أدب الهند
إن الحياة الأدبية في الهند حياة غزيرة ومتعددة ومختلفة كثيرا عن أي حضارة أخرى ، فطبيعة الهند المترامية الأطراف ، المتسعة للعديد من الديانات والعقائد واللغات ، والطبيعة الجغرافية المتباينة ، كل هذا وما له من تأثيرات ، أدى إلى إفراز أدب ذو طبيعة خاصة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لغات الهند
كما أن الفلسفة وكثيراً من الأدب في أوربا الوسيطة كانا يكتبان بلغة ميتة لا يفهمها الشعب ، فكذلك كانت الفلسفة والأدب الكلاسيكي في الهند يكتبان بلغة سنسكريتية كانت قد أهملت بين الناس كأداة للتفاهم منذ زمن طويل ، لكنها عاشت لتكون لغة للعلماء الذين لا تربطهم لغة مشتركة أخرى، كأنها في ذلك لغة "إسبرنتو" (التي يحاولون صناعتها لتكون أداة تفاهم بين الشعوب المختلفة الآن). ولما كانت هذه اللغة الأدبية بعيدة عن الإتصال بحياة الأمة ؛ فقد أصبحت نموذجاً يحتذيه من أراد أن يكون إسكولائيَّ التفكير أو مهذب اللسان؛ وكانت الكلمات الجديدة تصاغ - لا بخلق تلقائي يصدر من عامة الناس - بل تبعاً لحاجة المدارس في بحوثها الفنية ؛ حتى إنتهى الأمر بالسنسكريتية التي كتبت بها الفلسفة إلى فقدانها للبساطة القوية التي تلمسها في الترانيم الڤيدية، وأصبحت أفعواناً صناعياً تزحف كلماتها على الصفحات زحفاً كأنها شرائط الدود.
ولكن عامة الناس في الوقت نفسه كانوا - في شمال الهند حول القرن الخامس قبل الميلاد - قد حوروا السنسكريتية إلى الپراكريتية، وما أشبه ذلك بإيطاليا حين غيرت اللاتينية إلى الإيطالية فأصبحت اللغة البراكريتية حيناً من الدهر لغة البوذية والجانتية، ولبثت كذلك حتى تطورت بدورها إلى الپالية - وهي اللغة التي كتب بها أقدم ما هبط إلينا من الأدب البوذي؛ فلما أن كان ختام القرن العاشر من تاريخنا المسيحي، كان قد تولد عن هذه اللغات التي شهدتها "الهند الوسيطة" لهجات مختلفة كان أهمها اللغة "الهندية" ثم ولّدت هذه بدورها في القرن الثاني عشر اللغة الهندستانية التي باتت لغة النصف الشمالي من الهند؛ وأخيراً جاء الغزاة المسلمون وملئوا الهندستانية بألفاظ فارسية فكوّنوا بذلك لهجة جديدة هي الأردية؛ وهذه كلها "لغات هندية جرمانية" إنحصرت في الهندستان ؛ أما الدكن فقد إحتفظت بلغتها الدرافيدية القديمة وهي: لغات "تامِل" و"تلوگو" و"كاناريس" و"ملايالام" وأصبحت لغة "تامِل" من بينها هي الأداة الأدبية الرئيسية في الجنوب ؛ ولما كان القرن التاسع عشر حلّت الپاليّة محل السنسكريتية لغة أدبية في البنغال، وكان الكاتب القصصي ("تشاترجي" لهذه اللغة بمثابة "بوكاتشو" للإيطالية الحديثة) كما كان لها الشاعر طاغور بمثابة "پترارك"؛ وإنك لترى مائة لغة في الهند حتى في يومنا هذا على أن أدب الحركة الإستقلالية يستخدم لغة الفاتحين أداة للتعبير. ولقد أخذت الهند منذ تاريخ عريق في القدم تتعقب جذور الألفاظ وتاريخها وعلاقاتها وتركيبها ، ولم يظللها القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت قد إصطنعت لنفسها علم النحو ، وأنجبت من يجوز أن يكون أعظم النحاة جميعاً ممن نعرف وهو پانيني ؛ وكانت دراسات بانيني، و باتايخالي (حوالي 150 م) و بهارتريهاري (حوالي 650م) هي الأسس التي قام عليها علم اللغات ؛ كما أن هذا العلم الشائق الذي يبحث في ولادة الألفاظ اللغوية ، مدين بكل حياته تقريباً في العصور الحديثة لإعادة كشف الغطاء عن السنسكريتية. ولم تكن الكتابة - كما رأينا - شائعة في الهند الفيدية، فحوالي القرن الخامس قبل الميلاد، أقتبست الكتابة الخروشتية Kharosthi من أصول سامية، وبدأنا نسمع عن كاتبين في أدب الملاحم وفي الأدب البوذي، وكانت أوراق النخيل ولحاء الشجر يستخدمان أداة للكتابة كما كان القلم شبيه بمسمار من الحديد؛ وكانوا يدبغون لحاء الشجر دبغاً يجعله أصلب ديباجه، ثم يحفرون عليه الأحرف بالقلم، ويلطخون اللحاء بالحبر فيبقى في فجوات الحروف المحفورة ثم تمحى بقيته.
ولما جاء المسلمون أدخلوا معهم الورق (حوالي 1000م) لكن الورق لم يحل محل اللحاء تماماً إلا في القرن السابع عشر ، وكانوا ينفذون خيطاً سميكاً في صفحات اللحاء لتربطها معاً على الترتيب المطلوب، على أن تجمع الكتب المكونة من أمثال هذه الصفحات في مكتبات أطلق الهنود عليها إسم "خزائن إلهة الكلام" وقد بقيت لنا مجموعات ضخمة من هذا الأدب الخشبي على الرغم مما تعاورها من تدميرات الزمن والحروب.
التعليم
لبثت الكتابة ضئيلة القدر جداً في التعليم الهندي حتى القرن التاسع عشر ويجوز أن يكون مرجع ذلك إلى أن الكهنة لم يكن في صالحهم أن يجعلوا النصوص المقدسة أو الاسكولائية سرًّا مكشوفاً للجميع ؛ أما التعليم فقد كان له نظام قائم تراه في تاريخهم مهما أوغلت في ماضيه ، وكان يتولاه رجال الدين ويفسحون مجاله في أول الأمر لأبناء البراهمة وحدهم ، ثم أخذوا على مرّ الزمن يوسّعون من نطاقه بحيث يشمل طبقة بعد طبقة ، حتى نراه اليوم لا يستثني من الناس أحداً فيما عدا طبقة المنبوذين ؛ ولكل قرية هندية معلمها يُنْفَق عليه من الرصيد العام وكان في البنغال وحدها - قبل مجيء البريطانيين - حوالي ثمانين ألفاً من المدارس الأهلية - مدرسة لكل أربعمائة نفس من السكان. وربما كانت نسبة التعليم في ظل "أشوكا" أعلى منه اليوم في الهند. كان الأطفال يذهبون إلى مدرسة القرية من سبتمبر إلى فبراير ، ويدخلونها في سن الخامسة ليتمُّوها في سن الثامنة.
وكان التعليم ذا صبغة دينية غالبة كائناً ما كان موضوع الدراسة ، وكانت الطريقة المألوفة هي الحفظ على ظهر القلب ، ولم يكن لأحد مفرٌّ من حفظ نصوص الفيدات ، ويشتمل منهج التعليم على القراءة والكتابة والحساب ، لكنها لم تكن الهدف الأساسي للتعليم ؛ وكان الخلق أجدر عندهم بالإعتبار من الذكاء ، والنظام هو جوهر التعليم في المدارس ؛ نعم إننا لا نسمع في تاريخهم شيئاً عن ضرب التلاميذ أو ما شابه ذلك من صارم الوسائل التأديبية ، لكننا نجد أكثر إهتمامهم منصباً قبل كل شيء على تكوين عادات للسلوك في الحياة بحيث تكون سليمة من المآخذ والشوائب ، وفي سن الثامنة ينتقل التلميذ إلى "شيخ" يتولاه بعناية أكثر مراعاة للقواعد ، و "الشيخ" هو معلم خاص أو رائد يعيش معه التلميذ ، ويحسن أن يظل في صحبته تلك حتى سن العشرين ؛ و كان يطلب إلى التلميذ أن يؤدي له بعض الخدمات ، منها أحياناً ما كان حقيراً ؛ كما يطالب بإلتزام العفة والتواضع والنظافة والإمتناع عن أكل اللحم في وجباته ، وقوام التعليم "الشاسْترات الخمس" أي العلوم الخمسة وهي: النحو ، والفنون والصناعات ، والطب ، والمنطق ، والفلسفة ؛ وبعدئذ يطلق في الحياة مزوداً بنصح حكيم هو أن التعليم يأتي ربعه فقط من المعلم ، وربعه من الدراسة الخاصة ، وربعه من الزملاء ، وربعه من الحياة. وللطالب في نحو السادسة عشرة أن ينتقل من "شيخ" إلى إحدى الجامعات الكبرى التي كانت مفخرة الهند القديمة والوسيطة: بنارس و طكسيلا و ڤيداربها و أجانتا و أوجاين و نالندا ؛ وكانت جامعة بنارس حصناً حصيناً للتعاليم البرهمية الأصيلة في أيام بوذا، كما لا تزال كذلك إلى يومنا هذا ؛ وكانت جامعة طكسيلا في عهد غزوة الإسكندر معروفة في آسيا كلها على أنها مقر الزعامة في البحث العلمي في الهند ، وأشهر ما إشتهرت به مدرسة الطب فيها ؛ وإحتلت جامعة "يوجين" مكانة عالية في أسماع الناس بما فيها من علماء الفلك ، كما إشتهرت جامعة أجانتا بتعليم الفنون؛ وإن واجهة أحد المباني المخربة في أجانتا لتدل بعض الدلالة على فخامة هذه الجامعات القديمة. وأنشئت جامعة نالندا - وهي أشهر الجامعات بالمعاهد البوذية العالية - بعد موت منشئ العقيدة البوذية بزمن قصير وخصصت لها الدولة دخل مائة قرية لينفق عليها منه ، وكان بها عشرة آلاف طالب ، ومائة قاعة للمحاضرات ، ومكتبات ضخمة ، وست بناءات كبيرة للسكنى ، وإرتفاعها أربعة طوابق.
يقول يوان شوانج أن مراصدها "كانت تنبهم معالمها في ضباب الصباح ، وتعلو غرفاتها العليا على السحاب" ، وقد أحب هذا الحاج الصيني الكهل رهبان "نالندا" العلماء وأحراشها الظليلة حباً جعله يقيم هناك خمسة أعوام ؛ وهو يروي لنا أن الكثرة الغالبة من أولئك الذين أرادوا الدخول في حلقات المناقشة من النزلاء الأجانب "في نالادا" كانت تنسحب أمام ما تلاقيه من صعوبة المشكلات ؛ وكان يسمح بالدخول لأولئك الذين تعمقوا العلوم القديمة والحديثة ، لكن لم ينجح من كل عشرة أكثر من إثنين أو ثلاثة ". وكان الطلاب الذين يساعدهم الحظ في الدخول يتعلمون مجاناً بما في ذلك أيضاً المسكن والغذاء ، لكنهم لقاء ذلك كانوا يخضعون لنظام أوشك أن يكون كنظام الأديرة ؛ ولم يكن الطالب يسمح له بالتحدث إلى امرأة ، أو برؤية امرأة بل إن مجرد الرغبة في النظر إلى امرأة كان يعد عندهم خطيئة كبرى ، على نحو ما جاء في العهد الجديد من قول هو أشد ما فيه من أقوال ؛ وإذا إقترف طالب إثماً جنسياً ، كان عليه أن يلبس جلد حمار مدة عام كامل ، على أن يظل الذيل مرفوعاً إلى أعلى ، وأن يجوب الآثم الطرقات ، يطلب الصدقات ويعلن عن خطيئته ؛ وكان الطلبة جميعاً يطالبون كل صباح بالإستحمام في أحواض السباحة العشرة الكبرى التابعة للجامعة ؛ ومدة الدراسة إثنا عشر عاماً ، ولو أن بعض الطلبة كان يقيم بالجامعة ثلاثين عاماً ، وبعضهم يقيم بها حتى الممات. وجاء المسلمون فهدموا الأديرة (في شمال الهند) كلها تقريباً ، بوذيّها وبرهميّها على السواء ، وأحرقت جامعة نالندا إحراقاً أتى عليها سنة 1197م وقتل كل رهبانها ، وإنه ليستحيل علينا أبد الدهر أن نقدر ما كان في حياة الهند القديمة من خصوبة مسترشدين بما أبقى عليه هؤلاء المسلمون المتعصبون ؛ ومع ذلك فلم يكن هؤلاء المخربون من الهمج، بل كان لهم ذوق في الجمال كما كان لهم براعة تشبه براعة العصر الحديث في استخدام التقوى لتحقيق ما يشاءون من نهب وسلب.
فلما إعتلى المغل عرش حكم الهند، جاءوا معهم بمستوى عال - ولو أنه ضيق الأفق - من الثقافة، فقد أحبوا الأدب حبهم للسيف ، وعرفوا كيف يمزجون حصاراً ظافراً بقصائد الشعر ؛ وكان التعليم عند المسلمين فردياً في أغلبه ، فيستخدم أغنياء الآباء لأبنائهم المعلمين الخواصّ ؛ وكانت نظرتهم إلى التعليم نظرة أرستقراطية تجعله شيئاً للزينة - وقليلاً ما إتخذوا التعليم وسيلة لغاية - يزدان به رجل الأعمال أو صاحب السلطان ، كما تجعله عنصراً من عناصر الثورة والخطر العام إذا ما لُقّن لرجل قضي عليه بالفقر وضعة المنزلة. ويمكننا أن نتبين طرائق المعلمين من خطاب هو من رسائل التاريخ العظمى - وهو ما أجاب به أورنجزيب - وهو ملك - على معلمه السابق، وقد طلب إليه ذلك المعلم أن يخلع عليه منصباً وراتباً:
ويقول "بيرْنيَر" المعاصر: "هكذا كان أورنجزيب يمقت التحذلق في التعليم الذي كان يصطنعه معلموه ؛ وبعض الدلائل في بلاطه تدل على أنه أضاف إلى قوله ذاك قولاً آخر وهو:
"ألا تعلم أن الطفولة إذا أُحْكِمَ الإشراف عليها ، وهي كما نعلم حالة مصحوبة عادة بالذاكرة الجيدة، في مستطاعها أن تتلقى آلاف المبادئ السليمة والتعاليم بحيث تنقش فيها نقشاً عميقاً ما بقي الإنسان حياً ، وتحفز عقل الإنسان دائماً إلى جليل الأعمال؟ أليس يمكن تعلم القانون والصلاة والعلوم بلغتنا القومية كما نتعلمها بالعربية؟ لقد أنبأت أبي "شاه جهان" أنك ستعلمني الفلسفة ؛ نعم إني أذكر جيداً أنك لبثت أعواماً طوالاً تسليني بمشكلات فارغة عن أشياء لا ترضي العقل في شيء على الإطلاق ، وليست هي بذات نفع في المجتمع الإنساني ، وهي أفكار خاوية ومجرد سبحات في الخيال ، وليس فيها ما يميزها سوى أنها شديدة الصعوبة على الفهم ، شديدة السهولة في النسيان. إني لا أزال أذكر أنك بعد أن أمتعتني - ولست أذكر كم طال أمد تلك المتعة - بفلسفتك الدقيقة ، كان كل ما وعيته منها طائفة كبيرة من ألفاظ حوشية معقدة ، تصلح لإيقاع الربكة والحيرة والملل في أحسن العقول ؛ ولعلها لم توجد إلا لتستر غرور أمثالك من الرجال وجهلهم ، هؤلاء الذين يحاولون إيهامنا بأنهم يعلمون كل شيء ، وأن وراء هذه الألفاظ الغامضة المبهمة تختفي أسرار عظيمة لا يستطيع فهمها سواهم ؛ فلو أنك أنضجتني بتلك الفلسفة التي تهيئ العقل للإستدلال المنطقي ، وتعدّه شيئاً فشيئاً ، الإعداد الذي يجعله لا يرضى بشيء إلا الحجج القوية ؛ لو أنك زودتني بتلك المبادئ السامية والمذاهب الرفيعة التي تعلو بالروح على نكبات الزمن ، وتركّزها في حالة نفسية لا يزعزعها شيء ولا يثيرها مثير ، وتجنّبها الغرور بالنجاح في الحياة والإنهيار أمام المحن ؛ لو أنك حرصت على أن تمدني بمعرفة أنفسنا ومعرفة المبادئ الأولى للأشياء ، وساعدتني على تكوين فكرة طيبة في عقلي عن عظمة الكون ، وعما فيه من نظام عجيب وحركة في أجزائه ؛ أقول لو أنك غرست في نفسي هذا الضرب من الفلسفة، لرأيت نفسي مديناً لك أكثر مما كان الإسكندر مديناً لأرسطو كثرة لا تدع مجالاً للمقارنة بين الحالتين ، ولأيقنت أن من واجبي أن أعوضك على نحو يختلف عما جزاه هو به؛ ألم يكن واجباً عليك - بدل ريائك لي - أن تعلمني شيئاً عن ذلك الموضوع البالغ الأهمية لملك ، ألا وهو الواجبات المتبادلة بين الملك وشعبه ، ماذا يجب على الملك إزاء الرعية ، وماذا يجب على الرعية إزاء الملك؟ ألم يكن ينبغي عليك أن تذكر أنني لا بد يوماً مضطر إلى إستخدام السيف في نزاعي مع أخوتي على حياتي وتاجي؟... هل عنيت قط بأن تعلمني كيف أحاصر مدينة أو أن أُجَيَّش جيشاً؟ إنني مدين بهذه الأشياء لغيرك لا لك ، اذهب وعد إلى القرية التي منها أتيت ولا تدع أحداً يعلم من أنت ، ولا ماذا صار من أمرك". |
الملاحم
لم تكن المدارس والجامعات إلا جزءاً من النظام التعليمي في الهند ؛ فلما كانت الكتابة أقل قيمة هناك منها في سائر المدنيات ، وكان التعليم الشفوي هو وسيلة الإحتفاظ بتاريخ الأمة وشعرها ، ووسيلة نشرها في الناس ، فقد نشرت الرواية الشفوية العلنية بين الناس أنفَس ما في تراثهم الثقافي من أجزاء ؛ فكما قام رواة مجهولون بين اليونان بنقل الإلياذة والأوذيسية ، وتوسيعها على مر الأجيال ، كذلك فعل الرواة والخطباء في الهند بنقل الملاحم من جيل إلى جيل ، ومن بلاط السلطان إلى عامة الشعب ، تلك الملاحم التي ركز فيها البراهمة أساطيرهم الشعبية. وفي رأي عالم هندي أن "الماهابهاراتا" هي (أعظم آية من آيات الخيال التي أنتجتها آسيا) وقال عنها سير تشارلز إليت إنها: (قصيدة أعظم من الإلياذة) ولا إرتياب في صدق هذا الحكم الأخير بمعنى من معانيه؛ بدأت الماهابهاراتا (حوالي سنة 500 ق.م) قصيدة قصصية قصيرة، لا يتجاوز طولها حداً معقول ، ثم أخذت تضيف إلى نفسها في كل قرن من القرون المتعاقبة حكايات ومقطوعات ، وإمتصت في جسمها قصيدة (بهاجافادجيتا) كما ضمت بعض أجزاء من قصة راما ، حتى بلغ طولها في نهاية الأمر 000ر107 زوج من أبيات الشعر الثمانية المقاطع - أي ما يساوي الإلياذة والأوذيسية مجتمعين سبع مرات وإسم مؤلفها أسطوري ، إذ ينسبها الرواة لمن يسمونه (فياسا) وهي كلمة معناها "المنظم" ، فقد كتبها مائة شاعر ، وصاغها ألف منشد ، ثم جاء البراهمة في عهد ملوك جوبتا (حوالي 400 م) فصبوا أفكارهم الدينية والخلقية في هذا المؤلف الذي بدأ على أيدي أفراد من طبقة الكشاترية ؛ وبهذا خلعوا على القصيدة تلك الصورة الجبارة التي نراها عليها اليوم.
لم يكن موضوع القصيدة الأساسي مقصوداً به الإرشاد الديني بمعنى الكلمة الدقيق ، لأنها تقص قصة عنف ومقامرة وحروب ، فيقدم الجزء الأول من القصيدة "شاكونتالا" الجميلة (التي أريد لها أن تكون بطلة في أشهر مسرحية هندية) وابنها القوي (بهارفا) ؛ الذي من أصلابه جاءت قبائل (بهاراتا العظيم) (أي الماهابهاراتا) وقبائل كورو وباندافا التي تتألف من حروبها الدموية سلسلة الحكاية ولو أنه كثيراً ما تخرج الحكاية عن موضوعها لتعرج على موضوعات أخرى ؛ فالملك "يوذسشيرا" - ملك البندافيين - يقامر بثروته حتى تضيع كلها ، ثم بجيشه وبمملكته وبإخوته وأخيراً بزوجته "دراوبادي" وكان في هذه المقامرة يلاعب عدواً له من قبيلة كورو ، كان يلعب بزهرات مغشوشة ، وتم الإتفاق على أن يسترد الباندافيون مملكتهم بعد إثني عشر عاماً يتحملون فيها النفي من أرض وطنهم وتمضي الإثنا عشر عاماً ، ويطالب الباندافيون أعداءهم الكوريين برد أرضهم ، لكن لا جواب ، فتعلن الحرب بين الفريقين ويضيف كل فريق إلى نفسه حلفاء حتى تشتبك الهند الشمالية كلها تقريباً في القتال وتظل الحرب ناشبة ثمانية عشر يوماً ، وتملأ من الملحمة خمسة أجزاء ، وفيها يلاقي الكوريون جميعا مناياهم ، كما يقتل معظم الباندافيين فالبطل (بهشما) وحده يقتل مائة ألف رجل في عشرة أيام ، ويروي لنا الشاعر الإحصائي أن عدد من سقط في القتال قد بلغ عدة مئات من ملايين الرجال ؛ وتسمع "جانذاري"- الملكة زوجة ملك كورو الأعمى وإسمه "ذريتا راشترا" - تسمعها وسط هذا المشهد الدامي المترع بمناظر الموت ، تصرخ جازعة عندما تبصر العقبان محومة في لهفة الشره فوق جثة ابنها الأمير "درْيوذان":
ملكة طاهرة وامرأةٌ طاهرة ، فاضلة أبداً خيِّرةٌ أبداً
هي "جانذارا" التي وقفت وسط الميدان شامخة في حزنها العميق
والميدان مليء بالجماجم ، وجدائل الشعر إنعقدت عليها الدماء ،
وقد اسود وجهه بأنهار من دم متجمد ؛
والميدان الأحمر مليء بأطراف من لا يحصيهم العد من المقاتلين...
وعواء أبناء آوي الطويل المديد يرن فوق منبطح الأشلاء
والعُقاب والغراب الأسحم يرفرفان أجنحة كريهة سوداء
وسباع الطير تملأ السماء طاعمة من دماء المحاربين
وجماعات الوحش البغيضة تمزق الأجساد الملقاة شلوا شلوا
سيق الملك الكهل في هذه الساحة، ساحة الأشلاء والموت
ونساء كورو بخطوات مرتعشة خطون وسط أكداس القتلى
فدوت في أرجاء المكان صرخات عالية من جزع
عندما رأين القتلى أبنائهن وآبائهن وأخوتهن وأزواجهن
عندما رأين ذئاب الغابة تطعم بما هيأ لها القدر من فرائس
عندما رأين جوَّابات الليل السود ساعيات في ضوء النهار
ورنت أرجاء الميدان المخيف بصرخات الألم وولولة الجزع
فخارت منهن الأقدام الضعيفة، وسقطن على الأرض
وفقد أولئك الراثيات كلَّ حسٍّ وكل حياة، إذ هن في إغماءة من حزن مشترك.
ألا إن الإغماءة الشبيهة بالموت ، التي تعقب الحزن ، فيها لحظة قصيرة من راحة للمحزون.
ثم إنبعثت من صدر "جانذاري" آهةٌ عميقة من قلب مكروب ونظرت إلى بناتها المحزونات ، وخاطبت كرِشنا قائلة:
"أنظري إلى بناتي اللائي ليس لهن عزاء ، أنظري إليهن وهن ملكاتٌ أرامل لبيت كورو.
أنظري إليهن باكيات على أعزائهن الراحلين ، كما تبكي إناث النسور ما فقدت من نسور
أنظري كيف يثير في قلوبهن حب المرأة كلُّ قَسْمة من هاتيك القسمات الباردة الذاوية
أنظري كيف يجبن بخطوات قلقة وسط أحساد المقاتلين وقد أخمدها الموت
وكيف تضم الأمهات قتلى أبنائهن إذ هم في نومهم لا يشعرون
وكيف تنثني الأرامل على أزواجهن فيبكين في حزن لا ينقطع ...
هكذا جاءت الملكة "جانذاري" لتبلّغ "كرِشْنا" حزين أفكارها؛
وعندئذ - واحسرتاه - وقع بصرها الحائر على إبنها "درْيوذان"
فأكل صدرها غمٌّ مفاجئ ، وكما زاغت حواسُّها عن مقاصدها
كأنها شجرة هزتها العاصفة ، فسقطت لا تحس الأرض التي سقطت عليها ؛
ثم صحت في أساها من جديد ، وأرسلت بصرها من جديد
إلى حيث رقد إبنها مخضباً بدمائه يلتحف السماء
وضمت عزيزها درْيوذان ، ضمته قريباً من صدرها
وإذ هي تضم جثمانه الهامد اهتز صدرها بنهنهة البكاء
وإنهمرت دموعها كأنها مطر الصيف، فغسلت به رأس النبيل
الذي لم يزل مزدانا بأكاليله ، لم يزل تكلله أزاهير المشكا ناصعة حمراء
"لقد قال لي إبني العزيز درْيوذان حين ذهب إلى القتال، قال:
"أماه ادْعي لي بالغبطة وبالنصر إذا ما اعتليت عجلة المعمعة"
فأجبت : عزيزي درْيوذان: "اللهم - يا بني - إصرف عنه الأذى
ألا إن النصر آت دائماً في ذيل الفضيلة"
ثم إنصرف بقلبه كله إلى المعركة ، ومحا بشجاعته كلَّ خطاياه
وهو الآن يسكن أقطار السماء حيث ينتصر المحارب الأمين
ولست الآن أبكي دريوذان ، فقد حارب أميراً ومات أميراً
إنما أبكي زوجي الذي هده الحزن ، فمن يدري ماذا هو ملاقيه من نكبات؟
"إسمع الصيحة الكريهة يبعثها أبناء آوي، وأنظر كيف يرقب الذئاب الفريسة -
وأرادت العذارى الفاتنات بما لهن من غِناء وجمال أن يحرسنه في رقدته،
إسمع هاتيك العقبان البغيضة المخضبة مناقيرها بالدماء ، تصفق بأجنحتها على أجسام الموتى -
والعذارى يلوحن بمراوح الريش حول درْيوذان في مخدعه الملكي
أنظر إلى أرملة درْيوذان النبيلة، الأم الفخورة بابنها الباسل لاكشمان
إنها في جلال الملكة شباباً وجمالاً ، كأنها قُدّتْ من ذهب خالص
إنتزعوها من أحضان زوجها الحلوة ، ومن ذراعي ابنها يطوقانها
كتب عليها أن تقضي حياتها كاسفة حزينة ، رغم شبابها وفتنتها
ألا مزق اللهم قلبي الصلب المتحجر ، وإسحقه بهذا الألم المرير
هل تعيش "جانذاري" لتشهد ابنها وحفيدها النبيلين مقتولين؟
وانظر مرة أخرى إلى أرملة درْيوذان ، كيف تحتضن رأسه الملطخ بدمه الخاثر
انظر كيف تمسك به على سريره في رفق بيدين رقيقتين رحيمتين
انظر كيف تدير بصرها من زوجها العزيز الراحل إلى ابنها الحبيب
فتختنق عبرات الأم فيها أنّةَ الأرملة وهي أنَّةٌ مريرة
وإن جسدها لذهبي رقيق كأنه من زهرة اللوتس
أواه يا زهرتي ، أواه يا ابنتي، يا فخر "بهارات" ويا عز "كورو"
ألا إن صدقتْ كتب الفيدا ، "فدريوذان" الباسل حي في السماء
ففيم بقاؤنا على هذا الحزن ، لا ننعم بحبه العزيز؟
إن صدقت آيات "الشاسترا" فابني البطل مقيم في السماء
ففيم بقاؤنا في حزن مادام واجبهما الأرضي قد تأدَّى.
فالموضوع موضوع حب وحرب ، لكن آلاف الإضافات زيدت عليه في شتى مواضعه ؛ فالإله "كرشنا" يوقف مجرى القتال حيناً بقصيدة منه يتحدث فيها عن شرف الحرب و"كرِشنا" و"بهشْما" وهو يحتضر ، يؤجل موته قليلاً حتى يدافع عن قوانين الطبقات والميراث والزواج والمِنَح وطقوس الجنائز ، ويشرح فلسفة كتب "السانخيا" و "يوبانشاد" ويروي طائفة من الأساطير والأحاديث المنقولة والخرافات ، ويلقي درساً مفصلاً على "يودشثيرا" في واجبات الملك ؛ كذلك ترى أجزاء مُعْفَرَّة جدباء في سياق الملحمة تقص شيئاً عن الأنساب وعن جغرافية البلاد وعن اللاهوت والميتافيزيقا ، فتفصل بين ما في الملحمة من رياض نضرة فيها أدب مسرحيٌّ وحركة.
وفي ملحمة "الماهابهاراتا" حكاية جامحة الخيال ، وقصص خرافية ، وغرامية ، وتراجم للقديسين ، فيتعاون كل هذا على جعل الملحمة أقل قيمة في صورتها الفنية ، وأخصب فكراً ، من الإلياذة أو الأوذيسية ؛ فهذه القصيدة التي كانت في بادئ أمرها معبرة عن طبقة الكشاترية (المحاربين) من حيث تبجيلها للحركة والنشاط والبطولة والقتال ، قد أصبحت على أيدي البراهمة أداة لتعليم الناس قوانين "مانو" ومبادئ "اليوجا" وقواعد الأخلاق وجمال النرفانا ؛ وترى "القاعدة الذهبية" معبَّراً عنها في صور كثيرة وتكثر في القصيدة الحِكَم الخلقية ذات الجمال وصدق النظر وفيها قصص جميلة عن الوفاء الزوجي ("نالا" و "دامايانتي" و "سافترْي") تصور للنساء اللائي يستمعن لها ، المثل العليا البرهمية للزوجة الوفية الصابرة. وفي غضون الرواية عن هذه المعركة الكبرى ، بُثت قصيدة هي أسمى قصيدة فلسفية يعرفها الشعر العالمي جميعاً ، وهي المسماة "بهاجافاد - جيتا" ومعناها (أنشودة المولى) ، وهي بمثابة "العهد الجديد" في الهند ، يبجلونها بعد كتب الفيدا نفسها ، ثم يستعملونها لحلف الأيمان في المحاكم كما يستعمل الإنجيل أو القرآن ؛ ويقرر "ولهلم فون همبولت" أنها "أجمل أنشودة فلسفية موجودة في أي لغة من اللغات المعروفة ، وربما كانت الأنشودة الوحيدة الصادقة في معناها.
ويجوز أن تكون أعمق وأسمى ما يستطيع العالم كله أن يبديه من آيات ؛ وقد هبطت إلينا "الجيتا" بغير إسم ناظمها أو تاريخ نظمها ، وهي في ذلك تشاطر سائر ما للهند من آيات الإبداع في الجهل بأصحابها ، وعلة ذلك أن الهند لا تعنى بما هو فرديّ أو جزئيّ ؛ وربما يرجع تاريخها إلى سنة 400 ق.م أو ربما كانت أحدث من ذلك بحيث ترجع إلى سنة 200 م. ومشهد القصيدة هو المعركة التي نشبت بين الكوريين والباندافيين ؛ والموقف الذي قيلت فيه هو ما أبداه "أرجونا" المحارب الباندافي من رغبة عن قتال ذوي قرباه في صفوف الأعداء قتالاً مميتاً؛ فإسمع "أرجونا" وهو يوجّه الخطاب إلى "المولى كرشنا" الذي كان يحارب إلى جواره كأنه إله من آلهة هومر، لترى كيف يعبر بخطابه عن فلسفة غاندي والمسيح:
"إن الأمر كما أراه هو أن هذا الحشد من ذوي قربانا
قد تجمع هاهنا ليسفك دماً مشتركاً بيننا ؛
ألا إن جسدي ليخور وَهَناً ، ولساني يجف في فمي ...
ليس هذا من الخير يا "كِشاف"! يستحيل أن ينشأ خير
من فريقين يفتك كل منهما بالآخر! انظر ،
إنني أمقت النصر والسيادة ، وأكره الثروة والترف
إن كان كسبهما عن هذا الطريق المحزن! واأسفاه ،
أي نصر يسرّ يا "جوفندا" وأي الغنائم النفيسة ينفع ،
و أي سيادة تعوض ، وأي أمد من الحياة نفسها يحلو ،
إن كان شيء من هذا كله قد اشتريناه بمثل هذه الدماء؟...
فإذا ما قتلنا
أقرباءنا وأصدقاءنا حباً في قوة دنيوية
فيالها من غلطة تنضح شراً!
إنه لخير في رأيي ، إذا ما ضرب أهلي ضربتهم ،
أن أواجههم أعزل من السلاح ، وأن أعَرّي لهم صدري ،
فيتلقى منهم الرماح والسهام ، ذلك في رأي خير من مبادلتهم ضربة بضربة
وهاهنا يأخذ "كرشنا"- الذي تحمل ربوبيته على الحد من نشوته بالمعركة- في بسط وجهة نظره واثقاً من صحة ما يقول ثقة إستمدها من كونه إبن فشنو ، وهي أن الكتب المنزلة ، والرأي عند خيرة الراسخين في العلم ، هو أنه من الخير والعدل أن يقتل الإنسان ذوي قرباه في الحرب ؛ وأن واجب "أرجونا" هو أن يتبع قواعد طبقته الكشاترية ، وأن يقاتل ويقتل أعداءه بضمير خالص وإرادة طيبة ، لأنه على كل حال لا يقتل إلا الجسد ، وأما الروح فباقية ؛ وهنا تراه يشرح ما جاء في "سانخيا" عن "بوروشا" التي لا يأتيها العطب ، وما جاء في "يوبانشاد " عن "أتمان" التي لا تفنى :
"إعلم أن الحياة لا تفنى، فتظل تبثّ حياةً في الكون كله؛
يستحيل على الحياة في أي مكان ، وبأية وسيلة ،
أن يصيبها نقص بأي وجه من الوجوه ، ولا أن يصيبها خمود أو تغير
أما هذه الهياكل الجسدية العابرة ، التي تبث فيها الحياة
روحاً لا تموت ولا تنتهي ولا تحدها الحدود -
ففانية ؛ فدعها- أيها الأمير- تَفْنَ ، وامض في قتالك!
إن من يقول: "انظر ، لقد قتلت إنساناً!"
وإن من يظن لنفسه: "هاأنذا قد قُتِلْت!"
فكلا هذين لا يعلم شيئاً ؛ إن الحياة لا تَقْتل
وإن الحياة لا تُقْتل! إن الروح لم تولد قط، ولن تفنى
إن الزمان لم يشهد لحظة خلت من الروح، إن النهاية والبداية أحلام!
إن الروح باقية إلى الأبد بغير مولد وبغير موت وبلا تغير
إن الموت لم يمسسها قط ، وإن خيل لنا أن وعائها الجسدي قد مات"
ويمضي "كرشنا" في إرشاد "أرجونا" في الميتافيزيقا ، مازجاً في تعليمه كتاب "سانخيا" بكتاب "فيدانتا" بحيث يحصل منهما على مركب فريد يقبله أنصار مذهب "فايشنافيت" ؛ فهو يقول عن الأشياء كلها ، موحداً بين ذاته والكائن الأسمى ، يقول عن الأشياء كلها إنها:
"تتعلق بي
كما تتعلق مجموعة من الخرزات على الخيط؛
أنا من الماء طعمه العذب
وأنا من القمر فضته ومن الشمس ذهبها
أنا موضع العبادة في الفيدا، والهزة التي
تشق أجواز الأثير والقوة
التي تكمن في نطفة الرجل أنا الرائحة الطيبة الحلوة
التي تعبق من الأرض البليلة؟ وأنا من النار وهجها الأحمر
وأنا الهواء باعث الحياة يتحرك في كل ما هو متحرك
أنا القدسية فيما هو مقدس من الأرواح أنا الجذر
الذي لا يذوي والذي إبثق منه كل ما هو كائن
أنا حكمة الحكيم وذكاء
العليم وعظمة العظيم
وفخامة الفخيم ...
إن من يرى الأشياء رؤية الحكيم
يرى أن براهما بما له من كتب وقداسة
والبقرة والفيل والكلب النجس
والمنبوذ وهو يلتهم لحم الكلب، كلها كائن واحد"
هذه قصيدة زاخرة بألوانها المتباينة ومتناقضاتها الميتافيزيقية والخلقية التي تصور أضداد الحياة وتعقيدها وإنه ليأخذنا شيء من الدهشة أن نرى الإنسان متمسكاً بما يبدو لنا موقفاً أسمى من الوجهة الخلقية بينما الإله يدافع عن الحرب والقتل معتمدا على أساس متهافت وهو أن الحياة غير قابلة للقتل والفردية وَهْم لا حقيقة فيه ، ولعل ما أراد المؤلف أن يحققه بقصيدته هو أن ينقذ الروح الهندية من الهمود المميت الذي فرضته العقيدة البوذية ، وأن يوقظها لتحارب من أجل الهند ؛ فهي بمثابة ثورة رجل من الكشاترية أحسّ أن الدين يوهن أمته ، وارتأى في زهو أن هنالك أشياء كثيرة أنفَس من السلام ؛ وقبل كل شيء كانت هذه القصيدة درساً لو حفظته الهند لجاز أن يصون لها حريتها.
أما ثانية الملاحم الهندية فهي أشهر الأسفار الهندية وأحبها إلى النفوس. وهي أقرب إلى أفهام الغربيين من "الماهابهاراتا" ؛ وأعني بها "رامايانا" ، وهي أقصر من زميلتها الأولى ، إذ لا يزيد طولها على ألف صفحة قوام الصفحة منها ثمانية وأربعون سطراً ؛ وعلى الرغم من أنها كذلك أخذت تزداد بالإضافات من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد ، فإن تلك الإضافات فيها أقل عدداً مما في زميلتها ، ولا تهوش الموضوع الأصلي كثيراً ؛ ويعزو الرواة هذه القصيدة إلى رجل يسمى "فالميكي" ، وهو كنظيره المؤلف المزعوم للملحمة الأخرى الأكبر منها ، يظهر في الحكاية شخصية من شخصياتها ولكن الأرجح أن القصيدة من إنشاء عدد كبير من المنشدين العابرين ، أمثال أولئك الذين لا يزالون ينشدون هاتين الملحمتين ، وقد يظلون يتابعون إنشادهما تسعين ليلة متعاقبة ، على مستمعين مأخوذين بما فيها من سحر. وكما أن "الماهابهاراتا" تشبه "الإلياذة" في كونها قصة حرب عظيمة أنشبتها الآلهة والناس ، وكان بعض أسبابها إستلاب أمة لامرأة جميلة من أمة أخرى ؛ فكذلك تشبه "رامايانا" "الأوذيسية" وتقصّ عما لاقاه أحد الأبطال من صعاب وأسفار ، وعن إنتظار زوجته صابرة حتى يعود إليها فيلتئم شملها من جديد ، وترى في فاتحة الملحمة صورة لعصر ذهبي ، كان فيه "دازا- راذا" يحكم مملكته "كوسالا" (وهي ما يسمى الآن أوذا) من عاصمته "أيوذيا":
مزداناً بما تزدان به الملوك من كرامة وبسالة، وزاخراً بترانيم الفيدا المقدسة
أخذ (دازا- راذا) يحكم ملكه في أيام الماضي السعيد...
إذ عاش الشعب التقيُّ مسالماً، كثير المال رفيع المقام
لا يأكل الحسد قلوبهم ؛ ولا يعرفون الكذب فيما ينطقون ؛
فالآباء بأسْراتهم السعيدة يملكون ما لديهم من ماشية وغلة وذهب
ولم يكن للفقر المدقع والمجاعة في (أيوذيا) مقام.
وكان على مقربة من تلك البلاد مملكة أخرى سعيدة هي "فيديها" التي كان يحكمها الملك "جاناك" ، وقد كان هذا الملك "يسوق المحراث ويحرث الأرض" بنفسه ، فهو في ذلك شبيه ببطل إسمه "سِنْسِناتَسْ" ؛ وحدث ذات يوم أنه لم يكد يلمس المحراث بيده ، حتى إنبثقت من مجرى المحراث في الأرض إبنة جميلة ، هي " سيتا " ، وما أسرع ما حان حين زواجها ، فعقد "جاناك" مباراة بين خطّابها ، فمن إستطاع منهم أن يقوم إعوجاج قوس "جاناك" الذي يقاتل به ، كانت العروس نصيبه ؛ وجاء إلى المباراة أكبر أبناء "دازا- راذا" وهو "راما": "صدره كصدر الليث ، وذراعاه قويتان ، وعيناه ذهبيتان ، مهيب كفيل الغابة ، وقد عقد على ناصيته من شَعْره تاجاً" ولم يستطع أن يلوي القوس إلا "راما" فقدم إليه "جاناك" إبنته بالصيغة المعروفة في مراسم الزواج في الهند:
هذه سيتا إبنة جاناك وهي أعز عليه من الحياة
فلتقاسمك منذ الآن فضيلتك ، ولتكن أيها الأمير زوجتك الوفية
هي لك في كل بلد ، تشاركك عزاً وبؤساً
فأعِزَّها في سرّائك وضرّائك ، واقبض على يدها بيدك
والزوجة الوفية لمولاها كالظل يتبع الجسد
وابنتي سيتا- زين النساء- تابعتك في الموت والحياة
وهكذا يعود "راما" إلى بلده "أيوذيا" بعروسه الأميرة: "جبين من عاج ، وشفة من المرجان ، وأسنان تسطع بلمعة اللآلئ"- وقد كسب حب أهل كوسالا بتقواه ووداعته وسخائه ؛ وما هو إلا أن دخل الشر هذه الفردوس حين دخلتها الزوجة الثانية "لدازا- راذا" وهي "كايكيي" ؛ وقد وعدها "دازا- راذا" أن يجيبها إلى طلبها كائناً ما كان ؛ فحملتها الغيرة من الزوجة الأولى التي أنجبت "راما" ولياً للعهد ، أن تطلب من "دازا- راذا" نفي "راما" من المملكة أربعة عشر عاماً ؛ فلم يسع "دازا- راذا" إلا أن يكون عند وعده ، مدفوعاً إلى ذلك بشرف لا يفهم معناه إلا شاعر لم يعرف شيئاً من السياسة ؛ ونفى إبنه الحبيب ، بقلب كسير ؛ ويعفو "راما" عن أبيه عفو الكريم ، ويأخذ الأهبة للرحيل إلى الغابة حيث يقيم وحيداً ؛ لكن "سيتا" تصر على الذهاب معه ، وكلامها في هذا الموقف تكاد تحفظه عن ظهر قلب كل عروس هندية ، إذ قالت:
"العربة والخيل المطهمة والقصر المذهّب ، كلها عبث في حياة المرأة
فالزوجة الحبيبة المحبة تؤثر على كل هذا ظلّ زوجها...
إن "سيتا" ستهيم في الغابة ، فذلك عندها أسعدُ مقاماً من قصور أبيها
إنها لن تفكر لحظة في بيتها أو في أهلها، ما دامت ناعمة في حب زوجها...
وستجمع الثمار الحوشية من الغابة اليانعة العبقة
فطعام (يذوقه "راما" هو أحب طعام عند "سيتا")
حتى أخوه "لاكشمان" يستأذن في الرحيل ليصحب "راما" فيقول:
"ستسلك طريقك المظلم وحيداً مع "سيتا" الوديعة ،
هلاّ أذنت لأخيك الوفيّ "لاكشمان" بحمايتها ليلاً ونهاراً ،
هلاّ أذنت "للاكشمان" بقوسه ورمحه أن يجوب الغابات جميعاً
فيسقط بفأسه أشجارها ، ويبني لك الدار بيديه؟".
وعند هذا الموضع تصبح الملحمة نشيداً من أنشاد الغابات ، إذ تقصّ كيف إرتحل "راما" و"سيتا" و"لاكشمان" إلى الغابات ، وكيف سافر معهم عامر "أيوذيا" جميعاً طوال اليوم الأول ، حزناً عليهم ؛ وكيف يتسلل المنفيّون من أصحابهم الودودين خلسة في ظلمة الليل ، مخلّفين وراءهم كل نفائسهم وثيابهم الفاخرة ، وارتدوا لحاء الشجر ونسيجاً من كلأ ، وأخذوا يشقوا لأنفسهم طريقاً في أشجار الغابة بسيوفهم ، ويقتاتون بثمار الشجر وبندقها:
"وطالما التفتت إلى "راما" حليلته، في غبطة وتساؤل تزدادان على مرّ الأيام
وتسأل ما إسم هذه الشجرة وهذا الزاحف وتلك الزهرة وهاتيك الثمرة مما لم تره من قبل...
والطواويس ترفّ حولهم مرحة، والقردة تقفز على محنيّ الغصون...
كان "راما" يثب في النهر تظلله أشعة الصبح القرمزية
وأما "سيتا" فكانت تسعى إلى النهر في رفق كما تسعى السوسنة إلى الجدول)
ويبنون كوخاً إلى جانب النهر ، ويروضون أنفسهم على حب حياتهم في الغابة لكن حدث أن كانت أميرة من الجنوب ، وهي "سوربا- ناخا" تجوب الغابة ، فتلتقي "براما" وتغرم به ، وتضيق صدراً بالفضيلة التي يبديها لها ، وتستثير أخاها "رافان" على المجيء ليختطف "سيتا" ، وينجح أخوها في خطفها والفرار بها إلى قلعته البعيدة ، ويحاول عبثاً أن يغويها بالضلال ، ولما لم يكن ثمة مستحيل على الآلهة والمؤلفين ، فقد حشد جيشاً جراراً ، فتح به مملكة "رافان" وهزمه في القتال ، وأنقذ "سيتا" وبعدئذ (وكانت أعوام نفيه قد كملت) فرّ معه قافلاّ بها إلى بلده "أريوذا" حيث وجد أخاً آخر له وفياً ، فتنازل له عن عرش كوسالا. وللملحمة ذيل يرجح أنه أضيف إليها متأخراً ، وفيه يروى أن "راما" آمن آخر الأمر بأقوال المتشككين الذين لم يصدقوا أن تكون "سيتا" قد أقامت تلك المدة كلها في قصر رافان بغير أن تقع في أحضانه آنا بعد آن ؛ وعلى الرغم من أنها إجتازت "محنة النار" لتدل على براءتها ، فقد بعث بها إلى غاية بعيدة حيث تقيم في صومعة هناك ، مزوّدة بألعوبة الوراثة المرّة التي تقضي على كل جيل من الناس أن يورّث خلفه تلك الخطايا والأغلاط التي ورثها هو من شيوخه في شبابه؛ وتلتقي "سيتا" في الغابة بفالميكي، وتلد طفلين "لراما" ؛ وتمضي السنون ، ويصبح الولدان منشدين جوّالين، يغنيان أمام "راما" المنكود الملحمة التي أنشأها عليه "فالميكي" مستمداً إيّاها من ذكريات "سيتا" ، فيدرك أن الولدين إبناه ، ويبعث برسالة إلى "سيتا" يرجوها الرجوع ؛ لكن "سيتا" كانت قد تحطم قلبها بما أثير حولها من ريب ، فغاصت في الأرض التي كانت في بادئ الأمر أمها ؛ ويظل "راما" يحكم أعوام طوالاً في وحشة وأسى، وتبلغ "أريوذا" في عهده الرحيم عصرها الذهبي من جديد ، ذلك الذي ذاقت طعمه في عهد "دازا- راذا":
يروي شيوخ الحكماء إبان عهد راما السعيد
أن رعيته لم تعرف الموت قبل أوانه ولا الأمراض الفاتكة.
ولم تبك الأرامل حزناً على أزواجهن لأن هؤلاء لم يموتوا عن زوجاتهم قبل إكتمال العمر
ولم تبك الأمهات هلعاً على الرضّع ففقدنهم في نعومة الأظفار.
ولم يحاول اللصوص والغشاشون والخادعون المرحون بالكذب سرقة أو غشاً أو خداعاً
وكل جار أحب جاره التقيّ ، وأحب الشعب مولاه
وآتت الأشجار أكلها كاملة كلما حانت فصولها
ولم تتوان الأرض عاماً عن إخراج غلّتها في غبطة المعترف بالجميل
وأمطرت السماء في أوان المطر ، ولم تعصف قط بالبلاد عاصفة تأتي على زرعها.
فكان كل واد يانع باسمٍ غنياً بمحصوله غنياً بمرعاه
وأخرج المِنْسَجُ السّندان صناعتهما ، كما أخرجت الأرض الخصيبة المحروثة نبتها
وعاشت الأمة فرحة بعمل أجدادها الأولين
ألا ما أمتعها من قصة ، يستطيع حتى المتشائم في عصرنا الحديث أن يستمتع بها ، إذا كان من الحكمة بحيث يترك زمام نفسه آنا بعد آن لروعة الخيال ونغمة الغناء ؛ فهذه الأشعار التي ربما كانت أحط قدراً من ملحمتي هومر من الوجهة الأدبية- في بنائها المنطقي وفخامة اللغة وعمق التصوير ، والصدق في وصف الأشياء على حقائقها- تمتاز بدقة الشعور ، وبإعلائها من شأن المرأة والرجل إعلاء مثالياً ، وبتصوير الحياة تصويراً قوياً- وهو تصوير واقعي أحياناً ؛ فلئن كان "راما" و "سيتا" أسمى خلقاً من أن يكونا شخصين حقيقيين ، فغيرهما من الأشخاص مثل "دروبادي" و "يوذشثيرا" و "ذريتا- راشترا" و "جانذاري" يكادون يكونون في قوة الحياة التي تراها في "أخيل" و "هيلانة" و "يوليسيز" و "بنلوب" ؛ ويستطيع الهندي أن يحتج في حق قائلاً إن الأجنبي لا يمكنه قط أن يحكم على هاتين الملحمتين ، بل لا يمكنه قط أن يفهمهما ؛ فهما للهندي ليستا مجرد قصتين بل هما في رأيه بهو من أبهاء الصور ، يشاهد فيه أشخاصاً مثاليين يمكنه أن ينسج في سلوكه على غرارهم ، هما مستودع تستقر فيه التقاليد ، كما تستقر فلسفة أمته ولاهوتها ، فهما- بوجه من الوجوه- كتب مقدسة يقرأها الهندي على نحو ما يقرأ المسيحي "محاكاة المسيح" أو "تراجم القديسين" ؛ إذ يعتقد الهندي الورع أن "كرِشْنا" و "راما" صورتان مجسدتان للألوهية ، ولا يزال يتوجه إليهما بالصلاة.
وهو حين يقرأ أخبارهما في هاتين الملحمتين ، يشعر بأنه يستمد من قراءته سمواً دينياً ، كما يستمد متعة أدبية وإرتفاعاً خلقياً ؛ وهو يؤمن أن قراءته "لرامايانا" يطهره من أوزاره جميعاً ويجعله ينجب ولداً ، كما أنه يقبل النتيجة المزهوَّة التي تنتهي إليها "الماهابهاراتا" قبول الإيمان الساذج ، وهي: "إذا قرأ المرء "الماهابهاراتا" وآمن بتعاليمها ، تطهر من كل خطاياه ، وصعد إلى السماء بعد موته ... فالبراهمة بالقياس إلى سائر الناس ، والزبد بالقياس إلى سائر ألوان الطعام ... والمحيط بالقياس إلى بركة الماء ، والبقرة بالقياس إلى سائر ذوات الأربع- كل ذلك يصور "الماهابهاراتا" بالقياس إلى سائر كتب التاريخ ... إن من يصغي في إنتباه إلى أشعار "الماهابهاراتا" المزدوجة الأبيات ويؤمن بما فيها ، يتمتع بحياة طويلة وسمعة طيبة في هذه الحياة الدنيا ، كما يتمتع في الآخرة بمقام أبدي في السماء".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المسرحية
المسرحية في الهند قديمة قدم الفيدات ، بوجه من الوجوه ، ذلك لأن بذورها الأولى على الأقل موجودة في كتب "يوبانشاد" ولا شك في أن للمسرحية بداية أقدم من هذه الكتب المقدسة ، بداية أكثر فاعلية من تلك- وأعني بها الإحتفالات والمواكب الدينية التي كانت تقام للقرابين وأعياد الطقوس ؛ وكان للمسرحية مصدر ثالث غير هذين ، وهو الرقص- فلم يكن الرقص مجرد وسيلة لإخراج الطاقة المدخرة ، وأبعد من ذلك عن الحقيقي أن نقول أنه كان بديلاً للعملية الجنسية ، لكنه كان شعيرة جدية يقصد بها أن يحاكي ويوحي بالأعمال والحوادث الحيوية بالنسبة للقبيلة ؛ وربما التمسنا مصدراً رابعاً للمسرحية ، وهو تلاوة شعر الملاحم تلاوة علنية تدبّ فيها الحياة ؛ فهذه العوامل كلها تعاونت على تكوين المسرح الهندي ، وطبعته بطابع ديني ظل عالقاً به خلال العصر القديم كله من حيث بناء المسرحية ذاتها، ومصادر موضوعاتها الفيدية والملحمية، والمقدمة التي كانت تتلى دائماً قبل البدء في التمثيل إستنزالاً للبركة. وربما كان آخر البواعث التي حفزتهم على إنشاء المسرحية ، هو إتصال الهند باليونان إتصالاً جاء نتيجة لغزو الإسكندر فليس لدينا شاهد يدل على وجود المسرحية قبل "أشوكا" ، كما أنه ليس بين أيدينا إلا دليل مشكوك في قوته، على أنها وجدت في عهده ؛ وأقدم ما بقي لنا من المسرحيات الهندية مخطوطات أوراق النخيل التي كشف عنها حديثاً في التركستان الصينية ، وبينها ثلاث مسرحيات ، تذكر إحداها أن إسم مؤلفها هو "أشفاغوشا" العالم اللاهوتي في بلاط "كانِشْكا" ؛ لكن القالب الفني لهذه المسرحية ، والشبه الذي بين شخصية "المضحك" فيها وبين النمط الذي عرفناه لمثل هذه الشخصيات في المسرح الهندي على مر العصور ، قد يدلان على أن المسرحية كانت قائمة بالفعل في الهند قبل مولد "أشفاغوشا" ، وحدث في سنة 1910م أن وجدت في "ترافانكور" ثلاث عشرة مسرحية سنسكريتية ، تُنسَبْ في شيء من الشك إلى "بهازا" (حوالي سنة 350م) وهو في الأدب المسرحي سلفٌ ظفر بكثير من التكريم من "كاليداسا" ففي مقدمة روايته "مالافيكا" توضيح جيد لنسبية الزمن والصفات ، أثبته (أي كاليداسا) في تلك المقدمة عن غير وعي منه ، فتراه يسأل: هل يليق بنا أن نهمل مؤلفات رجال مشهورين مثل "بهازا" و "ساوميلا" و "كافيبوترا"؟ هل يمكن للنظارة أن يحسُّوا بأقل إحترام لما ينشئه شاعر حديث يسمى كاليداسا؟".
من أول هذا الجزء نعيد إدخال" وإلى عهد قريب كانت أقدم مسرحية هندية معروفة للباحثين العلميين هي "عربة الطين" ، وفي النص- الذي ليس تصديقه حتماً علينا- ذكر لإسم مؤلفها ، وهو رجل مغمور يعرف بإسم "الملك شودراكا" يوصف بأنه خبير بكتب الفيدا وبالرياضة وترويض الفيلة وفن الحب. ومهما يكن من أمر فقد كان خبيراً بالمسرح ، ومسرحيته هذه أمتع ما جاءنا من الهند ، وليس في ذلك سبيل إلى الشك- فهي مزيج- يدل على براعة- من الغناء والفكاهة ، وفيها فقرات رائعة لها ما للشعر من حرارة وخصائص. ولعل خلاصة موجزة لحوادثها أنفع في توضيح مميزات المسرحية الهندية من مجلد بأسره يكتب في شرحها والتعليق عليها ؛ ففي الفصل الأول نلتقي بـ "شارو- داتا" الذي كان ذات يوم من الأغنياء ، ثم أصابه الفقر لجوده وسوء حظه ؛ ويلعب صديقه "مايتريا"- وهو برهميّ فدْم- دور المضحك في المسرحية ؛ ويطلب "شارو" من "مايتريا" أن يهب الآلهة قرباناً، ولكن البرهمي يرفض الطلب قائلاً: "ما غناء القربان للآلهة التي عبدتها ما دامت لم تصنع لك شيئاً؟" وفجأة دخلت إمرأة هندية شابة ، من أسرة رفيعة ولها ثراء عريض ، دخلت مندفعة في فناء دار "شارو" تلتمس فيه ملاذاً من رجل يتعقبها ؛ وإذا بهذا المتعقب أخو الملك ، وإسمه "سامزثاناكا" وهو شرير إلى درجة بلغت غاية لم تدع فيه أدنى مجال للخير، حتى ليتعذر على الإنسان أن يصدق وجود مثل هذا الشر الخالص ، على نحو ما كان" "شارو" خيّراً خالصاً لا سبيل إلى دخول الشر في نفسه ؛ فيحمي "شارو" الفتاة اللائذة بداره ، ويطرد " سامزثاناكا " الذي يتوعده بالإنتقام ، فيزدري منه هذا الوعيد وتطلب الفتاة- وإسمها "فاسانتا- سينا"- من "شارو" أن يحفظ لها وعاء فيه جواهر كريمة تحت حراسته الآمنة ، خشية أن يسرقه منها الأعداء ، وخشية ألا تجد عذراً تتذرع به للعودة إلى زيارة منقذها ؛ فيجيبها إلى ما طلبت، ويحفظ لها الوعاء ، ويحرسها حتى يبلغ بها دارها الفخمة. ويأتي الفصل الثاني بمثابة فاصل هزلي ، فهذا مقامر هارب من مقامرين آخرين ، يلوذ بأحد المعابد ، فلما دخل هذان ، وتخلص منهما بأن وقف وقفة التمثال كأنه وثن الضريح ، ويقرصه المتعقبان ليريا إن كان حقيقة وثناً من الحجر ، فلا يتحرك ؛ فيتخليان عن البحث ، ويتسليان بلعبة يلعبانها بالزهر "زهر القمار" بجوار المذبح ؛ ويبلغ اللعب من إثارته للنفس مبلغاً تعذر معه على التمثال أن يضبط زمام نفسه ، فوثب من على قاعدته ، واستأذن ليشترك في اللعب ؛ ويهزمه اللاعبان الآخران ، فيجد في ساقيه السريعتين وسيلة للفرار مرة أخرى ، وتنجيه "فاسانتا- سينا" التي عرفت فيه رجلاً كان فيما مضى خادماً عند "شارو- داتا".
ونرى في الفصل الثالث "شارو" و"مايتريا" عائدين من حفلة موسيقية ويسطو على الدار لص فيسرق وعاء الجواهر الكريمة ، فلما كشف "شارو" عن السرقة ، أحس بالعار ، وبعث إلى "فاسانتا- سينا" آخر ما يملكه من عقود اللؤلؤ ، عوضاً لها. ونرى في الفصل الرابع "شارفيلاكا" يقدم الوعاء المسروق إلى خادمة "فاسنتا- سينا" إبتغاء حبها ؛ فلما عرفت أنه وعاء سيدتها ، إزدرت "شارفيلاكا" لأنه لص ، فيجيبها في مرارة نعرفها في شوبنهور ، قائلاً:
إن المرأة- إذا ما بذلتَ لها المال- إبتسمت أو بكتْ
ما أردتَ لها الإبتسام أو البكاء ؛ إنها تحمل الرجل
على الثقة فيها ، لكنها هي لا تثق فيه ،
إن النساء متقلبات الأهواء كموج
المحيط ؛ إنّ حبهن مفلات هروب
كأنه شعاع من ضوء الشمس الغاربة فوق السحاب ،
إنهن يرتمين بميل شديد على الرجل
الذي يعطيهن مالاً ، وما زلن يعتصرن ماله
إعتصارهن لعصارة النبات المليء ، ثم ينبذونه نبذاً
لكن الخادمة تدحض كلامه هذا بعفوها عنه كما تدحضه "فاسانتا- سينا" بالإذن لهما بالزواج. وفي فاتحة الفصل الخامس تأتي "فاسانتا- سينا" إلى بيت "شارو" لكي تعيد له جواهره ، وتعيد كذلك وعاءها ؛ وبينما هي هناك ، عصفت عاصفة تصفها بالسنسكريتية وصفا رائعاً ؛ وتتفضّل عليها العاصفة بالزيادة من ثورة غضبها ، إذ إضطرتها بذلك- إضطراراً جاء وفق ما تشاء وتهوى- أن تبيت ليلتها تحت سقف شارو.
ونرى في الفصل السادس "فاسانتا" وهي تغادر بيت "شارو" في الصباح التالي ؛ وبدل أن تدخل العربة التي أعدها لها ، أخطأت فدخلت عربة يملكها "سامزثاناكا" الشرير ؛ وفي الفصل السابع حبكة فرعية ليست بذات أثر كبير على موضوع المسرحية ؛ ونرى "فاسانتا" في الفصل الثامن ملقاة- لا في قصرها كما توقعت- بل في بيت عدوها ، بل توشك أن تكون في أحضان ذلك العدو ؛ فلما عاودته بازدراء حبّه إياها، خنقها ودفنها ؛ ثم ذهب إلى المحكمة وإتهم شارو بقتل "فاسانتا" بغية الوصول على أحجارها الكريمة. وفي الفصل التاسع وصف للمحاكمة ، حيث يخون "مايتريا" سيده خيانة غير مقصودة ، وذلك بأن أسقط من جيبه جواهر "فاسانتا" ؛ فحكم على "شارو" بالموت ؛ ونراه في الفصل العاشر في طريقه إلى حيث ينفذ فيه الإعدام ؛ ويلتمس إبنه من الجلادين أن يضعوه مكان أبيه ، لكنهم يرفضون ؛ ثم تظهر "فاسانتا" في اللحظة الأخيرة ؛ فقد شاهد "شارفيلاكا" "سامزثاناكا" وهو يدفنها ، فأسرع إلى إخراج جسدها قبل فوات الأوان ، وأعادها إلى الحياة ؛ وإنقلب الوضع ، فقد أنقذت "فاسانتا" "شارو" من الموت ؛ وإتهم "شارفيلاكا" أخا الملك بتهمة القتل ؛ لكن "شارو" أبى أن يؤيد الإتهام ، فأطلق سراح "سامزثاناكا" وعاش الجميع عيشاً سعيداً.
لما كان الوقت في الشرق ، حيث يكاد العمل كله يتم أداؤه بأيد بشرية ، أوسع منه في الغرب ، حيث وسائل توفير الوقت كثيرة جداً ، كانت المسرحيات الهندية ضعف المسرحيات الأوروبية في عصرنا هذا ؛ فيتراوح عدد الفصول من خمسة إلى عشرة ، وكل فصل منها ينقسم في غير إزعاج للنظارة إلى مناظر ، بحيث يكون أساس الإنقسام خروج شخصية ودخول أخرى ؛ وليس في المسرحية الهندية وحدة للمكان ووحدة للزمان ، وليس فيها ما يحد سرحات الخيال ؛ والمناظر على المسرح قليلة ، لكن الثياب زاهية الألوان ، وأحياناً يدخلون على المسرح حيوانات حية فتزيد من حركة المسرحية نشاطاً. وتبث روحاً فيما هو صناعي بما هو طبيعي فترة من الزمن ؛ ويبدأ التمثيل بمقدمة يناقش فيها أحد الممثلين أو مدير المسرح موضوع الرواية ، والظاهر أن "جيته" أخذ عن "كاليداسا" فكرة المقدمة لرواية "فاوست" ؛ ثم تخدم المقدمة بتقديم أول شخصية من الممثلين ، فيأتي هذا ويخوض في قلب الموضوع ؛ والمصادفات لا عدد لها ، وكثيراً ما ترسم العوامل الخارقة للطبيعة خط السير للحوادث ؛ ولا تخلو مسرحية من قصة غرامية ، كما لابد لها من "مضحك" ؛ وليس في الأدب المسرحي الهندي مأساة ، إذ لا مندوحة لهم عن إختتام الحوادث بخاتمة سعيدة ؛ وحتم في المسرحية أن ينتصر الحب الوفيّ دائماً ، وأن تكافأ الفضيلة دائماً ، وأقل ما يدعوهم إلى فعل ذلك أن يجئ بمثابة الموازنة مع الواقع؛ وتخلو المسرحية الهندية من المناقشات الفلسفية التي كثيراً جداً ما تعترض مجرى الشعر الهندي؛ فالمسرحية مثل الحياة ، لا بد أن تعلّم بالفعل وحده ، وألا تلجأ أبداً في ذلك إلى مجرد الكلام ، ويتعاقب في سياق المسرحية الشعر الغنائي والنثر ، حسب جلال الموضوع والشخصية والفعل ؛ والسنسكريتية هي لغة الحديث لأفراد الطبقات العالية في الرواية ، والبراكريتية هي لغة النساء والطبقات الدنيا ؛ والفقرات الوصفية في تلك المسرحيات بارعة ، وأما تصوير الشخصيات فضعيف ؛ والممثلون- وفيهم نساء- يجيدون أداء التمثيل ، فلا هم يتسرعون كما هي الحال في الغرب ، ولا هم يسرفون في البطء كما يفعل أهل الشرق الأقصى ؛ وتنتهي الرواية بخاتمة يتوجّه فيها بالدعاء إلى الإله المحبب عند المؤلف أو عند أهل الإقليم المحلي ، ليهيئ أسباب السعادة للبلاد.
وأشهر المسرحيات الهندية هي "شاكونتالا" ل "كاليداسا" لم يزاحمها في ذلك مزاحم منذ ترجمها "سير وليم جونز" وإمتدحها "جيته" ؛ ومع ذلك فكل ما تعرفه لكاليداسا ثلاث مسرحيات ، مضافاً إليها الأساطير التي أدارتها حول اسمه ذاكرات المعجبين ؛ والظاهر أن قد كان أحد "الجواهر التسع"- من الشعراء والفنانين والفلاسفة- الذين قرّبهم الملك "فكراماديتيا" إليه (380- 413 م) في عاصمة جوبتا ، وهي "يوجين". تقع "شاكونتالا" في سبعة فصول، بعضها نثر ، وبعضها شعر ينبض بالحياة؛ فبعد مقدمة يدعو فيها مدير المسرح النظارة أن يتأملوا روائع الطبيعة ، تبدأ الرواية بمنظر طريق في غابة ، حيث يقيم راهب مع ابنة تبنّاها ، تسمى "شاكونتالا" وما هو إلا أن يضطرب سكون المكان بصوت عربة حربية، يخرج منها راكبها وهو الملك "دشيانتا" فيغرم "بشاكونتالا" في سرعة نعهدها في خيال الأدباء، ويتزوج منها في الفصل الأول ، لكنه يستدعى فجأة للعودة إلى عاصمته ؛ فيتركها واعداً إياها أن يعود إليها في أقرب فرصة ممكنة ، كما هو مألوف في مثل هذا الموقف ؛ وينبئ رجل زاهد فتاتنا الحزينة بأن الملك سيظل يذكرها ما دامت محتفظة بالخاتم الذي أعطاه لها ، لكنها تفقد الخاتم وهي تستحم؛ ولما كانت على وشك أن تكون أماً ، فقد إرتحلت إلى قصر الملك ، لتعلم هناك أن الملك قد نسيها على غرار ما هو معهود في الرجال الذين تسخو معهم النساء ، وتحاول أن تذكّره بنفسها.
شاكونتالا: ألا تذكر في عريشة الياسمين
ذات يوم حين صَبَبْتُ ماء المطر
الذي تجمع في كأس زهرة اللوتس
في تجويفة راحتك؟
الملك: امضي في قصتك إني أسمع.
شاكونتالا: وعندئذ في تلك اللحظة عينها ،
جاء نحونا يعدو طفلي الذي تبنيته ، أعني الغزال الصغير ،
جاء بعينيه الطويلتين الناعستين ؛ فقبل أن تطفئ ظمأك.
مددت يدك بالماء لذلك المخلوق الصغير ، قائلاً:
"اشرب أنت أولاً أيها الغزال الوديع"
لكن الغزال لم يشرب من أيد لم يألفها
وأسرعت أنا فمددت إليه ماء في راحتي فشرب
في ثقة لا يشوبها فزع ، فقلت أنت مبتسماً:
"إن كل مخلوق يثق في بني جنسه
كلاكما وليد غابة حوشية واحدة
وكلاكما يثق في زميله ، ويعرف أين يجد أمانة"
الملك: ما أحلاك وما ألطفك وما أكذبك!
أمثال هؤلاء النساء يخدعن الحمقى...
إنك لتلحظ دهاء الإناث
في شتّى أنواع المخلوقات، لكنها في النساء أكثر منها في غيرهن
إن أنثى الوقوق تترك بيضها للأقدام تفقسها لها
وتطير هي آمنة ظافرة
هكذا لقيت "شاكونتالا" الهون ، وتحطم رجاؤها ، فرفعتها معجزة إلى أجواز الفضاء حيث طارت إلى غابة أخرى فولدت هناك طفلها ، وهو "بهاراتا" العظيم الذي كتب على أبنائه من بعده أن يخوضوا معارك "الماهابهاراتا" ؛ وفي ذلك الحين ، وجد سمّاك خاتمها المفقود ، ورأى عليه اسم الملك ، فأحضره إلى "دشيانتا" (الملك) ، وعندئذ عادت إليه ذاكرته "بشاكونتالا" ، وأخذ يبحث عنها في كل مكان ، وطار بطائرة فوق قمم الهمالايا ، وهبط بتوفيق من السماء عجيب على الصومعة التي كانت "شاكونتالا" تذوي في جوفها ، ورأى الصبيّ "بهاراتا" يلعب أمام الكوخ ، فحسد والديه قائلاً:
"آه ، ما أسعده من أب وما أسعدها من أم
يحملان وليدهما ، فيصيبهما القذر
من جسده المعفّر ؛ إنه يكنّ آمناً مطمئناً
في حجريهما ، وهو الملاذ الذي يرنو إليه-
إن براعم أسنانه البيضاء تتبدّى صغيرة
حين يفتح فمه باسماً لغير ما سبب ؛
وهو يلغو بأصوات حلوة لم تتشكل بعد كلاماً...
لكنها تذيب الفؤاد أكثر مما تذيبه الألفاظ كائنة ما كانت"
وتخرج "شاكونتالا" من كوخها، فيلتمس الملك عفوها ، وتعفو عنه ، فيتخذها ملكة له ، وتنتهي المسرحية بدعاء غريب لكنه يمثل النمط الهندي المألوف:
"ألا فليعش الملوك لسعادة رعاياهم دون سواها ،
اللهم أكرم "سارسفاتي" المقدسة- منبع
الكلام وإلهة الفن المسرحي ،
أكرمها دوماً بما هو عظيم وحكيم!
اللهم يا إلهنا الأرجواني الموجود بذاتك
يا من يملأ المكان كله بنشاط حيويته ،
أنقذ روحي من عودة مقبلة إلى جسد!"
لم تتدهور المسرحية بعد "كاليداسا" لكنها لم تستطع بعدئذ أن تنتج رواية في قوة "شاكونتالا" أو "عربة الطين" ؛ فقد كتب الملك "هارشا" ثلاث مسرحيات شغلت المسرح قروناً- ذلك لو أخذنا رواية تقليدية ربما
أوحى بها أول أمرها إيحاء؛ وبعده بمائة عام، كتب "بهافابهوتي"- وهو برهميٌّ من برار- ثلاث مسرحيات غرامية، لا يفوقها جودة إلا مسرحيات "كاليداسا" في تاريخ المسرح الهندي؛ وكان أسلوبه- رغم ذلك- مزخرفاً غامضاً، فكان لزاماً عليه أن يقنع بنظّارة محدودة العدد، وبالطبع قد ادّعى أن تلك النظارة القليلة ترضيه؛ وقد كتب يقول : "ألا ما أقل ما يدريه أولئك الذين يقرعوننا باللوم؛ إن مسرحياتي لم تكتب لتسليتهم، فليس بعيداً أن يكون بين الناس شخص، أو ربما يوجد شخص في مقبل الأيام، له ذوق شبيه بذوقي، لأن الزمان مديد والعالم فسيح الأرجاء". يستحيل علينا أن نضع الأدب المسرحي في الهند ، في منزلة واحدة مع مثيله في اليونان أو في إنجلترا أيام اليصابات ؛ لكنه يقارن مع المسرح في الصين أو اليابان فيكون له التفوق ؛ كلا لا يجوز لنا أن نبحث في أدب الهند عما يطبع المسرح الحديث من ألوان الفن الدقيق ، فهذه الألوان عرض من أعراض الزمن ، أكثر منها حقيقة أبدية ، وربما زالت ، بل ربما تحولت إلى ضدها ؛ إن الكائنات الخوارق للطبيعة ، في المسرحية الهندية غريبة على أذواقنا ، مثل "القدر" في أدب "يوربيديز" المتنور ؛ لكن هذا الجانب أيضاً عرض من أعراض التاريخ ؛ أما أوجه الضعف في المسرحية الهندية (إذا جاز لأجنبي أن يذكرها في تردد) فهي التكلف في الصيغة اللفظية التي يشوهها تكرار الحرف الواحد ليمثل الصوت المعبَّر عنه وتفسدها الألاعيب اللفظية ، وتصوير الأشخاص بلون واحد للشخص الواحد ، فإما أن يكون الشخص خيراً صرفاً ، أو أن يكون شراً صرفاً ، وحبكة الحوادث حبكة لا يقبلها العقل ، مستندة إلى مصادفات لا يمكن تصديقها ؛ وإسراف في الوصف وفي النقاش حول الفعل الذي يكاد يكون بحكم التعريف الوسيلة الفريدة التي تتميز بها المسرحية في نقل ما تريد أن تنقله ؛ وأما حسنات المسرحية الهندية فما فيها من خيال بديع ، وعاطفة رقيقة ، وشعر مرهف ، ونداء عاطفي لما في الطبيعة من ألوان الجمال والفزع ؛ إنه لا سبيل إلى النزاع حول صور الفن القومية ، ذلك لأننا لا نستطيع أن نحكم عليها إلا من وجهة نظرنا بما لها من لون خاص ، ثم لا نستطيع أن نراها غالباً إلا خلال منظار الترجمة ؛ ويكفينا أن نقول إن "جيته" وهو أقدر الأوربيين على التسامي فوق حدود الإقليم وحواجز القومية ، قد عَدَّ قراءة "شاكونتالا" بين ما صادفه في حياته من عميق التجارب ، وكتب عنها معترفاً بفضلها:
"أتريدني أن أجمع لك في إسم واحد زهرات العام وهو في ربيعه ناشئ ،
وثماره وهو في خريفه ينحدر إلى فناء
وأن أجمع كل ما عساه أن يسحر الروح ويهزها ويغذوها ويطعمها
بل أن أجمع الأرض والسماء نفسيهما في إسم واحد؟
إذن لذكرت إسمك يا "شاكونتالا" وبذكره أذكر كل شيء دفعة واحدة".
النثر والشعر
النثر ظاهرة مستحدثة في الأدب الهندي إلى حد كبير ، ويمكن إعتباره ضرباً من الفساد جاءه من الخارج بفعل الإتصال مع الأوربيين ؛ فروح الهندي الشاعرة بطبعها ترى أنه لابد لكل شيء جدير بالكتابة عنه أن يكون شعري المضمون ، يستثير في الكاتب رغبة في أن يخلع عليه صورة شعرية ؛ فمادام الهندي قد لأحس بأن الأدب تنبغي قراءته بصوت مرتفع ، وأدرك أن نتاجه الأدبي سينتشر في الناس ويدوم بقاؤه - ذلك إن انتشر ودام - بالرواية الشفوية لا بالكتابة فقد آثر أن يصب إنشاءه في قالب موزون أو مضغوط في صورة الحكمة ، بحيث تسهل تلاوته ويسهل حفظه في الذاكرة ؛ ولهذا كان الأدب في الهند كله تقريبا أدبا منظوماً ؛ فالبحوث العلمية والطبية والقانونية والفنية أغلبها مكتوب بالوزن والقافية أو بكليهما ، حتى قواعد النحو ومعاني القاموس قد صيغت في قالب الشعر ، والحكايات الخرافية والتاريخ ، وهما في الغرب يكتفيان بالنثر ، تراهما في الهند قد اتخذا قالباً شعرياً منغماً. الأدب الهندي خصيب بالحكايات الخرافية بصفة خاصة ؛ والأرجح أن تكون الهند مصدراً لمعظم الحكايات الخرافية التي عبرت الحدود بين أقطار العالم كأنها عملة دولية فالبوذية لقيت أوسع إنتشار لها حين كانت أساطير "جاتاكا" عن مولد بوذا ونشأته شائعة في الناس ؛ وأشهر كتاب في الهند هو المعروف بإسم "بان كاتانترا" أي "العنوانات الخمسة" )حوالي 500 ميلادية( وهو مصدر كثير من الحكايات الخرافية التي أمتعت أوروبا كما أمتعت آسيا ؛ وكتاب "هيتو باديشا" أو "النصيحة الطيبة" فيه مختارات ومقتبسات من الحكايات الموجودة في "بان كاتانترا" ، والعجيب أن كلا الكتابين ينزلان عند الهنود- إذا ما صنّفوا كتبهم- في قسم "نيتي شاسترا" ومعناها إرشادات في السياسة والأخلاق ، فكل حكاية تروى لكي تبرز عبرة خلقية ، ومبدأ من مبادئ السلوك أو الحكم، وفي معظم الحالات يقال في هذه القصص إنها من إنشاء برهمي ابتكرها ليعلم بها أبناء ملك من الملوك ، وكثيراً ما تستخدم هذه الحكايات أحط الحيوانات للتعبير عن ألطف معاني الفلسفة ؛ فحكايات القرد الذي حاول أن يدفئ نفسه بيراعة)وهي حشرة تضئ بالليل(وقتل الطائر الذي بصره بخطئه في ذلك ، تصوير بديع رقيق لما يصيب العالم الذي يتصدى لإرشادات الناس إلى مواضع الخطأ في عقائدهم. ولم تنجح كتابة التاريخ هناك في أن ترتفع عن مستوى سرد الحقائق عارية ، أو مستوى الخيال المزخرف ، ويجوز أن يكون الهنود قد أهملوا العناية بكتابة التاريخ بحيث ينافسون بها هيرودوت ، أو ثيوسيديد ، أو فلوطرخس ، أو تاسِتَسْ أو جُبن ، أو فولتير ، إما لإزدرائهم لحوادث المكان والزمان المتغيرة )وهو ما يسمونه مايا وإما لإيثارهم النقل بالرواية الشفوية على المدوّنات المكتوبة ، فالتفصيلات الخاصة بتحديد الزمان أو المكان قليلة جداً في وثائقهم ، حتى في حالة كتابهم عن رجالهم المشهورين ، لدرجة أن علماء الهنود قد تفاوتوا في تحديد تاريخ أعظم شعرائهم "كاليداسا" تفاوتا تراوح بين طرفي فترة طولها ألف عام ؛ إن الهنود يعيشون- ومازالوا كذلك إلى يومنا هذا- في عالم لا يكاد يتغير فيه شيء من عادات وأخلاق وعقائد ، حتى ليوشك الهندي ألا يفكر قط في تقدم ، ويستحيل عليه أن يعنى بالآثار القديمة ؛ فقد كانت تكفيه الملاحم تاريخاً صحيح الرواية ، كما تكفيه الأساطير في تراجم الأسلاف ؛ فلما كتب "أشفاغوشا" كتابه عن حياة بوذا "بوذا- شارِتا" كان أقرب إلى الأساطير منه إلى التاريخ ، وكذلك لما كتب "بانا" بعد ذلك بخمسمائة عام كتابه من حياة "هارشا" (هارشا- شارِتا) كان أقرب إلى رسم صورة مثالية للملك العظيم منه إلى تقديم صورة يعتمد على صدقها وتواريخ "راجيوتانا" القومية ليست فيما يظهر إلا تمرينات في الوطنية والظاهر أنه لم يكن بين الهنود إلا كاتب واحد هو الذي أدرك عمل المؤرخ بمعناه الصحيح وهو "كالهانا" مؤلف كتاب "راجات آرانجيني" ومعناه "تيار الملوك" ولقد عبر عن نفسه بقوله: "ليس جديرً بالإحترام إلا الشاعر الشريف العقل الذي يجعل الكلمة منه كحكم القاضي- خالية من الحب والكراهية في تسجيل الماضي" ويسميه "وِنْتَرْنِتْز": "المؤرخ العظيم الوحيد الذي أنتجته الهند".
أما المسلمون فقد كانوا أدق شعوراً بكتابة التاريخ ، وخلَّفوا لنا مدوَّنات نثرية تدعو إلى الإعجاب لما صنعوه في الهند ، وقد أسلفنا ذكر "البيروني" ودراسته البشرية وذكْر "مذكرات" "بابور" ، وكان يعاصر "أكبر" مؤرخ ممتاز هو "محمد قاسم فِرِشْتا" وكتابه "تاريخ الهند" هو أصح دليل تستدل به على حوادث الفترة الإسلامية ؛ وأقل منه حياداً "أبو الفضل" كبير وزراء "أكبر" أو الرجل الذي كان يؤدي كل شئون السياسة في البلاد ؛ وقد خَلَّف لأجيال المستقبل وصفاً لأساليب مولاه في إدارة البلاد ، وذلك في كتابه "عين أكبر" أو "مؤسسات أكبر الإجتماعية". وروى لنا حياة مولاه رواية تدل على حبه له حباً نغفر له ، وأطلق على كتابه هذا أسم "أكبر ناما" وقد رد له الإمبراطور حبَّه هذا حبّا مثله ، ولما جاءت الأخبار بأن "جهان كير" قد قتل الوزير ، أخذ "أكبر" حزنٌ عميق وصاح قائلا: "إذا أراد سالم (جهان كير) أن يكون حاكماً ، فقد كان يجوز له أن يقتلني ويُبقي على أبي الفضل". وبين الحكايات الخرافية والتاريخ تقع مجموعة كبيرة في منتصف الطريق من حكايات شعرية جمعها ناظمون دءوبون ، وأرادوا بها أن تكون متاعاً للروح الهندية المحبة للخيال ؛ ففي القرن الأول الميلادي ، نظم ناظم يدعى "جناذيا" مائة ألف زوج من الشعر أطلق عليه "برهاتكاذا" أي "مسرح الخيال العظيم" ثم أنشأ "سوماديفا" بعد ذلك بألف عام "كاذا سارتزا جارا" أي "المحيط الجامع لأنهار القصص" ، وهي قصيدة تتدفق حتى يبلغ طولها 21.500 زوج من الشعر ؛ وفي هذا القرن الحادي عشر نفسه ظهر قصاص بارع مجهول الإسم ، وأبتكر هيكلا يبنى على أعواده قصيدته "فتالا بانكا فنكاتيكا" ومعناها "القصص الخمس والعشرون عن الخفاش الجارح" ، وذلك بأن صور الملك "فكرا ماديتيا" يتلقى كل عام ثمرة من أحد الزاهدين في جوفها حجر نفيس ، ويسأل الملك كيف يمكنه أن يعبّر عن عرفانه بالجميل فيُطلب إليه أن يحضر "لليوجيّ" "الزاهد" جثة رجل يتدلى من المشنقة ، مع إنذاره بألا يتكلم إذا ما توجهت إليه الجثة بالخطاب ؛ لكن الجثة كان يسكنها خفاشٌ جارح أخذ يقص على الملك قصة ذهبت بلبِّ الملك فلم يشعر بنفسه وهو يتعثر في طريقه. وفي نهاية القصة توجه الخفاش بسؤال ، فأجابه الملك ناسيا ما أُنذر به من إلتزام الصمت ؛ وحاول الملك خمساً وعشرين مرة أن يحضر الجثة للزاهد مع إلتزامه الصمت إزاء ما يصدر له منها من حديث ، ومن هذه المرات أربع وعشرون مرة كان الملك فيها مأخوذاً بالقصة التي يرويها له الخفاش الجارح حتى ليسهو ويجيب عن السؤال الذي يوجَّه إليه في الختام؛ فيالها من مشنقة بارعة أنزل منها الماتب أكثر من عشرين قصة. لكنا في الوقت نفسه لا نقول لأن الهند قد عَدِمَتْ الشعراء الذين يقرضون الشعر بمعنى الكلمة التي نفهمها نحن ؛ فأبو الفضل يصف لنا "آلاف الشعراء" في بلاط "أكبر" ؛ وكان منهم مئات في صغرى العواصم ، ولا شك أن كل بيت كان يحتوي منهم على عشرات. ومن أقدم الشعراء وأعظمهم "بهارتريهاري" وهو راهب ونحويٌّ وعاشق ، غذَّى نفسه بألوان الغزل قبل أن يرتمي في أحضان الدين ، ولقد خلَّف لنا مُدوَّناً بها من كتابه المسمى "قرن من الحب"- وهو سلسلة من مائة قصيدة تتابع على نحو ما تتابع القصائد عند "هيني" ، ومما كتبه لإحدى معشوقاته: "ظنَنَّا معاً قبل اليوم أنكِ كنتِ إياي ، وكنتُ أنا إياكِ ؛ فكيف حدث الآن أن أصبحت أنتِ ، هو أنتِ وأنا هو أنا" ؛ ولم يكن يأبه لرجال النقد قائلاً لهم: "إنه من العسير أن تُقْنع خبيراً ، لكن "الخالق نفسه" لا يستطيع أن يرضي رجلاً ليس له من المعرفة إلا نزر يسير" ؛ وفي كتاب "جيتا- جوفندا" لصاحبه "جاياديفا" ،- وعنوان الكتاب معناه "أنشودة قطيع البقر المقدس"- يتحول غَزَل الهندي إلى دين ، ويصبغ ذلك الغزل بصبغته الحب الجسدي ل"راذا" و"كرِشْنا" وهي قصيدة مليئة بالعاطفة الحية الجسدية ، لكن الهند تؤوِّلهل تأويلا مدفوعة فيه بالشعور الديني: إذ تفسرها بأنها قصيدة صوفية رمزية تعبر عن عشق الروح لله- وهو تأويل يفهمه أولئك القديسون الذين لا يهتزون للعواطف البشرية ، والذين أنشأوا من عندهم مثل هذه العنوانات التقية ل"نشيد الأنشاد".
وفي القرن الحادي عشر تسللت لهجات الحديث حتى إحتلَّتْ مكانها بدل اللغة الميتة ، لتكون أداة للتعبير الأدبي ، كما فعلت في أوروبا بعد ذلك بقرن ؛ وأول شاعر عظيم استخدم اللغة الحية التي يتحدث بها الناس في نظمه هو "شاند بارداي" الذي نظم بالغة الهندية (الجارية في الحديث) قصيدة تاريخية طويلة تتألف من ستين جزءاً" ولم يمنعه من متابعة عمله هذا إلا نداء الموت ، ونظم "سور داس" شاعر "أجرا" الضرير ، 60.000 بيت من الشعر في حياة "كرِشنا" ومغامراته ، وقد قيل إن هذا الإله نفسه قد عاونه على نظمها. بل أصبح له كاتباً يكتب ما يمليه عليه الشاعر ، لكنه كان اسرع في كتابته من الشاعر في إملائه، وفي ذلك الوقت عينه كا "شاندي داس"- وهو كائن فقير- يهز البنغال هزّاً بما ينشد لها من أغان شبيهة بما أنشده دانتي. يخاطب بها معشوقة ريفية على نحو ما خاطب دانتي فتاته "بياترس" يصورها تصويرا مثاليا بعاطفه خياليه ، ويعلو بها حتى يجعلها رمزا للالوهيه. ويجعل حبه تمثيلا لرغبته في الإندماج في الله ؛ وهو في الوقت نفسه كان الشاعر الذي شق الطريق لأول مرة عن طريق اللغة البنغالية فكانت بعدئذ أداة التعبير الأدبي "لقد لذت بمأمن عند قدميك يا حبيبتي ، واذا لم أرك ، ظل عقلي في قلق... وليس في وسعي نسيان رشاقتك وفتنتك- ومع ذلك ليس في نفسي شهوة إليك" ؛ ولقد حكم عليه زملاؤه البراهمة بالطرد من طائفة الكهنوت على أساس انه كان يجلب العار لعامه الناس. فقبل ان ينكر حبه ل"رامي" في إحتفال علني ؛ لكنه وهو يباشر الطقوس الخاصة بذلك الإنكار ، رأى "رامي" بين الحشد المجتمع فعاد إلى نقض إنكاره ذاك وسار نحوهما وركع أمامها مشبك اليدين إعجاباً. وأنبغ شعراء الأدب المكتوب باللهجة الهندية (المتداولة في الحديث) هو "تولسي" الذي يوشك ان يكون معاصراً لشكسبير وقد ألقاه أبواه في العراء لأنه ولد لهم تحت نجمة منحوسة؛ فتبناه متصوف في الغابة وعلمه أغاني "راما" الأسطورية ، وتزوج ، ومات إبنه ، فأنسحب إلى الغابات حيث عاش عيش التوبة والتأمل ، وهناك وكذلك في بنارس كتب ملحمته الدينية "راما شارتا - ماناسا" ومعناه (بحيرة) من أعمال "راما" أخذ فيها يقص قصة "راما" مرة أخرى، وقدمه للهند بإعتباره الإله الاسمى الذي لا إله إلا هو ، يقول "تولسي داس": "ثمت إله واحد وهو راما خالق السماء والأرض ومخلص الإنسانية ... - ومن أجل عباده المخلصين جسد الله نفسه في إنسان فبعد إن كان "راما" إلهاً صار ملكاً من البشر ، ثم من أجل تطهيرنا عاش بيننا عيش رجل من عامة الناس". ولم يستطع إلا قليل من الأوربيين قراءة ملحمته في أصلها الهندي ، المقصود هو الهندية التي كانت جاريه في الحديث ، لأنه بات اليوم قديما مهجوراً ، ولكن أحد هؤلاء القليلين الذين إستطاعوا قراءة الأصل ، من رأيه إن تلك الملحمة تجعل "تولسي داس" (أهم شخصيه في الأدب الهندي كله) وهذه القصيدة لأهل الهندستان بمثابة إنجيل شعبي فيه ما يرجع اليه الناس من لاهوت وأخلاق ؛ ويقول غاندي: "إنني أعد "راما يانا" التي نظمها "تولسي داس" أعظم كتاب في الأدب الديني كله" ؛ وكانت بلاد الدكن في ذلك الوقت نفسه تنتج كذلك شعرا فنظم "توكارام" باللغة الماهراثيه 600 نشيد ديني تراها متداوله على الألسن في الهند اليوم تداول مزامير "داود" في اليهوديه أو المسيحية؛ ولما ماتت زوجته الأولى تزوج ثانيه من امرأة سليطة فأصبح فيلسوفا ، وكتب يقول: "ليس من العسير أن تظفر بالخلاص ، لأنك تجد الخلاص قريبا منك في الحزمة التي تحملها على ظهرك".
وفي القرن الثاني الميلادي أصبحت "مادورا" عاصمة الأدب "التأملية" وأقيمت بها "سانجام" أي جمعية قوامها الشعراء والنقاد تحت رعاية ملوك "بانديا" فإستطاعت - مثل المجمع العلمي الفرنسي - أن تضبط تطور اللغة ، وأن تخلع الألقاب وتمنح الهدايا. وأنشأ "تيروفا لافار"- وهو نساج من المنبوذين- أثراً أدبيا أفكاره دينية وفلسفية ، أنشأه في بحر من اعسر البحور "التأملية" وأطلق عليه إسم "كورال" فضمنه مُثُلا عليا أخلاقية وسياسية ، ويؤكد لنا الرواة أنه لما رأى أعضاء مجلس "سانجام"- وكلهم من البراهمة- مدى توفيق هذا المنبوذ في قرض الشعر أغرقوا أنفسهم عن آخرهم ، لكنا لا نصدق هذه الرواية إن قيلت من أي مجمع علمي مهما يكن أمره. وقد أرجأنا الحديث عن "كابر" - أعظم شاعر غنائي في الهند الوسيطة ، أرجأناه لنختم به الحديث ، ولو أن مكانه الزمني يأتي قبل ذلك ، و"كابر" نساج ساذج من بنارس ، أعدته الطبيعة للمهمة التي أراد القيام بها ، وهي توحيد الإسلام والهندوسية ، وذلك لأنه كما يقال من أب مسلم وأم من عذارى البراهمة ؛ فلما أخذ عليه لبه "راماناندا" الواعظ ؛ أخلص العبادة ل"راما" ووسع من نطاق "راما" (كما كان تولسي داس ليفعل) حتى جعله إلها عالمياً ، وطفق يقرض شعراً بلغة الحديث الهندية ، بلغ غاية في الجمال ، ليشرح به عقيدة دينية لا يكون فيها معابد ، ولا مساجد ، ولا أوثان ، ولا طبقات ، ولا ختان ، ثم لا يكون فيها من الآلهة إلا إله واحد ، يقول عن نفسه إن كابر: "إبن "رام" و"الله" ويقبل ما يقوله الشيوخ جميعاً ... يا إلهي ، سواء كنت "رام" أو "الله" )المقصود إله المسلمين(فأنا أحيا بقوة اسمك... إن أوثان الآلهة كلها لا خير فيها ، أنها لا تنطق ، لست في ذلك على شك ، لأني ناديتها بصوت عال... ماذا يجدي عليك أن تمضمض فاك ، أو أن تسبح بمسبحتك ، أو أن تستحم في مجاري المياه المقدسة ، وأن تركع في المعابد ، إذا كنت تملأ قلبك بنية الخداع وأنت تتمتم بصلاتك ، أو تسير في طريقك إلى أماكن الحج". جاء هذا القول منه صدمة قوية للبراهمة ، فلكي يدحضوه )هكذا تقول الرواية( أرسلوا إليه زانية تغويه، لكنها حولها إلى عقيدته ، ولم يكن ذلك عسيرا عليه ، لأن عقيدته لم تكن مجموعة من قواعد جامدة ، بل كانت شعوراً دينياً عميقاً فحسب:
هنالك يا أخي عالم لا تحده الحدود
وهنالك "كائن" لا أسم له ولا يوصف بوصف،
ولا يعلم عنه شيئا إلا من استطاع أن يصل إلى سمائه؛
وإنه لعلم يختلف عن كل ما يسمع وما يقال ؛
هنالك لا ترى صورة ، ولا جسداً ، ولا طولاً ، ولا عرضاً
فكيف لي أن أنبئك من هو؟
إن كابر يقول:
يستحيل أن نعبر عنه بألفاظ الشفاه ،
ويستحيل أن يكتب وصفه على الورق
إن الأمر هنا كالأخرس الذي يذوق طعماً حلواً- كيف يصف لك حلاوته.
وإعتنق "كابر" نظرية التناسخ الذي ملأت الجو من حوله ، ولذلك أخذ يدعو إلى الله- كما يفعل الهندوسي- ليخلصه من أغلال العودة إلى الولادة والعودة إلى الموت ، وكانت مبادئه الخلقية أبسط ما يمكن أن تصادف في هذه الدنيا من مبادئ:
عش عيشة العدل وابحث عن السعادة عند مرفقك
إني ليضحكني أن أسمع أن السمك في الماء ظمآن
إنكم لا ترون "الحق" في دياركم فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم!
هاكم الحقيقة! اذهبوا أين شئتم ، إلى بنارس أو إلى مأثورة
فإذا لم تجدوا أرواحكم، فالعالم زائف في أعينكم...
إلى أي الشطئان أنت سابح يا قلبي؟ ليس قبلك مسافر، كلا بل ليس أمامك طريق...
ليس هنالك جسم ولا عقل ، فاين المكان الذي سيطفئ غله روحك؟
انك لن تجد شيئا في الخلاء
تذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت،
فقدمك هناك تكون على موطئ ثابت
فكر في الأمر مليا يا قلبي! لا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر
إن "كابر" يقول:
اطرد كل صنوف الخيال من نفسك،
وثبت قدميك فيما هو أنت.
ويقول الرواة إنه بعد موته إعترك الهندوس والمسلمون على جسده ، وتنازعوا الرأي ، أيدفن ذلك الجسد أم يحرق ؛ وبينما هم في تنازعهم ذاك ، رفع أحد الحاضرين الغطاء عن الجثة ، فإذا بهم لا يرون تحته إلا كومه من الزهر ، فأحرق الهندوس بعض ذلك الزهر في بنارس ، ودفن المسلمون بقيته ، وأخذت أناشيده تتناقلها الأفواه بين عامه الناس بعد موته ، ولقد أوحت تلك الأناشيد إلى "ناناك" - وهو من طبقة السيخ - فأنشأ مذهبه القوي ، ورفع آخرون "كابر" إلى مصاف الآلهة ، وانك لتجد اليوم طائفتين صغيرتين متنافستين تتبعان مذهب هذا الشاعر وتعبد اسمه ؛ هذا الشاعر الذي حاول ان يوحد المسلمين والهندوس ، والطائفتان إحداهما من الهندوس والأخرى من المسلمين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.