مدونة:نحو إعادة تقييم للثقافة الفنية الأموية
نحو إعادة تقييم للثقافة الفنية الأموية، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المدونة
كنت في القسم الأول من هذه المقالة قد حللت بشئ من التفصيل قصرين من القصور الأموية الصحراوية، قصير عمرة وقصر المشتى، في محاولة لفهم الشخصية الفنية الأموية التي أنتجت هذين القصرين من ضمن مجموعة واسعة من القصور التي ماتزال أوابدها ماثلة للعيان في كل مناطق الشام من صحرائها لوديانها لسهولها الخصبة والتي يقدر عددها بما يزيد عن خمسين قصراً وكانت نظريتي هي أن الثقافة الأموية الفنية التي تمثلها تلك القصور كانت ثقافة استيعابية، أي أنها كانت ثقافة منفتحة على محيطها الشامي بتراثه المركب والضارب في الزمن عودة إلى العهود البيزنطية والكلاسيكية والآرامية، متأثرة به ومؤثرة فيه، متفاعلة معه أخذاً وعطاءً، وأننا لايمكننا فهم الخيارات الفنية والمعمارية التي اعتمدها الأمويون من دون اعتبارها تحاوراً مع هذا التراث بل وأحياناً تماهياً معه وكنت قد أنهيت مداخلتي بالتساؤل فيما إذا كانت نظرية التلاقح الثقافي بين التراث الشامي ماقبل الإسلامي والذوق الأموي الناشئ تنطبق على القصور الأموية المعزولة جغرافياً واجتماعياً فقط أم أنها تنسحب على مجمل الانتاج المعماري الأموي الذي وطد الوجود العربي الإسلامي في قلب العالم الإسلامي خلال القرن الأول الهجري ووعدت بأنني سأبحث عن مضامين ذلك السؤال بالعودة إلى أعظم المباني المدنية والدينية الأموية التي ماتزال قائمة، أي قبة الصخرة في القدس والجامع الأموي الكبير في دمشق، وتحليل عمارتها وزخارفها لنرى إن كانت هي أيضاً تحمل آثار ذلك التلاقح الثقافي والمعماري والفني الذي لمسناه في القصور قبة الصخرة في القدس هي أول عمل معماري إسلامي واع لعظمته بل ومتباه بها ولعلها كذلك من أروع ما خلفته لنا العمارة القروسطية في أي مكان في العالم على الإطلاق وقد بناها الخليفة عبد الملك بن مروان حكم في القدس خلال النصف الأول والعاصف من خلافته، وانتهى بناؤها كما يدل الشريط الفسيفسائي الذي يدور بقبتها عام للهجرة أي ميلادي ولن أدخل هنا في نقاش عن سبب بنائها وتوقيته وعن أهمية موقعها، وهي كلها أسئلة مهمة وعويصة ومازالت قابلة للأخذ والرد ولكني سأنظر لها كأثر قائم وأحاول أن أفهم شكلها وزخرفتها على ضوء المعطيات التاريخية المتوافرة عنها قبة مذهبة ترى من مسافات بعيدة، مبنية فوق صخرة مقدسة ومزنرة بممرين يدوران حولها بمسقط مثمن، شامخة في الهواء في مركز حرم هائل المساحة قائم على قمة تل من تلال القدس ويحتل جزأه الجنوبي جامع كان حتى بناء القبة نفسها بسيط العمارة والشكل وهذه القبة الهندسية التشكيل لحد الكمال كانت مزخرفة بالفسيفساء على كل سطوحها داخلاً وخارجاً وكانت تبهر الرائين حتى أن كثيراً منهم لم يملكوا نفسهم من إضفاء كل صفات البريق واللمعان عليها مهملين في الوقت نفسه، للأسف، أن يخبرونا ماذا كانت تلك اللوحات الفسيفسائية تمثل وعلى هذا فنحن اليوم غير قادرين على الحكم على مجمل البرنامج الزخرفي في القبة التي فقدت جزءاً كبيراً من فسيفسائها الأصلية، ولكننا نملك من الشواهد الباقية على الرواق المثمن الداخلي وعلى رقبة القبة مايكفي لتشكيل فكرة عن مواضيعه ونماذجه مخطط القبة ليس غريباً بالدرجة التي يبدو بها اليوم، فهو ذو أصل روماني يعرف بمخطط ضريح الشهيد (Martyrium) مخطط مركزي يتحلق حول بؤرة مهمة كضريح عظيم أو تمثال إله ليتمكن الزوار من الطواف حوله وظيفته إذن طقوسية طوافية وهو لهذا السبب قد استعمل في الفترة المسيحية المبكرة في بلاد الشام، وفي مجمل الأراضي البيزنطية، في عمارة العديد من الكاتدرائيات المهمة، ككتدرائية بصرى في حوران التي ماتزال بقاياها قائمة اليوم وكنيسة القيامة في القدس نفسها وهما الاثنتان تعودان إلى فترة حكم الامبراطور البيزنطي الكبير جوستينيان حكم ولكن قبة الصخرة أكثر هذه المخططات توازناً هندسياً وهي من دون أي شك قد قصد بها التمايز والتنافس مع قبة قبر المسيح في كنيسة القيامة التي تطل عليها من أعلى جبل مورياه ولكن ماذا عن الفسيفساء؟ هنا أيضاً النموذج الحرفي واضح ومعروف، وهو كذلك بيزنطي وشامي، أمثلته مشهورة من كنائس الأردن ولبنان وفلسطين إلى كنائس العاصمة القسطنطينية، وأشهرها آيا صوفيا، إلى كنائس سالونيكا الأغريقية فإلى راينا البيزنطية على الأدرياتيك في إيطاليا، وهي كلها تعود للقرنين الخامس والسادس الميلاديين أما مواضيع اللوحات الزخرفية فهي أكثر تعقيداً في أصولها وكيفية اختيارها ومعانيها فعلى خلاف النماذج البيزنطية التي تتشارك وإياها في التقنية، تركز لوحات قبة الصخرة على المواضيع اللاتمثيلية، وتحصرها بالكتابات القرآنية والتاريخية وبالتوريق والزخارف النباتية وبعض الأشكال الغامضة اليوم والتي لعلها مثلت تحويراً لتيجان الملوك ومستلزمات وظيفتهم من صولجانات ومجوهرات وماشابهها فما الذي تعنيه هذه اللوحات؟ ومن صاحب فكرتها؟ هل هم النقاشون الشوام المتدربون في المدرسة البيزنطية الذين نفذوا هذه اللوحات؟ أم أنهم السادة الأمويون، عبد الملك نفسه ومستشاروه الذين نعرف منهم اثنين على الأقل رجاء بن حيوة الكندي البيساني الفقيه الورع والداهية السياسي الذي خدم في بلاط أربعة خلفاء أمويين ولعب دوراً مهماً في إيصال الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، وآخر اسمه يزيد بن سلام وهو على الغالب مولى مقدسي لعبد الملك؟ يبدو لي جلياً أن السادة كانوا أصحاب القرار في اختيار المواضيع والنصوص في الفسيفساء بسبب من وضوح الإرادة السياسية والإعلامية والأيدولوجية في الآيات القرآنية المختارة بدقة وفي تركيز وضع صور تيجان الملوك في الرواق حول القبة وبمواجهتها فالنص القرآني يحتوي على كل الآيات التي تتكلم عن المسيح، وهو يركز على وحدانية الله وينفي إمكانية أن يكون له ولد ويضع المسيح في موقعه الإسلامي المختار كنبي مرسل والتيجان تبدو أشبه مايكون بالتيجان الحقيقية للملوك المغلوبين التي كان أباطرة الرومان والبيزنطيين يضعونها في معابدهم وكنائسهم كعلامات نصر ورمز إيمان بأفضلية معتقدهم وبالتالي يمكننا هنا أن ننظر إلى هذين العنصرين الزخرفيين عادة على أنهما مثلا بالنسبة لبناة قبة الصخرة وسيلتي دعاية لدينهم ولدولتهم المنتصرين خاصة إذا تذكرنا أن قبة الصخرة قد بنيت في القدس التي كانت أغلبية سكانها المسيحيين مازالوا يدينون بالولاء لامبراطور القسطنطينية البيزنطي في وقت كانت الدولة الأموية فيه في خضم صراع مرير مع البيزنطيين في شمالي سورية فالقبة إذن، كما تدل عليه عمارتها وزينتها، مبنى أموي دعائي متباه اقتبس من التقاليد الفنية المحلية وريثة الثقافتين الهيلينستية والبيزنطية المسيحية بعباءتهما الشامية معظم عناصره وطورها وحورها وأعاد تشكيلها بما يتلاءم مع أذواق بناته وثقافتهم ورغباتهم، وبما يؤمن لهم الدعاية التي أرادوا بثها لأتباعهم من العرب المسلمين ورعاياهم من العرب المسيحيين، خصوصاً في القدس نفسها، الذين كان ولاءهم للدولة الأموية مشكوكاً به وهي على ذلك تمثل مثلاً آخر على تفاعل الفن الأموي مع تراث الأرض التي نشأ ونما عليها واتكاءه على منجزاتها ولغتها الفنية في تطوير أشكاله ولغته الجديدة وإذا كان ثمة نموذج أبلغ يؤكد هذه الفرضية فهو من دون أدنى شك المبنى الأموي الأكثر شهرة في العالم وواحد من أروع المساجد الإسلامية في أي زمان ومكان، وأقصد بذلك الجامع الأموي الكبير بدمشق من المعروف أن هذا الجامع قد بني على عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك بين عامي و للميلاد وتخبرنا مصادرنا المكتوبة ودراسات المؤرخين المعماريين المعاصرين بأن الوليد هدم الكنيسة التي كانت قائمة في قلب حرم معبد جويترحدد الروماني وأبقى فقط على الجدران الخارجية للمعبد وبعضاً من الأبراج المربعة التي قامت على زواياه، مستعملاً اثنين منهما كمنارتي أذان قبل ظهور كلمة مئذنة نفسها وبنى داخل مساحة حرم المعبد بكاملها جامعه المكون من مصلى بثلاث أروقة مزدوجة الأقواس أي مكونة من صف أعمدة يحمل عقوداً تحمل فوقها صف أعمدة آخر أصغر ويحمل عقوداً أضيق تحمل بدورها السقف وثلاث أروقة أخرى مماثلة تطوف بالواجهات الداخلية الثلاث الباقية وفي منتصف المصلى بنى الوليد مجازاً قاطعاً على الأروقة الثلاث وغطاه بجملون خشب قامت في مركزه قبة عرفت في المصادر الإسلامية القروسطية بقبة النسر ، وهي الترجمة الحرفية لعبارة قبة الجملون باليونانية حيث أن كلمة نسر اليونانية تعني جملون في الاستعمال المعماري الكلاسيكي وبما أن هذه التفاصيل المعمارية لم تكن معروفة في عمارة الجوامع الإسلامية المبكرة فمن أين جاءت الفكرة؟ هنا أيضاً نجد أنفسنا نتطلع غرباً وفي هذه الحالة سيذهب بنا البحث بعيداً إلى راينا البيزنطية في إيطاليا حيث تطالعنا في كنيسة القديس أبوللينير الجديدة (Santص Apollinare Nuovo) المبنية حوالي عام لوحة فسيفسائية تمثل واجهة قصر ثيودوريك، الملك القوطي المتحالف مع بيزنطة والمتشبه بثقافتها، الذي بنى قصره عام في مدينة كلاسة (Classe) هذه الواجهة المرسومة على جدار الكنيسة تشبه أشد الشبه واجهة الجامع الأموي الداخلية برواقها مزدوج الأعمدة وبالجملون مثلث العقود في منتصفها وكذلك بالفسيفساء الذي يملأ حواشي العقود كما في عقود الجامع الأموي ولتأكيد الشبه نجد في لوحة قصر ثيودوريك أن فتحات العقود تسترها ستائر معقودة النهايات كما تخبرنا المصادر الإسلامية أن مصلى الجامع كان بالأصل مفتوحاً على الباحة فيما عدا الستائر التي تدلت من عقوده فكيف نفسر الشبه بين جامع إسلامي في دمشق وقصر قوطي بيزنطي في مدينة إيطالية بعيدة لم ترى أحداً من المسلمين؟ إذا أردنا أن نعرف ما في إيطاليا، كما كان المرحوم نهاد قلعي أو حسني البورظان يقول، فعلينا أن نعرف ماكان موجوداً ليس في البرازيل وإنما في القسطنطينية نفسها فقصر ثيودوريك كان تقليداً واعياً للقصر الامبراطوري الشالكة (Chalke) الذي أقامه في القسطنطينية الامبراطور أغوستيون وبالتالي فالنموذج الذي كان بناؤو الجامع الأموي يتنافسون معه رمزياً وتعبيرياً كان القصر الامبراطوري في القسطنطينية الذي زالت آثاره اليوم ولايخالف هذا الموقف التنافس الذي لاحظناه في القدس بين قبة الصخرة وكنيسة القيامة فالدولة الأموية كانت تحاول جاهدة التفوق على الامبراطورية البيزنطية على مختلف الأصعدة بعد أن وصل الصراع العسكري بينهما درجة التوازن القلق وكلنا يعرف قصة تغيير الحاشية المكتوبة على طوامير البردي التي تخصصت مصر بإنتاجها من دعاء مسيحي إلى الشهادة الإسلامية في عهد عبد الملك ورد فعل الامبراطور البيزنطي الحانق الذي أدى بعبد الملك إلى إلغاء الصور البيزنطية الأصل من على الدنانير الإسلامية واستبدالها بعبارات إسلامية فهل نفسر اقتباس المواضيع والتراكيب المعمارية في قبة الصخرة والجامع الأموي من العمارة البيزنطية الامبراطورية بأنه مجال آخر للصراع العقائدي يحاول فيه الأمويون إثبات تفوقهم في استخدام التراث القديم الذي ربما نظروا إليه على أنه تراثهم أيضاً بحكم العشرة والجيرة بين عرب الجزيرة وبلاد الشام وبحكم استحواذهم على الأرض التي أنبتته؟ أظن أن الجواب هو بالتأكيد، وما العبارة التي يوردها المؤرخ المقدسي عمل بين و ميلادي، عن أن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل وذلك أنه رأى الشام بلد النصارى ورأى لهم فيها بيعاً حسنة قد افتن زخارفها وانتشر ذكرها فاتخذ للمسلمين مسجداً أشغلهم به عنهن وجعله أحد عجائب الدنيا، إلا صدى لهذه المشاعر التي كانت حدتها قد خفت في وقته ويبقى أقوى دليل على نظرية التلاقح الثقافي الأمويالكلاسيكي في الفن والعمارة الأمويين تلك اللوحات الفسيفسائية التي غطت كامل مساحات جدران الجامع الداخلية والخارجية، وإن كنا نجد آثارها اليوم في أربعة مواضع فقط الخزنة والرواقات الغربية وواجهة الجملون الكبير المركزي المطل على الصحن وأسطح وبطون أقواس المدخل الغربي باب البريد وقد اكتشفت هذه اللوحات في الثلاثينات من القرن الحالي ورممت ترميماً كلياً أو جزئياً في الخمسينات والستينات وأضيف عليها بعض الأجزاء الجديدة التي لايمكن الركون إلى مطابقتها للأصل مطابقة تامة كما في قبة الصخرة، لاوجود هنا لأي تمثيل بشري معظم اللوحات تمثل أبنية بعضها مستقلة وبعضها متراصة كأنها قرى على تلال محاطة بأشجار هائلة الحجم ومن تحتها يجري نهر اعتقد مكتشفو اللوحات أنه يمثل نهر بردى يمكننا أن نميز بين طرازين مختلفين للعمارة في هذه اللوحات الطراز الأول هو المجموعات التي تضم أبنية محاطة بالنباتات والأشجار مما يسمى عادةً باليللا الريفية أو المغنى (Villa Rustica) وهو طراز روماني معروف كان منتشراً في أرجاء البحر الأبيض المتوسط أما الطرازالثاني فهو الأبنية المنفردة التي تظهر في اللوحات من دون أي ترتيب واضح والتي تنتمي في مجملها أيضاً للأبنية المدنية الرومانية المعروفة من قصور وجسور ومداخل وأجنحة مثمنة ومسدسة ومعابد صغيرة من كل طراز ومن كل لون كل واحد من هذه الأبنية موضوع لوحده في محيط نباتي كما لو أنه كان قائماً كموضوع منفصل أو كمفردة مستقلة في موضوع أعم، وكما لو أن المحيط النباتي قد صمم كإطار للبناء فمن أين جاءت هذه اللغة الفنية، وما الذي قصده الوليد أو عماله من هذه التصاوير؟ كما لاحظنا سابقاً، الفسيفساء واحد من أهم عناصر التزيين في العمارة البيزنطية، والبيزنطية الشامية بشكل خاص وتمثيل المباني في لوحات الفسيفساء تقليد قديم يعود إى الفترة الرومانية المتأخرة وإن كان قد ازدهر في الكنائس البيزنطية الكبرى، كما رأينا في كنيسة القديس أبوللينير الجديدة، ولكن أيضاً في كنائس الأرياف، خاصة في الأردن وسورية في القرون السادس والسابع وحتى الثامن، كما أثبتت المكتشفات الأخيرة فإذن مصدر النموذج معروف، وانتماؤه واضح التراث البيزنطي والشامي ولكن استعماله كالعنصر التزييني الوحيد في الجامع الأكبر في الدولة الإسلامية لابد وأنه عنى أكثر من تقليد التقليد ولابد أنه عنى شيئاً للأمويين بالذات وإلا لكانوا استمروا في وضع الزخارف التوريقية والتزيينات الثمينة بدل هذه اللوحات المعبرة والحاملة للمعنى يميل أغلب المؤرخين اليوم لاعتبار مجمل اللوحات الفسيفسائية إما تمثيل كوني ماورائي آناغوجيأو عالمي سياسي كوزمولوجي الأول تمثيل لديار الجنة الموعودة، قبل أن تسكنها الطائفة المؤمنة، أي بالطبع المسلمون، والثاني تمثيل للعالم الخاضع للسلطة الأموية، أي أن كل لوحة محصورة بإطارها تمثل مدينة ما أو مقاطعة ما تحت الحكم الأموي ودليل الرأي الأول هو الطابع العجائبي لللوحات نفسها التي تبدو وكأنها تشير إلى موقع ماورائي، بما أنها ممثلة من دون بشر، بالإضافة إلى تقارير مؤرخين متأخرين نسبياً تفيد بأن لوحات الجامع تمثل الجنة أما دليل الرأي الثاني فهو تقارير مؤرخين متأخرين نسبياً أيضاً تفيد بأن الوليد مثل مدنه واحدة واحدة حول المحراب الذي وضعت فوقه صورة الكعبة مركز العالم ضمن التصور الإسلامي ولكن أقدم نص متوافر لدينا لايشير صراحة لأي من هذين التفسيرين وإن كان محتواه يميل لتأييد التمثيل السياسي، ففي قصيدة لنابغة بني شيبان يمدح فيها الوليد يقول هذا الشاعر المعاصر لبناء الجامع فكل إقباله والله زينه مبطن برخام الشام محفوف في سرة الأرض مشدود جوانبه وقد أحاط به الأنهار والريف أي أن الجامع يحوي تمثيل الشام، مركز السلطة الأموية وموئلها ومسكن حلفائها من القبائل العربية المستوطنة والمهاجرة، كما رآه شاعر مداح تنقل في تلك المضارب وعايش أولئك الناس وشاركهم مفاهيمهم ورؤيتهم للعالم حولهم ولعلنا لانبعد كثيراً عن الصواب إذا رأينا في هذا التفسير مجمل تفسير المداخلات العمرانية والمعمارية الأموية في بلاد الشام ككل من قصور ومساجد ومزارات ككقبة الصخرة بما أن الأمويين المروانيين كانوا حتى دولة هشام بن عبد الملك معتمدين جل الاعتماد على الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته القبائل العربية القاطنة في بلاد الشام، من فلسطين إلى الأردن إلى البادية، قبل أن ينتقل تركيزهم إلى القبائل القاطنة في الجزيرة على عهد هشام ومن أتى بعده خصوصاً مروان الثاني وهم بالتالي قد اهتموا بخلق موقع قدم لهم ولحلفائهم وصورة لمجدهم وسلطتهم وثروتهم يهيبون بها الأعداء والمخامرين والمشكوك بولائهم ويرغبون بها المؤيدين والمساعدين والمؤلفة قلوبهم وقد كانت هذه السياسة من القوة والرسوخ إلى درجة أن الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي رام قلع الزخارف الباذخة من الجامع الأموي وغيره من المباني الأموية قد اقتنع بتركه على كرهه المعروف للبذخ بعد أن سمع بقصة رئيس وفد الروم الذين قدموا لزيارته ودخلوا لزيارة الجامع الأموي فلما نظر الرئيس إلى القبة قال كم مضى للإسلام، قالوا مائة قال كيف تصغرون أمرهم ومابنى هذا البنيان إلا ملك عظيم، فقال عمر لاأرى مسجد دمشق إلا غيظاً للكفار فدعوه ولكن الرائع في الأمر هو أن الأمويين قد استخدموا في هذه المنافسة الأيدولوجية لغة منافسيهم المعمارية والفنية والرمزية والإيقونية نفسها، بل وربما تفوقوا عليهم في بعض مفرداتها كما هي حال مخطط قبة الصخرة على سبيل المثال التي بلغت شأواً في التناسب الهندسي لم يبلغه أي مبنى بيزنطي أو أوري قروسطي قبلها أو بعدها ولم يكن استحواذهم على هذه اللغة وسيطرتهم على مضامينها ومعانيها وتطويعهم لهذه المعاني لاحتياجاتهم ومفاهيمهم وأوامرهم ونواهيهم العقائدبة وأذواقهم العربية القبلية علامة ضعف أو تبعية ثقافية كما يحلو لبعض المحدثين أن يقرروا على العكس، تلك كانت الخطوة المنطقية الوحيدة المتوافرة أمام الأمويين الذين لم يروا أنفسهم بالضرورة طارئين على بلاد الشام وتراثه الحضاري، بما فيه التراث الهيللينستي والمسيحي المبكر بل ربما نظروا لأنفسهم ولدولتهم ودينهم الجديدين كانتصار داخلي لخط أيدولوجي محدد ضد آخر ضمن المنظومة الحضارية نفسها أو كتقويم للتحوير الذي فرضه ذلك الاتجاه لمخالف وإلا كيف نفهم الآيات التي تؤكد نبوة المسيح وتخطئ المعتقدين بألوهيته المنقوشة على رقبة قبة الصخرة؟ وبالتالي فهم على الغالب كانوا قد نظروا لوجودهم وسيطرتهم في بلاد الشام وكامل العالم الإسلامي ولنشر عقيدتهم فيه كتصحيح للمسار الحضاري الذي رسخته سلسلة الديانات السماوية التي شهدتها بلاد الشام وليس قلباً لكل المفاهيم الثقافية الشامية ونفياً لكل ماكان قبلهم بمعنى آخر، فإن ماأحاول قوله من خلال هذه النماذج، والتي مازالت بحاجة للكثير من البحث والتمحيص والتفكر بها وبمعانيها قبل الوصول إلى أية أحكام نهائية، هو أننا لا يمكننا فهم الحضارة الإسلامية الأموية في بلاد الشام ومنجزاتها المعمارية على أنها غريبة وطارئة ومغايرة بالضرورة لسلسة التراكمات الحضارية السابقة لها في بلاد الشام بل ربما كان من الأنسب لنا تاريخياً ومنهجياً أن نقارب دراستها على أنها استمرار حضاري واع بنفسه وبصلته بالتراث التاريخي الذي أصبح تراثه هو بحكم انتصاره وسيطرته السياسية والعقائدية على المدى الزماني والجغرافي في بلاد الشام فأخذ يتعامل مع هذا التراث تعامل الواثق الفعال يأخذ منه، يتفاعل معه، يغير فيه، يصحح منه، يرفض بعضه، ويتماهى مع بعضه الآخر ومن خلال هذا التلاقح الثقافي خلف لنا الأمويون عمارة مدهشة لايمكننا فصلها عن العمارة الكلاسيكية ولكننا في الوقت نفسه لايمكننا النظر إليها على أنها تقليد أعمى لهذه العمارة هي عمارة تصحيحية ولكنها واعية بتراثها ولعل هذه الخاصية الثقافية الاستيعابية الأموية هي واحدة من أهم منجزات الحضارة الإسلامية المبكرة، بفضلها ساح الفكر الإسلامي الناشئ في تراث الإنسانية الثقافي بدون حواجز غوغائية ولاتزمت وصاغ من ذلك كله مساهماته البناءة في الفكر الإنساني العالمي كمبردج