( بسم الله الرحمن الرحيم: أدام الله على العلم وأهليه، والإسلام وبنيه، ما سوغهم وحباهم، ومنحهم وأعطاهم، من سبوغ ظل المولى الوزير، أعز الله أنصاره، وضاعف مجده واقتداره، ونصر ألويته وأعلامه، وأجرى بإجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه، وأطال بقاه، ورفع إلى عليين عُلاه، في نعمة لا يبلى جديدها، ولا يحصى عددها ولا عديدها، ولا ينتهي إلى غاية مديدها، ولا يفل حدها ولا حديدها، ولا يقل وادها ولا وديدها، وأدام دولته للدنيا والدين يلم شعثه، ويهزم كرثه، ويرفع مناره، ويحسن بحسن أثره آثاره، ويفتق نوره وأزهاره، وينير نواره، ويضاعف أنواره، وأسبغ ظله للعلوم وأهليها، والآداب ومنتحليها، والفضائل وحامليها، يشيد بمشيد فضله بنيانها، ويرصع بناصع مجده تيجانها، ويروض بيانع علائه زمانها، ويعظم بعلو همته الشريفة بين البرية شانها، ويمكن في أعلى درج الاستحقاق إمكانها ومكانها، ويرفع بنفاذ الأمر قدره للدول الإسلامية والقواعد الدينية، يسوس قواعدها، ويعز مساعدها، ويهين معاندها، ويعضد بحسن الإيالة معاضدها، وينهج بجميل المقاصد مقاصدها، حتى تعود بحسن تدبيره غرة في جبهة الزمان، وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان، يكون له أجرها ما دام الملوان وكر الجديدان، وما أشرقت من الشرق شمس، وارتاحت إلى مناجاة حضرته الباهرة نفس ".
" وبعد: فالمملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي، والمحل الأكرم العلي - أدام الله سعادته مشرقة النور مبلغة السول، واضحة الغرر بادية الحجول - ما هو مكتف بالأريحية المولوية عن تبيانه، مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن إمضاء قلمه لإيضاحه وبيانه، قد أحسبه ما وصف به عليه الصلاة والسلام المؤمنين، وإن من أمتي لمكلمين، وهو شرح ما يعتقده من الولاء، ويفتخر به من التعبد للحضرة الشريفة والاعتزاء، قد كفته الألمعية، عن إظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية، لأن دلائل غلو المملوك في دين ولائه في الآفاق واضحة، وطبعة سكة إخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهر لائحة، وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق حتى أصبح بها بناء المكارم متين، وتلاوته لأحاديث المجد القريبة الأسانيد بالمشاهدة لديه مبين، ودعاء أهل الآفاق إلى المغالاة في الإيمان بإمامة فضله الذي تلقاه باليمين، وتصديقه بملة سؤدده الذي تفرد بالتوخي لنظم شارده وضم متبدده بعرق الجبين، حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجها على من استطاع إليها السبيل، ويقتصر بقصدها على ذوي القدرة دون المعتر وابن السبيل، فإن لكل منهم حظاً يستمده، ونصيباً يستعد به ويعتده، فللعظماء الشرف الضخم من معينه، وللعلماء اقتناء الفضائل من قطينه، وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهر وغض جفونه، وفرضوا من مناسكه للجبهة الشريفة السلام والتبجيل، وللكف البسيطة الاستلام والتقبيل.
وقد شهد الله تعالى للمملوك أنه في سفره وحضره، وسره وعلنه وخبره ومخبره، شعاره تعطير مجالس الفضلاء، ومحافل العلماء بفوائد حضرته، والفضائل المستفادة من فضلته، افتخاراً بذلك بين الأنام، وتطريزاً لما يأتي به في أثناء الكلام:
- إذا أنا شرفت الورى iiبقصائدي على طمعٍ شرفت شعري بذكره
(يمنون عليك أن أسلموا، قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) لا حرمنا الله معاشر أوليائه مواد فضائله المتتالية، ولا أخلانا كافة عبيده من أياديه المتوالية.
اللهم رب الأرض المدحية، والسموات العلية، والبحار المسجرة، والرياح المسخرة، اسمع ندائي، واستجب دعائي، وبلغنا في معاليه، ما نؤمله ونرتجيه، بمحمد النبي وصحبه وذويه.
وقد كان المملوك لما فارق الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللباب والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدرار خلف الزمن الغشوم الجامح، اغتراراً بأن الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الإقتار ذل وإسقام، وحلس البيت، في المحافل سكيت:
- وقـفـت وقوف الشك ثم استمر iiبي يـقـيني بأن الموت خير من الفقر
- فـودعـت من أهلي وبالقلب ما به وسرت عن الأوطان في طلب اليسر
- وبـاكـيـة للبين قلت لها iiاصبري فـلـلموت خير من حياة على عسر
- سـأكـسـب مـالاً أو أموت iiببلدة يـقلُّ بها فيضُ الدموع على iiقبري
فامتطى غارب الأمل إلى الغربة، وركب مركب التطواف مع كل صحبة، قاطعاً الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد أو كاد، فلم يصحب له دهره الحرون، ولا رق له زمانه المفتون:
- إن الـلـيالي والأيام لو سئلت عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا
فكأنه في جفن الدهر قذى، أو في حلقه شجاً، يدافعه نيل الأمنية، حتى أسلمه إلى ربقة المنية:
- لا يـستقر بأرضٍ أو يسير إلى أخرى بشخصٍ قريب عزمه نائي
- يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ويو مـاً بـالعذيب ويوماً بالخليصاء
- وتـارة يـنـتـحي نجداً وآونة شـعـب الـحزون وطورا قصر تيماء
وهيهات مع حرفة الأدب، بلوغ وطر أو إدراك أرب، ومع عبوس الحظ، ابتسام الدهر الفظ ولم أزل مع الزمان في تفنيد وعتاب، حتى رضيت من الغنيمة بالإياب، والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزجيها، ويعلل المعيشة ويرجيها، متقنعا بالقناعة والعفاف، مشتملاً بالنزاهة والكفاف، غير راض بذلك السمل، ولكن مكره أخاك لا بطل، متسلياً بإخوان قد ارتضى خلائقهم، وأمن بوائقهم، عاشرهم بالألطاف، ورضي منهم بالكفاف، لا خيرهم يرتجى، ولا شرهم يتقى:
- إن كان لابد من أهل ومن وطن فـحيث آمنُ من ألقى ويأمنني
قد زم نفسه أن يستعمل طرفاً طماحاً، وأن يركب طرفاً جماحاً وأن يلحف بيض طمع جناحاً، وأن يستقدح زنداً وارياً أو شحاحاً:
- وأدبـني الزمان فلا iiأبالي هجرت فلا أزار ولا أزور
- ولست بقائل ما عشت يوماً أسار الجند أم رحل iiالأمير
وكان المقام بمرو الشاهجان، المفسر عندهم بنفس السلطان، فوجد بها من كتب العلوم والآداب، وصحائف أولى الأفهام والألباب، ما شغله عن الأهل والوطن، وأذهله عن كل خل صفي وسكن، فظفر منها بضالته المنشودة، وبغية نفسه المفقودة، فأقبل عليها إقبال النهم الحريص، وقابلها بمقام لا مزمع عنها ولا محيص، فجعل يرتع في حدائقها، ويستمتع بحسن خلقها وخلائقها، ويسرح طرفه في طرفها، ويتلذذ بمبسوطها ونتفها، واعتقد المقام بذاك الجناب، إلى أن يجاور التراب:
- إذا مـا الدهر بيتني بجيشٍ طـليعته اغتمام واغترابُ
- شننت عليه من جهتي كميناً أمـيـراه الـذبالة والكتابُ
- وبت أنص من شيم iiالليالي عجائب من حقائقها iiارتيابُ
- بها أجلو همومي iiمستريحاً كـما جلى همومَهمُ الشرابُ
إلى أن حدث بخراسان ما حدث من الخراب، والويل المبير والتباب، وكانت لعمر الله بلاداً مونقة الرجاء، رائقة الأنحاء، ذات رياض أريضة، وأهوية صحيحة مريضة، قد تغنت أطيارها، فتمايلت طرباً أشجارها، وبكت أنهارها، فتضاحكت أزهارها، وطاب روح نسيمها، فصح مزاج إقليمها، ولعهدي بتلك الرياض الأنيقة، والأشجار المتهدلة الوريقة، وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق خمر السحائب، فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحل، فلما رويت من تلك الصهباء أشجاره، رنحها من النسيم خماره، فتدانت ولا تداني المحبين، وتعانقت ولا عناق العاشقين، يلوح من خلالها شقائق قد شابه اشتقاق الهوى بالعليل، فشابه شفتى غادتين دنتا للتقبيل، وربما اشتبه على التحرير بائتلاف الخمر، وقد انتابه رشاش القطر، ويريه بهاراً يبهر ناضره، فيرتاح إليه ناظره، كأنه صنوج من العسجد، أو دنانير من الإبريز تنقد، ويتخلل ذلك أقحوان تخاله ثغر المعشوق إذا عض خد عاشق، فلله درها من نزهة رامق ولون وامق، وجملة أمرها أنها كانت أنموذج الجنة بلا مين، فيها ما تشتهي النفس وتلذ العين قد اشتملت عليها المكارم، وارجحنت في أرجائها الخيرات الفائضة للعالم، فكم فيها من حبر راقت حبره، ومن إمام توجت حياة الإسلام سيره، آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة، وفضائلهم في محاسن الدنيا والدين محسوبة، وإلى كل قطر مجلوبة، فما من متين علم وقويم رأي إلا ومن شرقهم مطلعه، ولا من مغربة فضل إلا وعندهم مغربه وإليهم منزعه، وما نشأ من كرم أخلاق بلا اختلاق إلا وجدته فيهم، ولا أعراق في طيب أعراق إلا اجتليته من معانيهم، أطفالهم رجال، وشبابهم أبطال، مشايخهم أبدال، شواهد مناقبهم باهرة، ودلائل مجدهم ظاهرة، ومن العجب العجاب أن سلطانهم المالك، هان عليه ترك تلك الممالك، وقال لتفسه الهوى لك، وإلا فأنت في الهوالك، وأجفل إجفال الرال، وطفق إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً بل رجال (كم تركوا من جناتٍ وعيون وزروعٍ ومقامٍ كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين)
لكنه عز وجل لم يورثها قوماً آخرين، تنزيهاً لأولئك الأبرار عن مقام المجرمين، بل ابتلاهم فوجدهم شاكرين، وبلاهم فألفاهم صابرين، فألحقهم بالشهداء الأبرار، ورفعهم إلى درجات المصطفين الأخبار (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون) فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزيغ والعناد، فأصبحت تلك القصور، كالممحو من السطور، وأمست تلك الأوطان مأوى الأصداء والغربان، تتجاوب في نواحيها البوم، وتتناوح في أراجيها الريح السموم، ويستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمصابها إبليس:
- كـأن لـم يكن فيها أوانس iiكالدمى وأقـيـال مـلـك في بسالتهم iiأسد
- فـمـن حاتم في وجوده وابن iiمامة ومـن أحنف إن عد حلم ومن iiسعد
- تداعى بهم صرف الزمان فأصبحوا لـنـا عبرة تدمي الحشا ولمن iiبعد
فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر، وتهدم العمر، وتفت في العضد، وتوهي الجلد، وتضاعف الكمد، وتشيب الوليد، وتنخب لب الجليد، وتسود القلب، وتذهل اللب.
فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه، ناكساً، ومن الأوبة إلى حيث تستقر في النفس بالأمن آيساً، بقلب واجب، ودمع ساكب، ولب عازب، وحلم غائب، وتوصل وما كاد حتى استقر بالموصل بعد مقاساة أخطار، وابتلاء واصطبار، وتمحيص الأوزار، وإشراف غير مرة على البوار والتبار، لأنه مر بين سيوف مسلولة، وعساكر مفلولة، ونظام عقود محلولة، ودماء مسكوبة مطلولة، وكان شعاره كلما علا قتبا، أو قطع سبسباً (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)
فالحمد لله الذي أقدرنا على الحمد، وأولانا نعماً تفوت الحصر والعد، وجملة الأمر أنه لولا فسحة في الأجل، لعز أن يقال سلم البائس أو وصل، ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون، وألحق بألف ألف ألف ألف ألف هالك بأيدي الكفار أو يزيدون، وخلف خلفه جل ذخيرته، ومستمد معيشته:
- تـنـكر لي دهري ولم يدر iiأنني أعـز وأحـداث الـزمان iiتهون
- وبات يريني الخطب كيف اعتداؤه وبـت أريـه الصبر كيف iiيكون
وبعد، فليس للملوك ما يسلي به خاطره، ويعزي به قلبه وناظره، إلا التعلل بإزاحة العلل، إذا هو بالحضرة الشريفة مثل:
- فاسلم ودم وتمل العيش في iiدعة فـفي بقائك ما يسلي عن iiالسلف
- فأنت للمجد روح والورى iiجسدٌ وأنت درُّ فلا تأسى على الصدف
والمملوك الآن بالموصل مقيم، يعالج لما حزبه من هذا الأمر المقعد المقيم، يزجي وقته، ويمارس حرفته، وبخته يكاد يقول له باللسان القويم (تالله إنك لفي ضلالك القديم) يذيب نفسه في تحصيل أغراض، هي لعمر الله أعراض، من صحف يكتبها، وأوراق يستصحبها، نصبه فيها طويل، واستمتاعه بها قليل، ثم الرحيل، وقد عزم بعد قضاء نهمته، وبلوغ بعض وطر قرونته، أن يستمد التوفيق، ويركب سنن الطريق، عساه أن يبلغ أمنيته، من المثول بالحضرة، وإتحاف بصره من خلالها ولو بنظرة، ويلقى عصا الترحال بفنائها الفسيح، ويقيم تحت ظل كنفها إلى أن يصادفه الأجل المريح، وينظم نفسه في سلك مماليكها بحضرتها، كما ينتمي إليها في غيبتها، إن مدت السعادة بضبعه، وسمح له الدهر بعد الخفض برفعه، فقد ضعفت قواه عن درك الآمال، وعجز عن معاركة الزمان والنزال، إذ ضمت البسيطة إخوانه، وحجب الجديدان أقرانه، ونزل المشيب بعذاره، وضعفت منة أوطاره، وانقض باز على غراب شبابه فقنصه، وأكب نهار الحلم على ليل الجهل فوقصه، وتبدلت محاسنه عند أحبابه مساوي وخصصه، واستعاض من حلة الشباب القشيب، خلق الكبر والمشيب:
- وشباب بان مني وانقضى قبل أن أقضي منه iiأربي
- مـا أرجّي بعده إلا iiالفنا ضيّق الشيب عليّ مطلبي
ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل غناء الباكي على من عد في الرفات:
- تنكر لي مذ شبتُ دهري وأصبحت مـعـارفـه عـندي من iiالنكرات
- إذا ذكـرتـها النفس حنت صبابةً وجـادت شـؤون العين iiبالعبرات
- إلـى أن أتى دهر يحسن ما iiمضى ويـوسـعـنـي تذكاره iiحسرات
- فكيف ولِمْ لَمْ يبق من كاس iiمشربي سـوى جـرع فـي قعره iiكدرات
- وكـل إنـاء صـفـوه في iiابتدائه وفـي الـقـعر مزجاً حمأةٍ iiوقذاة
والمملوك يتيقن أنه لا ينفق هذا الهذر الذي مضى، إلا النظر إليه بعين الرضا، ولرأي المولى الوزير الصاحب، كهف الورى في المشارق والمغارب، فيما يلاحظه منه بعادة مجده، مزيد مناقب ومراتب، والسلام).
|