يوم حليمة
لما تولى المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، واستقر في ملكه سار إلى الحارث بن جبلة الغساني ملك الغساسنة طالباً بثأر أبيه عنده، وبعث إليه: إني قد أعددت لك الكهول على الفحول، فأجابه الحارث: قد أعددت لك المرد على الجرد. وسار المنذر حتى نزل بمرج حليمة، وسار إليه الحارث أيضاً، ثم اشتبكوا في القتال، في عام 554، ومكثت الحرب أياماً ينتصف بعضهم من بعض.
فلما رأى ذلك الحارث قعد في قصره، ودعا ابنته حليمة، وكانت من أجمل النساء، فأعطاها طيباً وأمرها أن تطيب من مر بها من جنده، فجعلوا يمرون بها وتطيبهم، ثم نادى : يا فتيان غسان، من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي. فقال لبيد بن عمرو الغسائي لأبيه: يا أبت؟ أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول دونه لا محالة، ولست أرضى فرسي فأعطني فرسك، فأعطاه فرسه.
فلما زحف الناس واقتتلوا ساعة شد لبيد على المنذر فضربه ضربة، ثم ألقاه عن فرسه، وانهزم أصحاب المنذر من كل وجه، ونزل لبيد فاحتز رأسه، وأقبل به إلى الحارث وهو على قصره ينظر إليهم، فألقى الرأس بين يديه، فقال له الحارث : شأنك بابنة عمك – أي حليمة -، فقد زوجتكها. فقال: بل أنصرف فأواسي أصحابي بنفسي، فإذا انصرف الناس انصرفت.
ورجع فصادف أخا المنذر قد رجع إليه الناس وهو يقاتل، وقد اشتدت نكايته، فتقدم لبيد فقاتل حتى قتل، ولكن لخماً انهزمت ثانية، وقتلوا في كل وجه، وانصرفت غسان بأحسن الظفر، بعد أن أسروا كثيراً ممن كانوا مع المنذر من العرب.
وكان من أسرهم الحارث مائة من بنى تميم، فيهم شأس بن عبدة، ولما سمع أخوه علقمة وفد إليه مستشفعاً، وأنشده هذه القصيدة، ومما قيل فيها:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي | لكلكلها والقصـر بين وجيب | |
لتبلغني دار امرئ كان نائيــا | فقد قربتني من نداك قـروب | |
وأنت امـرؤ أفضت إليك أمانتي | وقبلك ربتني فضعت ربــوب | |
فأدت بنو كعب بن عوف ريبها | وغودر في بعض الجـنود ربيب | |
فوالله لولا فارس الجـون منهم | لآبوا خـزايـا والإياب حبــيب | |
تقدمــه حتى تغيب حجــولـه | وأنت لبيض الدار عين ضروب | |
مظاهر سربالي حديد عليهمــا | عقيلا سيوف مخذم ورسوب | |
فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم | وقد حان من شمس النهار غروب | |
وقاتل من غسان أهل حفاظه | وهنب وفأس جـالدت وشبب | |
تخشخش أبدان الحديد عليهـم | كما خشخشت يبس الحصاد جنوب | |
تجـود بنفس لا يجاد بمثلهـا | وأنت بها يوم اللقــاء خصيب | |
كأن رجال الأوس تحت لبانــه | وما جمعت جل معاً وعتيب | |
رغا فوقهم سقب السماء فداحض | بشكته لم يستلب وسـليب | |
كأنهم صابت عليهـم سحابـة | صواقعها لطيرهـن ريب | |
فلم تنج إلا شطبـة بلجامها | وإلا طمر كالقناة نجيب | |
وإلا كمي ذو حفــاظ كأنه | بما ابتل من حد الظباة خصيب | |
وأنت الذي آثاره في عـدوه | من البؤس والنعمى لهن ندوب | |
وفي كل حي قد خبطت بنعمة | فحث لشأس من نداك ذنوب | |
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة | فإني امرؤ وسط القباب غريب |
ولما بلغ إلى قوله : (فحق لشأس من نداك ذنوب)، قال الملك : أي والله وأذنبة، ثم أطلق شأساً وقال له : إن شئت الحباء، وإن شئت أسراء قومك. وقال لجلسائه : إن اختار الحباء على قومه فلا خير فيه، فقال : أيها الملك، ما كنت لأختار على قومي شيئاً، فأطلق له الأسرى من تميم وكساه وحباه، وفعل ذلك بالأسرى جميعهم وزودهم زاداً كثيراً، فلما بلغوا بلادهم أعطوا جميع ذلك لشأس وقالوا له : أنت كنت السبب في إطلاقنا، فاستعن بهذا على دهرك، فحصل له كثير من إبل وكسوة وغير ذلك.
وفي هذا اليوم ضرب المثل : ما يوم حليمة بسر.