تكرار بعض ما ذكرناه في الفصول السابقة في هذا الشأن. ولكننا في مناقشة الإتجاهات الثقافية في هذا الشأن سوف نلخص في الواقع أكثر من قرن تاريخ البلقان (1804-1920). ورغم أننا سوف نركز بصفة أساسية على الأعمال الأدبية-الثقافية نظراً لأولويتها في حياة الناس هناك, إلا أننا سوف نقوم بالتعليق على واقع الفنون والعمارة والموسيقى ولو بشكل مختصر.
وبشكل عام يمكنمتابعة التطورات الثقافية للبلقان على مستويين: الأول وقوامه الفلاحون في القرى التي تضم أغلب الناس واغلذين إنضموا إليهم طبقة عمال صناعة وليدة مه نهاية القرن التاسع عشر, والثاني قوامه الأقلية المتعلمة والمهتمة بالسياسة,وهم جماعة تتأرجح في تكوينها من قسيس القرية والمعلم في المدرسة إلى الإقطاعيين الرومانيين التجار الفناريون (ذوي الأصول اليونانية). وعلى الرغم من أننا سوف نركز بصفة رئيسية على نشاط المستوى الثاني من المتعلمين, إلا أننا سوف نلاحظ أن المجموعتين إندمجتا معاً بفعل الحركة القومية وبفعل ما قدمه الأدباء والمثقفو لتنمية الوعي عند الفلاحين بمشكلاتهم حيث حفظ لنا الفولكلور والشعر والفن الكثير من إسهامات الثقافة البلقانية الراقية.
تبدو أول ملامح الحياة الثقافية لشعوب البلقان في قوة التوجه القومي الذي كان يعني أساساً إقامة الدولةالقومية المستقلة. وبمجرد تحقيق هذا الهدف في بعض المناطق واصل الكتاب والفنانون دعمهم النشط لدولتهم التي شرعت في توسيع حدودها وتقويتها. ورغم قيام هؤلاء الكتاب والفنانون بإنتقاد التنظيم السياسي والإجتماعي للدولة,إلا أنهم ظلوا قوميين في تصوراتهم بشكل أساسي. وسرعان ما برز الجدل بينهم حول ما ينبغي أن تتوجه له الدولة البلقانية في صياغة حياتها, وهل تأخذ بنموذج غرب أوروبا أم تبقى أسيرة النماذج المحلية الصرفة وتعمل على تطويرها. وفي هذا الإطار لم يكن هناك مفر من إنغماس الكتاب والفنانون في النشاط السياسي سواء بإشتراكهم في عمليات التمرد والعصيان أو بإعتبارهم معلمين في المدارس وموظفين في الدولة. ولقد ألهمت الجاذبية العاطفية للفكرة القومية وحوادث القرن الدارمية الفنانين في إنجاز ما يعبر عنها وإبداع ما يمكن قوله دعاية سياسية وإجتماعية صريحة.
وفي مناقشتنا للأدب وهو الموضوع المحوري هنا فإننا نقسم الموضوع إلى ثلاثة أقسام كل قسم يعكس الأحداث الرئيسية التي تم رصدها في السابق. فالقسم الأول سوف يتناول دور الأدب البلقاني أثناء الثورات وإقامة أول حكومات مستقلة ذات حكم ذاتي والثاني يتناول السياسات افدارية لتلك الحكومات في بداياتها المبكرة, والقسم الثالث يناقش الحركات التي حددت ملامح السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر حتى إندلاع الحرب العالمية الأولى. وسوف نلاحظ أن الإنتقال من الرومانسية إلى الوقاعية إلى التيارات التأثيرية الحديثة والرمزية ثم مرحلة الإنحطاط قبيل الحرب كانت تتوازى مع بعض التنوعات المحلية الفريدة لتيارات مشابهة في الحياة الثقافية العامة الأوروبية حتى لقد أصبحت العلاقة بينما هو محلي وما هو أوروبي نقطة خلاف رئيسية.
والحقيقة أن التطورات نحو الثقافة الحديثة بدأ في القرن الثامن عشر أي ما قبل زمن موضوع هذا الكتاب. وكان جميع أهالي البلقان قد دخلوا عصر القومية الحديثة بقاعدتين عظيميتن: أولهما ثقفاة ريفية تمثل القاسم المشترك بين البلقانيين بصرف النظر عن تعدد الأماكن وتعدد الخصوصيات المحلية الفردية, وأغلبية أرثوذكسية لها أدابها وموسيقاها وقديسيها وشهداؤها وخصائص الفن والعمارة البيزنطية,وأقلية كاثوليكية تحتفظ بعلاقات مع الكنيسة الأم (روما) مثل التي يحتفظ بها الأرثوذكس لكنائسهم, فضلاً عن أن بعض قوميات البلقان كانت لها ثقافة علمانية راسخة فهناك على سبيل المثال أعمال أدبية عظيمة لكتاب يونانيين وخاصة في كريت وجزر أيونيا ونقيضهم من الكروات في دلماشيا على وجه الخصوص كتبوها خلال الحكم العثماني.
ونظراً للأمية التي كانت سائدة في بلاد البلقان وندرة المطابع في الإمبراطورية العثمانية فقد تركزت الحياة الثقافية لأغلبية الشعوب في فنون الفولكلور عميقة الجذور, وفي ألوان الثقافة الشفهية. وهذا الموروث الثقافي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة ألوان: أولها الشعر الذي تناول أصحابه الطبيعة والعواطف ومشكلات الفلاحين الناتجة عن الحياة اليومية والحب والزواج والموت, واللون الثاني الروايات والقصص الشعبي بما فيها القصص التي تدور حول الأبطال الشعبيين من الكلفتيين Klephtd, والهايدوكيين Hidoks, والثالث شعر الملاحم الذي يصور الأحداث التاريخية والذي أنشده منشدون محترفون في الغالب بمصاحبة آلات موسيقية بسيطة مثل آلة الجوزلا Gusla ذات الوتر الواحد, وهي أشعار وأغاني إستمر نظمها لتسجيل الأحداث الكبرى خلال القرن التاسع عشر لكن سرعان ما كانت تنكمش بشكل متكرر وملحوظ حسب ثقل الأحداث ووزنها.
ومن المعروف أن شعر الملاحم يشكل مغزى مهما بالنسبة للحركات القومية وكانت الأغاني الأكريتية Acritic اليونانية من بواكير هذا الشعر التي تناولت الأعمال البطولية للمحاربين على حدود بيزنطة ضد العرب في القرن العاشر وأشهر هؤلاء الشعراء ديوجينيس آكريتاس Diogenes Akritas, كما كان سقوط القسطنسطينية في يد العثمانيين 1453 موضوعاً لرواية شعرية عند اليونانيين. على أن أعظم الأغاني ذات المغزى بالنسبة لسلاف الجنوب ما يتعلق بمعركة كوسوفو التي ترمز إلى سحق مسيحي دويلات المنطقة في العصور الوسطى بمعرفة الإمبراطورية الإسلامية العثمانية. ومن خلالها وجد الصربيون بطلهم في الأمير ماركو كارليفتش Marko Karlijevic, وجد البلغار بطلهم في كرالي ماركو Krali. أما السلاف الكاثوليك فكانت لديهم أشعار مشابهة تختص بتصوير الصراع مع القوات العثمانية إبتداء من القرن الخامس عشر. وأما أغاني المسلمين الألبان فتتعلق بالصراع مع المسيحيين السلاف. ولقد ركزت تلك الملاحم على تصوير أنشطة البطل الفرد وحياة المحارب الحرة في القرن التاسع عشر, وإحتلت الملامح القومية مركز الصدارة في الموقف ومن هنا أصبحت معركة كوسوفو لا تشير إلى أعمال البطولات الفردية أو المسيحية بل تشير إلى مصير الأمة الصربية.
وقد لعب هذا الأدب الشعبي الفلاحي الشفهي دوراً نشطاً في الإحياء القومي, وفي تطور الأداب الحديثة فيما بعد. وجاء التحمس لجمع مقطوعات هذا الأدب من أغاني وملاحم وأشعار ودراستها من أوروبا وخاصة من ألمانيا. كما وجدت المدرسة الرومانسية فيها أفضل مصدر للتعبير عن "الروح الشعبية". وكانت الملاحم مثار إهتمام كتاب من مختلف البلاد أقدموا على ترجمتها وفي مقدمتهم جوتة, وبوشكين, وميكيفكز Mickiewicz, وسكوت Scott. كما إهتم الباحثون بهذا التارث وجعلوه جزء من حركة الإحياء القومي.
ويلاحظ أن كل قوميات البلقان أظهرت ملامح مشتركة معينة خلال الفترة الأولى من تطور الأدب العلماني. والحقيقة أم كثيراً من ملامح الرومانسية الأوروبية كانت تتناسب تماماً مع الجهود الأولى للبلقانيين في التحرر مثل التركيز على التاريخ, وعلىالقيم الأسياسية للفلاحين,وعلى العواطف الحميمية وروح الخيال. وكان الإهتمام بالتاريخ له جاذبية خاصة حيث يتسنى لكل شعوب البلقان عن طريقه أن تنظر إلى الوراء وتستعيد عهداً بطولياً عظيماً عندما كانوا أحراراً لا يخضعون لسيطرة أجنبية. ولم تكن عملية إحياء الماضي بالنسبة للباحثين البلقان مجرد مجالاً للبحث الأكاديمي, بل لقد نظر إليها بإعتبارها وسيلة تعليمية لتنوير أمة وإخبارها باهميتها في التاريخ, وزرع الكبرياء في نفوس أبنائها بمنجزاتهم السابقة كدافع للعمل السياسي, كما كان الإهتمام باللغة و "تفاوتها" و "قوميتها" له أهداف مشابهة أيضاً. وفي معظم الحالات كان هذا النشاط الثقافي يتعارض مع الكنيسة ومع التعليم الديني الذي كان يتم عادة بلغة غير متداولة بين الناس في حياتهم اليومية. وهكذا كان نهوض التعليم العلماني أو المدني يعني قطيعة حادة مع الماضي الديني أو الكنسي للناس.
لقد سبق أن إستعرضنا وضع اليونانيين بين شعوب البلقان الأرثوذكس في القرن الثامن عشر ويتلخص في أنهم لم يكونوا يتمتعون بقوة سياسية من خلال الكنيسة, أو من خلال وضعية الفناريين في الإدارة العثمانية فقط, بل لقد كانوا على إتصال وثيق بالتطورات الأوروبية العامة عن طريق مشروعاتهم التجارية الناجحة هناك. ولقد ساعدتهم مراكز نفوذهم في إستانبول وبوخارست وياصي Jassy وكذا تجمعاتهم الكبيرة في فيينا وباريس والمدن الغربية الأخرى على أن يكونوا أول من يقوم بإحياء الثقافة القومية. ونظراً للأوضاع القائمة في الإمبراطورية العثمانية فقد أصبحت فيينا مركزاً لأول نشاطات اليونانيين للإحياء القومي فسرعان ما ظهرت الكتب والدوريات اليونانية في فيينا بعد عام 1783 بعد أن سمح الإمبراطور جوزيف الثاني بطبع المؤلفات اليونانية باليونانية. كما كانت باريس وجزر ايونيا مهمة جداً للحركة الجديدة.
على أن أعظم شخصيتين يونانيتين في فترة الإحياء القومي هما ريجاس فيرايوس Rhigas Pheraios, وآدمانتيوس كواريس Adamantios Koraes, ولو أن أعمال كواريس تحظى بأهمية كبرى وذات مغزى كبير بالنسبة للتاليف والكتابة فيما بعد. فلقد ركز على التربية السياسية حيث كان يعتقد أنه ينبغي تعليم الشعب اليوناني من خلال التعرف على الدراسات الكلاسيكية ومن هنا إنصب جهده الكبير نحو إخراج طبعات جديدة للمؤلفات الكلاسيكية القديمة مع كتابة مقدمالت طويلة لكل منها بقلمه. وكان مشروعه الرئيسي بين عامي 1805-1826 تكوين مكتبة من سبعة عشر مجلداً للأداب اليونانية من النصوص الكلاسيكية. وعلى هذا كان لنشاطه تأثيراً ضخماً على مستقبل تطور الأدب اليوناني . . فمن خلال مجهود قومي "لتنقية" اللغة اليونانية من الكلمات ذات الأصل البندقي او السلافي أو التركي في الحديث والكتابة, وإعادة إستخدام كلمات كثيرة كلاسيكية هجرت من قديم,إبتكر شكلاً جديداُ أسماه "اللغة النقية Katharevousa (كاثيرفوزا) لكي تحل محل اليونانية الشعبية الموروثة عن اليونانية البيزنطية. وهكذا أصبحت الكاثيرفوزا اللغة الرسمية لدولة اليونان المستقلة الحقيقة القائلة بأن معظم الكتاب الذين كتبوا بعد ذلك لم يستخدموها.
وأما في بلاد رومانيا (ولاشيا ومولدافيا) فقد جاءت دوافع التغير الثقافي من جهتين فمن المعروف أن تلك البلاد كانت منفتحة أكثر على الأفكار الخارجية بعد أن إبتعدت عن الحكم العثماني المباشر الأمر الذي لم يكن متاحاً لجيرانها الذين كانوا لا يزالو تحت السيطرة العثمانية. وكانت تلك البلاد من خلال الكنيسة الأرثوذكسية واقعة تحت تأثير سلافي قوي حيث كانت لغة أهلها تكتب بالسيرالية Cyrillic, وكان حكم الفناريين في القرن الثامن عشر يمثل عنصراً أجنبياً في عملية التغفيير الثقافي وكانت له تأيرات إيجابية وأخرى سلبية. فمن الملاحظ أن الأمراء الأجانب الذين حكموا اليونان جلبوا معهم الثقافة الغربية جنباً إلى جنب الثقافة اليونانية, وكانت المؤسسات التعليمية الفنارية في بوخارست وياصي تعلم التلاميذ الرياضيات والعلوم. ومن خلال تلك الدوائر اليونانية ذاعت أفكار التنوير بين الإقطاعيين الرومانيين (البويار) حيث تم تقديم الأعمال الدبية الأوروبية الكلاسيكية بما فيها أعمال موليير, وكورنيه, وشيلر, وشكسبير بالرؤية اليونانية.
وأما الطريق الثاني في التغيير الثقافي فقد جاء من ترانسلفانيا وكان يمثل مغزى كبيراً بالنسبة للحركة القومية. وقد سبق أن عرضنا لنشاطات المدرسة الترانسلفانية الممثلة في كل من جورج شينكاي, وبيتر مايور, وصمويل كلاين (ميشو Micu). وكانت أهم الجهود التي قاموا بها قاطبة تأصيل تاريخ الرومانيين في سلسلة متصلة الحلقات إلى الرومان الأوئل. كما كان لمؤلفاتهم عن قواعد اللغة الترانسلفانية إلى الإمارتين عبر سكان كارباثيا Carpathia بواسطة جهود رجلين عظيمين في العقد الثاني من القرن التاسع عشر وهما جورج لازار Lazar في بوخارست, وجورج آساشي Asachi في ياصي. ومن الملاحظ أن إيديولوجيا أتباع هذه المدرسة تضمنت شكل لغة الكتابة فقد كانوا يرغبون شأن نظرائهم اليونانيين في التأكيد على الطبيعة القديمة للغة حديثهم ومن ثم جهودهم لإسقاط الكلمات غير اللاتينية الأصل كلما أمكن من لغة الدب والكتابة.
وكان من شأن هذا التوجه تقوية روابط الرومانيين بالبلاد اللاتينية مثل فرنسا وإيطاليا. وأكثر الأعمال تأثيراً في هذا الخصوص ما قام به إيون إلياد رادوليشكو Radulescu Ion Eliad فهو المنظم الأساسي لجمعيتين ثقافيتين وهما الجمعية الأدبية 1826, والجمعية الموسيقية الأوركسترالية في 1833. ولم يكن إلياد مؤلف غزير الإنتاج بل كان مسئولاً عن ترجمة ونشر كثير من الأعمال الفرنسية ومن ثم كان من الطبيعي أن تتغلغل المفاهيم السياسية الفرنسية في ثقافة الرمانيين عبر تلك الأعمال. وعلى هذا وبعد عام 1821 عندما أخذ الضعف يدب في قوة اليونانيين مع بداية إنتفاضتهم ضد الحكم العثماني أخذت الثقافة الفرنسية تهيمن على الرومانيين.
ورغم أن الجيل الذي تزعم الثورة في عام 1848 كانت ثقافته فرنسية والطابع الفرنسي في الحياة كان هو الغالب كما رأينا, إلا أن بعض القيادات الشابة كانت لديها فرصة للتجول هنا وهناك وخاصة في المدن الجرمانية والإيطالية وبلاد إمبراطورية النمسا والمجر فأصبحوا على دراية بالتطورات الثقافية المحيطة. وتأثراً بالحياة في عصر الرومانسية القومية التي أظهرت البطولة وروح الحماس, وجدنا أن أولئك الشباب يعولون كثيراً على الجهود الأدبية في بلورة الشخصية الرومانية المساقلة. ومن هؤلاء كان نيقولا بالسيشكو Balcescu, ومايكل كوجالنيشينو Kogalinceanu اللذان كان لهما تأثيراً واضحاً على الكتابة الأدبية الرومانية في المشتقبل. وقد إشتهر بالسيشكو بعمله "مايكل الشجاع" عن البطل القومي, وإشتهر كوجالينشينو بما نشره من مخطوطات العصور الوسطى. وكان أشهر شعراء تلك الفترة فازيليه ألكساندري Vasile Alecsandri الذي طبقت شهرته آفاق القرن التاسع عشر. وإلى تلك الفترة تنتمي كل الأعمال التاريخية الرومانسية التي كتبها قسطنطين نجروزي Negruzzi وأشعار يانشو فكريشكو Iancu Vacarescu وأخوته, وأيضاً ديمتري بولينتينيانوBolintineanu, وجريجوري ألكسندريشكو Alexandrescu.
ولقد مرت بلاد سلاف الجنوب بتطورات مشابهة حيث إجتهد أهلها في البحث عن تاريخ الأمجاد الماضية وتكوين لغة قومية للكتابة. والحاصل أنه بسبب أوضاع باشوية بلجراد جاء إحياء الصربية في أواخر القرن السابع عشر من ناحية الصربيين في فويفودينا, حيث طبعت أول جريدة صربية داخل الإمبراطورية النمساوية في تسعينيات القرن الثامن عشر مثلما ما فعل اليونانيين, وما أن حل القرن التاسع عشر حتى كان لصرب الإمبراطورية مؤسساتهم الخاصة في التعليم والمكتبات ودور النشر, وكان الطلاب الصربيون يتلقون نمط التعليم العام الذي كان سائداً آنذاك. على أن الصربيين كانوا يواجهون مشكلة اللغة أيضاً ذلك أن الكنيسة الصربية الأرثوذكسية في سرمسكي كارلوفيتش كانت مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بروسيا ومن ثم كان طلاب اللاهوت يذهبون إلى كييف Kiev للتعلم. ولم يكن تكن لغة التعليم هناك صربية أو سلافية كنسية, بل كانت روسية-سلافية ذات نسبة غالبة من الكلمات الروسية.
على أن لغة الكتابة التي إصطنعها أولئك الرواد واجهت منافسة مضادة من أشهر كاتبين صربيين آنذاك كتبا مؤلفاتهم بلهجة الحديث العادي بين الناس أولهما دوزيتيه اوبرادوفيتش Dositej Obradovic, والثاني فوك كاراديتش Vuk Karadzic الذي كان أكثر علماء القرن تأثيراً بالنسبة لتنمية لغة كتابة صربية-كرواتية مستقلة. ومن خلال عمله مع اوبرادوفيتش في فيينا وبلجراد إنشغل في عدة أنشطة عريضة تتعلق بالمصالح القومية شملت نشر كتب في الأجرومية وقاموس ومجموعات أغاني فولكلورية فضلاً عن دواوين الشعر. ومن خلال جهوده المتعددة أصبحت ملاحم كوسوفو وأغاني الهايدوكيين القدامى جزء من أدبيات الحركة القومية.
وأما الكتاب الركوات فقد واجهوا شأن الصربيين مشكلة لغة الكتابة بين لهجتين فحتى مطلع القرن التاسع عشر كانت اللاتينية ما تزال تستخدم كوسيلة تفاهم وإتصال مع المجريين. كما ظهرت أعمال أدبية قومية في دوبروفنيك ثم في زغرب كتبت باللهحة السائدة في كل من المدينتين. ثم حدث الإختيار النهائي للغة الكتابة بتأثير الحركة الإليرية كما رأينا بفضل ليوديفيت جاي Gaj Ljudevit الذي إعتنق أفكار العالم التشيكي يان كولار Jan Kollar التي تقول بأ، السلافيين في الأصل شعب واحد يتكلمون أربع لهجات (روسية, وتشيكية, ويونانية, وإليريةة). ومن هنا فقد فضل الكتابة باللهجة الاستوكافية التي إختارها كارادزيتش أيضاً.
أما المثقفون السلوفوينيون فقد واجهوا مشكلات أكثر تعقيداً في إتخاذ لغة للكتابة كانت للجرمانية جاذبية قوية لديهم, وجاءت الحركة الإليرية لتضيف تعقيدات للمشكلة حيث إختلط أمر مميزات إتخاذ الصرب والكروات لغة كتابة واحدة بقضية الوعي بالقويمة السلوفينية. وفي هذا الخصوص أقدم كاتبان من سلوفينيا على كتابة أدب سلوفيني بالألمانية وهما انطوان لينهارت Linhart في كتابه "تاريخ كارنثيا" Carinthia, والشاعر فالنتين فودنك Vodink. وفي 1830 صدرت جريدة "نحلة كارنيثيا" Kavanjska Cbelica وإستمرت حتى 1834 ورغم قصر فترة صدورها إلا أنها نشرت أشعار فرانس بريزرن Presern أعظم شعراء سلوفينيا قاطبة, والذي كان في حياته الخاصة متشائماً وعمله الرئيسي"سوناتا الغضب" Sonetni Venec تروي قصة حب فاشلة كان لها تفسيرات قومية. وكان يليه في الأهمية فران ليفستيك Fran Levstik وكان شاعراً وكاتباً ونشطاً في حركة القومية السلوفينية.
وبسبب خضوع البلغاريين للحكم العثماني سياسياً وسيطرة الكنيسة اليونانية عليهم تخلفت الأبجدية البلغارية عن النمو بالقياس إلى البلاد المجاورة.ولكن في مطلع القرن التاسع عشر وخاصة بعد الثورة التي أطاحت بالنفوذ اليوناني حدثت حالة من الإنتعاش للبلغاريين إقتصادياً وثقافياً عرفت ب "الرينيسانس البلغاري" إتجهت أول ما إتجهت إلى التاريخ واللغة شأن ما حدث في أمم أخرى. وفي هذا الخصوص تأتي أهمية جهود كل من الأب بايزيي Paisii والأب صوفروني Sofronii أسقف فراتزا Vratsa, وفاسيل أبريلوف Vasil Aprilovفي مجال التعليم, وكذلك الكتاب المدرسي "الصياد الأول" الذي أصدره الدكتور بيتر بيرون Beron في 1824 مزوداً بكثير من الصور, وكتاب "الأجرومية" الذي أصدره نيوفيت ريليسكس Neofit Rilski في عام 1835. ورغم أن أول جريدة بلغارية بعنونان "الصقر البغاري" Bulgarski صدرت في ليبزج Leipzig عام 1846, إلا أن الجريدة الأشهر كانت "الهيرالد القسطنطينية" Ysarigradski Vestnik التي صدرت في إستانبول بين عامي 1848-1862.
ونظراً للظروف السياسية للبلغاريين كما رأينا نشأت المراكز الثقافية البلغارية الأولى أول ما نشأت خارج أراضي بلغاريا. ثم إستقرت لغة الكتابة عندماتم الإتفاق على تبني لهجة أهالي شرق بلغاريا التي كتب بها الشاعر الكبير نايدين جيروف Naiden Gerov وكانت قصيدته الرئيسية "اشتايان و رادا" Station and Rada قد نشرت في أوديسا عام 1842 التي أصبح يؤرخ بها للأدب البلغاري الحديث منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن بين أشهر الكتاب الأوائل بتكو سلافيكوف Petko Slaveikov الشاعر والصحافي الهائل والذي كان يفضل تحقيق إستقلال بلغاريا عن طريق التطور الطبيعي وليس عن طريق الثورة.
وعلى النقيض من تفضيل سلافيكوف للتطور الطبيعي كان هناك ثلاثة أدباء يفضلون طريق الثورة سبقت الإشارة إليهم وهم جورج راكوفسكي, وليون كارافيلوف Liuben Karavelov, وخريستو بوتيف Botev وقد إنغمسوا بعمق في النشاط السياسي والعمل الثوري ووضعوا موهبتهم الأدبية في خدمة الفكرة القومية وكانوا على صلة وثيقة بالمؤامرات التي كانت تحاك في الفترة. ولنتذكر أن جورج راكوفسكي إنتقل إلى بلجراد في 1860 حيث أصدر دورية "بجع الدانوب" Dunavski Lebed ثم إنتقل إلى بوخارست وعاش فيها ونشر عمله الرئيسي "جوال الغابة" Gorski Putnik في عام 1875 في نوفي ساد Novi Sad. وأما ليوبن كارافيلوف فكان شاعراً رائداً وصحافياً وكاتباً وقد إهتم مع راكوفسكي في تجميع الأشعار الفولكورية ونشرها. أما بوتيف فكان أكثر الثلاثة موهبة وإستمد شهرته كأعظم شاعر بلغاري من عشرين قصيدة عامية نظمها بين عامي 1867-1873 وكان قومياً متطرفاً وثورياً إجتماعياً وأصبح شهيداً قومياً وبطلاً بعد موته في حادثة مشؤومة في يوم نحس عام 1876.
ويلاحظ أن الخصائص الثقافية المشتركة التي ربطت بين أمم البلقان في المرحلة الثورية الأولى مثل التركيز على التعليم والتاريخ القومي واللغة والنشاط السياسي, إستمرت حتى بعد إقامة نظم الحكم الذاتي حيث إهتمت كل منها في البداية بمتابعة إرساء تقاليد الرومانسية القومية في نظم التعليم, وإنشاء المكتبات العامة والأكاديميات, ونشر الأعمال التي تساند جهود النظام السياسي في تحقيق الأهداف القومية. ونتيجة لتلك للتوجهات القومية برزت الروح الشوفينية في الأعمال الأدبية وبدأ التطلع إلى الأخذ بالنماذج الخارجية لتحقيق التنمية القومية. وفور حدوث التغير الإقتصادي وهذا هو الأكثر أهمية في الموضوع أخذت قيم الحياة التقليدية في التحطم والزوال, وبدأت مشكلات الفلاحين وسكان المدن تطفو علىالسطح وإنعكس هذا الواقع في الأعمال الأدبية حيث بدأت النظرة الواقعية تحل محل الإتجاه الرومانسي.
والحاصل أنه بعد عام 1835 وبعد إنشاء مملكة اليونان أصبحت أثينا مركزاً للحياة الثقافية اليونانية, وإنتقل إليها الفناريون – وهم يونانيين أصلاً كما رأنا – من إستانبول بعد إبعادهم عن مراكز النفوذ في الدولة العثمانية. ولكن مملكة اليونان الجديدة ذات الطابع الهلليني-البافاري (نسبة لأصل ملكها القادم من بافاريا كما سبقت الإشارة) كانت تفضل إحياء الثقافة الكلاسيكية (اليونانية-الرومانية القديمة) عن الثقافة البيزنطية-الأرثوذكسية. وعلى هذا أعيد بناء مدينة أثينا على الطراز الكلاسيكي الجديد على نموذج مدينة ميونيخ. وكان من شأن هذا الإتجاه في العمارة أن يعزز بطبيعة الحال إستمرار إستخدام الأشكال اللغوية القديمة في الأدب والتي كان قد بطل إستعمالها, كما تأثرت الكتابة اليونانية تأثراً شديداً بالرومانسية الفرنسية في الإلتفات إلى الماضي وفي المضمون العاطفي ومن ثم تطابقت بشكل مثالي مع مشاعر اليونانيين في عصر ما بعد الثورة. وفي هذا الإطار نظم الشاعر أخيليس باراسخوس Achilles paraschos أعظم أدباء الفترة, قصيدته "الوطنية" باللهجة الكاثرفوازيه, وكذا الشاعر ألكسندر سوتسوس Soutsos, ومقامات وأشعار ألكسندر ريزوس رانجيفس Rizos Rangaves, ومقامات إيمانويل رويديس Roides.
وفي سنوات ما بعد الثورة قام كثير من الذين إشتركوا في أعمالهابنشر مذكراتهم السياسية عن الثورة كانأفضلها ما كتبه القائد العسكري مكاريانيس S. Makriyannes بالعامية, والعمل العظيم "تاريخ الأمة اليونانية" Historia ton Hellenikou ethnous الذي نشره قسطنطسن باباريجوبولوس Paparregopoulos بين عامي 1860-1872 بهدف إطهار الروابط الثقافية بين اليونانيين المحدثين والحضارة اليونانية القديمة.
وإلى جانب أثينا كانت جزر أيونيا التي ظلت تحت الإحتلال البريطاني حتى عام 1864 مركزاً أيضاً لنمو الثقافة اليونانية, ففي جزيرة زانتيه Zante ولد ديونيسيوس سولوموس Dionysios Solomos أعظم شعراء اليونان المحدثين الذي كتب في بدايته بالإيطالية التي تعلمها في المدارس الإيطالية ثم كتب بعد ذلك بعامية بلاده, لكنه لم يتمكن من إنهاء مشروعه الفكري, ولم يتبق من أعماله إلا مقتطفات هنا وهناك. ومن بين أكثر أشعاره شعبية النشيد الوطني "أنشودة الحرية" Hymnos es ten Eleutherian , و "الحرية محاصرة" Oifleutheroi POliorkemene, و "الفتاة المسمومة" He Farmakomene, و "إمرأة من زاكنوس" He Gynaika les Zaknthos. وأيضاً الشاعر آندرياس كالفوس Andreas Kalvos الذي نظم قصائده بلغة قديمة بطل إستعمالها.
ولقد كانت لأشعار سولوموس في اواخر القرن التاسع عشر أهمية بالغة عندما إتفقت مجموعة من الشعراء على تحدي الكتاب الرومانسيين من الجبل القديم فنظموا أشعارهم بالعامية وهاجموا أسلوب أسلافهم ولغتهم في نظم الشعر معبرين عن مشاعر اليأس المفرطة التي أصابتهم جراء خيبة أملهم في تقديم الدولةاليونانية. وقد بدأت معركة إصلاح اللغة في عام 1888 على يد هذه المجموعة بكتاب "رحلتي" To Laxidi mon الذي نشره جون بزيخاريس Psychares بالعامية. ويعتبر الشاعر كوستا بالاماس Kosta palamas أعظم كتاب المدرسة الأثينية الجديدة والشخصية الرئيسية فيها الذي هيمن على الحياة الثقافية اليونانية لمدة ستين سنة وإستمد شهرته من قصيدته "خطب الغجر الاثنا عشر" Didecalogos tou Gyftou, و "مزمار الملك" I Flogera tou Vasilia. كما كان لدراسات الفولكلور التي قام بها نيقولا بوليتيس Polites أثرها عند تلك المجموعة حيث إستمدوا منها الوحي. وتنبغي الإشارة إلى أن الصراع المرير بين مؤيدي العامية وأولئك الذين يفضلون الكتابة ب "الكاثرفوازا" لم تنته أبدأً وفي واقع الأمر كانت "العامية" لغة الشعر وقصص الخيال.
وفي رومانيا حدث شيء مماثل من حيث رد الفعل تجاه اللإكار القديمة السائدة, فكما سبق أن رأينا أن الكتاب الأوائل الذين إستمدوا أفكارهم من المصادر الفرنسية بشكل رئيسي قد إنغمسوا ف يالسياة بشكل ملحوظ وخاصة في أحداث ثورات 1848 وقادوا الحركة التي إنتهت بتوحيد إمارتي الدانوب (ولاشيا ومولدافيا-رومانيا) في 1859-1861 وبعد ذلك قاموا بوضع أساس الحزب الليبرالي. وفي ستينيات القرن التاسع عشر تكونت مجموعة منافسة حول تيتو مايوريشكو Maiorescu الذي كانت ثقافته ألمانية وتأثر بفلاسفة المثالية أمثال كانط وهيجل وشوبنهور, وقام هو وأتباعه في 1864 بتكوين جماعة "يونيميا" Junimea, أي الشباب وأصدرت في 1867 جريدة "مطارحات أدبية" Convoribiri Literare ظلت تصدر دون إنقطاع إلا قليلاً حتى عام 1944. وقد إرتبط بهذه الجماعة في الغالب الأعم كل الكتاب المرموقين خلا الفترة بطريقة أو بأخرى, وكان برنامجها يركز على الإعتماد على المصادر المحلية لتحقيق الآمال القومية والسياسية أكثر من الإعتماد على الخراج. وقد صبت جام غضبها ولعناتها على إنغماس الجيل السابق في النشاط السياسي. ولأن أعضاءها كانوا مجموعة محافظة في موقفها السياسي وفي نظرتها للأمور فقد أخذت على الحزب الليبرالي أنه يستمد برنامجه السياسي من مبادئ أجنبية وليست محلية.
كان مايكل إيميشكو Eminescu أكثر الكتاب شهرة في تلك الجماعة وأعظم شعراء الرومانيين, وقد ولد في 1850 في مولدافيا, وإلتحق بجامعة فيينا في 1870 وتزعم الجماعة التي منحته في 1872 بعض الأموال لقضاء عامين في برلين, وبعد عودته شغل بعض وظائف بسيطة في مجال التعليم في مدينة ياصي. وفي 1877 عمل بالصحافة في بوخارست, ثم مرض مرضاً نفسياً في 1884 حتى توفي في 1889. وبرغم حياته القصيرة إلا أنه كتب كثيراًُ من الأعمال كان أشهرها قصيدته "نجم المساء" Luceafarul التي نظمها بالعامية. ورغم نظرته التشاؤمية للحياة إلا أنه كان دائم الحلم بالتغيير وكان يعتقد أنه ينبغي على كل أمة أن تتبع معالم خصائصها الروحية, وأن يكون هدف السياسيين إيجاد المؤسسات والهيئات التي تعبر عن خصائص الوحدة أو التفرد التي يتميز بها أبناء الأمة.
وهناك كاتبان آخران لهما شهرة فائقة أرتبطا بجماعة يونيميا (الشباب) وهما إيون كرينجا Ion Creanga الذي نشر معظم أعماله في جريدة "مطارحات أدبية" بين عامي 1875-1881 وقد إشتهر بمذكراته التي وصف فيها حياة الفلاحين أي حياته هو في مرحلة الشباب وعنوانها "ذكريات الطفولة" Amintiri din Capilarie كما بقيت تفسيراته الأدبية للقصص الفولكلوري وشروحه موضع تقدير شعبي هائل. أما ايون لوكا كاراجيال Ion Luca Caragiale المسرحي الرائد كان له أسلوب في النقد الإجتماعي ملحوظ وكان مهتم بتصوير حياة المدن. وهناك ايضاً مؤلفون آخرون إرتبطوا بالجماعة مثل الكسندر أودوبشكو Obodescu, وإيون سلافيسي Ion Slavici, ودوليو زمفريشكو Duiliu Zamfirescu.
على أن تمسك جماعة يونيميا بموقفها من موضوع الأخذ عن تجارب الغرب في التنمية وإبعاد الفن عن الجدل السياسي, أثار معارضة ضدها وجاءها النقد من إتجاهين مختلفين: الكتاب الإشتاركيون ولاشعبيون الذين يربطون النص الأدبي بالوضع الإجتماعي والبحث عن البعد الإجتماعي في الأدب, والقوميون الذين رفضوا موقف الجماعة من الكوزموبوليتانية فيما يتعلق ببنء النص الأدبي, وكان منهم معظم المؤرخين الرومانيين المرموقين. وقد سبق أن رأينا أن كتابة التاريخ على الأسس الحديثة قد بدأت على يد بالسيشكو, وكوجلينشينو, وجيل ثورة 1848. وقد عارض ثلاثة مؤرخون هذا الإتجاه الذي وضعته جماعة يونيما في كتابة التاريخ وهم بوجدان هاسديو Bogdan Hasdeu , وألكسندر اكزنوبول Xenpool, ونيقولا يورجا Iorga حيث واصلوا كتابة بحثاً عن الروابط القومية. وكان أشهر الثلاثة اكزنوبول قد تعلم في جامعة ياصي أي جامعة رومانية محلية, وتتبع –شأن بابار يجوبوليس في اليونان – تاريخ شعبه في عمق التاريخ القديم, وأعظم أعماله في هذا الخصوص كتابه "تاريخ رومان ترايانا داشيا" Isoria Rominilor din Dacia Traiana في ستة مجلدات نشرت في ياصي خلال المدة من 1888-1993. أما تلميذه نيقولا يورجا فكان أعظم المؤرخين الرومانيين قاطبة لب أشهر مؤرخي البلقان في الواقع وكان كتلة خيالية من النشاط والحيوية إذ كتب 1200 عملاً ما بين كتاب وكتيب, و2300 مقالة, وعرض كتب عرضاً نقدياً, فضلاً عن نشاطه السياسي الذي أثار جدلاً واسعاً بين معاصريه. وقد إستمد شهرته الفائقة من عملين مركبين عن تاريخ رومانيا Staasbildungen Gesvhte des rumanischen volks Im Rahmen senier نشرا عام 1905, وعشر مجلدات بالفرنسية عن "تاريخ الرومانيين" Istoria rominilor نشرت بين عامي 1936-1944.
وعند سلاف الجنوب ظل التيار الرومانسي سائداً وكان يمثله كارادزيتش Karadzic أعظم شعراء الصرب الذي كان من الجبل الأسود,وألمير الشاعر بيتر بتروفيتش نيجوش Niegos الذي كتب ثلاثة أعمال كبرى إحتلت مكانة مرموقة في أدبيات ثقافة البلقان أعظمها شهرة السمرحية الشعرية "غضبة الجبل" Gorski Vijen ae (1847) وتتناول صراع شعب الجبل الأسود مع الدولة العثمانية, والعملان الآخران: "إضاءة عالم الإنسان" Luca mikrokosma (1815), و"القيصر ستيفن الصغير المزيف" Lazni scepan Mali ويتناول حياة مغامر في القرن الثامن عشر أصبح حاكماً على الجبل الأسود.
وهناك كتاب صربيون آخرون من المدرسة الرومانسية يستحقون الذكر مثل الشاعر برانكو راديكفيتش Radicevic, والروائي والمسرحي يوفان ستيريا بوبوفيتش Jovan Sterija Popovic, وثلاثة شعراء مرموقين في نهاية القرن التاسع عشر وهم يوفان يوفانوفيتش-زماي Jovan Jovanovi-Zamaj , وديورا ياكستش Djura Jaksic, ولازا كوستيش Laza Kostic. وآنذاك كان المركز الثقافي للحياة الصربية قد إنتقل من فيينا عاصمة النمسا إلى إمارة الصرب وتم حسم مسألة لغة الكتابة بسرعة لصالح العامية وخاصة في نظم الشعر, وفي كتابة الموضوعات المتصلة بالبطولة والمشاعر القومية وعالم الطبيعة.
وفي الصرب شأن بلاد البلقان الأخرى تميزت السنوات التي أعقبت مؤتمر برلين 1878 بزيادة الإهتمام بمشكلات التغير الإقتصادي والصعوبات المتصلة بتنظيم الدولة الحديثة. وفي هذا الإطار تحول الإهتمام من المشكلات القومية إلى المشكلات الإجتماعية وإلى حياة عامة الناس وخاصة الفلاحين. وبدلأ من الإنتباه للروح الرومانسية في الشعر هذه الأحوال هيمن أسلوب كتابة القصة للتعبير عن واقع الحال. وفي كل هذه الأحوالهيمن أسلوب الكتابة الأوروبية المعاصرة على أسلوب الكتابة عند الصربيين خاصة وأنهم إهتموا بترجمة أعمال تيرجنيف Turgenev, وفكتور هوجو, وإميل زولا, وداوت Daudet. كما إهتموا إهتماماً كبيراً بالحرة الشعبية الروسية وأعمال دوبروليوبوف Dobroliubov, وهيرزن Herzen, وجوجول. وفي تلك الفترة أيضاً برز الناقد الأدبي الكبير سفتوزار ماركوفيتش Svetozar Markovic الذي وضع أسس الإشتراكية الصربية وكان يعتقد على النقيض من الإتجاهات السابقة أن مهمة الأدب تنحصر في خدمة إحتياجات أغلبية الشعب وتناول مشكلات الحياة اليومية الأساسية. ومن بين كتاب القصة القصيرة الواقعية وأيضاً الرواية كان هناك ياكوف إجنياتوفيتش Ignjatovic, وميلوفان جليشتك Milovan Glistic, ولاازار لازارفيتش Lazar Lazrevic, وسيمو متافولي simo Matavulj.
أما الرومانسية الكرواتية كما رأينا وجدت نفسها في الحركة الإليرية و فبعد جاي Gaj كان إيفان مازورانيتش كاتباً مرموقاً إستمد شهرته من ملحمته "موت سمايل-آجا كنجيكا" Smrt Smail-aga. ولقد واجهت كرواتيا أو سلاف الجنوب شأن الصرب في أواخر القرن التاسع عشر صعوبات ومساوئ جمة في مقدمتها تحطيم طبقة صغار النبلاء بفعل التطورات الإقتصادية اليت سبقت الإشارة إليها, وسيطرة قوميات اخرى وخاصة المجريين على المراكز الرئيسية في البلاد بعد ميثاق "أوزجليخ", وزيادة معدل الهجرة بسرعة ملحوظ. وقد إنعكست كل هذه التحولات في الرواية التي أصبحت الشكل الأدبي الرئيسي للتعبير, بل لقد سيطرت هموم المدن على هموم الريف وكان الكتاب في الغالب الأعم ينتمون إلى "حزب المحافظين" وناشطون في مجال السياسية.
كان أوجيست شينوا Senoa أعظم كتاب كرواتيا في تلك الفترة يعتقد أن الأدب لا بد وأن يكون له هدف إجتماعي وقومي وينبغي على الأديب أن يكتب للناس وقد كان له تأثيراً كبيراً في زمانه لتعدد مواهبه فقد كان شاعراً ومحرراً ومسرحياً وناقداً وروائياً. ومن كتاب الواقعية الكروات آنذاك كل من إيفجني كومتشك Evgenij Kumicic, وكزافر شاندور ديالسكي Kasaver Sandor Djalski, وآنتيه كوفاتشك Ante Kovacic, وفينسيزلاف نوفاك Vjenceslav Novak. وحدث تطور مماثل بين الكتاب السلوفينيين أمثال الشاعران إيفان تفشار Tavcar, وأنطوان آزكيرك Askerc, والروائي يانكو كيرسنيك Janko Kersnik.
وبشكل عام حدث تقدم في التأليف التاريخي الحديث في كل من زغرب وبلجراد بفضل جهود فرانيو راشكي Franjo Racki الرفيق المقرب من ستروسماير Strosmayer الذي كان مسئولاً عن نشر مجموعات مصادر العصور الوسطى, وكذلك أعمال كل من تادييا سميشيكلاس Tadija Smiciklas, وفردو شيشيك Fredo Sisic المؤرخ الكرواتي الشهير الذي نشر "تاريخ كرواتيا" Hrvatska Povijest في ثلاثة مجلدات بين عامي 1906-1913, فضلاً عن كبار المؤرخين الصرب: ستويان نوفاكوفتش Stojan Novakovic, وستانويه ستانويفيتش Stanoje Stanojevic, ويوفان رادونيتش Jovan Radonic, وسلوبودان يوفانوفيتش Slobodan Jovanovic.
أما في بلغاراي فمن الملاحظ أن إقامة الحكم الذاتي فيها أوجد مناخاً مختلفاً عن بلاد البلقان الأخرى, فبعد وفاة كل من بوتيف Botev, وليبون كارافيلوف Liuben Karavelov إنشغل معظم الأدباء والكتاب بالعمل الحكومي سواء في الوظائف الرسمية أو في مجال التعليم وفي مقدمتهم سلافيكوف Slaveikov, وإيفان فازوف Vazov, وقسطنطين فيليشكوف Velichkov. وكان فازوف بلا شك أديباً شهيراً خلا عشرينيات القرن العشرين وأشهر رواياته "تحت الطغيان" pod igoto التي بدأ في كتابتها في أوديسا عندما كان في المنفى أثناء حكم ستامبوف. وهذه الرواية ذات الروح العاطفية والبطولية تتناول فترة أواخر الحكم العثماني حيث إنتفاضة إيريل 1876. وفي 1896 نشر روايته "الأرض الجديدة" Nova Zaemia التي تعد أكثر إنتقاداً للأأوضاع القائمة فقد كان شأن كثيرين غيره قد أدرك من خلال تجاربه وهم الحكم الذاتي, وشاركه في هذه النظرة الروائيان فليشكوف, وآليكو كونستانتينوف Aleko Konstantinov الذي نشر يومياته عن زيارته للولايات المتحدة الأمريكية عام 1893 تحت عنوان "إلىشيكاجو ثم العودة" Do Chikago I nazad وهي أعظم أعماله, وأيضاً روايته الساخرة "باي جانو" Bai Ganuo التي قدم فيها شخصية رئيسية "عنوناً للقسوة والغباء والحماقة والبورجوازية في الروح البلغارية". وبينما إهتم هؤلاء الكتاب بوصف أوضاع أهالي المدن والريف إهتمت مجموعة أخرى بتناول أزمة الفلاح بصفة أساسية وأزمة حية الريف الحقيقية وذلك أثراً بالحركة النادورية nadornik الروسية وكان معظم هذه المجموعة من الذين إشتغلوا بالتدريس وقد عادوا إلىالقرى ووجدوا حقيقة حالة العوز والفقر والإنهيار, وكان من ضمنهم كل من تودور فلايكوف Todor Vlaikov, وتشانكو تشركوفسكي Tsanko Tserkovski, وميهالنكي جيورجيف Mihalnki Georgiev. ومن الملاحظ بشكل عام أن كثيراً من التيارات الفكرية والأدبية والثقافية والسياسية التي كانت قائمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إستمرت حتى إنفجار الحرب العالمية الأولى فقد ظل الإهتمام قائماً بالمشكلات الإقتصادية والإجتماعية وحياة الفلاحين والطبقة الوسطى في المدن, وضرورة أن يعبر الأدب والفن عن تلك المشكلات أكثر من القضايا القومية, مع اللحاق بالتيار الرئيسي للفكلا الأوروبي الذي هيمنت عليه آنذاك مذاهب التاثيرية, والرومانسية المحدثة, والرمزية رغم أنها تعبر عن ملامح ثقافية مختلفة وذلك بحجة أن الموضوعات القومية والإجتماعية قتلت بحثاً.
على أن إستمرار التقاليد الشعرية في اليونان دفع إلى الصفوف الأول بكاتبين مرموقين وهما آنجليوس سيكليانوس Angelos Sikelianos الذي واصل تقاليد المدرسة الأثينية الجديدة, وعلى النقيض منه كونستانتين كافافيس Cavafys الذي عاش وأبدع في الإسكندرية ونظم أشعاره بالعامية مع إستخدام بعض كلمات من "الكاثرفوازا" وكانت تعبر عن مشاعر حسية وشهوانية من ناحية وتتناول التارخ من ناحية أخرى لتصوير العصر الهيللنيستي للثقافة اليونانية-الرومانية. ولما كانت تجاربه في احياة جاءت من خلال معايشته للجالية اليونانية في مصر فقد كانت أشعاره قومية المضمون. وأما في مجال النثر فقد إستمرت الكتابات تدور حول الملامح الشعبية وحياة عامة للناس فأعظم كاتب قصة قصيرة ألكسندر باباديامنتيس Papadiamantes تناولت قصصه حياة الفلاحين والصيادين, وإستمر آندرياس كارافيتساس Karakavitsas يكتب في إطار الواقعية. وهكذا وجدت مشكلات المدن طريقها إلى الأعمال الروائية كالتي وضعها كل من جريجوري اكنوبولوس, وكوزماس بوليتيس, وقسطنطين ثيوتاكيس Theotakes.
كما إستمر الأدب الروماني يعكس رد الفعل تجاه مواقف جماعة يونيميا (الشباب), وطالب اليساريون الإشتراكيون الجدد, والقوميون, بالعودة للعمل السياسي وعدم العزلة عن مجريات الأمور, كما ظهرت مجموعة صغيرة تبنت إتجاه الحداثة السائد في وسط وغرب أوروبا. وبشكل عام إستمر تركيز الكتاب على تناول المشكلات العامة الكبرى وكذا مشكلات الفلاحين والمأزق التي يواجهونها والتي بلغت ذروتها إنتفاضة عام 1907.
وفي هذا الخصوص كان أول كاتب إشتراكي روماني عظيم وهو قسطنطين دوبروجيانو0غيريا Dobrogeanu-Gherea يفضل أن ينغمس الأدب في عالم السياسة مثلما كان نظيره الإقتصادي-الإجتماعي في العهد الجديد (الحكم الذاتي) فرأيناه ينشر في أعقاب تمرد الفلاحين أهم أعماله "العبودية المحدثة" Neoiobagia في 1910, وكان للأعمال التي تناولت مشكلات الريف تأثيراً عميقاً في البنية الثقافية للمجتمع, وفي 1901 صدرت جريدة جديدة بغسم "الزراع" Samnntoral تحت إشراف جورج كوشبوك Cosbuc, وألكسندر فلاهوطا Vlahuta وكانت تركز على وجهات النظر القومية والتقليدية. وخلال المدة من 1903-1906 رأس تحريرها يورجا الذي كان محافظاً ومن ثم فقد كان يعارض التيارات الإشتراكية والشعبوية والحداثة. وقد إرتبط بهذه المجموعة أثناء الحرب اروائي العظيم ميشيل سادوفيانو Sadoveanu وكان في بداية حياته العملية.
وبالإضافة إلى هذه الدائرة المحافظة تكونت جماعة أخرى لتقدم وجهة النظر الشعبوية أصدرت في عام 1906 جريدة بإسم "الحياةالرومانية Vista Romaneasca ورأس تحريرها ج.إبرايلييانو G.Ibraileanu مع رفيقه قسطنطين ستيريه Stere وكانت هذه الجماعة تعتقد شأن عناصر الحركة "النارودية" الروسية أنه ينبغي على المثقفين أن ينغمسوا في المسائل السياسية وأن يعملوا من أجل إصلاح حال الفلاح.
ورغم أن مدرسة الحداثة ظهرت أولاً في رومانيا على يد الشاعر الكسندر ماسيدونسكي Macedonski, إلا أن فيلوسفها الأكبر كان أوفيد دنسوسيانو Ovid Densusianu الذي تأثر بدراسته في باريس وأقتنع بأن الرمزية هي المعبر الحقيقي عن الروح اللاتينية,وكان مصراً وعلى النقيض من المؤلفين الشعبوبين على أن وظيفة الأدب هي الإمتاع والإلهام أكثر من أن يكون تعليمياً وتوجيهياً.
ولقد حدث تطور ثقافي مشابه من السهل تمييزه بين سلاف الجنوب حيث كان إتجاهات الحداثة أكثر أهمية عما كانت عليه في رومانيا أو اليونان. روغم أن تيار الواقعية كان سائداً عند نهاية القرن التاسع عشر, إلا أنه ظهر إتجاه جديد تزعمه الصربيون الذين تعلموا في فرنسا وإرتبطوا بثقافتها بطريقة أو بأخرى حيث أصبحت الكتاب الفرنسيون النموذج المفضل عندهم وخاصة كتاب المذهب الرمزي وعلى يدهم تم إستبعاد الموضوعات الإجتماعية من الكتابة وحل محلها الموضوعات التي تعبر عن الفردية والذاتية وتركز علىالقيم الفنية والأسلوب, وقد تزعم هذا الإتجاه الشاعران يوفان دوشيك Jovan Ducic, وميلان راكيتش Milan Rakic.
وفي كرواتيا حدث تغير موازي وعلى الرغم من إستمرار الأدب الواقعي الذي يرك على البطولة وعلى حياة الناس, إلا أن "الحداثة" الكرواتية أخذت تأثيرها من إتجاه الحداثة الجديد. وكان كتاب هذا الإتجاه الرئيسيين إيفو فونوفيتش Ivo Vojnovic المسرحي والشاعر الروائي, والناقد والكاتب انطوان جوستاف ماتوش Matos, والشاعر فلاديمير نازور Nazor , ولقد سار الأدب السلوفيني في الطريق نفسه.
وفي بلغاريا كان كتاب الحداثة يعرفون بالأوروبيين وقد تمركزوافي جريدة "الفكر" Misal التي أسسها كراستيو كراستيف Krastiu Krastev وكان يرشدون شأن أقرانهم في كل مكان تخليص كتاباتهم من الإنغماس في المشكلات الإجتماعية والسياسية ومما إعتبروه نفوذاً كهنوتياً ويرغبون تقديم مستويات عالمية في الكتابة. وكان ضمن هذه المجموعة الشاعر بنش سلافيكوف Pench Slaveikov, والروائي بيتكو تودورف Petko Todorov ومن هنا إستمرت الرواية الواقعية. كما أن الكتابات الأولى لكل من إلين بيلين Elin Pelin, ويوردان يوفكوف Iordan Iokov واللذان إشتهرا بعد الحرب العظمى كانت تنمتي إلى تلك الفترة ففي 1904, و 1911 نشر بيلين مجموعات قصص قصيرة تتناول أوضاع الريف وحياة الريف.
ولم يقتصر التطور على الأدب والمقالات بل قلد طال العمارة والموسيقى. ومرة أخرى نلاحظ أن أساس القرن التاسع عشر يكمن في مصدرين: عالم الفلاح والكنيسة. وتحت الحكم العثماني تم إنتاج ثروة عظيمة من الأعمال الفنية في القرية وخاصة في النسيج والفخار والزخارف والمنازل والملابس والنحت فيماعدا المظهر الخارجي للكنائس الذ ظل دون زخارف طبقاً للقيود العثمانية المفروضة على المباني المسيحية, لكن من الداخل كانت غنية بزخارف الأيقونات والصور الجبسية والحفر على الخشب ولهذا وعندما تأسست الدولة الحديثة وأخذت طريقها في التطور كانت ملامح الثقافة القومية في طريقها إلى الموت تدريجياً بعد طول الحكم العثماين. ومع الصناعة الحديثة إختفت صناعة النسيج اليديوة بسرعة وحل محلها النسيج الميكانيكي, كما أخذت الصناعات اليدوية الريفية في الإنقراض, وتأثر الفن الكنسي أيضاً فالعصر الجديد كان عصراً علمانياً وكانت زعامة الحركة الثورية راغبة عن تخصيص مبالغ في بناء الكنائس أو تزيينها.
وكما حدث في مجال الأدب والسياسة إرتبط الفن البلقاني والعمارة إرتباطاً وثيقاً بالنماذج الأوروبية. فقد كانت باريس وفيينا وميونخ تمثل جاذبية خاصة لكل الفنانين من مختلف شعوب العالم, وكانت فرنسا كما هو معلوم المصدر الرئيسي للإلهام عند الفنانين الرومانيين فأعظم رسام حديث في رومانيا تيودور آمان Aman تعلم في باريس وأصبح معروفاً باللوحات التاريخية التي رسمها, وكذا لوحات البورتريه ومناظر حياةالريف, وقد حاكاه كل من نيقولا جريجوريشكو Grigorescu, ويون آندريشكو Ion Andrescu. وفي نهاية القرن التاسع عشر إنعكست الإتجاهات الفنية الجديدة في أعمال ستفان لوشاين Stefan Luchain المستوحاة من حياة الريف والمدن والتي رسمها بالألوان. وإلى هذا الإتجاه كانت تنتمي أعمال كل من يان ستريادي Jean Al.Steriadi, وستفان ديمترشكوDimitrescu , وكاميل ريسو Camil Ressu, بل إن أعظم رسام في زمن الحرب العظمى جورج بتراشكو Petrascu بدأ عمله الفني في زمن الإتجاهات الحديثة.
وفي هذا الخصوص نلاحظ أن الفنانين الصرب والكروات قد تأثروا بالمناذج الفرنسية والألمانية, ففي الصرب ظلت المدرسة الكلاسيكية في الفن التي تركز على رسم البورترية والمناظر التاريخية والموضوعات الأسطورية تهيمن على الرسامين حتى منتصف القرن التاسع عشر. أما المدرسة الرومانسية التي تلت الكلباسيكية فقد إهتم أصحابها برسم المناظر الطبيعية وكان أبرز فرسانها ديورا ياشيك Djura Jaksic, ونوفاك راكونيتش Novak Rakonic, وستفان تودورفيتش Todorovic وقد إستمدوا شهرتهم من رسمهم لمناظر طبيعية. ومن بين فناني الواقعية أواخر القرن التاسع عشر كان أكثرهم شهرة أوروش برديتش Uros Predic ومعه آخرون لاي قلون أهمية مثل ميلوش تنكوفيتش Milos Tenkovic, وجورج كرستيش Krstic, وبايا يوفانوفيتش Paja Jovanovic. ومن المرعوف أن أبرز الرسامين الركوات في منتصف القرن فيكوسلاف كاراس Vjekoslav Karas كان متصلاً بالحركة الإليرية. ومن المعروف أيضاً أن المدرسة الواقعية ظلت سائدة في كرواتيا حتى نهاية القرن مثلما كان الأمر في الصرب إلى أن قام كل من جوزيف راستش Racic, وميروسلاف كاراليفيتش Miroslav Karaljevic اللذان درسا في باريس بتقديم المذهب التأثيري في الرسم وكانا فلاديمير بيشتش Becic يعتبروا من أعظم رسامي كرواتيا.
أما الفن في بلغاريا فكان بطيئاً في تطوره فرغم أ، بعض الفنانين قد درسوا الفن في الخارج قبل إقامة الحكومة الذاتية في البلاد, إلا أنه لم تتكون مجموعة من الرسامين بشكل منتظم حتى سبعينيات القرن التاسع عشر. وكان أكثر الفنانين أهمية إيفان مركفيشكا Mrkvichka, وياروسلاف فيزين Vesin من أصل تشيكي. وكانت لوحات مناظر الطبيعة التي رسمها نيقولا بيتكوف ولوحة فلاديمير ديمتروف "السيد" ذروة إبداعات البلغار في فترة ما قبل الحرب العظمى.
وفي اليونان يلاحظ أن الفنانين المحدثين اذلين درسوا الفن في ميونخ تأثروا مبدئياً بالنماذج الألمانية, وكان رساموا المدرسة الرومانسية هم نيكيفوروس ليستراس Nicephoros Lystras, ونيقولا جيزيس Gyzes, وقسطنطين فولوناكيس Volonakes, ثم إختلت التأثيرية الفرنسية الأهمية الرئيسية بين الرسامين عند نهاية القرن التاسع عشر وكان أعظم فرسانها قسطنطين بارثنيس Parthenes.
ورغم أن رسامي البلقان لم تكن لهم شعبية في أوروبا بشكل عام, إلا أن نحاتين إثنين حازا إعتراف العالم ألا وهما قسطنطين برانكوشي Brancusi, وإيفان مستروفيتش Mestrovic. وبرانكوشي في أولتينيا Oltenia في عام 1876 وتعلم في باريس على يد الفنان رودين Roden وتأثر بالمذهب التجريدي في أعماله التي أستوحاها من الفولكلور الروماني. وأما مستروفيتش فقد ولد في دلماشيا في 1883وتعلم في البداية في فيينا ثم في باريس مع رودين أيضاً. ورغم أن أسلوبه في النحت كان حداثي إلا أن ا‘ماله قبل 1914 كانت مستوحاة من الطابع القومي ثم من الموضوعات الدينية وغيرها فيما بعد.
وفيما يتعلق بالعمارة وقعت دول البلقان الجديدة تقريباً تحت تأثير وسط وغرب أوروبا فيماعدا رومانيا واليونان اللتان جرت فيهما محاولات لبناء عمارة علىأسس قويمة. وفي هذا الخصوص إشتمل تصميم خرائط العمارة على مبان تضم مكاتب وإدارات والمدارس والمكتبات. وبدأ إستقدام المهندسين المعماريين من فرنسا والنخمسا حيث كانت طرز عمارة باريس زمن الإمبراطور نابليون الثالث, وفيينا زمن الإمبراطور فرانز جوزيف محل إعجاب كبير وتقدير بين البلقانيين, وبدأ رفض طراز العمارة القائم بإعتباره "تركيا-عثمانياُ", ولو أنه تمت المحافظة على المباني التاريخية فيما بعد وأصبحت محل تقدير وإعزاز.
وربما كان التوافق الكبير في الحياة العثمانية نفسياً عند أهال البلقان يظهر في مجال الموسيقى فلم يكن لدى العثمانيين في إمبراطوريتهم ما يوازي الأوبرا والأوركسترا السيمفوني الأوروبي. وعلى هذا بدأت الدول الجديدة اليت إستقلت عن العثمانيين تقم دور للأوبرا بمساعدة من العواصم الأوروبية. ولكن لم يظهر من بين البلقانيين أي مؤلف موسيقي على النمط الأوروبي, وكان أعظمهم جروج انيشكو Enescu الروماني يتنمي أكثر إلى الفترة التالية.
لقد أغفلنا في الصفحات السابقة التطور الثقافي الذي حدث للشعوب الناطقة بالتركية والألبانية ولكن وبشكل عام كانت التطورات الثعمانية محدودة بالنسبة لحياة البلقانيين ورغم أنه في القرون السابقة كان لبعض جوانب معينة من الثقافة العثمانية تأثيرها على أهالي الولايات العثمانية مثل العمارة واللغة والنظرة المحافظة لأمور الحياة, إلا أن هذه الأوضاع تغيرت بشكل حاد في الفترة موضع الدراسة, بل إن الكتاب الأتراك المحدثين أنفسهم مالوا بشدة إلى الأدب الغربي وخاصة الفرنسي مثلما حدث للبلقانيين. فبعد منتصف القرن التاسع عشر وأثناء حركة الإصلاح (التنظيمات العثمانية) تمت ترجمة أعمال فرنسية لكل من راسين, وفنلو Fenelon, وفولتيرو ولامارتين, كما تم تقديم المسرح والرواية كأشكال أدبية جديدة. ولقد أدى قيام ثورة تركيا الفتاة (1908 – الإتحاد والترقي) إلى التعجيل بإشاعة هذا الإتجاه حتى لقد بدأ الكتاب الأتراك يكتبون في موضوعات من تاريخهم الماضي وتتعلق باحوال شعبهم ولكن بروح الكتابة الغربية. غير أن مسألة لغة الكتابة والتي كانت معقدة بشكل غير عادي لم تستقر حتى بعد الحرب العالمية الأولى.
أما الخلفية الثقافية العامة للحركة الألبانية القومية فقد سبق أن تناولناها في فصل سابق ولكن يتعين علينا هنا أن نذكر عدداً كثيراً من الكتاب خلال الفترة. ومن الملاحظ أن الأدب الألباني "القومي" نشأ في منتصف القرن التاعس عشر بين الألبان الذين كانوا يعيشون في إيطاليا وكان أشهر أولئك الأوائل ديمتريو كمردا Camarda اذلي كان لغوياً ودرس لغة بلاده بقصد معرفة أصلها, وجيرولامو دي رادا Girolamo de Rada الشاعر الذي نظم موضوعات قصائده من حياة الألبان قبل الحكم العثماني وكانت قصيدته "اسكندربيكو المنحوس" Skanderbeku I Pafane تصور نضال الألبان ضد الغزو العثماني في القرن الخامس عشر, وهناك شعراء آخرون بنفس تلك الخلفية مثل جيوسيبي سيرمبيه Giuseppe Sermbe, وجيوسيبي سخيرو Schiro.
والحقيقة أن الحماس للحكم الذاتي داخل الولايات العثماينة في البلقان قد زاد في الفترة التي أعقبت مؤتمر برلين 1878 وكانت عنوناً لها. وأمامنا مؤلفين إثنين لهما أهمية خاصة بالنسبة للقضية الوطنية إحدهما مسلم والثاني مسيحي.والمسلم هو نعيم الفراشيري عضو الطريقة البكتابشية الصوفية وكان شاعر قومي رومانسي ذو مزاج ديني قوي, وأفضل أعماله المعروفة "المواشي والأرض" Bageti e Bujqesi, وزهور الربيع Lulet I Veres , و "تاريخ اسكندربيات" Istori e Skenderbeat . وأما المسيحي الأعظم أهمية فهو جيرجي فيشته Gjergi Fishta الكاهن الكاثوليكي من شمال ألبانيا وكانت ملحمته العظيمة "مزهرية الجبال" Lahuta نشرت في ثلاثة أجزاء بين عامي 1905-1931 وتدور بشكل رئيسي عن صراع الألبان ضد السلافيين.
وهكذا وعشية الحرب العالمية الأولى كان التطور السياسي في بلاد البلقان يتوازى مع تنمية ثقافات بلقانية عكست التغير عن المجتمع الكنسي-الديني والهيمنة العثمانية للدول القومية الحديثة العلمانية. وفي هذا الخصوص ساند الكتاب والفنانون بإستثناء قلة قليلة الأهداف القومية حيث قدموا الإيدولوجيات اللازمة لمساندة برامج التوسع القومي. كما إشتركوا في بناء الدولة الجديدة وتولوا الوظائف الرسمية, وكان جمهورهم الذي يتابع أعمالهم الأدبية والفنية من نفس الأصول الإجتماعية التي جاء منها رجال العهود الجديدة. وعلى مشارف نهاية الفترة أخذ هؤلاء الأدباء والفنانون يهتمون بمشكلات الريف والمدن بصرف النظر عن قليلاً منهم كانوا ثوريون إجتماعياً وسياسياً. أما البلاد التابعة للنمسا وخاصة تلك التي كانت تحت سيطرة المجر فكان الموقف فيها مختلفاً بطبيعة الحال.
ورغم البطولة الوطنية المتطرفة في بلاد البلقان إلا أن ذلك لم يمنع إستيراد كل الأفكار من الخارج وبقيت باريس مركز الجاذبية المتحضرة أتباعه, بينما تمثل روسيا القيصرية والدولة العثمانية نظماً رجعية متخلفة. وفي الوقت نفسه هيمنت الفكرة القائلة بأن التخلي عن النموذج الإسلامي والبيزنطي يعتبر خطوة للأمام. وكان يصاحب الإعتراض على محاكاة الغرب العجز عن صياغة بدائل متماسكة للنهوض والتقدم مع أن فنانين كبار أمثال امينشكو, وسولوموس لم يقلد النموذج الغربي. وأخيراً وبعد إندلاع الحرب العالمية الأولى في 14 أغسطس 1914 بسبب قضية بلقانية عزمت الدول القومية الجديدة بإصرار على ترسم خطي الدول العظمى المتفوقة في مجال السياسة والإقتصاد والثقافة.
الفصل السابع عشر الحرب العالمية الأولى
إندلعت الحرب العالمية الأولى في البلقان, وظهرت أول بوادر إنتهائها في البلقان أيضاً وذلك عندما إستسلمت بلغاريا في 29 سبتمبر 1918. وخلال سنوات الحرب الأربع كانت بلاد البلقان مسرحاً ثانوياً للعمليات الحربية, أما المعارك الرئيسية فكانت تدور في شمال فرسنا والجبهة الشرقية, وهي التي لعبت الدور الرئيسي في تحديد مصير الدول الصغرى بعد الحرب أكثر من المعارك العسكرية المحلية. والحاصل أنه بعد بداية الحرب كان كل طرف من أطراف الصراع من الحلفاء ومن دول الوسط يسعى للحصول على مساندة دول البلقان لتقوية وضعه العسكري. أما دول البلقان ذاتها فكانت تسعى لإستكمال وحدتها القومية ولم تكن تتصور وجود من يحول دون تحقيق هذا الأمل إلا النمسا أو الدولة العثمانية أو روسيا أو إيطاليا أو إحدى الدول المجاورة للمنطقة. وعلى هذا ألزمت حكومات البلقان نفسها بمواقف عسكرية وسياسية أثناء الحرب إذا ما كانت تؤدي إلىتحقيق الأهداف القومية, كما تفكر في الوقوف إلى جانب الطرف الخاسر في المعارك.
وبطبيعة الحال كانت الصرب أولى دول البلقان شعوراً بتأثير الحرب, إذ وجدت نفسها وهي عبارة عن شعب قوامه أربعة مليون ونصف نسمة في صراع مع النمسا وهي قوة كبرى قوامها خمسون مليون نسمة. فعندما تلقت الإنذار النمساوي حاولت تجنب ويلات الحرب فقبلت كل الشروط ما عدا فرض الرقابة على المطبوعات لأن ذلك يتطلب تعديل الدستور, وأبدى زعماء الصرب رغبتهم في موصالة المفاوضات وطلبوا من النمسا "ألا تندفع في تقرير هذا الأمر". ورغم هذا فقد تم ضرب بلجراد (عاصمة الصرب) بالمدافع في 28 عبر نهري السفا Sava والدانوب.
ورغم أنه كان بإمكان الصرب تحريك قوة من 350 ألف مقاتل للمواجهة, إلا أنه معظم الخبراء العسكريون كانوا يتوقعون إنتصار النمسا إنتصاراً سريعاً. ولكن عندما عبرت قوات النمسا نهري سافا ودرينا Drina ودخلت أراضي الصرب في منتصف أغسطس (1914) إلتقى الجيشان في معركة دامية إستمرت أربعة أيام إنتهت بإنتصار صربي عظيم وكان معظم قوات الصرب من إبطال حروب البلقان السابقة حيث تم إراغام جيش النمسا على التقهقر والإنسحاب إلى أرضيه. وفي تلك الأثناء دخلت روسيا الحب فكان على النمسا أن تحرك بعض وحداتها العسكرية إلى جبهات أخرى وهنا إنتهزت الصرب الفرصة وأخذت موقف الهجوم الحرب إلى أراضي النمسا ذاتها وجنودها يتمتعون بروح معنوية عالية. وسرعان ما تغير الموقف في ديسمبر (1914) عندما شنت النمسا هجوماً على الصرب وإحتلت بلجراد وأصبح واضحاً أن الصرب تواجه عقبة كبرى تتمثل في نقص الإمدادات وإحلال قوات محل أخرى في الوقت الذي لم تحظى فيه إلا بقدر ضئيل من المساعدات قدمها عن طريق تسالونيك.
على أن الجيش الصربي أحرز نصراً كبيراً آخر على النمسا في منتصف ديسمبر (1914) عند نهر كوليوبارا Kolubara وأرغمت قوات النمسا على الإنساحب مرة أخرى من أراضي الصرب وتم تحرير بلجراد من القوات النمساوية وفقدت الصرب حوالي مائة ألف مقاتل من رجالها, وأصبح واضحاً أن الصرب لا تستطيع أن تكسب حرباً طويلة الأمد تقوم على الإنهاك وتحتاج إلى التماسك, وأن أقصى ما يمكن أن تقدمه من إنجازات عسكرية هو ما حققته في معركة نهر كوليوبارا, ذلك أن البلاد أصابها الضعف الشديد جراء وباء التيفوس الذي تفشى في الجيش وفي الأهالي. ورغم أن الحلفاء أرسلوا إمدادات طبية للصرب لمواجهة الوباء, إلا أنها فقدت 150 ألف نسمة مع حلول صيف 1915.
وفي أثناء تلك المعارك القاتلة إنغمس كل طرف من أطراف الحرب في مفاوضات مكثفة من أجل توريط دول بلقانية أخرى وجرها لساحة الحرب. وكانت الدولةالعثمانية هي القوة التالية التي دخلت الحرب, وكانت قد عقدت معاهدة تحالف سري مع ألمانيا ضد روسيا في الثاني من أغسطس (1914) قبل يوم واحد من إعلان ألمانيا الحرب على فرسنا, وقبل يومين من دخول بريطانيا الحرب. وكانت المعاهدة من إنجاز إنفر باشا وزير الحرب العثمانية الموالي لألمانيا. ورغم أن الدولة العثمانية لم تكن في حالة حرب إلا أنها ساعدت ألمانيا في جهودها الحربية, فبعد ثمانية أيام من توقيع معاهدة التحالف مع ألمانيا أبحرت سفينتان حربيتان ألمانيتان وهما جوبين Goeben, وبرسولا Breslau في المضايق العثمانية (البوسفور والدردنيل) تحاشيا لإستيلاء أساطيل الحلفاء عليها. وكان هذا الإجراء يعد خرقاً للمواثيق الدولية التي تنص على غلق المضايق أما السفن الحربية عندما تكون الدولة العثمانية في حالة عدم الحرب. لكن الحكومة العثمانية بررت هذا الإجراء بقولها إنها إشتركت السفينيتين رغم أن الضباط والبحارة الألمان ظلوا يقودونهما وهم يرتدون الطرابيش العثمانية. وبعد شهرين من ضغوط ألمانية مكثفة على الدولة العثماينة هاجم الأسطول العثماني ومعه السفينتان الألمانيتان الأسطول الروسي في البحر الأسود. وهكذا أصبحت الدولة العثماينة في صف دول الوسط,وفي نوفمبر(1949) أصبحت في حالة حرب رسمياً ضد الحلفاء.
وكان لدخول الدولةالعثماينة الحرب أثره العميق في تحطيم خطوط المواصلات بين الحلفاء في الغرب وبين روسيا عن طريق المضايق. ونظراً لخطورة هذا الإجراء العثماني فقد أخذت بريطانيا بخطة ونستون تشرشل لإقتحام المضايق بالقوة وضرب العثمانيين, وهي خطة كانت محل جدل كبير ومن ثم كان ترتيب الحملة على الدردنيل وجاليبولي Gallipoli بقصد فتح المضايق. ولقد بدأت الحملة في فبراير 1915 وكان أبرز عملياتها قيام ثمانية عشر سفينة إنجليزية بإقتحام المضايق باقلوة في منتصف مارس. ونظراً لضياع أربعة من تلك السفن في البحر فقد اصدر قائد الحملة أوامره بالإنسحاب فلما بدأ الهجوم كان النجاح حليف العثمانيين. ولم يعد بإمكان القوات الإنجليزية الصمود يوماً آخر أمام قصف المدافع وذلك بسبب نقص المعدات العسكرية.
ورغم فشل حملو الدردنيل واصل الحلفاء خططهم للإستيلاء على شبه جزيرة جاليبولي لإتخاذها قاعدة لحملة كبرى ضد العثمانيين. ورغم أن قوات الحلفاء التي قدمت من نيوزيلندا وإستراليا كانت تحارب بضراوة, إلا أنالجنود العثمانيين كانوا متحصنين جيدأً في المرتفعات المطلة على السهول الوساعة. ورغم أن قوات الحلفاء عجزت عن إقتحام المنطقة الضيقة فقد ظلت قائمة هناك من أبريل 1915 إلى يناير 1916, ثم إضطرت للإنسحاب بسبب الخسائر الشديدة والأمراض وإنخفاض الروح المعنوية بين الجنود.
علىأن دخول العثمانيين الحرب وضعف الصرب وفشل حملة الدردنيل لفت نظر دول الوسط للميزة النسبية التي تتمتع بها في منطقة البلقان وهي ميزة سرعان ما فقدت أهميتها بإنضمام إيطاليا إلى الحلفاء في أبريل 1915. وكانت إيطاليا التي أعلنت وحدتها بعد نضال طويل ما تزال في أعين أبطالها دولة غير كاملة إلا إذا ضمت مناطق البلقان التي يعيش فيها إيطاليون مثلما تفعل دول البلقان الأخرى ذاتها. ولكن الأهم من ذلك مطالبتها بضم جنوب التيرول, وترنتينو Trentino, وإستريا Istria, ودلماشيا وجميعها تحت سيادة النمسا وألبانيا وذلك بدعوى أمنها القومي أو من بابا التفوق الإستراتيجي. ورغم أن إيطاليا كانت عضو في الحلف الثلاثي إلا أنها لم تشترك في الحرب ضد ألمانيا والنمسا لأن الحلف كان دفاعياً على حين أن إجراءات لم تشترك في الحرب ضد ألمانيا والنمسا لأن الحلف كان دفاعياً على حين أن إجراءات النمسا ضد الصرب كانت هجومية. ولهذا وقفت على الحياد وشرعت في الدخول في مساومة مع كلا الطرفين (الوسط والحلفاء). وفي الواقع لم يكن لدى الوسط ما تقدمه لإيطاليا إلا القليل وأقصى ما كان يمكن للنمسا أن تقدمه أم تتنازل فقط عن ترنتينو في مقابل إيطاليا على الحياد. أما الحلفاء فكانوا في وضع أفضل نظرياً فقد كان بإمكانهم تقديم وعد لإيطاليا بمساعدتها في ضم بعض الأراضي التي تتطلع إليها والتابعة للنمسا. لكن إذا حدث وتنازلت النمسا عن دلماشيا وإستريا لإيطاليا فهذا معناه وضع سبعمائة ألف من سلاف الجنوب تحت حكم إيطاليا مما كان يعني إستحالة إيجاد دولة يوجوسلافيا فيما بعد, بل كان من شأنه حرمان الصرب من مخرج لها على الأدرياتي الذي كانت تتطلع إليه منذ زمن طويل. ولهذا كان الحلفاء في مأزق خاصة وأن الحرب كانت قد بدأت ضد الصرب.
والجدير بالذكر أن أهذاف الحرب ضد الصرب التي شملتها المفاوضات مع إيطاليا لم تكن محددة. ففي بداية الحرب كانت حكومة الصرب بقيادة نيقولا باشيك Pasic معنية بمصير صرب البوسنة والهرسك بشكل أساسي, وضمان إيجاد مخرج لها على البحر الإدرياتي, وضم المناطق التي تعتبر أ÷لها صرب عرقياً, ولم تكن متحمسة لوحدة سلاف الجنوب. والأغرب من هذا أن روسيا التي تعتمد الصرب على مساندتها دبلوماسياً لم تكن لها سياسة "يوجوسلافية"و ففي 1915 صرح وزير خارجيتها سيرجي سازونوف Serge Sanovo" أنه إذا أصبح من الضروري أن تشترك روسيا في حرب لمدة نصف يوم من أجل تحرير السلوفينيين فإنني لن أوافق على ذلك". وبرغم هذا فقد إضطرت حكومة الصرب للتعامل مع هذه المسألة في خلال العلاقات مع الحلفاء.
وعلى هذا وفور إندلاع الحرب غادر عدد من بلاد سلاف الجنوب التي تحت حكم النمسا بينهم آنتيه ترومبيتش Ante Trumbic, وفرانو سوبيلو Frano Supilo إلى إيطاليا وهناك قاموا بتأسيس "لجنة اليوجوسلاف" للسعي إلى توحيد الصرب والكروات والسلوفينيين في دولة واحدة. وعندما علم أعضاء اللجنة أن مفاوضات بين الحلفاء تجري بشأن قضية السلاف غادروا رما إلى باريس ولندن لقلايم بالضغط اللازمة. وآناذك لم تكن هناك أي دولة ترغب في إلزام نفسها بخطة تستهدف تفكيك إمبراطورية النمسا. ورغم أن حملة الدعاية المكثفة التي قامت بها اللجنة كان لها تأثيرها دون شك على الرأي العام في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإنجلترا, إلا أن نقطة ضعفها الكبيرة كان إخفاقها في التفاهم مبكراً مع الصرب. وطالما أن أحداً من اللجنة لم يتصل بحكومة الصرب فإنها بدورها لم تتعامل مع اللجنة بإعتبارها هيئة تستحق التعامل على قدم المساواة رغم أن اللجنة كانت تتحدث بإسم سلاف الجنوب. وقد ظلت حالة الجفاء قائمة بين اللجنة وحكومة الصرب حتى سقطت الحكومة وإنتقل زعماء اللجنة إلى كورفو Corfu حيث أمكن التوصل إلى إتفاق ما.
وبصرف النظر عما إذا كانت حكومة الصرب قد إختارت طريق إعلان "الصرب الكبرى" أو "يوجوسافيا" فإن مطالب إيطاليا كانت تتناقض بشكل مباشر مع مطالب القومية الصربية, بل إن الحلفاء أنفسهم فيما بينهم حول تلك القضية, فروسيا مثلاً كانت أكثر قرباً لمطالب الصرب عن إنجلترا وفرنسا, فقد كانت مستعدة في أغسطس 1914 لمنح إيطاليا وضعاً سيادياً في البحر الإدرياتي والسيطرة على ترنتينو وتريستا وفلور Vlore في ألبانيا مقابل أن تقدم إيطاليا مساعدة عسكرية لها فوراً, لكن إنجلترا وفرنسا لم تشاركا روسيا هذا الرأي. غير أنه في ربيع 1915 أثبت الموقف العسكري للحلفاء على كل الجبهات الحاجة إلى مساعدة إيطاليا التي أصبحت أمراً ضرورياً وحيوياً. وعند هذا المنعطف كانت روسيا راغبة عن توقيع إتفاق ما يكون على حساب الصرب. لكن سرعان ما تراجعت عن تحفظها عندما أكدت إنجلتر لها أن إستانبول والمضايق سوف تكون لها بعد الحرب.
وفي 28 أبريل 1915 عقد الحلفاء مع إيطاليا معاهدة لندن وتقضي بدخولها الحرب إلى جانبها خلال ثلاثين يوماً مقابل أن تأخذ جنوب التيرول, وترنتينو, وتريستا, وإستريا, ومساحة كبيرة من دلماشيا, وجزيرة سازينو Saseno ذات المقوع الإستارتيجي, وميناء فلور في ألبانيا, فضلاً عن جزر الدوديكانيز Dodecanese في بحر إيجه التي يعيش فيها يونانيون مع وعد بحصولها على نصيب معقول في أية أراضي عثمانية قد تتعرض للتقسيم. وبهذا إكتملت الصفقة وأعطى الحلفاء لإيطاليا كل الأراضي القومية لكل من كرواتيا والصرب وسلوفينيا وألبانيا واليونان في مقابل خدماتها في الحرب كحليفة. وعلى هذا وفي 23 مايو 1915 أعلنت إيطاليا الحرب على النمسا والمجر وإنتظرت خمسة عشر شهراً حتى أغسطس 1916 لتدخل في معركة مع ألبانيا. وكان لهذا الإتفاق عواقب جسيمة في المستقبل بالنسبة لآمال سلاف الجنوب والألبان.
كانت بلغاريا هي الدولة البلقانية الثانية التي دخلت الحرب وكانت مطالبها تنحصر في الحصول على ما كانت تعتبره نصيباً مشروعاً في مقدونيا يشتمل على مساحات تقع تحت سيطرة الصرب, وأراض أخرى إستولت عليها اليونان وخاصة ميناء قوله. كما كانت تريد إستعادة جزء من جنوب دوبروديا التي إستولت عليها روماينا في 1913. والحقيقة أن بلغاريا كان لديها الكثير مما تقدمه لأطراف الحرب إستراتيجياً نظراً لموقعها بالنسبة للمضايق وللصرب, فإذا إنضمت إلى دول الوسط فسوف يكون لهم جبهة صلبة من ألمانيا حتى الدولة العثمانية في حالة نجاح حملة جاليبولي بطبيعة الحال. وفي القوت نفسه سوف يكون وضع الصرب وضعاً صعباً لأنه يكون بإمكانها مواجهة جبهة أخرى في الجنوب. ومن شان هذه التطورات أن تؤثر على موقف كل من رومانيا واليونان اللتان لم تحددا موقفهما من الحرب آنذاك. أما في حالة إنضمام بلغاريا إلى جانب الحلفاء فسوف ينقلب الموقف برمته إلى العكس ذلك أنها تشكل وضعاً عسكرياً مهما في حملة جاليبولي من حيث الإستيلاء علىالمضايق ومن ثم فتح الطريق لتوصيل الإمدادات إلى روسيا الأمر الذي سوف يجعل دول الوسط تواجه موقفاً خطيراً.
وفي تلك المرحلة من المساومات بشأن إدخال أطراف أخرى للحرب كان وضع الحلفاء هو الأضعف في هذا الجانب, فقد كان عليهم الدخول في مساومة بشأن رغبات الصرب مثلما فعلوا من قبل مع إيطاليا, وكان هذا معناه أنه كان على الصرب أن تتخلى عن المطالبة بضم أراض ليس بينها دلماشيا على سبيل المثال,وإنما تتخلى أيضاً على الصرب قد أمسكت بالغزاة النمساويين أثناء تلك الحروب وأجبرتهم على التقهقر فإنه لم يكن من الممكن التخلي عن إقليم شرق نهر الفردار وكذا منطقة متاخمة لليونان. أما دول الوسط فلم تكن تأبه للحساسيات التي تضعها الصرب في إعتبارها بل لقد كان من الممكن أن يوافقوا على تقسيم الصرب. وهكذا كان معسكرا الحرب: دول الوسط, والحلفاء في وضع صعب فيما يتعلق بإدعاءات بلغاريا ضد اليونان ورومانيا.
ومن ناحية أخرى كانت بلغاريا تحت قيادة الملك فرديناند ورئيس وزرائه فاسيل رادوسلافوف Vasil Radoslavov لا تزال تعاني من صدمة حرب البلقان الثانية عندما تحالف جيرانها ضدها,وكذلك من معاهدة بوخارست التي حرمتها من أراض مقدونية تعتبرها بلغارية. ولهذا تعاطف الإثنان مع دول الوسط. وأكثر من هذا فإن علاقات بلغاريا مع روسيا آنذاك كانت باردة ففي مطلع 1914 أبلغ سافينسكي A.A. Savinskii الوزير الروسي ودعمها. وفي لقاء تال نصح سافينسكي الملك قائلاً له "ينبغي ألا تنسى أن لروسيا أهدافها السياسية التي تفوق أهداف الآخرين أهمية, وهو أمر كان محل نظر من جانب البلغاريين. وهكذا أصبح واضحاً أن موقف عام 1878 إنقلب إلى العكس, أي أن روسيا يمكن أن تساعد الصرب وليس بلغاريا, وأن حدود بلغاريا المقررة طبقاً لمعاهدة سان ستيفانو لم تعد تهم روسيا. ورغم هذه الحقيقة إلا أنه بمجرد إندلاع الحرب إجتهد الدبلوماسيون الروس لكسب بلغاريا إلى صف الحلفاء وكانوا على إستعداد لتقديم مزيد من أراضي مقدونيا لبلغاريا أكثر مما كانت الصرب تنوي التنازل عنه.
وبينما كان ملك بلغاريا أكثر ميلاً للوقوف بجانب دول الوسط كانت البلاد في حالة إنقسام بشأن الموقف. ورغم وجود مساندة عالمية لإستيلاء بلغاريا على مقدونيا, إلا أن البلد لم تكن تود الدخول في حرب أخرى, ذلك أن حروب البلقان كلفت بلغريا ثمانية وخمسون ألف قتيل, ومائة ألف جريح فضلاً عن معارضة الإشتراكيين وإتحاد الفلاحين للحرب. لكن ضم مقدونيا كان أملاً مشتركاً بين البلغاريين لم يكن محل معارضة, ولهذا بدا واضحاً أن بلغاريا قد تنضم إلى الحلفاء لتضمن على الأقل الإستيلاء على أراض كانت موضع تنازل منها للغير خلال مساومات أطراف الحرب معها.
على أن بلغاريا أدركت خلال مفاوضتها مع الحلفاء أن العطاءات المقدمة إليها يتوقف منحها على إنتصارهم في الحرب. ولكن في مايو 1915 وعندما تحسن وضع الحلفاء في الحرب بعد دخول إيطاليا إلى جانبهم أبدوا إستعدادهم في ن تأخذ بلغاريا أراض مقدونية جنوب الخط المتفق عليه عام 1912: كريفا-بالانكا-فيليس-أوهريد, بشرط أن تأخذ الصرب البوسنة والهرسك, ومخرج على البحر الإدرياتي. كما وافق الحلفاء أيضاص على أنتمتد الحدود الجنوبية لبلغاريا حتى خط إينوس-ميديا على عبد مسافة مساوية للمشافة بين إستانبول وهذا الخط, وعلى أن يوضع في إلإعتبار مطالبها في كل من قوله ودوبروديا غير أن الصرب ظلت ترفض التنازل عن أراض مقدونية لبلغاريا ولكن عندما إزداد موقفها الحربي سوءً في سبتمبر 1915 أدبت إستعدادها للتنازل عن نصف أراض مقدونيا التي تحت سيطرتها. على أن التنازلات التي أبدى الحلفاء إستعدادهم لتقديمها لبلغاريا ثمناً لدخولها الحرب إلى جانبهم لم تكن تتكافا مع تلك التي أبدى دول الوسط تقديمها وكانت تتلخص في منح بلغاريا الحدود المقررة بمعاهدة سان ستيفانو, وكل الأراضي شرق نهر مورافا Morava حتى الدانوب, مما كان يعني تفكيك الصرب. ويضاف إلى ذلك أنه في حالة حصول بلغاريا على دوبروديا وتراقيا بموافقة دول الوسط فهذا يعني إنضمام رومانيا واليونان إلى الحلفاء آلياً. وقد إنتهى هذا الترتيب بتوقيع إتفاق في سبتمبر 1915 بين دول الوسط وبلغاريا, وفي أكتوبر قامت ألمانيا والنمسا بالهجوم علىالصرب. وفي 14 أكتوبر وطبقاً لإتفاق سبتمبر 1915 دخلت بلغاريا الحرب وهاجمت الصرب من ناحية الشرق, وأنزل الحلفاء أربعة فرق عسكرية في تسالونيكا بأمل مساعدة الصرب, لكن فشلت جهودهم في إدخال اليونان الحرب. وهكذا وجدت الصرب نفسها محاصرة بين قويتن غازيتين لكنها حاربت بضراوة وعناء لمدة عام ثم تبين عدم قدرتها على مواصلة الصمود ضد العدوان المشترك حيث تم إجتياح أ{اضيها في خلا ستة أسابيع,ومات الكثير من جنودها بفعل ضربات العدو أو من البرد أو المرض أثناء إنسحاب الجيش عبر الجبال الوعرة شمال ألبانيا في سكون الشتاء, وتمكن ثلاثون أف مقاتل من الوصول إلى شاطئ الإدراياتي لكن قوات احلفاء تمكنت من إجلائهم في يناير 1916 ونقلتهم إلى جزيرة كورفو. وهناك تكونت حكومة صربية في المنفى بقيادة باشيك وألكسندر الوصي على العرش الذي أخذ مقاليد الأمرو من الملك بيتر في 1914.
والخلاصة أنه في مطلع عام 1916 كانت دول الوسط تسيطر على البقلان بعد إنسحاب قوات الحلفاء من جاليبولي ووصول بقايا جيش الصرب إلى جزيرة كورفو, أي أنها أصبحت تسيطر على كتلة متصلة من الأراضي إبتداء من المانيا وحتى الخليج الفارسي مروراً بوسط أوروبا. ولهذا السبب كان إشراك كل من ورمانيا واليونان في الحرب أمراً له أهميته بالنسبة للمعسكرين المتحاربين نظراً لموقع هاتين الدولتين الإستراتيجي وجيوشهما المعتبرة. غير أن الدولتين وقفتا بعيداً ودون أي إلتزام تجاه أي طرف من أطراف الصراع.
كانت لرومانيا مطالب قويمة في إقليمين كبيرين وهما ترانسلفانيا وبسارابيا وآخر صغيرين وهما بوكوفينا وبانات, عكس بلغاريا التي كان لها مطلباً قومياً في مكان واحد كما رأينا. وكان ثلاثة من تلك الأقاليم تحت حكم النمسا والرابع تحت حكم روسيا. ومن ناحية أخرى كان إحتفاظ كل من المعسكرين بولاء رومانيا له اهميته لأسباب إقتصادية تتمثل في ثروة رومانيا من الزيت والقمح, وأسباب عسكرية تتمثل في جيشها الذي يساعد في الحرب بدرجة أو بأخرى رغم أنه ليس في كفاءة جيش الصرب. ومن المعروف ان علاقات رومانيا الدبلوماسية في الماضي كانت مع النمسا والمانيا بصفة رئيسية حيث عقدت معهما إتفاقية دفاعية عام 1883 تجددت خمس مرات كان أخرها عام 1913, أي أنه عند إندلاع الحرب كانت الإتفاقية قائمة. وعلينا أن نتذكر أن تلك الإتفاقية قد عقدت بسبب مخاوف رومانيا من روسيا ومن جارتيها السلافيتين بلغاريا والصرب. وفي السنوات التي سبقت الحرب مباشرة كانت علاقة رومانيا مع النمسا قد توترت بسبب مسألة ترانسلفانيا وموقف رومانيا في حرب البلقان الثانية, وعندما بدأت المعارك في 1914 ترانسلفانيا وموقف رومانيا في حرب البلقان الثانية. وعندما بدأت المعارك في 1914 وجد شارل ملك رومانيا سليل أسرة الهوهنزوليرن أن إتفاقية 1883 تلزمه بالوقوف إلى جانب ألمانيا. لكنه لم يكن يملك السلطة لكي يمضي في سياسته وفق رغباته إذ كانت اللسطة الحقيقية في يد وزرائه يون براشيانو Ion I.C.Bratianu إبن زعيم الحزب الليبرالي العظيم.
وبينما كان الملك شارل موال لألمانيا كان رئيس وزرائه برشيانو مع الحلفاء وكان يستهدف توحيد كل الرومانيين في دولة واحدة وكان نصفهم تقريباً في عام 1914 يعيشون خارج المملكة. كما كان يسعى للمحافظة على توازن القوى الذي نشأ بين دول البلقان بعد عام 1913 (أي بعد حروب البلقان). ولما كان يعتقد في نجاح هذه الأهداف مهما طال الوقت. فقد عرف بين معاصريه بأنه صاحب فكر سديد, وبينطي الروح يجادل دون جدوى, ويعيش في الأوهام وغير جدير بالثقة. ورغم أنكل تلك الصفات التي خلعت على الرجل قد لا تكون حقيقية, إلا أنه يحسب له تمتعه بقدرة ملحوظة لإستغلال المواقف الدبلوماسية للحصول على مكاسب لبلاده.
وإذا كانت علاقات رومانيا بالنمسا قبل الحرب قد أصبحت باردة كما رأينا فإن علاقاتها مع روسيا كانت في تحسن ذلك أن قضية بسارابيا كانت لا تزال تعمل في صدر الرومانيين في القوت الذي بدأت الأنظار تتجه أكثر نحو مشكلة ترانسلفاينا. وفي يونية 1914 وعشية إغتيال ولي عهد النمسا قام نيقولا الثاني قيصر روسيا بزيارة رسمية ناجحة لرومانيا وعقدت أواصر الصداقة بين براشيانو رئيس وزراء رومانيا وبين وزير خارجية روسيا سازانوف S.D.Sazanov , أي أنه عند إندلاع الحرب كانت العلاقات الروسية-الرومانية ودية,بل إن براشيانو تعلق بخطأ دبلوماسي إرتكبه سازانوف أدى إلى وضع صعوبات في طريق الحلفاء في المستقبل.
وكان هذا "الخطأ" الذي إرتكبه سازانوف تصريحه في 30-31 يوليو بأن روسيا قررت ودون التشاور مع إنجلترا وفرنسا منح ترانسلفانيا لرومانيا في مقابل ضمان حيادها في الحرب.وفي الوقت نفسه أكدت المانيا لرومانيا أنها سوف تحصل على بسارابيا بنفس الشروط أي مقابل الحياد. وكان هذا يعني أن رومانيا إذا ما وقفت على الحياد تجاه المعسكرين فسوف تحصل على ترانسلفانيا حسب وعد روسيا, أو بسارابيا حسب وعد المانيا وفق نتائج الحرب. وعندما وضعت تلك البدائل أمام مجلس الوصاية على العرش في رومانيا في إجتماعه في الثالث من أغسطس أعرب الملك وبيتر كارب Carp الوزير الموالي لألمانيا أن الأمة تربط نفسها بقضية دول الوسط على حين كانوا الآخرون يتفقون مع وجهة نظر براشيانو في إتخاذ موقف الحياد.
على كل حال ففي الشهور التالية عمل براشيانو على إستغلال هفوة سازانوف تلك, فعندما سعت روسيا لإغراء رومانيا بالإنضمام للحلفاء لم تكن تملك وسيلة لتنفيذ هذا الإغراء وكل ما كان ف يجعبتها ا، رومانيا قد تحصل على ترانسلفانيا مقابل الحياد. وعندما إقترح الحلفاء ان تتنازل روسيا عن بسارابيا لم توافق مثلما رفضت النمسا إقتارحات مشابهة قدمتها المانيا فيما يتعلق بترانسلفانيا. وعلى هذا تلقى الحلفاء تأكيداً بحياد رومانيا بمقتضى معاهدة سرية عقدت بينها وبين روسيا في أول اكتوبر 1914 ضمنت لها إمكانية الحصول على كل من ترانسلفانيا وأجزاء من بوكوفينا التي يسكنها رومانيون. وفي مقابل ذلك وافقت رومانيا عل السماح بعبور الإمدادات الروسية عبر أراضيها إلى الصرب وعدم السماح للإمدادات الألمانية بالمرور إلى تركيا. وكان هذا يعني من الناحية القانونية أن رومانيا ليست دولة محايدة, وبدا من ظاهر الأحداث المعسكر الذي إختارت رومانيا الوقوف إلى جانبه.
ثم جرت مفاوضات بين رومانيا والحلفاء خلال الفترة بين توقيعها المعاهدة مع روسيا وبين دخولها الحرب في أغسطس 1916 حول الشروط التي سوف تنضم بمقتضاها إلى الحلفاء, وكان رئيس الحكومة (براشيانو) يركز على الحصول على المقاطعات التي سوف تأخذها رومانيا. أما الحلفاء فكانوا يضغطون على رومانيا لتقديم ويلاحظ أن الشروط المعروضة من الطرفين والمناقشات التي دارت بشأنها أوضحت ما سوف تتمخض عنه الحرب. وعندما كانت الصرب تحارب وظهرها إلى الجدار في خريف 1915 طلبت روسيا من روماناي تقديم مساعدة للصرب التي لا تزال تربط بينهما معاهدة في 1913 ضد بلغاريا. لكن رئيس حكومة رومانيا وقد أدرك أن المانيا إحتلت وارسو, وأن النمسا إستعادت جاليسيا Galicia وبوكوفينا, وأن حملة جاليبولي لا تزال متعثرة, نراه وقبل أن يفكر في إتخاذ أي إجراء يطالب بغزو أنجلو-فرنسي لبلغاريا,وبعملية قوية تجاه جاليبولي بهجوم روسي جديد, وتقديم معدات حربية لبلاده. ويبدو واضحاً أن تلك الشروط التي قدمتها رومانيا كانت تستهدف الحيلولة دون إشتراكها في الحرب, ولكنها إستمرت في بيع الزيت والحبوب لدول الوسط حتى تجعل باب الإنضمام له مفتوحاً. ولكن هذه الإجراءات وجه برلمان لبراشيانو تهمة "الإتصال بطرفين كل منهما من وراء ظهر الآخر, وخداع كل منهما,والكذب هنا وهناك, إنتظاراً لفرصة مناسبة لإنتهازها. ومع هذا فقد ظل الرجل يستمتع بتأييد غالبية البرلمان والملك فرديناند الذي تولى العرش بعد موت تشارل في اكتوبر 1914.
وفي عام 1916 كان موقف الحلفاء في الحرب سيئاً على كل الجهات, ففي الجبهة الغربية كان الموقف متجمداً, وفي الجبهة الشرقية أخذت روسيا تخسر معركة بعد أخرى, وفي البلقان إنضمت بلغاريا لدول الوسط وإنهزمت الصرب وإستسلمت جاليبولي. لكن عندما هجم الروس على بروسيلوف Brusilov في يونية 1916 رأت حكومة رومانيا (برئاسة براشيانو) أن هذا هو الوقت المناسب للدخول في الحرب. وكان الروس في حملتهم على بروسيلوف التي إستمرت ثلاثة أشهر قد تقدموا حوالي مائة ميل وإستولوا على مدن مهمة مثل تشيرونوفيتش Czernowitz وأسروا حوالي نصف مليون واحد. وقد تزامن هذا الهجوم مع هجوم على سوم Somme في الغرب. وهنا إستحوذ على براشيانو (رئيس حكومة رومانيا) الخوف والرعب من أن روسيا قد تستولي على ترانسلفانيا بدون مساعدة بلاده, وأن ترانسلفانيا قد تضيع إلى الأبد, وأنه قد تحدث إتفاقية صلح منفصل تظل ترانسلفانيا بمقتضاها تحت حكم النمسا خاصة وأن روسيا لم تقم بإجراءات تبدد تلك المخاوف التي سيطرت عليه.
ولما كانت روماناي قد تفاوضت مع كل من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ولم تتفاوض مع روسيا, فقد عزم براشيانو على إستخلاص أكبر فائدة ممكنة من مباحثاته مع روسيا اليت إستمرت حوالي شهرين حيث نجح إلى حد كبير في تحقيق ما كان يصبو إليه نظراً لأن الهجوم اروسي كان يواجه مقاومة شديدة يوماً بعد يوم, فضلاً عن أنالحلفاء كانوا في حاجة إلى إسهام رومانيا بشكل فعال, ومن ثم حصل براشيانو على وعد بأخذ ترانسلفانيا وإقليم بانات حتى نهر تشيزا Tisza (ثييس Theiss) عند شيجد Szeged قدر الإمكان على أن يتجه خط الحدود بإتجاه الشمال الشرقي مارا بدبرسين Debrecen حتى نهر سوميس Somes بحيث تضم رومانيا مساحة معتبرة من الأرض التي تمثل شرق المجر حالياً. كما وعدت رومانيا بأن تمتد حدودها إلى إقليم بوكوفينا حتى نهر بروث Pruth وأن يكون لها مكاناً في مؤتمر الصلح الذي يعقد بعد إنتهاء الحرب على قدم المساواة مع الدول الأخرى. ورغم أن المباحثات لم تسفر عن نص يفرض إيجاد تنسيق روسي-روماني في الجهود العسكرية فيما عدا أن تقوم القوات الرومانية بعمليات عسكرية في ترانسلفانيا إذا شاءت, إلا أن رومانيا رحبت بتلك الشروط وفي 26 أغسطس 1916 إشتركت في الحرب إلى جانب الحلفاء.
لكن قرار رومانيا بالإشتارك في الحرب جاء متأخراً جداً ففي ذلك الوقت كان الهجوم اروسي على بروسيلوف قد جاء بعد فوات الأوان لأن المانيا كانت قد نقلت خمسة عشر فرقة عسكرية من الجبهة الغربية وتحول المد عكس الإتجاه,وفي خلال شهر واحد تم إعاقة زحف جيش روماني في ترانسلفانيا بفضل جهود الجنرال إيريش فون فايكنهاين Irich von Faikenhayn تلاه هجوم ألماني-بلغاري بقيادة المارشال أوجست فون مكنسن Machensen على دوبروديا في ديسمبر, وتقهقر الجيش الروماني بل والحكومة الرومانية إلى مولدافيا وإتخذوا من مدينة ياصي عاصمة مؤقتة. وبهذا سيطر معسكر دول الوسط على ثلثي رومانيا بما فيها منابع النفط الرئيسية ومخازن الغلال. وخلا الثمانية عشر شهراً التالية كان الموقف بالنسبة لرومانيا يتدهور من سئ إلى أسوأ بشكل ملحوظ, فمن ناحية أوضح الحلفاء ومعهم الولياات المتحدة الأمريكية بعد دخولها الحرب في مارس 1917 أن تفكيك إمبراطورية النمسا والمجر ليس من أهداف الحرب. وفي الوقت نفسه كانت حكومات البلقان تتفاوض مع لنمسا لتوقيع صلح منفرد, وكان دخول رومانيا في تلك المفاوضات يعني تنصلها من إتفاقها مع الحلفاء الذي دخلت الحرب بموجبه, ومما أضعف موقفها أكثر قيام ثورة فر وسيا في مارس ثم في نوفمبر 1917.
غير أن الهزائم العسكرية المتتالية التي واجهتها رومانيا وتدهور الموقف السياسي العام لغير صالحها دفعها لتوقيع هدنة مع معسكر دول الوسط في ديسمبر 1917 وكان هذا التصرف ضد رأي الحلفاء الذين كانوا يودون أن تنسحب حكومة رومانيا وجيشها إلى جنوب روسيا. وتظروت الأحداث بسرعة ففي فبراير 1918 ترك براشيانو رئاسة الحكومة وخلفه ألكسندر آفريشكو Averescu , ثم ألكسندر مرغيلومان Marghiloman المعروف بإعجابه بألمانيا والذي تولى منصبه بتوصية من براشيانو حتى إذا ما إنتصر الخلفاء فإن مسئولية إرتباط رومانيا بدول الوسط تقع على عاتق شخص آخر غيره. وبالفعل وفي مايو 1918 قامت الحكومة الرومانية الجديدة بتوقيع معاهدة بوخارست مع دول الوسط وحصلت رومانيا بمقتضاها على بسارابيا, وخصصت دوبروديا وعدداً من المواقع الإستارتيجية في جبال كارباثيا معسكراً لودل الوسط, وحصلت المانيا على حق السيطرة على منابع النفط في رومانيا لمدة تسعين سنة.
أما اليونان فكانت آخر دولة بلقانية تنضم إلى الحرب وكان ذلك في عام 1917 نظراً لأوضاعها الداخلية التي كانت تختلف إختلافاً حاداً عما كانت عليه أوضاع دول البلقان الأخرى. فرغم عدم وجود إتفاق بين الملك والحكومة في تلك الدول على توحيد القوى السياسية فيها إلا أنه هناك إتفاق بين الملك والحكومة في تلك الدول على توحيد المواقف, كما لم تحدث معارضة داخلية تستهدف تعويق تنفيذ السياسة التي قررت إتخاذها أي حكومة من تلك الحكوماتز لكن في اليونان حدث العكس حيث إنقسمت البلاد إلى معسكرين متناقضين أحدهما يقوده الملك قسطنطين, والآخر يقوده رئيس الحكومة فينزيلوس Venizelos وقد إستمر هذا الإنقسام قائماً لمدة ثلاث سنوات وبالتالي لم يكن بإمكان اليونان أن تدخل الحرب سواء مع الحلفاء أم مع معسكر دول الوسط.
كانم البرنامج القومي في اليونان كما سبقت الإشارة يقوم على ما يعرف "بالفكرة العظيمة" التي تدعو لتوحيد كل اليونانيين, وهو ما كان يعني عند البعض إحياء الإمبارطورية البيزنطية والإستيلاء على إستانبول (القسطنطينية). ومن المعروف أنه بحلول عام 1914 (عام الحرب) كانت اليونان تضم كل المناطق التي يسكنها يونانيون بما فيها كريت وأراض في مقدونيا وإيبروس. ولاشك أيضاً أن عدداً من اليونانيين كانوا ما يزالون يعيشون تحت سيادة الدولةالعثمانية في غرب الأناضول, وتحت السيادة الإنجليزية في قبرص, وتحت حكم إيطاليا في جزر الدوديكانيز. ولكن وعند إندلاع الحرب أصبحت اليونان ترى في ضم تراقيا وغرب الأناضول والإستيلاء على إستانبول, وهي أهداف قومية عاجلة, حلماً بعيد المنال, ذلك أن التفاوض في تلك المناطق كانت تتعرقل بسبب عدم التفاهم بين الملك ورئيس الحكومة.
كان ملك اليونان شقيق زوجة إمبراطورة المانيا وكان يخفي في سريرته تعاطفه مع دول السوط وأمله في أن يتحقق لهم النصر. وكان يشاركه في هذه المشاعر كثير من اليونانيين الذين تعلم بعضهم في الجامعات الألمانيةز ولما كان يدرك أن بلاده معرضة لهجمات من أسطول الحلفاء وأنه قد لا يحصل على مساعدة مباشرة من دول الوسط فكان يفضل إتخاذ موقف الحياد في الحرب. أما رئيس الحكومة فنيزيلوس فكان على العكس يؤيد الحلفاء وكان مقتنع بإنتصارهم ويرغب في أن ينضم الجيش اليوناني إلى جيوش الحلفاء معتقداً أن هذه أفضل وسيلة لإستكمال توحيد اليونانيين. ورغم أن الملك لم يكن يوافق رئيس حكومته على هذه الفكرة, إلا أنه لم يكن يستطيع أن يقيله نظراً لقوته وشعبيته, وفي القوت نفسه كان رئيس الحكومة لا يرغب في العمل على عزل الملك عن العرش.
ورغم أن اليونان لم تحدد موقفها من أطراف الحرب, إلا أن مفاوضاتها معهم لم تتوقف طيلة ثلاث سنوات وعندما إندلعت الحرب كانت اليونان ملتزمة عملياً بتحالف 1913 الذي يقضي بمساعدة الصرب ضد أي هجوم عدواني من أي دولة بما في ذلك النمسا. غير ا، اليونان بررت عدم تحركها لمساعدة الصرب بحجة أن الصرب تسببت في الهجوم عليها بإستفزاز خصومها, وعلى هذا أعلنت الحياد, ولم تكن تلك سياسة للملك فقط بل لقد وافقه عليها رئيس الحكومة تحت ضغط الظروف القائمة. وبمجرد دخول الدولة العثمانية الحرب وحدوث ضغط متواصل ومكثف علىالصرب أصبح الحلفاء يرغبون في إلحاح في الحصول على مساعدة اليونان. وفيما بعد وأثناء محاولات الحلفاء الحصول على تأييد بلغاريا طلبوا من اليونان التنازل عن أراض في بحر إيجه في مقابل أن تحصل على أراض غير محددة في ىسيا الصغرى,وكان فينزيلوس يرغب في التخلي عن منطقة دراما-قوله Drama التي تضم ثلاثين ألف يونانياً في مقابل الحصول على إقليم أزمير في الأناضول الذي يسكنه ثمانمائة ألف يونانياً وكان من شأن هذا أن يتحول بحر إيجه إلى "بحيرة يونانية". وكان إشتراط فينزيلوس لدخول بلاده الحرب أن تدخل بلغاريا ورومانيا في وقت واحد جعل الأمر مستحيلاً.
على أن حملة الدردنيل وجاليبولي أدت إلى أزمة وزارية كبيرة داخل الحكومة اليونانية, ذلك أنه أثناء التخطيط للحملتين كان رئيس الحكومة فينزيلوس على إستعداد للإنضمام لهما لكن الملك ورئيس الهيئة العسكرية كانا يرفضان بدعوى أن ذلك سوف يعرض البلاد لهجوم بلغاري, وأن بلاده لن تتنازل عن أي أراض إسترضاء لبلغاريا وعندما رفض رئيس الحكومة تلك الخطة قد إستقالته في مارس 1915 وأجريت إنتخابات جديدة أعادت رئيس الحكومة الشعبي مرة أخرى إلى رئاسة الحكومة. وسرعان ما حدث الصدام بينه وبين الملك مرة أخرى ففي سبتمبر 1915 عندما اخذت بلغاريا تستعد للهجوم علىالصرب طلب الحلفاء من اليونان إحترام تحالف 1913, ووافق فيزيلوس على تحريك القوات المسلحة لكن الملك لم يوافق, وأما رئيس هيئة أركان الحرب فقد فسر معاهدة التحالف بأنه في حالة الدفاع فقط, وكان مقتنع وراض في قرارة نفسه أن المعاهدة تلزم الصرب بوضع مائةوخمسون ألف مقاتل على الجبهة البلغارية وهو شرط مستحيل الوفاء به تحتتلك الظروف القائمة. وعلى هذا وافق الحلفاء على الوفاء بهذا الإلتزام بواسطة قواتهم العسكرية وهو الحل الذي وافق عليه فنيزيلوس والبرلمان. في المدة من 3-5 أكتوبر 1915 أنزلت إنجلترا وفرنسا فرقة عسكرية في تسالونيك على أن يتم تعزيزها بقوات فرنسية ضخمة فيما بعد. وفي الخامس من أكتوبر أعلن الملك تبرؤه من سياسة رئيس حكومته فإستقال الرجل مرة أخرى. وبهذه المواقف أصبح المعسكران السياسيان في اليونان على طرفي نقيض بل وخصمان لدودين.
وعلى هذا أجريت إنتخابات جديدة لم يدخلها الحزب الليبرالي الذي يراسه فينزيلوس وسارع أعوانه بتشكيل "حكومة ظل" لمعارضة الملك وأنصاره. وقد بادرت الحكومة الملكية الجديدة المنتخبة بتحميل الحلفاء المشكلات التي تعاني منها البلاد وإعتبرت تصرفاتهم خرقاً لسيادة الدولة. ثم وقع تحرش بقوات الحلفاء في تسالونيك, ولم تصدر تعليمات بالسماح لقوات الصرب في كورفو بعبور اليونان للإنضمام إلى القوات المعسكرة هناك. وأخيراً وفي مايو 1916 إحتلت القوات الألمانية والبلغارية حصن ريوبيل Rupel الذي يسطير على وادي نهر ستروما Struma دون مواجهة أية عقبات.
وبدا الحلفاء يتحركون ضد ملك اليونان فيما بدا أنه تدخل صارخ وفاضح في شؤون الدولة إذ طلبوا منه في يونيه 1916 حلالبرلمان, وعدم تعبئة الجيش, وتأليف حكومة جديدة. ولم يوافق الملك إلا على تسمية رئيس حكومة جديد. ثم جاءت الأزمة الأخيرة في أكتوبر 1916 عندما قام فنيزيلوس بنقل حكومته الإنفصالية من كريت حيث تألفت في أغسطس إلى تسالونيك, وإعترفت بها إنجلترا في ديسمبر على أساس أنها حكومة اليونان, وظهرت أساطيل الحلفاء في الشهر نفسه قبالة ميناء بيرا وظلت قابعة زهاء ثلاثة أشهر. وأخيراً وفي وينية 1917 ترك قسطنطين العرش لإبنه الثاني ألكسندر دون أي تنازل تنازلاً رسمياً, ومن ثم عاد فنيزيلوس إلى أثينا, وفي ويونية 1917 إنضمت اليونان إلى الحلفاء.
وبينما تلقت إيطاليا ورومانيا وعوداً محددة بما سوف تحصلان عليه مقابل دخولهما الحرب إلى جانب الحلفاء لم تطلب اليونان أية مطالب. ويبدو أنها إعتمدت على النيات الحسنة للحلفاء في السماح لها بالإستيلاء على بعض الأراضي حسبما يتراءى لهم. ولم يقتصر الأمر على هذا الموقف السبلبي من تحديد مطالب معينة, بل إن البلاد ظلت منقسمة إنقساماً مريراً حتى بعد رحيل قسطنطين. ومهما يكن من أمر فإن الجيش اليوناني إنضم إلى جيوش الحلفاء في تسالونيك وإشترك في المعارك الأخيرة في البلقان.
على أن هجوم الحلفاء من تسالونيك لم يحدث إلا في سبتمبر 1918 وآنذاك بدا واضحاً أن الحلفاء سوف يكسبون الحرب, ذلك أن إنسحاب روسيا من الحرب في نوفمبر 1917 بعد ثورة البلاشفة تم تعويضه بدخول الولايات المتحدة من قبل,وفشل الهجوم الأخير لألمانيا على شمالي فرنسا وأخذ الحلفاء زمام المبادرة.وكان جيش الحلفاء في تسالونيك يتكون من 28 فرقة عسكرية تحت قيادة فرنسية منها ثمانية فرق يونانية وستة صربية واجهت قوات ألمانية وبلغارية متنكافأة في القوة. ولكن بينما كان جيش الحلفاء يتمتع بروح عالية كانت القوات البلغارية غير متحمسة للدخول في معارك بل لقد أصبحت الحرب تمثل عبئاً مخيفاً على أهل البلاد, فبالإضافة إلى ما خسرته بلغاريا من رجال في حروب البقلان التي سبقت الحرب العالميةالأولى قتل من رجالها مئة وواحد ألف, وجرح أكثر من ثلاثمائة ألفاً, وبإختصار فقدت بين عامي 1912-1918 حوالي مائة وستون ألف رجل وأربعمائة ألف جريح من إجمالي سكانها البالغ حوالي خمسة مليون نسمة, فضلاً عن حالة الكساد في المحاصيل الزراعية اليت مرت بها البلاد بل لقد تم بيع الغلال المتوفرة لألمانيا والنمسا مما أثار سخط سكان المدن رغم أن الفلاحين غستفادوا من عملية البيع هذه ولو بشكل مؤقت. ثم ما لبث أن إنتقل السخط الشعبي إلى الجيش الذي كان عليه أ، يدخل في مواجهة للتخلص من الإهمال الذي أصبح يعيش فيه. والخلاصة أن بلغاريا لم تكن مستعدة لمواجهة حالة حرب أخرى.
وفي ضوء تلك الأحوال وفي 29 سبتمبر (1918) وبعد إسبوعين من بداية هجوم الحلفاء إستسلمت بلغاريا على أمل ألا تتعرض لغزو شامل. أما القوات الأمانية والنمساوية فقد إستمرت في القتال حتى أرغمت على التوقف في الشمال, وفي أول نوفمبر إحتل الحلفاء بلجراد وتحررت الصرب من الإحتلال الأجنبي, بل وعبر جيش الصرب الأراضي التابعة للنمسا وإستولى على بلاد سلاف الجنوب في البوسنة والهرسك وفويفودينا, وبذلك أصبحت الصرب تحتل إحتلالاً فعلياً مساحة من الأراضي التي يرغب أنصار فكرة إعلان "دولة يوجوسلافيا" أن تشملها.
وفي تلك الأثناء عادت رومانيا لميدان الحرب مرة أخرى في العاشر من نوفمبر وشرعت في الإستيلاء على الأراضي التي وعدها بها الحلفاء من قبل في 1916, ومما ساععدها على ذلك تحرك موازي من الصرب والتشيك في الشمال, الأمر الذي أدى إلى تفكك الإمبارطورية النمساوية-المجرية ببساطة إلىمكوناتها القومية. ففي 13 نوفمبر أعلنت الجمهورية في النمسا, كما أعلنت دولة المجر المستقلة في 16 نوفمبر (1918). وفي اول ديسمبر 1918 أعلنت ملكيات الصرب والكروات وسولوفينيا بشكل رسمي, وفي اليوم نفسه إجتمعت جمعية من رومانيي ترانسلفانيا في البا ايوليا Alba Iulia وأعلنت إتحادها مع رومانيا. وعلىالغرم من تلك التطورات إلا أن القضية الحاسمة الخاصة بتسوية حدود تلك الدول (الجديدة) وحصولها على الإعتراف الدولي كانت لا تزال معلقة لب لقد أثيرت من جديد مسألة صراع الإدعاءات القومية لكل دولة من تلك الدول حتى بين المنتصرين.
وفي القوت نفسه كانت الدولة العثمانية وهي إمبراطورية أخرى متعددة القوميات تواجه مصير مشابه لمصير الإمبراطورية النمساوية-المجرية. ففي 31 أكتوبر أرغمت الدولة العثمانية على الإستسلام نتيجة للحملة الناجحة التي قامت بها إنجلترا في المشرق العربي. وكانت عملية إخراج العثمانيين من آسيا الصغرى سبباً لصراع مرير بين القوميات كما حدث في أوروبا البلقان, ومن ثم كان لا بد من تشابك التسويات في المناطق النمساوية والعثمانية.
ولكن وقبل أن نتابع مفاوضات الصلح ينبغي أن نعطي فكرة موجزة عن نتائج تورط ألبانيا في الحرب, فبعد رحيل ويليام الفيدي Wied of في 1914 إنهارت حكومتها وأصبحت البلاد ضحية لسياسات جيرانها مرة أخرى, فإسرعت كل من اليونان والصرب والجبل الأسود بإحتلال أجزاء منها, وإحتلت فرنسا وإيطاليا أجزاء أخرى. وعندما سقطت الصرب في 1915 إستولت النمسا على معظم أراضي وسط ألبانيا وشمالها على حين ظلت الأجزاء الجنوبية في يد إيطاليا وفرنسا. وبعد إنسحاب قوات بلغاريا والنمسا من ألبانيا إستولت اليونان والصرب وإيطاليا على المناطق التي لهم فيها إدعاءات. والخلاصة أن ألبانيا كانت الوحيدة من بين دول البلقان التي أصبحت هدفاً سهلاً للمتخاصمين. وعلى هذا فإن مصيرها النهائي وكذا مسالة التصرف في توزيع باقي بلاد البلقان محل الجدل سوف يتقرر على مائدة مفاوضات الصلح.