الرعويات
الرعويات Les Pastorales مصطلح يدل بمفهومه الواسع على شكل من العرض الفني لحياة الرعاة في الموسيقى والفن التشكيلي والأدب والمسرح، ويدل بمفهومه الضيق على نوع من الأدب يشمل الشعر والنثر والمسرحية. وهو في الأصل تسمية مستقاة من الشخصيات الفاعلة في العمل الفني (راعي، راعية) الذي يرتبط مكانياً بريف مثالي متخيل، يعيش الناس فيه حياة مثالية. ويأتي التغني بهذا الريف على لسان راعٍ أو راعية، أو في شكل حوار ثنائي، كمباراة. وعندما يُسقَط التغني على الماضي، يكون بهدف تمجيد «عصر ذهبي» خال من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أما عندما يُسقَط على المستقبل، فالهدف هو خلق مشروع طوباوي للخروج من الحاضر المأزوم. وشخصيات هذه الأعمال تحمل عادة أسماء ثابتة مكررة، مثل دافنيس Daphnis وتيتيروس Tityrus وگالاتيا Galatia. وغالباً ما يُستخدم رداء الرعاة التقليدي بغرض تنكر أشخاص حقيقيين، أما القصص المروية فهي إما مجازية أو رمزية. وموضوعات هذا الأدب متعددة الألوان، بدءاً من مشكلات الحياة اليومية، مروراً بمسرات العشق وعذاباته، إلى المسائل التربوية والجمالية وحتى النقد الموجه إلى شؤون مقلقة من الواقع الراهن.
تعود جذور القصيدة الرعوية إلى الشعر الشعبي في جزيرة صقلية ذات الثقافة الإغريقية، لكنها تطورت إلى شكلها الفني في المرحلة الهيلينية، عندما سئمت الفئات المثقفة من صخب حياة المدن وزيفها وتعقدها، وشعرت بالحنين إلى براءة الطبيعة، والحياة الريفية الطاهرة. ويُعد الشاعر ثيوقريطس من مدينة سيراكوزة في صقلية مبدع القصيدة الرعوية التي تناول فيها شخصيات من الريف والمدينة، مطوراً بعمق فني المشاهد المسرحية القصيرة للكاتب سوفرون Sophron (القرن الخامس ق.م) الذي ابتدع مسرحية الميموس Mimos. ففي مجموعته «قصائد قصيرة» Eidyllia قدم ثيوقريطس صوراً مثالية لأسلوب الحياة الطبيعية الصافية لرعاة وراعيات صقلية في القرن الثالث قبل الميلاد، وبلغة يونانية ذات مستويات متعددة بحسب المكان واللهجة المنطوقة فيه، ووفق طبيعة الشخصية. والمرحلة الثانية المهمة في تطور القصيدة الرعوية مثّلها الشاعر اللاتيني فرجيليوس في القرن الأول قبل الميلاد في قصائده العشر المختارة eclogae التي أسماها «قصائد رعوية» Bucolica، وشكلت إحدى روائعه من حيث تحقق الانسجام الفني بين الشكل والمضمون. في بعض هذه القصائد يشُف عالم الرعاة عن قضايا العصر المثقل سياسياً، ويشكل في الوقت نفسه تفاؤلاً بمستقبل قريب يسود فيه الانسجام والطمأنينة. وفي هذه القصائد أيضاً ابتدع فرجيليوس عالم أركاديا Arcadia بمنزلة يوتوبيا ريفية. ومن هنا جاءت تسميتا «الشعر البوكولي» و«الشعر الأركادي» مرادفتين لمصطلح «الشعر الرعوي» في بحوث تاريخ الأدب. إلى جانب أنواع القصيدة الرعوية ذات الطابع الحواري، قدم الخطيب اليوناني لونگوس Longos في القرن الثالث الميلادي رواية نثرية ذات طابع رعوي بعنوان «دافنيس وكلوْوِه» Daphnis kai Chloe روى فيها حكاية لقيطين (فتاة وفتى) عملا راعيين في أجواء ريفية مثالية، إلى أن تمكنا بمساعدة إله الرعاة والقطعان والسهول پان Pan، من الوصول إلى عائلتيهما وتتويج حياتهما السعيدة بالزواج.
وفي شعر القرون الوسطى في أوربا رسّخ الشعر الرعوي أقدامه في صيغته البوكولية حسب تراث ڤرجيليوس، وذلك في قصائد الراهب والشاعر الأنكلوسكسوني ألكوين (735-804) Alkuin أو Alchevine، وفي قصائد الشاعر اللاتيني تيودولوس Theodulus (القرن العاشر الميلادي). وثمة في هذه الحقبة إبداع جديد في مسيرة التطور هذه، يعود من حيث أصله إلى منطقة البروفانس الفرنسية، هو «الباستورِل» Pastourelle، أي القصيدة الحوارية التي يدور موضوعها حول لقاء متخيل بين فارس أرستقراطي وراعية فقيرة جميلة، يلتقيها أثناء سفره، فيحاول إغواءها، لكنها تنتصر عليه بالمبارزة الكلامية وتحافظ على عفافها، كما في «كارمينا بورانا» Carmina Burana للشاعر ماركابرو Marcabru ت(1129- 1150) أو في «تمثيلية روبان وماريون» Le Jeu de Robin et Marion للشاعر آدم دي لاهال Adam de la Halle نحو (1280). وفي الحقبة نفسها انتقلت الباستوريل إلى إسبانيا وازدهرت هناك.
وفي عصر النهضة شهد هذا الفن ازدهاراً ورواجاً في كثير من البلدان الأوربية على صعيد الشعر والنثر والمسرحية، باللغة اللاتينية وباللهجات المحلية التي تطورت من ثم إلى لغات قومية. فظهرت الرواية الرعوية، كما في «أركاديا» Arcadia للإيطالي سانازارو Jacopo Sannazaro ت(1458-1530) وفي «ديانا عاشقة» Diana enamorada للبرتغالي خورخه دي مونتامايور Jorge de Montamayor ت(1521-1560)، وفي «أركاديا» Arcadia للإنكليزي سير فيليپ سِدني Sir Philip Sidney وفي «النجمة» L’Astrée للفرنسي اونوره دورفه Honoré d’Urfé. والقاسم المشترك بين معظم الروايات الرعوية هو افتقاد سير أحداثها لعنصر التشويق، مع إفراط كبير في استخدام المحسنات البديعية.
أما على صعيد المسرحية الرعوية فقد انطلقت من إيطاليا، متطورة بعيداً عن التقاليد الكلاسيكية، شاملة الموسيقى والرقص والغناء والتمثيل والديكور والحيل المسرحية. وكان من أبرز ممثليها آنذاك لوليو A.Lollio في مسرحيته «أريتوسا» Aritusa عام (1563)، وتوركواتو تاسو Torquato Tasso في «أمينتا» Aminta عام (1575) وزميله جوڤان باتيستا گواريني Giovan Battista Guarini في «الراعي المخلص» Il Pastor Fido عام (1590)، وكذلك في بعض النصوص الأوبرالية Libretto، كما في «دافِنه» Dafne لاوتاڤيو رينوتشيني Ottavio Rinuccini، الذي كانت ترجمته إلى اللغة الألمانية محرضاً على ظهور أوائل الأعمال الألمانية في هذا الميدان، كما لدى مارتن اوپتس Martin Opitz في «رعوية الحورية هِرسيني»Schäfferey von der Nimfen Hercinie عام (1630)، وأندرياس گريفيوس Andreas Gryphius في «دورْنروزِه المحبوبة» Geliebte Dornrose عام (1661).
أما القصيدة الغنائية الرعوية التي كان أهم ممثليها الشاعر الإنكليزي إدموند سپنسر Edmund Spenser، ولاسيما في ديوانه «تقويم الرعاة» The Shepheardes Calender عام (1579)، فقد تميزت بانفتاحها على موضوعات كثيرة، مستقاة من التراث القديم، كالبكاء على فراق الأحبة، والنقائض الخفيفة، ومباريات الإنشاد، والرثاء، والمديح، والهجاء السياسي. وبسبب استيعاب الرعويات عامة، بأشكالها المتنوعة، مختلف الموضوعات وأدوات التعبير التي تسمح للكاتب بالأسلبة Stilisation، أو بالغموض أو بكليهما معاً، فقد أضحت الرعويات عنصراً أساسياً في ثقافة البلاط، وفي الثقافة البرجوازية، وذلك حتى نهايات القرن الثامن عشر، حين كتب گوته Goethe مسرحيتيه «نزوة العشاق» Die Laune der Verliebten عام (1768) و«إرڤين وإلميرِه» Erwin und Elmire عام (1775).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- نبيل الحفار. "الرعويات". الموسوعة العربية.
للاستزادة
- أحمد عتمان، الشعر الإغريقي تراثاً إنسانياً وعالمياً (الكويت 1984).
- أحمد عتمان، الأدب اللاتيني ودوره الحضاري (الكويت 1989).
- CLAUS TRÄGER, hrg., Geschichte der Literaturwissenschaft (Leipzig 1986).
- ERWIN LAATHS, Geschichte der Weltliteratur,1-2, (München 1953).