بيارو القمري
هذا الموضوع مبني على مقالة لابراهيم العريس بعنوان مقالة. |
پييرو القمري Pierrot Lunaire في بداياته، ويوم كانت الموسيقى بالنسبة اليه مجرد شغف وهواية، كان أرنولد شونبرگ Arnold Schoenberg يقول إنه إذا سار على درب الموسيقى فإنه لن يرضى بأن يكون أقل من موسيقي متفوق على تشايكوفسكي. ولاحقاً، حين تمكّن من ان يصبح مؤلفاً موسيقياً من دون دراسة أكاديمية حقيقية، راح يعتبر نفسه تلميذاً لموتسارت. واذا كان معاصروه استكثروا عليه هذا أو ذاك خلال سنوات إنجازاته الأولى، فإن القرن العشرين عاد واحتفظ له بمكانة كبيرة في عالم الموسيقى، إذ إن ذلك العصامي، الذي علم نفسه الموسيقى بنفسه، كان واحداً من أكبر المجددين في تاريخ الموسيقى، وكان المؤلف الذي افتتح حداثة القرن العشرين الموسيقية، ليس فقط لأنه كان الأستاذ الحقيقي لمؤلفين كبار من طراز آلبن بيرگ وفيبرن، ومحط إعجاب ماهلر وريتشارد شتراوس، بل تحديداً لأنه «اخترع» الموسيقى الاثنتي عشرية، أو التسلسلية، ذلك النوع الذي بعدما صدم جمهور فيينا اعتباراً من العام 1922، عاد وثبّت أقدامه حيث صار الدرب الذي يسير عليه معظم كبار المؤلفين الموسيقيين في القرن الذي انتهى قبل أعوام قليلة من يومنا هذا.
لقد كان العام 1922 هو العام الذي أُعلن فيه رسمياً عن ولادة الموسيقى الاثنتي عشرية، تلك الموسيقى الثورية التي تقوم على إبدال مجموعة الأصوات التراتبية الموضوعة سلفاً في عالم التأليف الموسيقي، بترتيب جديد يقوم على أساس «السلسلة» أو «التسلسل»، بحيث ترتّب الأصوات الكروماتيكية في سلاسل من اثنتي عشرة نوطة، وتكون كل سلسلة من هذا النوع، اذ تتكرر وتتكرر المادة المولدة للقطعة الموسيقية كلها. ومن هنا كان الاسم «اثنتي عشرية» أو «تسلسلية». أما العملان اللذان كتبهما شوينبرگ انطلاقاً من هذا النظام وحازا شهرة تفوق شهرة أي عمل آخر من أعماله، فهما «التنويعات-العمل الرقم 31»، وبالطبع أوبرا «موسى وهارون» التي كتبها خلال فترة متأخرة من حياته في الولايات المتحدة المتحدة الامريكية. ومع هذا، فإن العمل الأساس والمحوري من بين أعمال شوينبرگ هو عمل سابق على «الاثنتي عشرية» وممهّد لها، عنوانه «بيارو القمري»، وقُدّم في فيينا للمرة الأولى في العام 1911، ونشر في العام التالي 1912. والحقيقة ان هذا العمل، لجِدّته ولكونه سيتبدّى لاحقاً عملاً انتقالياً، أثار سخط النقاد والجمهور حين قدّم للمرة الأولى... غير أن أرنولد شونبرگ لم يبال بذلك السخط، بل اكتفى، كرد فعل، بأن ابتسم وقال: «ان قائدنا الأسمى هو الذي أمرني بأن أسلك درباً شديدة الارتقاء». وكان هذا من ضمن شخصية شوينبرگ الذي، على رغم مادية أو حداثة أسلوبه الذي كان في طريقه الى ابتكاره، كان ذا نزعة رومنطيقية، لم يتمكن أبداً من تطبيقها في موسيقى كان الضجيج والصفير والصراخ جزءاً منها... وربما الجزء الأكثر تجديداً فيها.
إن النقاد الكبار والمتابعين لعمل شوينبرگ في ذلك الحين، كان أبرز ما شغلهم حين استمعوا الى «بيارو القمري»، مقدار ذلك التغيّر الذي طرأ على إبداع شوينبرگ منذ أعماله الأولى التي اشتهرت، مثل «الليلة المتبدلة» (1899) و «گوريليدر» (1900) -التي سيعيد صوغها في شكل اكثر حداثة ايام «بيارو القمري»-، ذلك ان هذا الفنان الذي تأثّر في بداياته بڤاگنر ومالر، ها هو الآن يبدي استقلالاً إبداعياً لا يرتبط إلا بشخصيته القوية وحدها، حتى وإن كان بعض النقاد الأكثر جدية رأى أن عنصر اللا-نغمية (وهو العنصر الاساس في الموسيقى الاثنتي عشرية التي ستبدأ ولادتها منذ ذلك الحين لتكتمل هذه الولادة بعد عشر سنوات)، يمكن العثور على جذوره في بعض أجمل لحظات «تريستان وإيزولت» لڤاگنر. مهما يكن من أمر، فإن عنصر اللا-نغمية، هو العنصر المسيطر على «بيارو القمري»، تلك القطعة التي سيزيد من شهرتها و«شعبيّتها» لاحقاً تحوّلها الى عمل راقص سيكون الروسي نورييف وفيفي فلندت من أشهر الذين يرقصون على «لاأنغامه» -لئلا نقول انغامه!-. اذاً، منذ «بيارو القمري» صار التعبير الموسيقي لدى شونبرگ قائماً على الإيقاع وحده، أكثر من تأسّسه على الميلوديا. والحال ان تركيبة الأوركسترا التي تؤدي هذا العمل نفسها، إنما تعكس الرغبة في توليد هذا النوع القائم على الإيقاع، فهي عادة أوركسترا محدودة العدد، ثم إنها أوركسترا تشغل الآلات الايقاعية والآلات الحادة الصوت مكانة أساسية فيها، ما يعني ان الرغبة هنا تقوم في اجتذاب ادراك المستمع وانتباهه أكثر من اجتذاب أحاسيسه، فهل علينا ان نعثر في هذا الواقع على جذور ما كان يقال دائماً عن شونبرگ من انه «منظّر للموسيقى» و «مثقف موسيقياً» أكثر منه مؤلفاً موسيقياً عبقرياً؟ هو، على أي حال، لم يكن يرى ان هذا صحيح: كان ينظر الى نفسه على انه ندّ لكبار الموسيقيين الذين أنجبهم تاريخ البشرية. اما بالنسبة الى مؤرخي الموسيقى، ولا سيما منهم أولئك الذين فضّلوا بدايات شونبرگ «النغمية» وأعماله الاخيرة التي عادت الى الاقتراب من النغمية، قليلاً أو كثيراً، خلال الأعوام الاثني عشر التي سبقت رحيله في العام 1951، فإن «بيارو القمري» تبدو فائقة الأهمية من خلال التأثير الذي مارسته على موسيقيين آخرين، اكثر منها من خلال قيمتها الموسيقية الخالصة. وفي الاحوال كافة، من الواضح ان «بيارو القمري» تمثل نقطة انعطافية حقيقية في تاريخ الموسيقى، ما يسهل اعتبارها فاتحة حقيقية للحداثة الموسيقية في القرن العشرين.
والحال ان شوينبرگ حين كتب هذا العمل كان يرى انه سيصل من خلاله الى «الدنوّ الحقيقي من المثال الموسيقي الأعلى في مجالي الشكل والتعبير»، معتبراً انه -انطلاقا من هنا- يتمتع بالحرية الكاملة التي أوصلته حتى إلى ادخال صوت سوبرانو في إحدى لحظات العمل، يؤدي نصف أغنية/ نصف خطاب، متنقلاً في شكل مباغت من نوطة الى أخرى، من دون أن يبدو أن ثمة منطقاً حقيقياً يحكم ذلك التنقل.
والحقيقة ان هذا الجانب من رغبة شوينبرگ وصل الى الجمهور وإن لم يكن بشكل مباشر وفوري، إذ نعرف أن فيينا التي، طوال المرحلة المتوسطة من حياته، لم تتوقف، نقاداً وجمهوراً، عن شجب تجديدات شونبرگ و «مغامراته»، كانت هي التي ستكرمه خير تكريم لدى الاحتفال بعيد ميلاده الخمسين في العام 1924، أي بعدما كان غرق كلياً في عالم «الاثنتي عشرية». ولكنه، حتى في ذلك الحين، كان لا يزال يحمل في جعبته الكثير من المفاجآت التي لم تتوقف عن إثارة البعض وإغاظة البعض الآخر، بل إن شونبرگ سيواصل سلوك درب التجديد طوال عقود تالية.
ولد شونبرگ في العام 1874 في فيينا. وهو منذ طفولته المبكرة أبدى اهتماماً بالموسيقى، كما أبدى موهبة خارقة في حفظ الأنغام والتنويع عليها، حتى وإن كانت أوضاعه العائلية لم تسمح له بارتياد دراسة موسيقية حقيقية، ذلك ان والده مات باكراً ما اضطره الى خوض ميدان العمل، حتى صار موظفاً في مصرف، من دون ان يبارح هوس الموسيقى خياله. ولعل أغرب ما في أمره انه بعدما تلقى من واحد من رفاقه بعض الدروس في علم الكونتربوان، بدأ يؤلف على سجيته... مثيراً قلق مستمعيه بتجديدات مبكرة، حتى وإن كانت أولى تكويناته نغمية خالصة. وكانت تلك هي الفترة التي ارتبط خلالها بصداقة مع مالر وريتشارد شتراوس، في برلين التي أقام فيها فترة مبكرة. والحال ان هذين وفرا له حماية جدية، ضامنين له نوعاً من القبول، وإن محدوداً. ومع هذا، يجب ألاّ ننسى ان موسيقاه كانت في ذلك الحين لا تزال نغمية الى حد ما. أما التجديد، فإنه لن يبدأ الا في العام 1908، ليكمل رغبته فيه عبر «بيارو القمري». بقي ان نذكر ان النازيين ما إن وصلوا الى السلطة حتى رأوا في أعمال شوينبرگ، كما في اعمال تلامذته، انحطاطاً للموسيقى، فما كان منه إلا ان هرب الى باريس، ومن ثم الى الولايات المتحدة حيث عاش بقية سنوات حياته منكبّاً على أعماله، واصلاً الى ذروة من الشهرة، مثيراً في كل مناسبة مِن حوله سجالات، يقيناً أنها لم تنته حتى يومنا هذا، على رغم مرور أكثر من ستة عقود على رحيله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
وصلات خارجية
- Pierrot Lunaire, Op. 21: Free scores at the International Music Score Library Project.
- Manuscript of the score at the Arnold Schönberg center
- Luna Nova New Music Ensemble: Arnold Schoenberg's Pierrot Lunaire A Study Guide featuring a complete performance
- Pierrot Lunaire Ensemble Wien Austrian ensemble for contemporary music
- [1] The Lied, Art Song, and Choral Texts Archive Created and maintained by Emily Ezust: the original text and translations in English and other languages.