الأمم الخمس
من يقرأ، وبتمعن، معظم روايات المغامرات التي كتبها الروائي والشاعر الانكليزي روديارد كپلنگ، طوال حياته، سيكون من الصعب عليه ان يفهم لماذا وُصم هذا الكاتب بالنزعة الامبريالية، حتى وان كان واحد من اقواله «المأثورة» قد لف الكرة الارضية وعاصر الازمان الحديثة كلها على اعتبار انه واحد من أوضح الشعارات الامبريالية في تاريخ البشرية الحديث. وهذا القول «المأثور» هو بالطبع «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». ذلك ان معظم روايات كپلنگ وكتاباته الأدبية الاخرى، مليئة بالأحرى، بتمجيد للحياة المحلية في المناطق التي تدور فيها احداث هذه الروايات، وفيها افتتان بنوع من الحياة الطبيعية كان بدأ يختفي في الغرب الاوروبي في زمن كبلنگ. ومن النادر في ظل تلك الاعمال وهذه النزعة التي تطبعها ان يشتمّ المرء رائحة عنصرية ما، او كراهية ما، لشعوب كتب كبلنغ عنها، او وصف حياتها. ومن هنا سادت، في بعض الحقبات تفسيرات - على ضوء تلك الكتابات - تقول ان كبلنغ حينما فرّق جذرياً بين الحياة في «الشرق» والحياة في «الغرب» انما كان قصده ان يندّد بالحياة الغربية التي آلت الى المادية كلياً وباتت آلية تفتقر الى روح المبادرة والى اي قسط من العفوية، مثنياً بالتأكيد على ما كان يعتبره الوعي البدائي الذي «لم يكف عن العثور عليه لدى الشرقيين» من الذين ملأوا اعمالاً له من طراز «كتاب الادغال» و «كيم» و «بؤس الهند وعذوبتها» وغيرها من اعمال قرئت على نطاق واسع ونالت حظوة لدى العديد من القراء وفي اللغات العديدة التي تُرجمت اليها تلك الأعمال.
كل هذا صحيح وممكن في حقيقة الأمر وفي الإمكان تلمّسه في سهولة في كتابات الرجل كما - الى حد ما - في سيرة حياته. ومع هذا ثمة بين نتاجات كبلنغ الادبية ما يؤكد، من دون اي لبس او غموض، نزعته الامبريالية وتبجيله للرجل الابيض على حساب الملونين. وهو نفسه لم يسع في اي لحظة من لحظات حياته، الى الدعوة الى تفسير او اعادة تفسير تلك الاعمال ضمن منطق فيه شيء من الاعتدال. وكأن الرجل شاء، حتى في أعماله على وحدتها، ان يطبق نظريته الخالدة عن انفصام الكون الى شرق وغرب لن يلتقيا ابداً. ومن هذه الاعمال مجموعة شعرية اصدرها كبلنغ في طبعة أولى في عام 1903، عشية رحيل الملكة فكتوريا، وعنوانها «خمس أمم». وتضم هذه المجموعة عدداً من القصائد التي كان كبلنغ نظمها او نشرها في مراحل سابقة من مساره الأدبي. والحقيقة ان هذه المجموعة في قصائدها العديدة، انما تبدو وحدها قادرة على تبرير سمعة روديارد كپلنگ السيئة ككاتب امبريالي، ما يفتح الباب على تحري ما يشبه تلك النزعات في ثنايا كتاباته التي قد تبدو، أو تبدو بالتأكيد أقل «تطرفاً».
منذ البداية لا يفوت القارئ ان يلاحظ ان قصائد هذه المجموعة لا تتسم بأي نزعة من الحس الرومانسي، الذي يمكن اكتشافه بسهولة في نصوص كبلنغ الأخرى والأكثر شهرة. بل انها تكاد تكون قصائد سياسية خالصة كتبت من وحي أحداث آنية بحتة. ولكن قبل الاشارة الى هذا، لا بأس من التوضيح: أن الامم الخمس التي يشير اليها كبلنغ في عنوان المجموعة لا تضم، اذا استثنينا جنوب أفريقيا (وسنقول لماذا)، أياً من أمم الشرق التي كانت بريطانيا العظمى تستعمرها في ذلك الحين. بل لا تشمل حتى جوهرة التاج البريطاني: الهند، ولا مصر التي كانت قضيتها وقضية غزو بريطانيا العظمى لها، في ذلك الحين، على كل شفة ولسان. فالأمم هي: إنگلترة وكندا ونيوزيلندا وأستراليا، اضافة إلى جنوب أفريقيا. وهذه، للتوضيح، لم تكن تعتبر أرضاً للسود في ذلك الحين، بل أرضاً للبيض، سواء أكانوا من أصول إنگليزية أو اوروبية اخرى. كان الانكليز يعتبرون السود هناك، مجرد حادث عابر، ومجرد عبيد يمكن طردهم في اي لحظة. او في احسن الاحوال، شعباً على الهامش لا حقوق له ولا تاريخ. ومن هنا كانت تلك المنطقة من العالم تعتبر - وكان كبلنغ بدوره، اذاً، يعتبرها - ارضاً بيضاء تستكمل خماسية الأمم البريطانية. فهل علينا ان نرى في هذا كله نزوعاً من شاعر الانكليز الاكبر في ذلك الحين، الى اعتبار المستعمرات «الملونة» خارج الامبراطورية وخارج الأمم؟ الى حد كبير: اجل. ولكن بالمعنى السلبي للكلمة: لأن كبلنغ كان يرى ان أمم الملونين، حيث توجد كثافة سكانية وحضارية تمنع البيض من السيطرة الكلية، يجب ان تبقى خارج الامبراطورية وبالتالي خارج الأمم. فهي، في نظره «عبء الرجل الأبيض» يتعين ابقاؤه على حدة - من دون الوصول الى اعتاقه كلياً والخروج من تلك الديار، للاكتفاء بمناطق بيض، متقدمة، متحضرة، يسهل حكمها وتوزيع خيراتها على البيض، على اعتبار السكان الاصليين انفسهم جزءاً من تلك الخيرات. ولقد عبّر كبلنغ عن هذا بكل وضوح وصراحة في واحدة من أشهر قصائد المجموعة وهي تلك المعنونة: «عبء الرجل الابيض»، والتي يقول واحد من ابياتها «إلى متى يتحمل الرجل الأبيض هذا العبء؟».
إذاً، على خلفية هذه الروح العامة والإمبريالية والعنصرية كذلك من دون لف او دوران، التي تهيمن على هذه المجموعة، تتتالى القصائد ومعظمها كتب، من وحي مناسبات سياسية وطنية بريطانية خالصة، او من وحي احداث ضخمة هزت كيان الشاعر وجعلته يسرع الى تمجيد وطنه «الابيض الكبير المنتشر في قارات العالم اجمع» بحسب تعبيره. ومن تلك القصائد واحدة، اشتهرت كثيراً في زمنها، تمجد الذكرى الخمسين لاعتلاء الملكة فكتوريا العرش، في عام 1897، وهي قصيدة سرعان ما اصبحت نشيداً وطنياً يتلى في المدارس. ومنها ايضاً قصائد عديدة تجسد «أرض الله»، ارض الأمم الخمس، كل امة على حدة وكل الأمم مجتمعة، باعتبارها ارقى ما وصلت اليه الانسانية. غير ان هذه القصائد في المجموعة لا تعتبر، عادة، اجمل ما فيها... ذلك ان كبلنغ كان شاعراً وكاتباً حقيقياً ايضاً، وكان على علاقة بالطبيعة، ربما تفوق في اهميتها لديه، علاقته بالأمة البريطانية. ومن هنا نجد في المجموعة نفسها قصائد رائعة الجمال تتغنى بالبحر الهادئ او العاتي وبألوانه وبسفنه وبالبحارة الذين يمخرون البحر على متون تلك السفن. كما نجد قصائد تمجد الارض الخضراء، والوديان الخصبة. ولكن دائماً ضمن اطار الأمم الخمس، بشكل يبدو معه كبلنگ وكأنه ترك لرواياته الاخرى حق التغني بأراضي وبحار وأدغال وطبيعة امم الآخرين، سواء أكانوا ملونين او غير ملونين.
حتى من قبل صدور هذه المجموعة، ومنذ الزمن الذي نشرت فيه قصائدها واحدة تلو الأخرى، جرى العرف على اعتبار روديارد كپلنگ شاعر الامبريالية والامبراطورية البريطانية من دون منازع. والرجل كان صادقاً على أي حال في مشاعره... تشي بذلك اجواء قصائده ولغتها، وامتلاؤها بالشغف العميق الذي زاد من حدته استخدام الشاعر اوزاناً وبحوراً شعرية تشي دائماً بالفخامة والعظمة، ناهيك باستعارته، في بعض القصائد، ما تيسر له من اشكال وصور مستقاة مباشرة من الكتاب المقدس. وكل هذا من اجل التعبير عن مواقف لا يستهان بما فيها من دوغمائية ومن نزعة استفزازية سجالية.
والحال ان هذا ما كان عليه دأب روديارد كپلنگ (1865-1936) دائماً، حتى وان كان عموم القراء قد توقفوا اكثر عند جمال اسلوبه وقدرته الفائقة على الحكي: حكي المغامرات، وحكي احوال الطبيعة، وكذلك حكي احوال الشخصيات التي ملأت اعماله. وبقي ان نذكر أخيراً هنا ان كبلنغ ولد في بومباي من أب مدرّس للفنون الجميلة وأم ابنة قسيس. وهو كان في السادسة حين نقله ابواه الى انكلترا لكي يتعلم الانكليزية هو الذي كان يتقن الهندوسية اكثر من لغة اجداده في طفولته. وهكذا، عاد الى وطنه، حيث عاش وكتب طوال حياته، منطلقاً في رحلات قادته الى بلدان عدة عبّر عنها في كتبه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .