الثورة الجليلة
| ||||||||||||||||||||||||||||||||
|
الثورة الإنجليزية أو الثورة المجيدة (أيرلندية: An Réabhlóid Ghlórmhar، غالية اسكتلندية: Rèabhlaid Ghlòrmhor أو ويلزية: Chwyldro Gogoneddus؛ Glorious Revolution) نشبت في نوفمبر 1688 ضد طُغيان الملَكية، وقد تمثّل نجاحها في عزل الملك جيمس الثاني.
وتنصيب ابنته ماري وزوجها وليم اورانج ملكين على إنجلترا. كما تمثّل ذلك النجاح بشكل واضح في "إعلان الحقوق" الذي أصدره البرلمان الإنجليزي عام 1689، وقد استعرض إعلان الحقوق المظالم التي ارتكبها الملك جيمس الثاني في حقِّ الشعب، واشترط على الملك الجديد عدم القيام بأي عمل يؤدي إلى الانتقاص من حقوق الشعب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خلفية
من ذا الذي كان يستطيع أن يتخيل حين يقع بصره على الصورة التي رسمها فان دايك في اللونين الأزرق والذهبي لدوق يورك وهو في الثانية من عمره أن هذا الطفل البريء الحي سيقضي قضاء مبرماً على أسرة ستيوارت ويكمل آخر الأمر، وفي "الثورة الجليلة" انتقال السلطة من الملك إلى البرلمان، وهو ما كان أبوه قد بدأه بشكل مخز من قبل؟ ولكن في الصورة التي رسمها رايلي للشخص عينه تحت اسم جيمس الثاني، نجد أن الحياء قد انقلب إلى ذهول وارتباك. وأن الحساسية تغيرت إلى عناد وتصلب، وأن البراءة تحولت بين أعضاء العشيقات المذعنات الطيعات إلى لاهوت جامد لا ينثني. فما كان إلا أن حدد هذا الخلق لصاحبه مصيراً كان كل فريق يناضل من أجل ما يبدو له هو أنه حق، ومن ثم يستحق منا بعض العطف.
لقد أوردنا من قبل ذكر فضائل جيمس الثاني، فكم من مرة عرض نفسه لخطر الموت في عمله في البحرية. ووازن الناس بينه وبين أخيه، موازنة مرضية، في النشاط الحكومي والإداري، والاعتدال في الإنفاق، وفي ارتباطه بكلمته. أنه استمسك بما أوصاه به شارل وهو يحتضر، من العناية بأمر نل جوين، فسدد ديونها، وخصص لها ضيعة تكفل لها رغد العيش. وبعد ارتقائه العرش ظل لبعض الوقت على علاقته مع آخر عشيقاته كاترين سدلي. ولكنه بناء على اعتراضات الأب بنز أجزل لها العطاء على خدماتها وأقنعها بمغادرة إنجلترا، لأنه اعترف بأنه إذا وقع بصره عليها ثانية فإنه لا يملك فكاكاً من سلطانه عليه. إن الأسقف بيرنت الذي ساعد على خلعه، حكم عليه بأنه "صريح مخلص بطبيعته، ولو أنه في بعض الأحيان متلهف محب للانتقام، صديق ثابت على العهد، إلى أن أفسدت عقيدته الدينية مبادئه وميوله الأولى" وكان مقتصداً ينمي ثروته بسرعة، ولم يعمد قط إلى غش العملة، كما كان رحيماً بالشعب في موضوع الضرائب. إن ماكولي بعد أن دون ثمانمائة صحيفة عن حكم جيمس الذي لم يدم لأكثر من ثلاثة أعوام، انتهى إلى "أنه تنحى بمناقب كثيرة، إلى حد أنه لو كان بروتستانتياً، لا بل كاثوليكاً معتدلاً، لكان عصره عصراً زاهراً مجيداً".
وتفاقمت أخطاؤه بنمو سلطانه. وكان مغروراً متعجرفاً حتى قبل اعتلائه العرش، ينظر إلى معظم الناس باحتقار، لا يفتح قلبه إلا لقلة منهم، وتمسك تمسكاً حرفياً بنظرية أبيه، وهي أنه ينبغي أن يكون للملك مطلق السلطة، ولم يكن له المزاج الواقعي الذي كان لأخيه والذي أدرك به الحدود العملية لهذه السلطة المطلقة. ويجدر بنا أن نقدر حق التقدير غيرته الدينية، ورغبته في منح إخوانه الكاثوليك في إنجلترا حرية العبادة والمساواة في الحقوق السياسية. وكان مخلصاً لأمه وأخته الكاثوليكتين، وكان طوال الخمسة عشر عاماً السابقة محاطاً بالكاثوليك في بيته، وكان موضع استغراب عنده أن الديانة التي أنجبت مثل هذا العدد الكبير من أفاضل الرجال وفضليات النساء، يضع الإنجليز أمامها العراقيل ويبغضونها ويحدون من انتشارها. ولم يشاطر البروتستانت ما تناقلوه من ذكريات حية في أذهانهم عن مؤامرة البارود، أو خوفهم من أن يولي عليهم ملك كاثوليكي، يميل عاجلاً أو آجلاً ويقتنع، بانتهاج سياسة ترضي البابا الإيطالي. أن إنجلترا البروتستانتية كانت تشعر بأن أي ملك كاثوليكي لا بد أن يعرض للخطر استقلالها الديني والفكري والسياسي.
إن تصرفات جيمس الأول بعد ارتقائه العرش خفضت من هذه المخاوف شيئاً قليلاً: أنه عين هاليفاكس رئيساً لمجلس الملك، وسندرلند وزيراً، وهنري هايد (أرل كلارندون الثاني) حاملاً لأختام الملك، وكل هؤلاء من البروتستانت. وفي أول خطاب له في هذا المجلس وعد بالإبقاء على نظم الكنيسة والدولة، وعبر عن تقديره لتأييد كنيسة إنجلترا لاعتلائه العرش، ووعد بأن يوليها عناية خاصة. وعند تتويجه أدى اليمين المألوفة لدى ملوك إنجلترا الحديثين، بالمحافظة على الكنيسة الرسمية وحمايتها. وحظي الملك جيمس الثاني لعدة شهور بشعبية لم تكن متوقعة.
وأول إجراء مؤيد للكاثوليكية اتخذه جيمس، لم يكن يحمل عدواناً مباشراً على البروتستانت. أنه أمر بالإفراج عن كل المسجونين بسبب رفضهم تأدية قسم الولاء والسيادة. وبهذا أفرج عن آلاف من الكاثوليك، بل أخلى معهم سبيل ألف ومائتين من الكويكرز وكثير من المنشقين غيرهم. ومنع إقامة الدعوى بعد ذلك في المسائل الدينية. وأطلق سراح دانبي واللوردات الكاثوليك الذين أودعوا السجن بناء على اتهامات تيتسي أوتس. وحوكم أوتس من جديد وأدين بتهمة الإيمان الكاذبة التي أدت إلى إعدام عدد من الأبرياء، وأعربت المحكمة هن أسفها لأنها لم تستطع الحكم عليه بالإعدام، وحكمت عليه بغرامة قدرها ألفان من الماركات، وأن يربط خلف عربة ويجلد بالسياط مرتين علانية، والأولى من أولدجيت إلى نيوجيت، والمرة الثانية بعد الأولى بيومين، من نيوجيت إلى تايبيرن، وأن يوضع على آلة التعذيب، المشهرة، خمس مرات سنوياً طيلة بقائه على قيد الحياة. وعاش أوتس بعد هذا التعذيب، وأعيد إلى السجن (مايو 1685) وطلبوا إلى الملك إعفاءه من الجلد للمرة الثانية، ولكنه رفض.
وتحطمت الهدنة المزعزعة بين الشيع الدينية بثورة مزدوجة. ذلك أنه في مايو نزل أرشيبالد كامبل، إرل أرجيل العاشر، في اسكتلندة، وفي يونيه رسا جيمس ودوق مونموث على الشاطئ الجنوبي الغربي لإنجلترا، وفي مسعى مشترك لخلع الملك الكاثوليكي. وأصدر مونموث بلاغاً وصم فيه الملك جيمس بأنه غاصب طاغية سفاح، كما اتهمه بإحراق لندن والمؤامرة البابوية، ودس السم لشارل الثاني، وتعهد الغزاة ألا يضعوا السلاح أو يكفوا عن القتال حتى يخلصوا البروتستانتية وحريات الشعب والبرلمان. ومني أرجيل بالهزيمة في 17 يونية، وأعدم في 30 يونية، وبذلك أخفق الجناح الشمالي للثورة. ولكن أهالي دورستشير-وهم بيوريتانيون شديدو التمسك بمذهبهم-رحبوا بمونموث وحيوه مخلصاً ومنقذاً لهم. وانضم تحت لوائه عدد كبير جداً من الناس، إلى حد أنه في ثقة وجلال ومهابة، اتخذ لقب جيمس الثاني ملك إنجلترا. ولم يقدم له الأشراف والطبقات الغنية أي عون أو تأييد. وهزم جيشه المختل النظام على يد القوات الملكية في سدجمور (6 يولية 1685) وهذا آخر حرب جرى فيها القتال على تراب إنجلترا قبل الحرب العالمية. ولاذ مونمورث بالهرب، وتوسل إلى الملك أن يعفو عنه فأبى، وضرب عنقه.
وتعقب جيش الملك، بقيادة برس كيرك، فلول الثوار، وشنق الأسرى دون محاكمة. وشكل جيمس لجنة يرأسها قاضي القضاة جفريز، لتذهب إلى المنطقة الغربية لتحاكم الأشخاص المتهمين بالإنضمام إلى الثورة أو التحريض عليها. وسمح للمحلفين بالاشتراك في المحاكمات، باعتبار أن هذا من حق المتهمين، ولكن جفريز قذف المحلفين الرعب، حتى أن قلة قليلة من المتهمين هي التي أصابت شيئاً من الرحمة لدى هذه "المحكمة الدموية" (سبتمبر 1685). وشنق نحو أربعمائة، وحكم على ثمانمائة بالعمل الإجباري في مزارع جزر الهند الغربية. وكانت اليزابيث في 1569 وكرومل في 1648، وقد اتهما قبل ذلك هذه الأعمال الوحشية، ولكن جفريز تفوق عليهما في إرهاب المتهمين والمحلفين والتجهم والعبوس، وصب اللعنات على ضحاياه، والتحديق في وجوههم في كثير من الخبث، والإدانة لمجرد الشك، إلا إذا ساعدت رشوة مجزية على إقناعه بالبراءة. وبذل جيمس جهوداً متواضعة ليضع حداً للوحشية، ولكن ما أن تمت الإبادة الكاملة وخمدت النار المحرقة حتى رفع جفريز إلى مرتبة النبلاء، وعينه رئيساً لمجلس اللوردات (6 سبتمبر 1686).
وأسهم هذا الإجراء الانتقامي في إبعاد النبلاء عن الملك. وعندما كلب من البرلمان إلغاء "قانون الاختيار" (الذي يقضي بإقصاء الكاثوليك عن الوظائف ومقاعد البرلمان) وتعديل قانون "حق التحقيق في قانونية الاعتقال" وإنشاء جيش تحت إمرة الملك، لم يستجب البرلمان لشيء من هذا. فعطله جيمس (20 نوفمبر) وأخذ يعين الكاثوليك في الوظائف العامة. ولما أعترض هاليفاكس على امتهان البرلمان على هذا النحو، عزله جيمس من المجلس. وأحل محله، رئيساً للمجلس، سندرلند الذي أعلن تحوله إلى الكاثوليكية على الفور (1687). وحين امتدح جيمس إلغاء لويس الرابع لرسوم نانت استنتجت إنجلترا أنه لو تمتع جيمس بمثل هذه السلطة المطلقة التي يتمتع بها البوربون، لما تردد في اتخاذ خطوات مماثلة ضد البروتستانت في إنجلترا. ولم يخف جيمس اعتقاده بأن سلطته الآن باتت مطلقة بالفعل، وأن لويس الرابع عشر في نظره هو لمثل الأعلى للملك. وقبل الإعانات من لويس لفترة من الزمن، ولكنه أبى عليه أن يملي سياسة الحكومة الإنجليزية. فتوقفت الإعانات.
وكان لويس أكثر تعقلاً فيما يتعلق بإنجلترا منه بالنسبة لبلاده. وعلى حين أنه أضعف فرنسا باضطهاده الهيجونوت، نراه يحذر جيمس من مغبة التسرع في تحويل إنجلترا إلى الكاثوليكية. كما أن البابا إنوسنت الحادي عشر زود جيمس بمثل هذه النصيحة. وعندما أرسل إليه الملك الإنجليزي يعده بقرب انضواء إنجلترا تحت راية الكنيسة الكاثوليكية في روما، نصحه الباب بأن يقنع بالحصول على التسامح الديني للكاثوليك الإنجليز، كما حذر هؤلاء أن يكفوا عن الأطماع السياسية، ووجه رئيس الجزويت لتعنيف الأب بنز ولومه على القيام بمثل هذا الدور الخطير في الحكومة. إن البابا أنوسنت لم يخفف من غيرته الكاثوليكية، ولكنه كان يخشى قوة لويس الرابع عشر التي تبتغي التطويق والسيطرة، كما كان يأمل في إمكان تحويل إنجلترا من مجرد تابع أو خادم ذليل للسياسة الفرنسية ومشروعاتها إلى قوة متوازنة ضدها. وأوفد البابا مبعوثاً بابوياً-للمرة الأولى منذ عهد ماري تيودور -ليوضح لجيمس أن أي تصدع في العلاقة بين البرلمان والملك لا بد أن يضر بالكنيسة الكاثوليكية.
ولم يستفد جيمس من هذا النصح. إنه أحس، وكان في الثانية والخمسين حين اعتلى العرش، أنه قد لا يتيسر له فسحة من الأجل لتنفيذ التغييرات الدينية التي ينشدها والتي يجيش بها صدره، ولم يؤمل كثيراً في أن ينجب ابناً، وهنا قد تخلفه ابنته البروتستانتية، وتقلب عمله رأساً على عقب، إلا إذا أقيم هذا العمل على أساس وطيد راسخ قبل موته. وطغت آراء الأب بنز والملكة وسلطانهما على كل نصح بالتروي والتريث. ولم يكتف الملك بالذهاب إلى القداس، تحفه الجلالة والمهابة لملكية، بل طلب كذلك إلى مستشاريه أن يلحقوا به لحضور القداس. وتكاثر الأساقفة حول الحاشية، وعين الكاثوليك في المناصب العسكرية، وحرض القضاة (الذين كان له حق تعيينهم وعزلهم) على توكيد حقه في إعفاء هؤلاء المعينين من العقوبات التي فرضها عليهم "قانون الاختبار". وجند، تحت إمرة ضباط أغلبهم من الكاثوليك، جيشاً قوامه ثلاثة عشر ألف رجل لا يخضعون إلا لأوامره هو، وواضح أن مثل هذا الجيش كان يهدد استقلال البرلمان. وعطل العمل بالقانون الذي يفرض العقوبات على حضور العبادة الكاثوليكية علانية.وأصدر في يونية 1686 مرسوماً يحرم على رجال الدين إلقاء عظات في الخلافات المذهبية. ولما خطب الدكتور جون شارب في "دوافع المرتدين" أمر جيمس بوصفه الرئيس الشرعي للكنيسة الإنجليزية، هنري كمبتون أسقف لندن، بفصل شارب مؤقتاً من سلك رجال الكنيسة الأنجليكانية، فرفض كمبتون. فعين جيمس، متجاهلاً قانوناً صدر في 1673، "محكمة كنسية" جديدة، سيطر عليها سندرلند وجفريز، وحاكمت كمبتون بتهمة شق عصا الطاعة على التاج، وعزلته من وظيفته.وبدأت الآن الكنيسة الأنجليكانية،التي كانت قد التزمت من قبل بالطاعة المطلقة، نقول بدأت للملك ظهر المجن.
أن الملك جيمس كان يأمل في كسب الكنيسة الأنجليكانية إلى جانب المصالحة والتراضي مع روما، ولكن تصرفه المتهور قضى الآن على هذه السياسة. وبدلاً من ذلك انتهج سياسة التوحيد بين الكاثوليك والمنشقين ضد الكنيسة الرسمية. أن وليم بن الذي وجد طريقه إلى قلب الملك وأحرز ثقته، نصحه بأنه يستطيع أن يظفر بالتأييد الحار من جانب كل البروتستانت الإنجليز، فيما عدا الأنجليكانيين إذا هو بجرة قلم ألغى القوانين التي تحرم العبادة العلنية على فرق المنشقين وفي 4 أغسطس 1687 أصدر جيمس أول "إعلان للتسامح" في عهده. ومهما تكن دوافع الملك، فإن هذه الوثيقة تحتل مكاناً في تاريخ التسامح الديني. إنه ألغى كل قوانين العقوبات فيما يتعلق بالديانة، وأبطل كل الاختبارات الدينية، ومنح الحرية الدينية للجميع،وحظر التدخل في شئون الاجتماعات الدينية المسالمة. وأخلى سبيل كل المسجونين بسبب الخلافات الدينية. أن هذا الإعلان ذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه إعلانات التسامح في عهد شارل الثاني، التي كانت قد أبقت على الاختبار الديني لمن يتولون الوظائف، وسمحت بالعبادة الكاثوليكية داخل الدور الخاصة فقط. وأكد للكنيسة الرسمية أن الملك سيواصل حمايته لها في كل حقوقها القانونية.ومما يدعو إلى الأسى والأسف أن هذا الإجراء قدر له أن يكون إعلاناً ضمنياً للحرب على البرلمان، الذي كان قد سن من قبل كل القيود وعدم الأهلية التي ألغيت الآن. ولو سلم البرلمان بسلطة الملك في إلغاء التشريعات البرلمانية لكان لزاماً أن تنشب الحرب الأهلية من جديد.
ودخل هاليفاكس الذي كان في هاتيك الأيام ألمع عقلية في إنجلترا، المعركة بكتيب لا يحمل اسم المؤلف بعنوان "رسالة إلى منشق" (أغسطس 1687) -"أكثر النشرات توفيقاً في هذا العصر" حث فيه البروتستانت أن يكونوا على يقين من أن هذا التسامح الذي قدم إليهم الآن، صدر عن ملك موال لكنيسة تدعي العصمة من الخطأ، وتنكر التسامح صراحة. وهل يمكن أن يكون ثمة انسجام دائم بين حرية الفكر والضمير وبين كنيسة لا تخطئ؟ وكيف يطمئن المخالفون إلى أصدقائهم الجدد الذين دمغوهم بالأمس القريب بأنهم هراطقة؟ "كنتم بالأمس أبناء الشيطان، وأنتم اليوم ملائكة النور". ومن سوء الحظ أن الكنيسة الأنجليكانية كانت قد اتفقت مع روما فيما يتعلق بأبناء الشيطان، وأنها في السنوات السبع والعشرين الأخيرة أخضعت مخالفيها لألوان من الاضطهاد والتعذيب تعفيهم من قبول الحرية حتى على أيد كاثوليكية. وأسرع رجال الدين الأنجليكانيون إلى التماس التصالح مع المشيخيين والبيورتانيين والكويكرز، وتوسلوا إلى هؤلاء جميعاً أن يرفضوا التسامح الراهن، ووعدوهم على الفور بتسامح يحظى بموافقة كل عن البرلمان والكنيسة الرسمية. وبعث بعض المخالفين بخطابات شكر إلى الملك، ولكن الأغلبية كانت بجانبها في تحفظ. وعندما حانت ساعة الفصل نبذ الجميع الملك.
وتابع جيمس خطواته. لقد تطلبت جامعات إنجلترا لعدة سنوات مضت من أساتذتها وطلبتها الالتزام بمذهب الكنيسة الأنجليكانية، ولم يستثن من ذلك إلا منح درجة لطالب لوثري، ومنح درجة فخرية لدبلوماسي مسلم، على أن القساوسة الأنجليكانيين رأوا في أكسفورد وكمبردج هيئات وظيفتها الرئيسية إعداد الرجال لقبول المذهب الأنجليكاني، وتقرر ألا يلتحق بهما أي كاثوليكي. ورغبة في كسر هذا القيد أرسل جيمس، إلى نائب رئيس جامعة كامبردج رسالة يلزمه فيها بأن يستثني من الأنجليكاني راهباً بندكتياً يعي للحصول على درجة الأستاذية. ورفض نائب رئيس الجامعة ففصل بأمر من لجنة المحكمة الكنسية. فأرسلت الجامعة وفداً من بين أعضائه ايزاك نيوتن، ليشرح للملك موقف لجامعة. ولكن الراهب حل المشكلة بالانسحاب (1687). وفي نفس العام رشح الملك لرياسة كلية مجدلن في أكسفورد، رجلاً لا يتمتع بغزارة العلم، ولكنه ذو ميول كاثوليكية،فرفض الزملاء انتخابه، وبعد نزاع طويل اقترح الملك مرشحاً ليس عليه إلا اعتراض أيسر من سابقه، وهو باركر أسقف أكسفورد الأنجليكاني، ولكن الزملاء الذين يشكلون الهيئة الانتخابية رفضوه كذلك، ففصلوا بأمر من الملك، وعين الأسقف باركر قسراً.
واشتدت وطأة الاستياء عندما ارتمى الملك أكثر فأكثر في أحضان مستشاريه الكاثوليك. وكان إعجابه بالأب بتر شديداً إلى حد الإلحاف على البابا برسمه أسقفاً، بل كاردينالاً، ولكن أنوسنت أبى. وفي يوليه 1687 عين جيمس الجزويتي القدير، ولكن المستهتر، عضواً في المجلس المخصوص (الملكي)، فاحتج كثير من الكاثوليك الإنجليز بأن هذا تصرف طائش، ولكن جيمس كان في عجلة من أمره ليصل بالنضال إلى غايته. وكان في هذا المجلس الآن ستة من الكاثوليك، مكنت لهم حظوتهم لدى الملك من السيطرة والغلبة. وفي 1688 عين أربعة من الأساقفة الكاثوليك لإدارة شئون الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا، وخصص جيمس لكل منهم راتباً سنوياً قدره ألف جنيه، والواقع أن الكاثوليك شاركوا الآن الأنجليكان في أنه أصبح لكل من الفريقين كنيسة تساندها وتعاونها الدولة.
ووفي 25 أبريل 1688 جدد جيمس نشر "إعلان التسامح" الذي مضى على صدوره عام واحد، وأكد فيه من جديد عزمه على توفير حرية الفكر والضمير" لكل الإنجليز إلى الأبد. فمن الآن فصاعداً لا بد أن يعتمد التعيين في الوظائف والترقي فيها على الجدارة الشخصية لا المذهب الديني. وتنبأ بأن الإقلال من الخلافات الدينية لا بد أن يفتح أسواقاً جديدة للتجارة الإنجليزية، ويزيد من ازدهار الأمة ورخائها.وتوسل إلى رعاياه أن يطرحوا جانباً كل الأحقاد، وينتخبوا البرلمان الجديد دون تمييز بين المذاهب الدينية، والتحقق من انتشار هذا الإعلان الموسع على أوسع نطاق ممكن، أصدر مجلس الملك توجيهاتها إلى كل الأساقفة ليرتبوا مع كل رجال الدين أمر تلاوته في كل كنيسة في الأقاليم في إنجلترا، يوم 20 أو 27 مايو. واستخدم رجال الدين على هذا النحو، وسيلة للاتصال بالجماهير، أمر له سوابقه الكثيرة في إنجلترا. ولكن لم تكن الرسالة قط يوماً بغيضة إلى الكنيسة الرسمية إلى مثل هذا الحد. وفي 18 مايو رفع سبعة أساقفة أنجليكانيين إلى الملك ظلامة أوضحوا فيها أنهم لم ترتض ضمائرهم أن يوصوا قساوستهم بتلاوة الإعلان، لأنه يخرق قرار البرلمان بأنه لا يجوز إلغاء تشريع برلماني إلا بموافقة البرلمان نفسه، فأجاب جيمس بأن رجال اللاهوت هم الذين كانوا يلحون على عظاتهم وخطبهم دوماً على ضرورة الامتثال للملك وطاعته بوصفه رئيساً للكنيسة، وأنه ليس في الإعلان ما يخدش أو يسيء إلى كرامة أحد. ووعد بأنه سوف ينظر في ظلامتهم، ولكنهم إن يتلقوا منه رداً في الغد فعليهم أن يذعنوا لأمره.
وفي صبيحة اليوم التالي بيعت آلاف النسخ من هذه الظلامة في شوارع لندن، في الوقت التي ما زالت فيه قيد البحث عند الملك. وأحس جيمس بأن هذا يجافي قواعد اللياقة، وعرض الظلامة على القضاة الاثني عشر في المحكمة الملكية، فأشاروا بأنه تصرف في حدود حقوقه المشروعية. ومن ثم أغفل الرد على الظلامة. وفي 20 مايو تليت الظلامة في أربع كنائس في لندن، وتجاهلوها في الكنائس الست والتسعين الباقية. وشعر الملك بأن سلطته قد امتهنت، وأمر الأساقفة السبعة بالمثول أمام المجلس. فلما جاءوا أبلغهم بأن عليهم أن يخضعوا للمحاكمة بتهمة نشر طعن أو قذف فيه تحريض على الفتنة، وعلى أية حال فإنهم لكي يتفادوا السجن في الحال، يمكن أن يقبل الملك منهم وعداً كتابياً بالحضور عند استدعائهم. فأجابوه بأنهم بوصفهم من أشراف المملكة، ليسوا في حاجة إلى تقديم أي ضمان سوى كلمتهم. وأحالهم المجلس إلى برج لندن (السجن) وحياهم الأهالي وهتفوا لهم على الجانبيين عند نقلهم عبر نهر التيمز.
وفي يومي 29 و30 يونيه حاكم الأساقفة السبعة-أمام محكمة الملك-أربعة قضاة مع هيئة المحلفين. وبعد يومين من مناقشات حادة في قاعه يحيط بها عشرة آلاف من أهالي لندن المهتاجين، أصدر المحلفون حكماً بعدم الإدانة. وابتهجت كل إنجلترا البروتستانتية، وقال أحد النبلاء الكاثوليك "لن تع ذاكرة الإنسان قط مثل هذه الصيحات والهتافات ودموع الفرح التي حدثت اليوم "وتوجهت الشوارع بالمشاعل والنيران التي أضرمت في الهواء الطلق. وسار الناس في موكب خلف شخوص من الشمع تمثل البابا والكاردينالات والجزويت، أحرقت وسط احتفالات صاخبة. إن هذا الحكم كان يعني عند البسطاء من الناس أنه لا ينبغي التسامح مع الكاثوليكية، وعند ذوي الإدراك الأوسع أو العقل الأنضج كان يعني تثبيت حق البرلمان في سن قوانين ليس للملك أن يبطلها،وأن إنجلترا، في الواقع، وحتى ولو لم تكن من الناحية النظرية، ملكية دستورية، لا ملكية مطلقة.
على أن جيمس الذي عراه الاكتئاب والحزن بسبب الهزيمة، أخذ يتعزى بالطفل الذي وضعته له الملكة في 10 يونيه، بل الموعد المتوقع للولادة بشهر، وفي مقدوره أن ينشئ هذا الولد النفيس تنشئة قوامها الولاء والإخلاص للكاثوليكية،وكان يمكن لوالد والولد، في وجه أية معارضة أو معوقات، أن يقتربا يوماً بعد يوم خطوة من الهدف المقدس-ألا وهو الملكية القديمة، تعيش في وئام ووفاق مع الكنيسة، وفي إنجلترا يسودها الهدوء والسلام والتراضي، في أوربا نادمة على ارتدادها عن عقيدتها، موحدة في ظل هذه العقيدة الحقه وحيدة العالمية.
الإطاحة بالعرش والملك في المهد
ربما كانت هذه الولادة لتي جاءت قبل الأوان هي التي جلبت الكارثة على رأس الملك المتهور. واتفقت إنجلترا البروتستانتية مع جيمس في أن هذا الولد قد يواصل السعي لإعادة الكثلكة، ومن ثم يمكن القول بأنها خشيته لنفس السبب الذي أحبه الملك من أجله وأنكرت إنجلترا البروتستانتية في أول الأمر، بنوة الطفل الملك. واتهمت الجزويت بأنهم دسوا إلى مخدع الملكة وليداً اشتروه، كجزء من مؤامرة أرادوا منها إبعاد الابنة البروتستانتية ماري عن وراثة العرش. وانعطفت إنجلترا أكثر فأكثر نحو ماري، على أنها أمل البروتستانتية الإنجليزية، ووطنت النفس على القيام بثورة أخرى لإجلاس ماري على العرش لتكون ملكة إنجلترا.
ولكن ماري كان آنذاك زوجة وليم أورانج الثالث، رئيس الدولة في المقاطعات المتحدة. ماذا يقول وليم المزهو بنفسه في أنه مجرد زوج الملكة؟ لماذا لا يعرض عليه الاشتراك في الحكم مع ماري؟وفوق كل شيء، انه هو أيضاً يجري في عروقه الدم الملكي الإنجليزي. أن أمه كانت ماري أخرى، وكانت ابنة شارل الأول. ليس في نية وليم على أية حال أن يلعب دور الزوج للزوجة الملكة. ومن الجائز أن الأسقف بيرت-الذي كان قد اتخذ سبيله إلى القارة هرباً، عند ارتقاء جيمس العرش-أقنع ماري، بإيعاز من وليام، أن تتعهد بالطاعة التامة لوليم "في كل الأمور" أياً كانت السلطة التي تخولها التصرف فيها،فوافقت على "أن يكون الحكم والسلطة في يديه هو، لأنها لا ترغب إلا في أن يعمل هو بالوصية التي تقول: أيها الأزواج أحبو زوجاتكم، كما تعمل بالوصية التي تقول: أيها الزوجات أطعن أزواجكن في كل شيء" وتقبل وليام الطاعة،ولكنه تجاهل التلميح الرقيق إلى علاقته بعشيقته السيدة فليير، فإن الحكام البروتستانت أيضاً، يحوز لهم فوق كل شيء، أن يخدعوا أو يخونوا زوجاتهم.
إن وليام الذي يحارب لويس الرابع عشر حفاظاً على استقلال هولنده والبروتستانتية، راوده الأمل لبعض الوقت في كسب والد زوجته (جيمس) في تحالف ضد ملك فرنسا الذي كان يحطم توازن القوى والحريات في أوربا، ولما خاب فأله، عمد إلى التفاوض مع الإنجليز الذين تزعموا حركة المقاومة ضد جيمس. إنه تغاضى من قبل عن الحملة التي نظمها مونمورث على الأرض الهولندية ضد الملك جيمس، وسمح لها بالإقلاع من أحد الثغور الهولندية دون عائق، وخشي بحق أن يكون جيمس قد دبر خطة لإعلان عدم أهليته لوراثة عرش إنجلترا. ومتى ولد الملك ابن فمن الواضح أن يسقط حق ماري في العرش. وفي أوائل 1687 أوفد وليم افرهارد فان ديكفلت إلى إنجلترا ليقيم علاقات ودية مع زعماء البروتستانت. وعادت البعثة برسائل مبشرة من مركيز هاليفاكس، وأرسل شروزبري وإرل كلارندن (ابن رئيس اللوردات السابق) ومن دانبي، والأسقف كمبتون وغيرهم. وكانت الرسائل غامضة مبهمة إلى حد لا ينم عن خيانة صريحة، ولكنه انطوى على تأييد حار لوليم في نضاله من أجل العرش.
وفي يونية 1687 أصدر كاسبار فاجل، الحاكم العام، رسالة أوضح فيها بصورة آراء وليام في التسامح. إن وليم يريد حرية العبادة للجميع ولكنه يعارض إلغاء "قانون الاختبار" الذي يقصر حق تولي الوظائف العامة على أتباع المذهب الأنجليكياني. أن هذا البيان الرسمي للتحفظ أكسب وليم تأييد الأنجليكانيين البارزين. ولما قضى مولد ابن لجيمس على فرض وليم في أن يخلفه (جيمس) قرر زعماء البروتستانت دعوة وليم للقدوم والاستيلاء على العرش عنوة. ووقع الدعوة (30 يونية 1688) إرل شروزبري الثاني عشر، ودوق ديفونشير الأول، إرل دانبي، إرل سكاربره، وأمير البحر أدوارد رسل (ابن عم وليم رسل الذي أعدم في 1683)، هنري سدني (أخو الجرنون)، والأسقف كمبتون. أما هاليفاكس فإنه لم يوقع متذرعاً بأنه يؤثر المعارضة الدستورية. ولكن كثيرين غير هؤلاء، من بينهم سندرلند وجون تشرشل، وكلاهما آنذاك في خدمة جيمس) بعثوا إلى وليم يؤكدون مساندتهم له. وكان الموقعون يعلمون علم اليقين أن دعوتهم للمغامرة، من ذلك أق شروزبري الكاثوليكي السابق الذي تحول إلى البروتستانتية، رهن ضياعه نظير أربعين ألف جنيه، وعبر البحر إلى هولنده ليساعد فيتوجه الغزو.
الغزو
إقلاع الجيش وإعلان لاهاي
ولم يكن في مقدور وليام أن يتخذ أي إجراء فوري. لأنه لم يكن على ثقة من شعبه. كما كان يخشى أن يجدد لويس الرابع عشر هجومه على هولنده في أية لحظة. وخشيت الولايات الألمانية كذلك مهاجمة فرنسا لها، ومع ذلك لم تبد هذه الولايات اعتراضاً على غزو وليام لإنجلترا، ولعلمها بأن الهدف الأسمى لوليم هو كبح جماح ملك البوربون. أما حكومتا آل هابسبورج في النمسا وأسبانيا فقد نسيتا كثلكيتهما في بغضهما للملك لويس الرابع عشر، وأقرتا خلع ملك كاثوليكي يصادق فرنسا بل أن البابا نفسه منح الحملة بركته ورضاءه السامي. ومن ثم أصبح بإذن من الدول لكاثوليكية أن يأخذ وليم البروتستانتي على عاتقه الإطاحة بجيمس الكاثوليكي. وتعجل لويس وجيمس كلاهما الغزو، وأعلن لويس أن روابط "لصداقة والتحالف" القائمة بين إنجلترا وفرنسا تحتم عليه أن يعلن الحرب على كل من يغزو وإنجلترا. ولكن جيمس الذي خشي أن يؤدي هذا البيان إلى توحيد صفوف رعاياه البروتستانت ضده بشكل أقوى، نفي وجود مثل هذا التحالف، ورفض مساعد فرنسا له. وانتصر غضب لويس الرابع عشر على استراتيجيته، فأمر جيوشه بمهاجمة ألمانيا، لا هولندة (25 سبتمبر 1688)، ووافقت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة، التي حررت لبعض الوقت من الخوف من فرنسا، على أن يقود وليم حملة قد تؤدي بإنجلترا إلى الدخول في تحالف ضد فرنسا.
وفي 19 أكتوبر تحرك الأسطول -خمسين سفينة حربية، وخمسمائة سفينة نقل، وخمسمائة فارس، واحد عشر ألفاً من المشاة، بما فيهم عدد كبير من الهيجونوت اللاجئين من الاضطهاد في فرنسا. وصدت الرياح الأسطول، فانتظر حتى يهب "نسيم بروتستانتي" (مؤات)، وأقلع ثانية في أول نوفمبر.وخرج أسطول إنجليزي ليعترض سبيله، ولكن مزقته العاصفة. وفي 5 نوفمبر، وهو عطلة وطنية احتفالاً بذكرى "مؤامرة البارود" ألقى الغزاة مراسيهم في "ثورباي"، وهو منفذ على المانش على شاطئ دورشستر. ولم يلق الغزاة أية مقاومة، ولكنهم كذلك لم يلقوا أي ترحيب. فإن الناس لم يكونوا قد نسوا جفريز وكيرك.
انهيار حكم جيمس
رفض جيمس عرضاً فرنسياً بإرسال تجريدة لدعمه، خوفاً من أنها قد تُفقِدة الدعم الشعبي. وأصدر جيمس أوامره إلى جيشه بالتجمع في سالزبري تحت إمرة لورد جون تشرشل، ولحق الملك به هناك، ولكنه وجد القوات يعوزها الولاء والإخلاص، يخيم عليها الفتور إلى حد الارتياب في اشتراكهم في معركة، فأمر بالتقهقر، وفي تلك الليلة (23 نوفمبر) انحاز لتشرشل واثنان من كبار الضباط فيجيش الملك إلى وليم مع أربعمائة رجل. وبعد ذلك بأيام قلائل انضم جورج الدنماركي، زوج الأميرة آن ابنة جيمس، إلى جماعة الخارجين على الملك، والذين يتزايد عددهم،ووجد الملك التعس، لدى عودته إلى لندن، أن ابنته آنوسارا جنجز زوجة تشرشل قد هربتا إلى نوتنجهام. وتحطمت روح الملك الذي كان يوماً مزهواً مختالاً، حين وجد أن ابنتيه كلتيهما قد انقلبتا ضده. فأوفد هاليفاكس للتفاوض مع وليام وفي 11 ديسمبر غادر الملك نفسه عاصمة ملكه، ولما عاد هاليفاكس من الجبهة، وجد الأمة بلا رئيس ولا زعيم، فعمد جماعة من النبلاء إلى تنصيبه رئيساً لحكومة مؤقتة. وفي يوم 13 تسلموا من جيمس رسالة تقول بأنه وقع في أيدي الأعداء، في فافرشام في كنت. فأنفذوا بعض القوات لإنقاذه، وفي يوم 16 عاد الملك الذليل إلى قصر هوايتهول وأرسل وليم أثناء تقدمه نحو لندن، وبعض حراس هولنديين زودهم بتعليمات بأن يحملوا جيمس إلى روشستر، وهناك يسهلون له طريق الفرار. وقد كان، ووقع جيمس في الفخ الذي نصب له، وغادر إنجلترا إلى فرنسا (23 ديسمبر).وعمر ثلاثة عشر عاماً بعد سقوطه، ولكنه لم ير إنجلترا ثانية قط.
وليام وماري يصبحا ملكين شريكين
ووصل وليام إلى لندن في التاسع عشر من ديسمبر. واستغل انتصاره في حزم وحذر واعتدال ممتاز، ووضع حداً للشغب الذي آثاره البروتستانت في لندن وسلبوا فيه منازل الكاثوليك وأحرقوها. وبناء على طلب الحكومة المؤقتة، ودعا اللوردات والأساقفة وأعضاء البرلمان السابقين للاجتماع في كوڤنتري. وأعلن "المؤتمر" الذي أنعقد هناك في أول فبراير 1689 أن جيمس اعتزل العرش بفراره. وعرض المجتمعون أن يتوجوا ماري ملكة، ويرتضوا وليام نائباً لها. فقبلا (13 فبراير). ولكن المؤتمر قرن هذا العرض " بإعلان الحقوق" الذي سنه وأصدره البرلمان من جديد في 16 ديسمبر على أنه "وثيقة الحقوق"، وأصبح (بالرغم من عدم موافقة وليام عليه صراحة) جزءاً حيوياً أساسياً في قوانين المملكة:
حيث أن الملك السابق جيمس الثاني ... سعى جهده أن يدمر ويستأصل العقيدة البروتستانتية وقوانين وحريات هذه المملكة من جذورها:
- 1- بانتحاله لنفسه وممارسته سلطة التحلل من القوانين وإلغائها، أو تنفيذها دون موافقة البرلمان..
- 3- بإنشاء "محكمة خاصة بالقضايا الدينية".
- 4- بجباية أموال من أجل الملك وليستخدمها هو، بحجة الامتيازات والحقوق الملكية، في غير الوقت ولغير الغرض اللذين أقرهما البرلمان.
- 5- بتجنيد جيش ثابت والاحتفاظ به دون موافقة البرلمان.
- 7- بإقامة الدعوى أمام "محكمة الملك" في مسائل وقضايا هي من اختصاص البرلمان وحده.
وكل هذا يتعارض تماماً، وبطريق مباشر، مع قوانين هذه المملكة وشرائعها المعروفة. ولما كانوا (أعضاء البرلمان-المجتمعون) على ثقة تامة من أن ... أمير أورانج ... سوف يحميهم من إهدار حقوقهم التي أثبتوها هنا، ومن أية محاولات أخرى للاعتداء على حقوقهم المدنية وحرياتهم، فإن اللوردات والآباء الروحيين والنواب المجتمعين في وستمنستر، يقررون أن يعينوا وليم وماري، أمير وأميرة أورانج، ملكاً وملكة على إنجلترا وفرنسا وإيرلندة، وأن يقسم اليمين المذكورة بعد، كل الأشخاص الذين يتطلب القانون منهم أن يقسموا يمين الولاء.
"أقسم أنا (س من الناس) أن أمقت وأبغض وأنبذ من كل قلبي على أنها كفر وهرطقة، تلك النظرية الدنسة اللعينة.. التي تقول بأنه يجب أن يخلع أو يقتل، بيد رعاياه أو عيرهم أياً كانوا، كل أمير يصدر ضده البابا أو أية هيئة في المقر البابوي في روما، قراراً بالحرمان من الكنيسة أو من العرش.. كما أعلن أنه ليس، ولا ينبغي أن يكون. لأي حاكم أو فرد أو مطران أو دولة أو عاهل أجنبي، أية ولاية أو سلطة أو سيادة أو سلطان.. في هذه المملكة. أسألك العون على هذا يا رب".
وحيث ثبت بالتجربة أنه لا يتفق مع سلامة هذه المملكة ولا مع مصلحتها أن يحكمها أمير مناصر للبابا، أو ملك أو ملكة متزوجة من أحد أشياع البابا، فإن اللوردات والآباء الروحيين والنواب المذكورين يرجون فوق ذلك أن يسن تشريع يقضي بأن كل شخص أو أشخاص يذعنون أو سيذعنون للبابا أو الكنيسة في روما، أو تكون أو ستكون لهم علاقة بهما، أو سيدينون بالمذهب البابوي، أو يتزوجون من نصيرات البابا والمشيعات له، يجب استبعادهم وحرمانهم إلى الأبد من وراثة أو أملاك أو التمتع بتاج وحكومة هذه المملكة.
إعلان الحقوق
كان من أهم ما تضمّنه إعلان الحقوق (قانون الحقوق الانجليزي) بالإضافة إلى ذلك:
- حقِّ الملك في التاج مستمد من الشعب الممثل في البرلمان، وليس من الله.
- ليس للملك إلغاء القوانين أو وقف تنفيذها أو إصدار قوانين جديدة، إلا بموافقة البرلمان.
- لا تُفرض ضرائب جديدة، ولا يُشكّل جيش جديد إلا بموافقة البرلمان.
- حرية الرأي والتعبير في البرلمان مكفولة ومُصانة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أثر الثورة
كان لهذه الثورة أثر كبير في الحياة في إنجلترا، حيث أنها قضت نظرياً وعملياً على فكرة حقّ الملوك الإلهي، كما أصبح البرلمان هو صاحب الكلمة العليا في شئون الحكم، كما كان لها أثر كبير خارج إنجلترا، حيث تطلّعت الشعوب في أوربا إلى تحقيق نظام الحكم البرلماني كما شاهدوه في النموذج الإنجليزي.الثورة الإنجليزية في عام 1688 نتج عنها سيادة البرلمان على التاج وفوق كل شيء حق التطور.
نقد
أن هذا الإعلان التاريخي عـَبـَر من النتائج الجوهرية لما أسمته إنجلترا البروتستانتية "الثورة الجليلة": وهي الاعتراف الصريح بالسيادة التشريعية للبرلمان، التي طالما نازع فيها أربعة ملوك من آل ستيوارت، وحماية المواطن ضد السلطة للتعسفية للحكومة، واستبعاد الكاثوليك من تولي عرش إنجلترا أو المشاركة فيه. ويلي هذه النتائج في الأهمية، وهو إدماج سلطة الحكومة في الأرستقراطية مالكة الأرض، لأن الثورة بدأها كبار النبلاء، وسار بها إلى غايتها صغار الملاك الممثلون في مجلس العموم. وواقع الأمر أن الملكية "المطلقة" المتمسكة "بحق الملك الإلهي" تحولت إلى أولجاركية إقليمية أو ذات علاقة بالملكية الخاصة للأرض. وهي أوليجاركية تميزت بالاعتدال والجد والبراعة في إدارة دفة الحكم، متعاونة مع ملوك الصناعة والتجارة والمال، كما أهملت بصفة عامة أمر الحرفيين والفلاحين. إن الطبقات المتوسطة العليا أفادت من الثورة بصورة فعلية. واستردت مدن إنجلترا حريتها، لتحكمها أوليجاركيات التجار المستغلين. أن تجار لندن الذين أحجموا من قبل عن مساعدة جيمس، أقرضوا وليم مائتي ألف جنيه فيما بين وصوله إلى العاصمة، وتسلمه اعتمادات البرلمان لأول مرة(26). إن هذا القرض عزز اتفاقية غير مسطورة: فالتجار يتركون لملاك الأرض حكم إنجلترا، على توجه الأرستقراطية الحاكمة سياسة البلاد الخارجية نحو المصالح التجارية، وتحرر التجار أكثر فأكثر من النظم الرسمية.
وثمة عناصر مخزية غير كريمة كانت في "الثورة الجليلة". فيما يبدو أنه مدعاة للأسف أن تضطر إنجلترا إلى استدعاء جيش من هولنده ليصلح من أخطاء الإنجليز أنفسهم، وأن تساعد الابنة على خلع أبيها عن عرشه، وأن ينحاز قائد جيشه إلى الغزاة،وأن تشارك الكنيسة الوطنية في الإطاحة بملك سبق لهذه الكنيسة أن بررت وقدست سلطته الإلهية المطلقة في وجه أية ثورة أو أي عصيان. كما كان مدعاة للأسف أن يكون تثبيت سيادة البرلمان على حساب مناهضة حرية العبادة. ولكن السيئات التي اقترفها هؤلاء الرجال والنساء طويت في الأحداث مع رفاتهم، أما حسنتاهم التي أدوها فقد بقيت بعدهم وآتت أكلها. أنهم حتى في إقامة الأوليجاركية وضعوا أسس ديموقراطية كان لا بد أن تنشأ مع توسيع القاعدة الانتخابية.
وجعلوا من دار الرجل الإنجليزي قلعته، آمناً نسبياً من "عجرفة الحكم" و "أخطاء الظلم" وأسهموا إلى حد ما في هذا التوفيق الذي يدعوا إلى الإعجاب بين لنظام والحرية، وهذا هو قوام الحكومة الإنجليزية اليوم.إنهم فعلوا هذا كله دون إراقة قطرة من الدم، اللهم إلا ما نزف من أنف الملك المنزعج المنهوك الأخرق الذي تخلى عنه الجميع في ساعة العسرة.
انظر أيضاً
الهوامش
المصادر
المراجع
- Maurice Ashley, The Glorious Revolution of 1688 (Hodder & Stoughton, 1966; also Panther History 1968)
- Robert Beddard, A Kingdom without a King: The Journal of the Provisional Government in the Revolution of 1688 (Phaidon, 1988).
- Eveline Cruickshanks, The Glorious Revolution (British History in Perspective) (Palgrave Macmillan, 2000). ISBN 0312230095.
- Jonathan I. Israel, The Anglo-Dutch Moment: Essays on the Glorious Revolution and its World Impact (Cambridge University Press, 2003). ISBN 0521544068.
- Carmel McCaffrey, In Search of Ireland's Heroes [Ivan R Dee 2006] ISBN-13 978-1-56663-615-5
- John Miller, The Glorious Revolution (Longman, 2d. Ed., 1997). ISBN 0582292220.
- David Onnekink, The Anglo-Dutch Favourite: The Career of Hans Willem Bentinck, 1st Earl of Portland (1649-1709), Ashgate Publishing, Ltd., 2007, ISBN 0-754-65545-8
- Steven C. A. Pincus, England's Glorious Revolution 1688–89: A Brief History with Documents (Bedford/St. Martin's, 2005). ISBN 0312167148.
- Stuart Prall, The Bloodless Revolution: England, 1688 (Anchor Books, 1972).
- Edward Vallance, The Glorious Revolution: 1688 — Britain's Fight for Liberty (Brown Little, 2006). ISBN 1933648244.
وصلات خارجية
- BBC History: Charles II
- The Glorious Revolution of 1688
- Declaration of the Prince of Orange, October 10, 1688
- Economic analysis of the Glorious Revolution from EH.NET
- Catholic Encyclopedia article
- a marxist view of the Glorious Revolution by Duncan Hallas
- http://www.open2.net/civilwar/6.3.aftershocks.html
- History of the Monarchy > The Stuarts > Mary II and William III
- Short description is different from Wikidata
- Articles containing أيرلندية-language text
- Pages using Lang-xx templates
- Articles containing غالية اسكتلندية-language text
- Articles containing ويلزية-language text
- نزاعات 1688
- 1688 في إنگلترة
- العلاقات البريطانية الهولندية
- مناهضة الكاثوليكية في إنگلترة
- مناهضة الكاثوليكية في اسكتلندة
- مناهضة الكاثوليكية في أيرلندا الشمالية
- مناهضة الكاثوليكية في ويلز
- مناهضة الكاثوليكية في المملكة المتحدة
- الملكية البريطانية
- تمردات في إنگلترة
- 1688 في أيرلندة
- غزو إنگلترة
- ثورات القرن 17
- إنگلترة ستوارت
- 1688 في اسكتلندة
- حروب أهلية في إنگلترة
- التعاقب على التاج البريطاني
- الثورة المجيدة
- جيمس الثاني من إنگلترة
- وليام الثالث من إنگلترة
- ماري الثانية من إنگلترة
- انقلابات عسكرية في إنگلترة
- الانقلابات ومحاولات الانقلاب في القرن 17
- استعادة ستوارت
- تاريخ المملكة المتحدة