نقاش:دني ديدرو
ميدل إيست أونلاين: ديــدرو أول من قدّم دائرة معارف! (1-2)
ذكر الفيلسوف الفرنسي فولتير: أنه بينما كان الملك لويس الخامس عشر يتناول العشاء في قصر تريانون بفرساي مع مجموعة من المقربين إليه من الأمراء والكونتات، بالإضافة إلى مدام دى بومبادور، إذا بالحديث يجرّهم إلى الصيد والبارود، وأدوات التجميل التي كانت قد بدأت تشيع في فرنسا. وإذا بمدام دى بومبادور تبدي اندهاشها من أنها لا تعرف من أي المواد تصنع مواد التجميل التي تستخدمها النساء الفرنسيات في تجميل وجوههن وأظافرهن. وسرعان ما يؤتي هذا التساؤل العابر أثره بين الجميع، الذين يتنبهون أنهم يجربون المواد التي يصنع منها البارود، ولا يعرفون كيف تصنع البنادق، التي كان استعمالها قد بدأ ينتشر في أوروبا. وفي غمرة اكتشافهم لجهلهم بحقيقة أقرب المواد التي يستخدمونها، إذا بمدام دى بومبادور تشير إلى الخدم لكي يأتوا بمجلدات دائرة المعارف، التي كانت تحتفظ بها في جناحها. وما أن أوتي بها، حتى أخذت تفتح صفحاتها على المواد التي يريد الجميع معرفتها، فإذا بالصفحات تكشف لهم أسرارها وتاريخها، وطرائق تصنيعها المختلفة... ويرتج الأمر على الجميع، فهم لم يكونوا يتصورون أن هناك في فرنسا من خصص وقته لرصد تاريخ هذه المواد وتدوينها على صفحاتٍ يسهل الرجوع إليها. فانقضوا جميعاً على المجلدات يقلبونها، وهم يشعرون أنهم مع كل صفحةٍ من صفحاتها، يتنقلون من جانب الجهل إلى جانب المعرفة في لحظاتٍ قليلة، حتى الملك نفسه تخلّى عن وقاره المعتاد وأخذ يبحث عمّا يهمه في مجلّدات دائرة المعارف هذه، فإذا به يطلع على سردٍ طويل لتاريخ حياته، وحقوقه، وواجباته، ونظام حكمه. والحقيقة أن الملك، رغم كراهيته السابقة لدائرة المعارف هذه، قد بدا عليه السرور. الأمر الذي شجّع مدام دى بومبادور على أن تقول بصوتٍ عال: "إنك يامولاي أكثر الملوك حظاً، لأنه وجد في عهدك رجال قادرون على معرفة جميع الفنون والعلوم، وعلى تدوينها، لكي تنتفع بها جميع الأجيال القادمة، فهم على هذه الصفحات، قد دونوا كل شيء، من طريقة صنع الدبوس، إلى طريقة صناعة المدافع، وقوانين استخدامها في المعارك". ولا أحد يعرف ماذا كان الدافع وراء فولتير لكي يروي هذه الحكاية!!.. هل كان لمجرد الدفاع عن دائرة المعارف، التي كان الملك يسيء الظن بها؟!!.. أو لإظهار حقيقة مدام بومبادور التي كانت تهتم بهذه الإنسكلوبيديا؟!!.. رغم معرفة رأي الملك فيها.. وتنتهز الفرص لكي تدافع عنها؟!!.. فقد كانت تتابع أنباءها، وتعرف القائمين على نشرها.. وخاصةً ديدرو!!..
• وما من مرةٍ أدخل فيها إلى إحدى دور الكتب الكبرى في العالم وتطوف عيناي بالجدران العالية التي تمتلىء الآن بالمجلدات الضخمة لمختلف أنواع دوائر المعارف التي تتباهى بنشرها الأمم الكبرى.. إلا وأتذكّر قصة فولتير هذه، وأتذكر معها قصة ديدرو، وصراعه من أجل تدوين ونشر أول إنسكلوبيديا في التاريخ.
• وصحيح أن البشرية قد عرفت رجالاً ذوي ثقافة موسوعية مثل أرسطو، وأفلاطون، والفارابي، وهيجل، وغيرهم.. ولكن موسوعية هؤلاء كانت في شمولية فكرهم ونظرتهم إلى الحياة والإنسان والتاريخ. أما دوائر المعارف أو الموسوعات فهي ثبت لمعارف البشرية المتنوعة، يلجأ إليها كلٌ من يريد أن يتعرف على مادة مفصّلة من هذه المعارف تحتوي على تطورها حتى الزمان الذي نُشرت فيه الموسوعة التي تحتويه، فيتزود بها لحاجة عاجلة أو يندفع بعدها إلى التخصص فيها بعد الإحاطة بها.
إن الموسوعة، أو دائرة المعارف، هي إذن صيغة خاصة تختلف عن الكتاب أو القاموس أو النظرية الفلسفية المنتشرة في عدة مجلدات أو كتب. ولقد كان الفضل لـ ديدرو الفرنسي في إيجاد هذه الصيغة، وتحقيق و تبيين قيمتها للمهتمين بالمعارف في العالم، فقلَّدته بعد ذلك الدول، وليس الأفراد أو المحافل العلمية وحدها فحسب، حتى يمكن القول أن أي دائرة معارف تحتل أي مساحة في أي بيت أ, مكتبة عامة الآن.. تدين بشيءٍ ما إلى ديدرو، حتى ولو لم تكن تحتوي على مادة واحدة من مواده. والسبب في ذلك أن ديدرو قد أشرف على دائرة المعارف الأولى هذه وسط صراعٍ شديد أدى إلى سجنه ثلاث مرات، وعرضَّها هي للمصادرة والإحراق أكثر من مرة، فلم تكن ولادتها بالأمر الهين. ولكن فوائدها كانت أكبر من أن تُقاوم، إلا أنه لولا جلده وصبره وقدرته على فهم ظروف عصره، لما أمكن تحقيق هذا المشروع، وجعله ميسّراً للجميع.
• من هو ديدرو؟!.. وما هو العصر الذي ينتمي إليه؟!!. كان أبوه يعمل في تجارة السكاكين والآسلحة في مدينة لانجر، وعندما ولد له طفل عام 1713 أطلق عليه اسم (دنيس)، ولم يكن يتوقع أن يحتل مكانةً بارزة في حركة التنوير التي كانت معالمها قد بدأت تظهر في فرنسا خاصةً، وفي أوروبا عامةً، فقد وهبه للكنيسة، وألحقه بعد أن شبّ عوده بمدرسة الجيزويت (اليسوعيين)، التي كانت المدرسة الأساسية في المدينة الصغيرة. وهكذا قُدّر للصبي أن ينشأ على تعاليم كنيسةٍ محافظة، بل بالغة في المحافظة والجمود. إلا أن دنيس اختار بعد ذلك دراسة الحقوق، فأوفده أبوه إلى باريس. وقد حصل (دنيس ديدرو) على شهادة الحقوق، إلا أنه لم يصبح محامياً أبداً. ورفض أن يعود إلى قريته، وفضّل البقاء في باريس حيث كان قد اكتشف عالم العلوم الجديدة والأفكار الفلسفية الانقلابية التي كانت تزلزل أركان المدينة التي قُدّر لها أن تقود أخطر ثورة فكرية وسياسية بعد ذلك بعدة عقود قليلة. كانت باريس تردد أقوال فولتير، ومونتسكيو، وفونتينل، ومارمونتيل، و روكر، و دوكلو.. وتتابع اكتشافات دالامبير الرياضية باهتمام.
• وعكف دنيس ديدرو على دراسة كل ما استطاع الحصول عليه من هذه المعارف الجديدة، إلا أنه مع كل يوم يتزود فيه بشيءٍ جديد كان يستشعر نقصاً في شيءٍ آخر، فتعلم غلاف دائرة المعارف التي وضعها ديدرو اللاتينية والإيطالية، والإنجليزية، ثم انتقل إلى العلوم فتعرف على اكتشافات نيوتن والفلاسفة الإنجليز، وجاهد كثيراً حتى تعلم الرياضيات، وإن كان لم يصبح عالماً رياضياً، وقد قرّبته العلوم الجديدة من المنهج التجريبي.
• ومن الطريف أنه كان يصرف على نفسه طوال تلك السنوات العشر التي كان يعلّم فيها نفسه من العائد الذي يتوفر له من الدروس الخصوصية، وكتابة العظات الدينية للقساوسة الذين كانوا يلقونها على المصلّين في كنائس القرى. ووصل إلى سن الثلاثين دون أن يكون له أثر أدبي أو فلسفي ذا قيمة. كان قد نشر روايتين صغيرتين لم تحظيا بأي اهتمام، وإن كان قد تعرّف على الصالونات الأدبية التي كانت تنتشر في باريس عن طريق صديقه العالم الرياضي الشاب دالامبير. إلا أن صالون مدام D`ALEMBERT جوفران، كان أكثر الصالونات محبةً إلى نفسه، فقد كان الصالون الذي يجتمع فيه فلاسفة فرنسا، فتعرّف إلى أشهرهم، كما اكتشفوا هم فيه بدورهم، قدرته على التعبير، وميله الواضح إلى حركة التنوير وأفكارها. وتوطدت الصلة بينه وبين فولتير، وجان جاك روسو، رغم أنهما كانا يمثلان قطبين متناقضين، ويجمع بينهما الصراع الفكري. وشاءت الظروف أن اتفق ثلاثة من الناشرين الفرنسيين على ترجمة موسوعة إنجليزية كان قد أصدرها أفرايم تشيمبرس الكاتب الإنجليزي المعروف عام 1728. وكانت في الحقيقة دائرة معارف جوازاً، إذ أنها كانت أشبه بالقاموس المنوع من العلوم والفنون، وكلفوا أحد القساوسة بالإشراف على ترجمتها. وكان الناشر لي بريتون، وهو شريك في هذا الاتفاق قد أسرع بالاتصال بزملائه موضحاً لهم أن مشروع الترجمة هذا لا يتفق ومفاهيم حركة التنوير، ذلك أن تشيمبرس، حسب المفاهيم الفرنسية يعتبر محافظاً، كما أن قاموسه ناقص لا يعطي للفلسفة الفرنسية والألمانية حقها، وأشار عليهم بتكليف ديدرو بهذا العمل. ووافق الناشرون، واتفقوا مع ديدرو على أن يعطوه مائة فرنك شهرياً للإشراف على العمل، وقبل ديدرو رغم ضآلة المبلغ بالقياس إلى المهمة الموكلة إليه. وما أن شرع ديدرو في العمل حتى أدرك خطورة الاعتماد على تشيمبرس، فهو ليس كما قال بريتون فحسب، وإنما هو رجلٌ تنقصه روح الاستقلال، وتشوبه الرغبة في الدفاع عن القيم الجامدة في السياسة والدين. ومن ثم وضع ديدرو خطةً جديدةً، عبر عنها فيما بعد قائلاً: " إن مهمتنا يجب أن تكون هي تبديد الظلمات التي تسيطر على الأرض، وهذه الموسوعة يجب أن تعرض نُظُم المعارف الإنسانية وتطورها.. إنها في الحقيقة الميدان العقلاني للعلوم والفنون والمهن. كما أنها يجب أن تحتوي على مضمون كل علمٍ حديث، سواء كان هذا العلم عقلانياً نظرياً، أو تطبيقياً كعلم الميكانيكا الحديثة." كانت هذه نظرية جديدة في تصنيف العلوم وتقديم مبادئها الجوهرية في مطبوعة واحدة. إلا أنه أخذ يطورها بعد ذلك، ولم يكتف بهذا الإطار الذي توصل إليه. ولما كان يؤمن بتلك المقولة الشهيرة التي كانت تلخص الصراع الفلسفي في عصره وهي: "أن أهم ما يجب أن يدرسه الإنسان هو الإنسان نفسه"، فإنه صمم المنهج الأساسي للموسوعة على هذا الأساس، وهنا بدأت تظهر قدرته الفلسفية، إذ قام بتشريح القدرات الإنسانية وتوصل إلى أنها ثلاث قدرات: العقل، والذاكرة، والخيال. وعلى هذا الأساس قام بتقسيم الدائرة، فالعقل مهمته الفلسفة، والذاكرة موطن التاريخ، والخيال صانع الفنون الجميلة، ولكل قدرة من هذه القدرات أقسامٌ وشُعب ودرجات. وهكذا تكون له الاطار الذي سيقيم عليه بناء دائرة المعارف بصورتها الجديدة، وعندما أعلن عن تصوره هذا في أحد اجتماعات صالون مدام جوفران، وافق فولتير ومونتسكيو على المشاركة فيها.