أكاديمية البادئين على الطريق
أكاديمية البادئين على الطريق Accademia degli Incamminati كانت أحد أوائل أكاديميات الفنون في إيطاليا. وقد بدأت حوالي 1580 في بولونيا بإسم Accademia dei Desiderosi وكانت أحياناً تُعرف بإسم أكاديمية كراتشي Accademia dei Carracci على اسم مؤسسيها، أبناء العم Carracci، وهم (أگوستينو، أنيباله ولودوڤيكو)، وكان أنيباله يترأسها لقوة شخصيته.
عاد لودوفيتشو كاراتشي، وهو ابن جزار غني، إلى بولونيا بعد أن درس الفن في البندقية وفلورنسة وبارما ومانتوا. وكان تنتوريتو قد حذره بأنه لم يوهب عبقرية التصوير، ولكنه أحس أن الاجتهاد يمكن أن يقوم مقام العبقرية، ثم أن العبقرية لا تعوزه. وبعث بحماسته الحمية في اثنين من أبناء عمومته هما أجوستينو وأنيبالي كاراتشي- وكان أحدهما صائغا والآخر خياطاً، فرحلا إلى البندقية وبارما ليدرسا فن تيشان (تتسيانو) وكوريدجو. فلما عادا انضما إلى لودوفيتشو وفتح الثلاثة أكاديمية "للبادئين عل الطريق (1589). وقد وفروا فيها تعليم اصول الفن وتاريخه وطرائقه، والدرس المدقق لأئمة الفن، ورفضوا التشديد على "اللازمات" أو الأغرابات التي التزمها أي من الفنانين، بل آثروا الجمع بين نعومة رفائيل الأنثوية، وبلاغة كوريدجو الرقيقة، وفحولة ميكل أنجيلو، وتنويع ليوناردو الضوئي، وتلوين تيشان الدافئ- كلها من مذهل شامل واحد. هذه "المدرسة الانتقائية" أتاحت لبولونيا أن تنافس روما، عاصمة فنية لايطاليا. والصور التي خلفها المصورون كاراتشي لا تحصى، وكثير منها محفوظ في أكاديمية بولونيا للفنون الجميلة، وبعضها في اللوفر، ولكنا نجدها في أماكن أخرى كثيرة. ونتاج لودفيتشو أقلها جاذبية، ولكنه يبلغ غايته في صورة "البشارة" المشرقة، وصورة"استشهاد القديسة أورسولا"، وكلتاهما في "قاعة صور الأكاديمية. أما اجوستينو ففنه يتجلى في لوحة "عشاء القديس جيروم" القوية- التي لم تمنعه من الاستجابة للطلب الكثير على نسخ من الصور الفاجرة. وأما أنيبالي فكان ألمع أفراد الأسر موهبة، وقد نقل عن كوريدجو في الخطوط والالوان ندر أن طاولها أبنا عمه. تأمل الاناقة الشهوانية في لوحته "الباخوسية" المحفوظة بقاعة الأوفتزي، وصورة الأنثى الكاملة في "الحورية والأساطير" المحفوظة بقصر بيتي، وصورة الذكر الكامل في "عبقرية الشهرة" المحفوظة بدرسدن؛ وقد أبدع في لوحته "المسيح والمرأة السامرية" (فينا) آية من آيات الفن في هذه الحقبة- صورا جديرة بريشة رفائيل، ومنظرا طبيعيا سبق به بوسان.
وفي عام 1600 قبل أنيباله وأجوستينو دعوة الكردينال فارنيزي لهما ليذهبا إلى روما ويرسما صالة قصره فيها. فاختارا موضوعا مناسبا ورسما "انتصار باخوس" وهي مهرجان روبنزي من المفاتن الأنثوية.
ومن روما أنطلق أجوستينو إلى بارما حيث رسم لوحة جصية هائلة للكازينو، ومضى أنيبالي إلى نابلي حيث يرى في متحفها القومي إلى اليوم ذلك المزج الذي أختص به بين لوحة "العائلة المقدسة" ولوحة "فينوس ومارس". وقد ودع أبناء العم الثلاثة الحياة متفرقين، وهم الذين طالما جمع الفن بينهم. فمات أجوستينو في بارما (1602)، وأنيبالي في روما (1609)، ولودفيتشو في بولونيا التي ظل وفيا لها- فكان أول الوافدين عليها وآخر الراحلين عنها (1619).
لقد دربت المدرسة الجديدة نفرا من أشهر رسامي ذلك العهد. وكان لأحدهما- وهو گويدو ريني- من الأتباع أكثر مما كان لاي مصور في أوربا. فبعد تفتح مواهبه المبكر بفضل عناية المصورين كاراتشي، استسلم لإغراء روما (1602)، وانشغل فيها عاما- ث عاد إلى بولونيا ليرسم فيها صورا من حس التقوى، وجمال العاطفة، ما جعلها همزة وصل مرحبا بها بين سنية الايمان وهرطقات الجسد. أما جيدو نفسه فيبدو انه كان مخلصا في تدينه، واثر عنه احتفاظه بعذريته كاملة إلى النهاية. وصورته الذاتية المحفوظة بمتحف الكابيتوليني تظهره في شبابه، فتى وسيما كالصبايا، أشقر الشعر ابيض البشرة ازرق العينين. واروع صوره صورة "الفجر"، الجصية المرسومة على سقف قصر رويبليوزي بروما. وفيها ترى ربة افجر تحلق في الجو ومن خلفها جياد رشاق تجر فيبوس الأشعث في مركبته، تصحبه راقصات ملاح الوجوه حسان الأجساد، يمثلن ساعات اليوم، وكاروبيم مجنح كأنه خاتم المسيحية على هذه النشوة الوثنية. ورسم جيدو أساطير أخرى- مثل "اغتصاب هيلانة" في اللوفر، و "تفاحات الهسبريد" في نابلي، ولوحة "فينوس وكيوبد" الشهوانية في درسدن. وعن العهد القديم أخذ لوحته المشهورة "سوسنه الشيوخ" (الأوفتزي). ولكنه في أكثر رسومه قنع باعادة تصوير الموضوعات القديمة إلى قلوب الناس المحببة إلى الكنيسة، كقصة المسيح وأمه وكلها ينضج بما ندد به قساة النقاد من اسراف "مجدلي"(5) في العاطفة. على أنه أجاد في تصوير الرسل، كما تشهد بذلك لوحة "القديس متى" المحفوظة بالفاتيكان، وقد رسم رأسا رائعا للقديس يوسف (بريرا)، وفي لوحة "استشهاد القديس بطرس" بالفاتيكان جرب واقعية كارافادجو الصارمة. وجين عاد إلى العاطفة رسم لقاعات الفن لوحة "القديس سباستيان" المشهورة وفيها يبدو القديس وهو يتلقى السهام في جسده الكامل هادئا رابط الجأش. وفي كل آثاره نلمح براعة الأسلوب المدرب خير تدريب، ولكنا حين نقارن هذه اللوحات المقدسة، المفرطة الحلاوة، بلوحة رفائيل "ستانتزي" او بسقف كنيسة السستين الذي رسمه ميكل أنجيلو، لا يحركنا في فن ريني غنى اللون ولا نعومة الخط، بل "الافتقار إلى الجرأة". كان يحلم حلما يغتفر له حين كتب له يقول: "أحب أن اخلع على الوجه الذي أرسمه جمالا كالجمال الكامن في الفردوس"(13)، ولكنه فضح نفسه فاخر بأن لديه "مائتي طريقة لجعل العيون تطلع إلى السماء"(14).
اتبع دومنيكينو (دومنكيو تزامبيري) سياسة جويدو في ارضاء الوثنيين والمتدينين جميعا، ولما كان هذان في كثير من الأحيان واحدا فان الخطة أثمرت. كان معقدا أكثر من جيدو، فيه تواضع وحياء، يحب الموسيقى ويعشق زوجته. وقد تعلم هو أيضا التصوير في بولونيا ثم أنطلق إلى روما سعيا إلى الفن والمال. وأثار نجاحه هناك حسد منافسيه فيها، فاتهموه بانتحال صور غيره، فقفل إلى بولونيا راجعا، ولكن جريجوري الخامس عشر استدعاه ليكون كبير معماريي الفاتيكان ومصوريه. فصمم فيلا الدوبرانديني بفراسكاتي، مستعيناً في فنه بشيء من تعدد البراعات الذي أثر على رجال النهضة. ولما انتقل إلى نابلي بدأ سلسلة من الصور الجصية في كاتدرائيتها. وكاد يتم مهمته برغم ما لقي من مشاق ضاعف منها مصورو نابلى، ولكنه مات (1641) في الستين من عمره وهو لا يزال في عنفوان فنه. وأعظم لوحاته "عشاء القديس جيروم" المحفوظة بالفاتيكان. واستنادا إلى هذه الرائعة لم يفضل بوسان عليه من المصورين سوى رفائيل(15)، ونحن نحترم هذا التحمس أكثر مما نحترم الحكم. اما رسكن ففي رأيه أن دومنيكينو "عاجز بصورة واضحة عن الإتيان بشيء حسن، أو عظيم، أو صواب، في أي ميدان، أو سبيل، أو فرع، كائناً ما كان(16)"، ونحن لا نعجب بالحكم ولا ببلاغة العبارة هنا.
أما آخر تلاميذ آل كاراتشي الثلاثة المشهورين فقد اشتهر بكنية مؤسفة هي جويرتشينو- "الأحول"- ما أصاب عينه من تشويه أثر حادث وقع له في طفولته، ولكن أمه سمته جوفاني فرانشسكو باربيري. مارس التصوير فعلا، متأثراً بأسلوب كارافادجو القوي، قبل أن ياتي ليدرس على يد آل كراتشي، لذلك توسط في فنه بين بولونيا وروما. وظل أعزب مثل جيدو، وعاش عيشة التقشف، وأظهر خير فضائل حركة الاصلاح الكاثوليكي في حياته الهادئة الكريمة. وقد خلف لنا الكثير من الصور اللطيفة، منتشرة من روما إلى شيكاغو، وكان أضعف مصوري المدرسة البولونية وأحبهم إلى الناس. إن النظرية الأساسية التي قامت عليها المدرسة الانتقائية- وهي أن في الاستطاعة تكوين الفنان العظيم بمحاولة الجمع بين مختلف المزايا التي تفرد بها سابقوه- هذه النظرية كانت خطأ بغير شك، ذلك لأن شيمة العبقرية كثيرا ما تكون التعبير عن شخصية وشق مسالك جديدة، بيد أن "أكاديمية البادئين على الطريق" أفادت في بث تقليد ربما اشتطت العبقرية لولاهما وأغربت.
والنجاح الذي أصابته المدرسة يعزى إلى تعاونها الحاضر مع حاجات الكنيسة، فقد احتاجت البابوية بعد اصلاحها، كما احتاج اليسوعيون بعد اتساع منظمتهم، إلى ألوان جديدة من التعبير عن قصة المسيحية، ومن التحريض الحي على التقوى والإيمان. وقد مس المصورون البولونيون كل وتر عاطفي في العابدين، وانتشرت الصور التي رسموها للعذراء والمجدلية في العالم المسيحي الكاثوليكي قاصية ودانية. ومنذا الذي ينكر أن الناس أقروا بالفضل لهذه الإلهامات، أو أن الكنيسة حين وفرتها لهم اثبتت أنها أعظم السيكولوجيين في التاريخ فهما لطبائع البشر؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ببليوجرافيا
- (Italian) Claudio Strinati, Annibale Carracci, Firenze, Giunti Editore, 2001 ISBN 88-09-02051-0
الهامش
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
وصلات خارجية