فيها احتفل المأمون لبناء مدينة طوانة من أرض الروم وحشد لها الصناع من البلاد وأمر ببنائها ميلا في ميل وولي ولده العباس أمر ببنائها وفيها امتحن المأمون العلماء بـ خلق القرآن وكتب في ذلك إلى نائبه على بغداد وبالغ في ذلك وقام في هذه البدعة قيام متعبد بها فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه وتوقفت طائفة ثم أجابوا وناظروا فلم يلتفت إلى قولهم وعظمت المصيبة بذلك وتهدد على ذلك بالقتل ولم يصف من علماء العراق إلا أحمد بن حنبل و محمد بن نوح فقيدا وأرسلا إلى المأمون وهو بطرسوس فلما بلغا الرقة جاءهم الفرج بموت المأمون قال ابن الأهدل ومرض محمد بن نوح ومات بالطريق وهو الذي كان يشد أزر أحمد ويشجعه ولما مات المأمون عهد إلى أخيه المعتصم فامتحن الإمام أيضا وضرب بين يديه بالسياط حتى غشى ثم أطلقه وندم على ضربه ولحق من تولى ضربه عقوبات ظاهرة وكان المأمون يكنى بأبي العباس ويسمى بعبد الله وكان أبيض ربعة حسن الوجه أعين أديبا شجاعا له همة عالية في الجهاد ومشاركته في علوم كثيرة وكان في اعتقاده معتزليا شيعيا استقل بالخلافة عشرين سنة ومات وله ثمانون وأربعون سنة انتهى كلام ابن الأهدل وقال ابن الفرات روى يحي بن حماد الموكبي عن أبيه قال وصفت للمأمون جارية بكل ما توصف به امرأة من الجمال والكمال فبعث في شرائها فأتى بها في وقت خروجه إلى بلاد الروم فلما هم يلبس درعه خطرت بباله فأمر بإخراجها فأخرجت إليه فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به فقالت ما هذا قال أريد الخروج إلى بلاد الروم فقالت يا سيدي قتلتني والله وتحدرت دموعها وأنشأت[1]:
سأدعو دعوة المضطر ربا
يثيب على الدعاء ويستجيب
لعل الله يكفيك حزنا
لعل الله يكفيك حزنا
فضمها المأمون إلى صدره وأنشد:
فيا حسنها إذ يغتسل الدمع كحلها
وإذ هي تذري دمعها بالأنامل
صبيحة قالت في الوداع قتلتني
وقتلني بما قالت بتلك المحافل
ثم قال للخادم احتفظ بها وأصح لها ما تحتاج إليه من المقاصير والجواري إلى وقت رجوعي فلولا ما قال الأخطل ( قوم إذا حاربوا شددوا مآزرهم * دون النساء ولو باتت بأطهار ) لأقمت قال فلما دخلت الجارية إلى منزلها وخرج المأمون اعتلت علة شديدة وورد نعي المأمون الله تعالى فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء وقالت وهي تجود بنفسها
إن الزمان سقانا من مرارته
بعد الحلاوة كاسات فأروانا
أبدى لنا تارة منه فاضحكنا
ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
ثم شهقت شهقة واحدة فماتت-- اه. وحكي أن المأمون أتى بجارية فائقة الجمال بارعة الكمال وكان في رجلها عرج فلما نظر إليها المأمون أعجبه جمالها وساءه عرجها فقال للنخاس خذ بيد جاريتك فلولا عرجها لاشتريتها فقالت يا أمير المؤمنين إني وقت حاجتك إلى تكون رجلي بحيث لا تراها فأعجبه جوابها وأمر بشرائها وأن يعطي مولاها ما احتكم وحظيت عنده وكان له حليم شديد كان يقول والله إني لأخشى أن لا أثاب على الحلم والعفو لما رأى فيهما من اللذة ولو علم الناس ذلك لتقربوا إلي بالجناية وكان حسن المحاضرة لطيف المسامرة فمن ذلك ما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني قال لما تواتر النقل عند المأمون عن يحي بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان التميمي الأسدي المروزي القاضي بأنه يلوط أراد امتحانه استدعاه وأوصى مملوكا له بأن يقف عندهما وحده وإذا خرج المأمون يقف المملوك عند يحي و ينصرف وكان المملوك في غاية الحسن فلما اجتمعا في المجلس وتحادثا ساعة قام المأمون كأنه يقضي حاجة فوقف وتجسس المأمون عليهما وكان أمره أن يعبث بيحي فلما عبث به المملوك سمعه المأمون وهو يقول لولا أنتم لكنا مؤمنين فدخل المأمون وهو ينشد:
وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهرا
فأعقبنا بعد الرجاء قنوط
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها
وقاضي قضاة المسلمين يلوط
وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب وله فيه مقاطيع كثيرة انتهى كلام صاحب الأغاني وروى الحافظ أبو بكر أحمد صاحب تاريخ بغداد في تاريخه أن المأمون قال ليحيى بن أكثم من الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزناء ولا
يرى على من يلوط من باس
قال أما تعرف يا أمير المؤمنين من قاله قال لا قال يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضى وعلى ال
أمة وال من آل عباس
قال فأفحم المأمون خجلا وقال ينبغي أن ينفي أحمد بن أبي نعيم إلى السند وهذا البيتان من أبيات أولها:
انطقني الدهر بعد إخراس
لنائبات أطلن وسواسي
يا بؤس للدهر لا يزال كما
رفع ناسا يحطمن ناس
لا أفلحت أمة وحق لها
بطول نكس وطول إعكاس
ترضى بيحي يكون سائسها
وليس يحي لها بسواس
قاض يرى الحد في الزناء ولا
يرى على من يلوط من باس
يحكم للمرد العزيز على
مثل جرير ومثل عباس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال
عدل وقل الوفاء في الناس
أميرنا يرتشي وحاكمنا
يلوط والرأس شر ما راس
لو صلح الدين واستقام لقد
قام على الناس كل مقياس
لا أحسب الدهر ينقضي وعلى ال
أمة وال من آل عباس
انتهى وحكى أبو الفرج معافا بن زكريا النهرواني في كتاب الجليس والأنيس عن محمد السعدي قال وجه إلى القاضي يحي بن أكثم قاضي المأمون رحمهما الله فصرت إليه فإذا عن يمينه قمطرة مجلدة فجلست فقال افتح هذه القمطرة ففتحها فإذا بشيء قد خرج منها رأسه رأس إنسان وهو من أسفله إلى سرته زاغ في صدره سلعتان فكبرت وهللت وفزعت ويحي يضحك فقال بلسان فصيح زلق
أنا الزاغ أبو عجوه
أنا ابن الليث واللبوة
أحب الراح والريحا
ن والنشوة والقهوة
فلا غدري بدا يخشى
ولا يحذر لي سطوة
ولي أشياء تستظرف
يوم العرس والدعوة
فمنها سلعة في الظه
ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى
فلو كان لها عروه
فلو كان لها عروه
س فيها أنها ركوة
ثم قال يا كهل أنشدني شعرا غزلا فقال يحيى قد أنشدك فأنشده فأنشدته:
أغرك أن أذنبت ثم تتابعت
ذنوب فلم أهجرك ثم ذنوب
وأكثرت حتى قلت ليس بصارمي
وقد يصرم الإنسان وهو حبيب
فصاح زاغ زاغ ثم طار وسقط في القمطر فقلت ليحي أعز الله القاضي وعاشق أيضا فقلت أيها القاضي ما هذا قال هو ما ترى وجه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين وما رآه بعد وكتب كتابا لم أفضضه وأظنه ذكر فيه شأنه وحاله انتهى وقال ابن خلكان رحمه الله رأيت في بعض الكتب أن المأمون رحمه الله كان يقول لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس )
ألا كل حي هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
انتهى. وقال المأمون الإخوان ثلاث طبقات طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه أبدا وهم إخوان الصفاء وإخوان كالدواء يحتاج إليهم في بعض الأوقات وهم الفقهاء وإخوان كالداء لا يحاج إليهم أبدا وهم المنافقون وكان سبب وفاة المأمون رحمه الله تعالى أنه جلس على شاطئ نهر السدون ودلى رجليه في مائه فأعجبه برد مائه وصفاؤه فقال لو أكلنا رطبا وشربنا من هذا الماء البارد لكان حسنا فلم يخرج الكلام من فيه إلا ومواقع حوافر خيل البريد أقبلت من ازاد وعليها حقائب الرطب فحمد الله تعالى على ذلك وأكل منه فحم وتحركت عليه مادة في حلقه فبطت قبل بلوغها غايتها فكانت سبب وفاته كتب وصية هذا ما أشهد به عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه ولا مدبر غيره وأنه خالق وما سواه مخلوق وأن محمدا عبده ورسوله وأن الموت حق والبعث والحساب حق والجنة والنار حق وأن محمداً عن ربه شرائع دينه وأدى النصيحة إلى أمته حتى توفاه الله إليه فصل الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين وإني مقر بذنبي أخاف وأرجو إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني وأسبغوا وضوئي وأجيدوا كفني وليصل علي أقربكم مني نسبا وأكبركم سنا وليكبر خمسا ولينزل في حفرتي أقربكم مني قرابة وضعوني في لحدي وسدوا علي باللبن ثم احثوا التراب علي وخلوني وعملي فكلكم لا يغني عني شيئا ولا يدفع عني مكروها ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم وأمسكوا عن ذكر شر إن عرفتم ثم قال يا ليت عبد الله لم يكن شيئا باليته لم يخلق ثم قال لأخيه وولي عهده المعتصم يا أبا إسحاق ادن مني واتعظ بما ترى وخذ بسيرة أخيك واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه ولا تغتر بالله وامهاله فكأن قد نزل بك الموت ولا تغفل عن أمر الرعية فإنما الملك يقوم بهم ولا يتبين لك أمر فيه صلاح المسلمين إلا وقدمه على غيره وإن خالف هواك وخذ من قويهم لضعيفهم واتق الله في أمرك كله والسلام ثم قال هؤلاء بنو عمك لا تغفل عن صلاتهم فلنها واجبة عليك ثم تلا ( ^ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وكانت وفاته يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين ونقله ابنه العباس إلى طرطوس فدفنه بها ووكل بقبره مائة من الجرس وأجرى على كل رجل منهم تسعين درهما في كل شهر وكان له عدة أولاد لم يشتهر منهم سوى العباس وعلي فأما العباس فكان مغرما بشراء الضياع والعقار وكان المعتصم مغري بجمع المال واقتناء الغلمان والعدة والرجال قاله ابن الفرات.
وفي هذه السنة عهد المأمون بالخلافة إلى أخيه المعتصم فأمر بهدم طوانة وبنقل ما فيها وبصرف أهلها إلى بلادهم وفيها دخل خلق من أهل بلاد همذان في دين الخرمية المجوس الباطنية وعسكروا فندب المعتصم لم أمير بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فالتقاهم في ذي الحجة بأرض همدان فكسرهم وقتل منهم ستين ألفا وانهزم من بقي إلى ناحية الروم.
وفيها توفي:
بمصر إسحاق بن بكر بن مضر الفقيه وكان يجلس في حلقه الليث فيفي ويحدث قال في العبر لا أعلمه يروي عن غير أبيه وفيها بشر المريسي الفقيه المتكلم وكان داعية للقول بخلق القرآن هلك في آخر السنة ولم يشيعه أحد من العلماء وحكم بكفره طائفة من الأئمة روى عن حماد بن سلمة وعاش نيفا وسبعين سنة قاله في العبر وقال ابن الأهدل كان مرجئا داعية الأرجاء وإليه تنسب طائفة المريسية المرجئة. كان أبوه يهوديا صباغا في الكوفة وكان يناظر الشافعي وهو لا يعرف النحو فيلحن لحنا فاحشا. انتهى.
وفيها عبد الله بن يوسف التنيسي الحافظ أحد الأثبات أصله دمشقي وسمع من سعيد بن عبد العزيز ومالك والليث وفيها عالم أهل الشام أبو مسهر الغساني عبد الأعلى بن مسهر في حبس المأمون ببغداد في رجب لمحنة القرآن سمع سعيد بن عبد العزيز وتفقه عليه وولد سنة أربعين ومئة وكان علامة بالمغازي والأثر كثير العلم رفيع الذكر قال يحيى ابن معين منذ خرجت من باب الأنبار إلى أن رجعت لم أر مثل أبي مسهر وقال أبو حاتم ما رأيت أفصح منه وما رأيت أحدا في كورة من الكور أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق إذا خرج اصطف الناس يقبلون يده وقال ابن ناصر الدين هو ثقة.
وفيها عبد الملك بن هشام البصري النحوي صاحب المغازي هذب السيرة ونقلها عن البكائي صاحب ابن إسحاق وكان أديبا إخباريا نسابة سكن مصر وبها توفي و محمد بن نوح العجلي ناصر السنة حمل مقيداً مع الإمام أحمد بن حنبل متزاملين فمرض ومات بغابة في الطريق يثبت أحمد ويشجعه قال أحمد ما رأيت أقوم بأمر الله منه روى عن إسحاق الأزرق ومات شابا رحمه الله قاله في العبر ومعلى بن أسد البصري أخو بهز بن أسد روى عن وهيب بن أسد وطبقته وكان ثقة مؤدبا ويحي البابلتي الحراني روى عن الأوزاعي وابن أبي ذئب وطائفة وليس بالقوي في الحديث.