مستخدم:نوره الحسيني
التقدم والتخلف في ميزان الإسلام :
مفهوم التخلف: جاء في لسان العرب لابن منظور (مادة تخلف) ما يلي: (خلف الليث: الخلف ضد قدّام (...) وجلست خلف فلان أي بعده (...) والتخلّف: التأخر
إن مفهوم التخلف يتضمن أو يفترض وجود نموذج يجسد التقدم وآخر متخلف عنه، فمشيت خلف فلان يعني أنني تخلفت عنه، وتخلفت عن الركب يعني أن تخلفي يقاس بالموقع الذي يحتله ذلك الركب في المسار الذي يفترض السير فيه. ومن هذا المنطلق نجد كثيرًا من الكتاب والباحثين الذين أثاروا قضية تخلف المجتمع العربي المسلم، يرون أن هذا المجتمع متخلف بالنسبة للمجتمع الغربي وقد خضعوا في نظرتهم تلك، للمقياس الذي أشاعه الغرب للتقدم والتخلف، وهو (اعتبار نموذجه ممثلاً للتقدم، واعتبار نماذج بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية نماذج التخلف، ولم يقصر ذلك على الجوانب التقنية والعلمية والصناعية ومستويات المعيشة، وإنما مدها إلى القيم والأخلاق ومكونات الشخصية، فاعتبر نموذجه معيار التقدم وأخذ يقيس عليه النماذج الأخرى، التي ستعتبر متخلفة بالضرورة ما دامت وحدة القياس هي النموذج الغربي) يتميز التقدم في المجتمعات الأوربية والأمريكية المعاصرة بسمات مادية تقوم على العلم ووسيلة التجربة ,وهم بذلك فصلوا بخططهم الإنمائية الجانب الديني الذي يقوم أساساً على التشريعات الإلهية الكريمة السامية ,بمعنى ان السيادة في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان كانت للعلم التطبيقي والمشاهد فهو القائد بينما ينقلب الدين في تلك المجتمعات الى تابع
ومن وجهت نظر إسلامية فإن هذا التقدم يعد تقدماً غير رشيد لأنه يقود المجتمعات الإنسانية الى الهلاك, أي الموت بالحرب أو بالمرض أو بالفقر , باعتبار أن العلم يحتاج إلى ضابط يصحح مجراه, ويضبط نتائجه, كالنظر مثلاً الى اكتشاف أسلحة الدمار الشامل (الذرية والجرثومية) وانتشار الأمراض الجنسية (الايدز-الهربس) بسبب الإباحة الجنسية, وكذلك انتشار الفقر والعوز وعدم سد الحاجة بسبب استخدام الفائدة الربوية في المعاملات الاقتصادية, وشيوع خاصية عقوق الوالدين وقطع الارحام وانتشار الجريمة الفاحشة بسبب سيادة المنفعة المادية وعدم وجود ضابط اخلاقي يكبح جماح الأهواء ويردع الشهوات ويدخلها إلى مجاريها الطبيعية المعتدلة . إن الإسلام ينكر هذا التقدم بهذه الخصائص والسمات ويُعد لإسلام تلك المجتمعات التي تبنت سياسة تخطيط تقوم على العلم وتفصلها عن الدين أنها لم تحقق الهدف الرئيس من برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية ,وهو إشباع حاجات الإنسان الرئيسية, وأهمها الأمن في جميع جوانب الحياة فقد قال خالق الخلق والعالم بكل شيء سبحانه وتعالى : (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا )) (123-124) سورة طـه. وفي هاتين الآيتين الكريمتين ما يؤكد سنة إلهية تعبر عن مشاكل الإنسان المعاصر, فالقرآن صريح في أن الإنسان يظل في ضنك حتى لو توفرت له الامكانات المادية, وهي الحالة التي تنطبق على المجتمعات المتقدمة والتي يعيش الإنسان فيها حياة الضنك بالرغم من التقدم المادي يقول سيد قطب رحمة الله- تفسيري لهذه الآية (المجلد الرابع 2355)"إن هدي الله أمان من الضلال والشقاء, فالشقاء ثمرة الضلال ولوكان صاحبه غارقاً في المتاع ,فهذا المتاع شقوة, شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة, وما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه عقابيل تتبعه ,وما يضل الإنسان عن هدي الله الا يتخبط في القلق والحيرة والاندفاع وعدم الاستقرار. الشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع, والحياة المقطوعة عن الله "ضنك" مهما يكن فيها من سعة ومتاع, ضنك والحيرة والقلق والشك, وضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر على ما في الفوت, ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت , وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار الا في رحاب الله ". والحقيقة ان خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول العالم المتقدم في أوربا وأمريكا واليابان قد نجحت في حل مشكلات الإنتاج الذي يخضع لقدرات بشرية, ولكنها لم تستطع حتى اليوم حل مشكلة الانسان(وهو هدف التنمية) بسبب عزوف الانسان عن التشريعات الإلهية السامية المتعلقة به والتي ترشده نحو تحقيق سعادته ورضاة في الدنيا والاخرة. والاتجاه الاسلامي في فلسفة التغير الاجتماعي نجده في فكر "مالك بن نبي" حيث يرى ان الدين مركب الحضارة, بواسطته يمكن إعادة التركيب , إذ أن الانطلاق من القاعدة الدينية ينعكس على باقي مناشط الحياة وسلوكيات الافراد, وخاصة الاثر الكوني للدين وأنه الأساس في جميع التغيرات الإنسانية الكبرى ,وأن نجاح أي أمة هو الأخذ بتلك السنن لمواجهة واقعها المستقبلي , ويرى مالك: إن الإنسان هو الفاعل الذي تبدأ منه عملية التغيير الاجتماعي وأن دور هذا الإنسان في المجتمع لا يتوقف على حفظ هذا النوع بل هو خليفة الله في أرضه, وهذه الوظيفة الاستخلافية توجب إجراء عملية تغير نفسي واجتماعي يخضع لها الإنسان من خلال الثقافة المستمدة أنساقها من العقيدة الدينية ليكون الأقدر على القيام بدور الفاعل في بناء مجتمعه والوصول للحضارة على أساس التعادل بين الروح والمادة فإذا اختل هذا التعادل في جانب او في آخر كانت النقطة خطيرة لأنها تؤذن بالخلل الثقافي والاجتماعي والسقوط الحضاري (نورة السعد :1416 و أن ما أصاب الأمة الإسلامية، فعطل طاقاتها، هو فقدانها (للجو الثقافي) -على حد تعبير مالك بن نبي- المثالي، الذي لا تتفتح الإمكانات إلا في ظله، ولا تزدهر البذور وتثمر إلا في تربته، تلك البذور هي عناصر الثقافة.. يقول مالك بن نبي، موضحًا ضرورة ذلك الجو لقيام البناء أو المنهج التربوي اللازم لقيام الحضارة: (إن عناصر الثقافة تذوب في كيان كل من المجتمع والفرد، لتطبع أسلوب حياة الأول وسلوك الثاني، اللذين يجري التفاعل فيما بينهما بحيث لا يسمح المجتمع للفرد بالنشوز ولا الفرد للمجتمع بالانحراف، وهو ما يسمى بعملية النقد الذاتي، التي يعبر عنها الإسلام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا الوضع عندما يزول، نصبح أمام أزمة ثقافية، تعبر عن نفسها في تعذر تركيب العناصر الثقافية في منهج تربوي) .
إن هذا التعذر في تركيب العناصر الثقافية يقع ولا شك في المرحلة الثالثة من المراحل التي يمر بها المجتمع، والتي يرى مالك بن نبي أنها تتميز بتفكك في الغرائز يعوق هذه الأخيرة عن العمل في توافق وانسجام، ويسقطها في النزعة الفردية بحيث إن كل فرد يعمل لحسابه الخاص، مما يؤول بنظام الطاقة الحيوية إلى الاختلال وفقدان قيمته الاجتماعية، ويكون ذلك علامة على انسلاخه من مراقبة نظام الأفعال المنعكسة الناشئ عن عملية التكيف. وهذا ما يؤدي إلى تفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائياً (وهو ما يطلق عليه في التاريخ، عصر الانحطاط، كذلك العصر الذي هيئ في المجتمع المسلم في ظروف القابلية للاستعمار، والاستعمار).
لقد استطاع الاستعمار بمكره - واستفادته من قابلية المسلمين للاستعمار- أن يفتت بنية الشبكة الاجتماعية التي تحدث عنها مالك بن نبي من خلال مجموعة من المعاول التي أعطت أكلها المسموم، من قبيل العلمانية التي أضعفت سلطان القيم الإسلامية على نفوس أفراد المسلمين، فأصبحوا يسلكون في حياتهم اليومية منسلخين من تلك القيم التي تصنع التماسك في جسم المجتمع المسلم، (فكلما ظهر الوضع المدني أو العلماني في المجتمع، كلما ضعفت روح الأصالة في نفوس أصحاب الثقافة الوطنية أو الدينية، وكلما قوي الميل لديهم إلى تقليد من عداهم. وبذلك خف وزن القيم والمبادئ الإسلامية في المجتمع، وأصبحت أمور الدنيا وحدها -وبالأخص التطلع إلى الوظائف منها -ذات الإغراء وذات التأثير عليهم، كما هي ذات تأثير على غيرهم).
إن فقدان الأخلاق سلطانها على النفوس في مجتمعنا الإسلامي، كانت هي قاصمة الظهر التي أحدثت شرخًا مهولاً في البناء الاجتماعي، أي أنها علة مباشرة في التخلف الذي نعاني منه. ونضيف -ونحن بصدد الحديث عن العلمانية- أن هذه الأخيرة كانت هي أصل الانشطار إلى طوائف، الذي ضرب المجتمع الإسلامي بعنف، بحيث أصبحنا أمام مجموعة جديدة تتألف من العاملين في الإدارات والشركات والبنوك وهم الذين يطلق عليهم (العصريون)، ومجموعة قديمة تتألف من أصحاب الثقافة الدينية تربط نفسها وتقصر حياتها على العيش مع تراث الماضي بعيداً عن حركة الحياة العصرية، يضاف إلى هاتين المجموعتين جماعة أو طائفة ثالثة تتكون من خريجي المدارس الأجنبية المعادين للإسلام.
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) وهو يتعلق بتسوية الصفوف في الصلاة، يمكن أن نستلهم منه معاني رائعة في هذا الباب الذي نتحدث فيه، وهو يتعلق بوضعية البناء الاجتماعي وما يعتريه من حالة التخلخل والضعف.. نستطيع أن نستلهم من ذلك الحديث النبوي الشريف، أن المجتمع المسلم ما لم تتوحد قلوب وأفكار أفراده حول محور واحد وقبلة واحدة، فسوف تكون قلوبهم شتى، ويحدث الله التباغض بينهم، فيضرب بعضهم وجوه بعض.
إن هذه الفرقة التي عصفت رياحها العاتية ببناء الأمة الإسلامية، تعود إلى غرس خبيث ألقى والقرآن الكريم ركز على العامل العقائدي باعتباره عاملاً حاسماً بإمكانه ان يغير في مركز الثقل, ومع ذلك لم تكن أبداً استثناء من السنة الكونية, كما تبين الآيات التالية: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) غافر :21,22).(( وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )) (الروم9) . ((فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)) (فصلت:15). وهذه الآيات صريحة في التأكيد على العامل العقائدي في تغير مجرى المجتمعات رغم الإمكانيات المادية ورغم القوة والمناعة التي تتوفر لها . والعامل العقائدي له دور إيجابي في تأكيد التماسك الاجتماعي والحفاظ على توازن المجتمع باعتباره وسيلة فعالة في ظبط سلوك الناس وتحذيرهم من المخاطر التي تؤدي إلى انحلال مركز القوى في المجتمعات وانهيار مؤسساتها, وتفكك بنيتها وما يستتبع ذلك من تدهور وسقوط حضاري (محمد امزيان :1401: 385).
من التاريخ
لقد سجل التاريخ هذه العلاقة الجدلية بين العامل العقائدي وبين تطور المجتمعات سلباً وإجاباً, وتاريخ المجتمعات الإسلامية بالذات خير شاهد على ذلك كما أبرز ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية, لقد لاحظ ابن تيمية (كما ذكر محمد امزيان: 1401:385) أن هناك علاقة طردية بين صفاء العقيدة وتقدم المجتمعات وبالعكس. فكلما كانت العقيدة صافية كلما تحقق وساد الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي وازداد المجتمع قوة وتفوقاً . وبقدر ما تضطرب العقيدة بقدر ما تسير المجتمعات نحو الاضطراب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. لقد طبق ابن تيمية هذه القاعدة في تفسير تفكك المجتمعات الإسلامية ابتداءَ من دولة الأمويين التي ظهرت فيها البدع الكلامية إلى دولة العباسيين وما بعد العباسيين. حيث ظهر الإلحاد وتفشت المظاهر المرضية في الدين كشكل الطرق الصوفية وتحولت العقيدة من مصدر قوة إجابية محركة للهمم ودافعة للتقدم إلى قوة سلبية. لقد صاغ ابن تيمية حديثه عن العلاقة بين العقيدة وسير المجتمعات في شكل علاقة منطقية تقوم على أساس وجود تلازم مطرد بين النتائج ومقدماتها كما سيتبين في هذه المقتطفات. ففي حديثه عن سقوط دولة بني أمية بعد أن ظهر في بعضهم القول بالتعطيل وغيرها من البدع الكلامية عاد عليهم شؤمهم بزوال دولتهم ."فإنه إذا ظهرت البدع التي تحالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل وانتصر لهم ". ويُرجع ابن تيمية السبب في تسلط الروم النصارى على العباسيين واخذهم دمشق والجزيرة والثغور الشامية وبيت المقدس في أواخر المائة الرابعة إلى ظهور النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسل حسب تفسير ابن تيمية. وعندما تولى الحكم نور الدين الشهيد وقام من أمر الإسلام وإظهار الحق ظهر الإسلام وفرض سيطرتها السياسية من جديد " فكان الإيمان بالرسل والجهاد عن دينه سبباً لخير الدنيا والآخرة " " فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة والإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار , ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار" " وكذلك لما كان أهل الشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم ,فلما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار ". وهذه القاعدة العامة التي صاغها الإمام ابن تيمية في هذا الشكل المنطقي يمكن أن تعمم على كثير من التحولات الاجتماعية التي عرفتها دول العالم الإسلامي في ماضيها وحاضرها كما حدث مع المرابطين والموحدين وبلاد الاندلس.. وفي تاريخنا الحديث يظل الصراع العربي الاسرائيلي, وأحداث أفغانستان التي سميت بالظاهرة الأفغانية خير شاهد على تلك العلاقة الطردية (محمد امزيان:385:1401-386 )
إن هذاالشر المستطير الذي اكتسح الأجيال المسلمة نتيجة للنظام التعليمي المسموم، قد عُزز أيما تعزيز من طرف وسائل الإعلام، التي تملك من أدوات السحر والإيحاء والاستقطاب ما هو كفيل باقتحام النفوس المهزوزة، وإحداث أثره الهدام وبث سمه الناقع، فالرواية والقصة والفيلم...إلخ، كلها أدوات وقنوات تتضافر لتلتف كالأفعى حول فكر المسلم ووجدانه، ولا تنفك عنه حتى تتركه كالحطام.
هذه بعض أسباب ونتائج ومظاهر أزمة التخلف الحضاري في المجتمع الإسلامي، وقد تبين لنا أن البناء الحضاري بدأ يتآكل، نتيجة لنسف أسسه العقدية وما يرتبط بها من قيم تربوية تقوم عليها الشبكة الاجتماعية المتماسكة. فما السبيل إلى إعادة نسج خيوط تلك الشبكة بما يضمن عودة الفرد المسلم والمجتمع المسلم أقوى ما يكونان وأصلب عودًا.. وبما يضمن تحصينهما من كل قوى الهدم والإفلاس؟ هذا ما سأحاول أن أجيب عليه في المحور التالي بإذن الله.
سبيل الخروج من أزمة التخلف
قبل أن نبرز معالم المنهج الذي يضمن الخلاص من الأزمة والانعتاق من ربقة التخلف، نشير إلى أن المجتمع المسلم لم يترك وشأنه يقرر مصيره بنفسه، ويحل مشاكله بمحض إرادته المستقلة، وإنما وقع -بفعل الإرث الثقيل الذي خلفه المستعمر وراءه -تحت طائلة الضغوظ والتأثيرات التي مارستها القوى الاستعمارية، من خلال تلامذتها الذين ربتهم على أعينها وأكلأتهم برعايتها، بحيث شكل هؤلاء قوة أو طابورًا موصولاً بمراكز القرار الاستعمارية، أقحم نفسه في عملية إيجاد الحل لمعضلة التخلف والركود التي يعاني منها المجتمع المسلم. ومن جملة الحلول التي فرضت على الأمة الإسلامية الحل الليبرالي الديمقراطي والحل الاشتراكي الماركسي، ولكن المصير الذي لاقاه كل من هذين الحلين هو الفشل، وهو أمر يتماشى مع طبيعة الأشياء وسنن التغيير.
فالحلول المطروحة، غريبة كل الغرابة عن تاريخ وكيان المجتمع المسلم، بل عن الإنسان من حيث هو إنسان وفطرته السليمة. وهي إنما طرحت لتبدد طاقة الأمة وتهدرها في التناقضات، وهي -أي الأمة- التي قام وجودها خلال التاريخ الطويل على أساس فلسفة التوحيد التي تلم الشمل وتوحد القوى في وجهة واحدة موحدة الأهداف.
ومن هنا يتبين لنا أن السر في إخفاق الحلول المستوردة في المجتمع المسلم هو تلك الفجوة بل الهوة العميقة بينه وبين الغرب على المستوى النفسي والحضاري، بحيث إن الأيديولوجيات الغربية لم تستطع أن تنفذ إلى صميم أفراد المجتمع وتحرك كوامنهم، لأنها لم تخاطب الإنسان في جميع أبعاده. لقد خاطبت عقله دون أن تخاطب وجدانه وروحه، وقدمت له برامج اجتماعية دون أن تقدم له أجوبة مقنعة حول أسئلته الوجودية وأحواله الشخصية وعلاقته الأسرية والتزاماته الأخلاقية، وألزمته بالنضال الخارجي دون أن يكون لها سلطان على خلجات نفسه وأشواق روحه.
وبعد التجارب المريرة التي عرفتها الأمة العربية الإسلامية، لم يجد حاملو الفكر الغربي وممثلو أيديولوجياته في ديار المسلمين، لم يجدوا بدًا من الإقرار بإخفاق الأيديولوجيات المستوردة في نقل المجتمعات الإسلامية من حال التخلف إلى حال النهوض والتقدم، لقد قالوها صراحة بعد لأي، وبعد عهد طويل من المكابرة والمواربة، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
إن الأيديولوجيا الغربية كان لا بد أن تسقط وتلاقي الإخفاق لدى احتكاكها بالمجتمعات العربية الإسلامية لأنها تفتقد لشروط ومقومات النجاح، وهي: (أولاً: الإقناع الفكري الذي يستجيب لتطلعات الإنسان إلى المعرفة الحقة، حول القضايا الوجودية التي تقرر مصير الإنسان في الحال والمآل، والذي لن تهدأ له نفس ولن يرتاح له ضمير في ظل حرمانه من الحصول على أجوبة شافية عنها. وثانيًا: منهج تغيير اجتماعي كفيل بتحقيق متطلبات الإنسان من الحرية والعدل والمساواة والكرامة، بما يتوافق وينسجم مع الأسس العقدية المناسبة لفطرة الإنسان).
إن هذين الشرطين لنجاح العقيدة في استنفار طاقات الإنسان ودفعها في المسار الإيجابي، ليس لهما وجود في غير الإسلام، دين الله المنزه عن التحريف والتبديل، ففي ظل الإسلام وحده يرتبط منهج التغيير الحضاري بالعقيدة التي تأخذ بجماع كيان الإنسان، وتحول عنده مسألة الجهاد في سبيل تحقيق التقدم والازدهار إلى التزام بالعقيدة، يعتبر الإخلال به إخلالاً بمقتضياتها. إننا ندرك هذه الحقيقة أجلى ما يكون عندما نلاحظ مدى التجاوب الذي حدث بين جماهير الأمة الإسلامية وبين الحركات الإسلامية التي انبجست من داخلها، معبرة عن همومها، حاملة لقضيتها بكل إخلاص.. إن كل هذه المعطيات الفلسفية والنفســية والاجتمــاعية، تجعل من عملية البناء الحضاري في ظل مذهبية الإسلام، عملية تلقائية لا اعتساف فيها ولا تكلف ولا قسر.
[1]
المدخل الى دراسه المجتمع السعودي- تأليف الدكتور محمد بن ابراهيم السيف
موقع اسلام ويب
- ^ المصادر