مدونة:نرجسية السوق المؤدلجة، السينما وهوليوود وجوائز الأوسكار

ناصر الرباط.

نرجسية السوق المؤدلجة، السينما وهوليوود وجوائز الأوسكار، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المدونة

السينما اليوم واحدة من أقوى وسائل التأثير في العالم هذه بديهية يعرفها كل من يعمل في الترفيه والتعليم والتثقيف والاعلام بل ربما أمكننا القول أن السينما أقوى هذه الوسائل وأكثرها توافراً وأوسعها انتشاراً وأعمقها تأثيراً، خاصة إذا لاحظنا أن الكثير من الأفلام تنتهي معروضة على شاشات التلفزيون أو متوافرة للاستعمال الفردي على شكل أشرطة يديو يمكن نسخها وتوزيعها من دون تدخل رقيب أوحسيب، أو حتى محاسب. ولاأظن أن الانترنت على اغرائه وانتشاره سيتغلب على السينما في أي يوم قريب كوسيلة إعلام وتأثير، وإن تجاوزها كوسيلة تعبير ذاتية وسهلة وسريعة للقادرين ­­لأننا مهما تفاءلنا بهبوط أسعار الكمبيوترات وانتشار استعمالها وتوسع شبكة الانترنت عالمياً، فهناك قطاعات واسعة من فقراء العالم الساعي إلى النهوض لاتعرف بوجود شئ اسمه الكمبيوتر أو الانترنت أصلاً، ولاأظنها ستعلم في أي وقت قريب، لأسباب اقتصادية وسياسية عامة، مهما توقع خبراء العالم الأول، أو بالأحرى حلموا بهذه الأسواق الواسعة التي تنتظر غزوهم الاستهلاكي أما السينما فهي قد بلغت كل زاوية في مجتمعات العالم وتغلغلت فيها من أحياء بيرلي هيلز ونيويورك وهونغ كونغ الراقية إلى مدن الصفيح في بومباي وكلكتا وغيرها من المدن المسحوقة بؤساً وفقراً بل وصار هناك مدارس سينمائية وطنية في العديد من الدول العالمثالثية، تحمل علامات وملامح متميزة ثقافياً وسينمائياً وفنياً وتعبيرياً، بل وأن بعضها حقق نجاحات فنية وثقافية كبيرة، وبعضها تحول أداة احتجاج سياسي معبر وفعال يخاطب مجموعات كبيرة من الناس ويثير قلق السلطات القمعية العالمثالثية أو المؤسسات التقليدية التي تخاف من تزعزع مكانتها القيادية الفكرية في مجتمعات لم يتح لها أن تتعلم كيف تنتقد وكيف تطالب بحقوقها، وهي ربما تعلمت بعض الشيء مما تطرحه هذه الأفلام في هذا المناخ السينمائي الديناميكي العالمي، مازالت هوليوود تتربع على القمة انتاجاً وتوزيعاً وسيطرة على الأسواق والأرزاق والأذواق ومازالت احتفالات توزيع جوائز الأوسكار التي تعقد سنوياً في شهر آذار/مارس في مدينة القرن (Century City)، خارج هوليوود نفسها، وإن كانت على بعد دعسة جاغوار منها، أقوى مظاهر هذه السيطرة وأكثرها جذباً للانتباه فهي تبث على شاشات التلفيزيون في أكثر من سبعين بلداً وتستقطب مئات ملايين المتفرجين في العالم الذين تسحرهم النجومية والنجوم ومع من أتوا إلى الاحتفال ومايرتدونه أولايرتدونه وتصفيف شعورهم وتعليقاتهم وتصريحاتهم وهمساتهم وهي تثير بين المعلقين والنقاد زوابع من الجدل لاتنتهي وبين الشركات المنتجة تنافساً حاداً على تسويق أفلامها التي حصلت على ترشيحات للأوسكار أو على الجوائز نفسها ولم يكن احتفال هذا العام الذي عقد ليلة الأحد  آذار مختلفاً جد الاختلاف عما سبقه في السنين الماضية القاعة نفسها، الأضواء والموسيقى والغناء والرقص نفسه، والثياب المتبرجة والمبهرة على أجساد ممشوقة ورائعة، والمقدمة الفكهة وخفيفة الظل الممثلة السوداء متعددة المواهب داخل السينما وخارجها ووي غولدبرغ التي غيرت ثيابها أكثر مما فعلته أي عروس مغربية في التاريخ، وصفوف تترى من الممثلين والممثلات المشهورين، أي النجوم بالمعنى العميق للكلمة، يصعدون إلى المسرح ويقدمون غيرهم من العاملين في السينما الهوليوودية الذين يتناوبون تحت الأضواء ليستلموا جوائزهم وليقولوا كلمتهم التي لاتتعدى في أغلب الأحوال لائحة من الشكر والعرفان بالجميل لكل من ساعدهم على بلوغ هذه اللحظة من الشهرة المكثفة التي لاتعادلها لحظة ويتخلل العرض وقفات يتم فيها تمجيد بعض الراحلين فرانك سيناترا وستانلي كوبريك هذا العام وتقديم جوائز تقدير على عمل عمر بكامله لبعض المخضرمين المخرج إيليا قازان الذي قدم العديد من الأفلام الناجحة في الأربعينات والخمسينات، ولكنه تعاون مع القمع الماكارثي في الخمسينات الذي طال العديد من العاملين في السينما الذين اتهموا بالشيوعية وحوكموا وانهارت حياتهم المهنية واضطروا إلى ترك هوليوود، حتى أن العديد من السينمائيين لم يغفروا له حتى اليوم كما أخبرتنا الصحف وكما شاهدنا من امتناع الكثير منهم عن التصفيق له عندما استلم جائزته احتفال الأوسكار وزة ذهبية لهوليوود التي تحتفل بنفسهابنرجسية مابعدها نرجسية، وتجبرنا على الاحتفال معها وبها، وتروج لأفلامها في الوقت نفسه وهو، أي الاحتفال، وزة ذهبية لشركات التلفيزيون أيضاً التي تنقله والتي تجني الملايين من الإعلانات التي تتخلله، والتي أصبحت تمتلكها نفس الشركات العملاقة التي تمتلك استوديوهات هوليوود، أي كما يقال في دمشق من دهنو سقيلو والاحتفال فوق هذا وذاك علامة دالة على سيطرة عقلية السوق على ثقافة هذا العصر سيطرة كبيرة كما يحلو للمعلقين الثقافيين أن يرددوا، وهذا فعلاً صحيح فهانحن اليوم لانتعجب للحظة واحدة عندما نقرأ عن أيرادات الأفلام مرتبة تسلسلياً كعلامة على نجاحها ككل من دون أي تفريق بين النجاح التجاري والنجاح الفني وهاهي تكاليف الأفلام، التي تتعدى أحياناً ميزانيات بعض الدول الأفريقية الصغيرة، تصبح هي أيضاً دلالة على أهميتها بغض النظر عن محتواها وعن مستواها الفني وهاهي الشركات الكبرى تنتج مع كل فيلم كبير وملحمي مجموعة من الألعاب والهدايا التذكارية التي تدر دخلاً إضافياً كبيراً، ربما تجاوز أحياناً دخل الفيلم نفسه، والتي ترسخ في أذهان المشاهدين، وبخاصة الأطفال والمراهقين، الاعجاب بابطال هذه الأفلام وتقليدهم فيما يأكلون ويشربون ويلبسون ونوعية السيارة التي يركبون والشامبو الذي يستعملون وماإلى ذلك أي أن الأفلام الكبيرة قد أصبحت جزءاً من آلة إنتاجية وترويجية ضخمة، ليس فقط لنفسها وإنما لغيرها من المنتجات التي قد لاتمت لها بصلة عدا عن أن إيراداتها تصب في نهاية المطاف في خزائن الشركة الضخمة متعددة الجنسيات نفسها ولكن هذه الحقيقة يجب ألا تصرفنا عن الحقيقة الأقدم والأرسخ منها مازالت السينما في نهاية المطاف وسيلة تعبير فني، وبالتالي وسيلة تأثير على الرأي ولايقتصر هذا التأثير على إرادة الشراء والاستهلاك التى تشجعها السينما الهوليوودية بطريقة فجة ومباشرة، خاصة في هذه الأيام التي تعقدت فيها المعاملات الانتاجية تعقداً يحول بيننا وبين متابعة الخيط من مصدر إلى مصدر، بل يتجاوزها إلى ماهو أعمق وأقدر وأبقى التأثير على الذوق والانطباع والاعتقاد ورؤية النفس والآخر على مستويات مختلفة تتراوح بين شخص وآخر وبين ثقافة وأخرى ولكنها أبداً موجودة وفاعلة وهنا بيت القصيد مهما تعامى المعلقون الأميريكيون المحدثون الذين تنفرهم سوقية هوليوود من سوق بالمعنيين المادي والأخلاقي ولكنهم يضربون صفحاً عن قوتها التأثيرية مصدقين أنها لم تعد من ضمن اهتمامات السينمائيين الذين تحولوا بغالبيتهم إلى رجال ونساء أعمال حاذقين وشرهين وحاذقات وشرهات كأن يأخذ ممثل تافه ككين كوستنر  ميلوناً من الدولارات على الفيلم الواحد أو ممثلة ضعيفة القدرة على التعبير كديمي مور  ميلوناً ولكني شخصياً لاأصدق أن أحداً من العاملين في السينما، خصوصاً المخرجين والمنتجين والممولين والكتاب والنجوم، يعتقد في قرارة نفسه أنه فقط يروج لمتعة أو لخدمة أو يهدف فقط لتجميع الدولارات، وإن كان ذلك جل اهتمامهم فعلاً مازال الوعي بقوة السينما التعبيرية على كافة الأصعدة الثقافية والسياسية والأيدولوجية يحرك العديد من النشاطات الهوليوودية أو يحد منها، وإلاكيف نفهم أن يرفض ممثل كأنطونيو بانديراس، الفحل الاسباني المتألق، أن يؤدي دور كمال أتاتورك في فيلم تموله تركيا بعد قبوله المبدأي تحت ضغط اللوبيين الأرمني واليوناني القويين في هوليوود؟ وتأتي حصيلة الأوسكار في نهاية السنة لتقدم لنا دلالات مهمة على التوجهات الأيدولوجية السائدة في هوليوود دلالات تختزل جهود الألاف في سنة أو أكثر، وتفصح في ساعتين أو أكثر كما أصبحت العادة مؤخراً من خلال الهرج والمرج والتباهي عن تيارات فكرية متنافسة تسعى للظهور والسيطرة وإن من تحت غطاء فني مبهرج وخلاب كثيرة هي الدلالات الثقافية المهمة في احتفال الأوسكار هذا العام فوز فيلم شكسبير عاشقاً بسبعة أوسكارات أحسن فيلم، وأحسن ممثلة وممثلة مساعدة وسيناريو وموسيقى وإدارة فنية وأزياء مثلاً يذكرنا بأن الدراما الغرامية مازالت فاعلة في الوجدان الشعبي، خاصة في هذه السنين بعد أن أنهكته الفضائح الجنسية الرئاسية والنيابية والنجومية هنا تبدو هوليوود كأنها تقول أروع مافي الدنيا الحب والتضحية والمثالية، وإن كانت قد اضطرت للتفتيش عنها في الماضي الإليزابتي الانجليزي ومن خلال المنشد الأكثر شهرة في تاريخ اللغة الانجليزية ويليم شكسبير هذه هي الهدهدة السيكولوجية بعينها عندما تكد الصدمات الناس، تأتي هوليوود بالأكسير المعاكس والهدف؟ أهداف لاهدف واحد، كلها تجد صداها في أرض الواقع الثقافي والسياسي الأميريكي هناك مثلاً الاحتفال بالثقافة الانجليزية الأصيلة بعد أن بدأ النواس بالدوران عكس تيار التعددية الثقافية واللغوية في الولايات المتحدة الذي كان قوياً في الثمانينات وبداية التسعينات كثير من الولايات التي تحوي أعداداً كبيرة من المهاجرين اللاتينيين أصدرت مؤخراً قوانين تمنع استعمال اللغة الاسبانية من دون أن ترافقها الانجليزية في كافة مجالات الحياة العامة وهناك أيضاً الاحتفال بالحب نفسه كأساس للتوازن الجنسي الاجتماعي بعد أن كاد الحبل ينفرط على صعيد الارتباط بين الناس، وإن كان الصراع في هذا المجال على أشده بين المنظرين والمستفيدين مادياً من كلا الاتجاهين وهناك أيضاً ولوبجرعة خفيفة الاحتفال بالثقافة الارستقراطية والاعتراف باندياحها في الثقافات المتوسطة والشعبية من خلال انزال شكسبير من برجه العاجي وأنسنته، أو اقتباسه للحياة المعاصرة في المدن الأميريكية كما حصل السنة الماضية في اقتباس مبتكر لروميو وجولييت وأما الفيلم الثاني الذي حصد جوائز مهمة فهو فيلم ستين سبيلبرغ البحث عن المجند ريان الذي حصل على خمس أوسكارات أحسن مخرج وأحسن سينماتوغرافي وصوت وتأثيرات صوتية وتوضيب سبيلبرغ هو عراب هوليوود الجديد من دون منازع، وهو قد أدى دوره على الملأ خلال الاحتفال عندما توقف العديد من الفائزين أمامه وأخذوا البركة منه في طريقهم لاستلام جوائزهم مماذكرنا بطريقة مرعبة بمنظر العراب السينمائي الخيالي، مارلون براندو، في فيلم العراب الشهير قبل أكثر من عشرين سنة البحث عن المجند ريان قصة من الحرب العالمية الثانية تدغدغ عواطف الأميريكيين عن عدالة الحرب التي شاركوا بها حينذاك وانتصروا فيها على عكس حروب أخرى مازال النقاش عن جدواها محتدماً، وهو كذلك يدين دموية الحرب من خلال العشرين دقيقة الأولى الصادمة فيه مما دفع العديد من النقاد لوصفه بفيلم الحرب لانهاء كل حرب ولكن ماحققه سبيلبرغ فعلاً هو أنه قد ضرب عصفورين بحجر واحد وهو معلم من أصاب أكد على وطنيته واعتزازه بهذه الوطنية، ورسخ انتماءه الليبرالي من خلال ادانته لعنف الحرب ولن أستغرب في المستقبل القريب إذا وجدته يسعى لوظيفة سياسية كسناتور أو حاكم ولاية أوربما أكبر وهو منذ الآن منغمس في السياسة وإن كان التعليق على ذلك شبه معدوم في وسائل الإعلام الأميريكية، فهو قد تبرع لصندوق الانتخابات الديمقراطي بأكثر من  ألف دولار، وهو كذلك صديق شخصي لبيل وهيلاري كلينتون ومنافح عنهما ومضيف لهما في عطلهم في لونغ أيلند أما الفيلم الثالث من حيث عدد الجوائز فهو فيلم الكوميدي الإيطالي العجيب روبرتو بينيني الحياة جميلة الذي حصل على جائزة أحسن فيلم أجنبي وأحسن ممثل لبينيني وهو أول من يحصل على جائزة أحسن ممثل عن فيلم أجنبي بعد مواطنته صوفيا لورين التي حصلت على الجائزة عينها عام  عن فيلم امرأتين وأحسن موسيقى أصلية ولا يغرنكم العنوان فالفيلم ليس كوميدياً بحتاً، فهو ضربة معلم من حيث استخدامه للكوميديا لإصابة قلب التراجيديا ودغدغة عواطف السينمائيين اليهود المسيطرين على هوليوود في الآن نفسه فالفيلم يحكي قصة أب يهودي إيطالي يحاول إخفاء حقيقة معسكرات الاعتقال النازية عن ابنه من خلال إيهامه بأنهما يشاركان في لعبة، ولكنه في النهاية يفشل ويدمي قلوب متفرجيه بعد أن أضحكهم طويلاً وقد أثار الفيلم ردود أفعال مختلفة كان أجرأها صوت احتجاج المتزمتين اليهود الذين يرون، ويريدون لنا جميعاً أن نرى، في تجربة المحرقة النازية قدسية لايجوز المساس بها وإن بتعاطف ولعل فوز الفيلم بالأوسكارات الثلاثة دليل على غلبة الرأي الواعي على المتزمت في المحيط اليهودي والسينمائي منه بشكل خاص فالفيلم في نهاية الأمر أقوى من أي وسيلة أخرى في غرس إدانة المحرقة كمان وكمان في عقل ووجدان المتفرج الذي يستغرقه الضحك ومن بعده البكاء عن أن يلاحظ كيف شحذت مخيلته بصور قوية جديدة تدين الفاشية بقوة وعمق، صور ستبقى معه لفترة طويلة بعد نسيانه لقهقهاته ودمعاته ولكني لاأستبعد أن يكون حصول فيلم الأيام الأخيرة (The Last Days) على أوسكار أحسن فيلم وثائقي، وهو عن المحرقة ذاتها وإنما من خلال تصوير مؤثر للوقائع، محاولة لترضية الجانب المتزمت في المحيط السينمائي اليهودي ومحاولة أيضاً لتذكيرنا بالمحرقة وبفظائعها وآلام اليهود المستمرة من جرائها، وهو الموضوع الذي تتقن هوليوود إعادة صياغته بحلل جديدة كل عام في النهاية يمكننا أن نلاحظ أن أفلام الخيال العلمي وعلى رأسها استعراض ترومان؛ لم تحصل على أي جائزة هذا العام لعل في ذلك أيضاً دلالة ربما لم نعد بحاجة لشطحات الخيال العلمي لتسليتنا أو إرعابنا، ففي أخيَلة الواقع الكفاية هذه الأيام وما انغماسنا بقراءة كتب الفضائح عن كلينتون، ككتابي مونيكا لوينسكي "قصة مونيكا" وجورج ستيفانوپولوس انساني للصميم قصة تربية سياسية  (All Too Human: A Political Education) إلا دليل آخر على طغيان هذا الاتجاه.

الكلمات الدالة: