مدونة:ما الذي يجري لمدينة دمشق القديمة؟

ناصر الرباط.

ما الذي يجري لمدينة دمشق القديمة؟، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المدونة

الكثيرون تغنوا ومايزالون بمدينة دمشق الواحة الغناء، وارفة الظلال كثيرة المياه والفواكه والورود والياسمين؛ الفيحاء، عاصمة الأمويين والزنكيين والأيوبيين، ومدينة المدارس والمشاهد والجامع الأموي الرائع والعظيم؛ قلب العروبة ومهد نهضتها وحاميتها قديماً وحديثاً هذه المدينة المحبوبة والمطوبة في الشعر والنثر والغناء والأفئدة مدينة متخيلة أكثر منها حقيقية، خاصة في الزمان الحاضر حيث لم يبق من معالمها الأصلية التي ألهمت صورتها البراقة الكثير بسبب زحف السكان وزحف الحداثة عليها والتقاءهما معاً على استنزاف مواردها وتغيير معالمها في سباق تراجيكوميدي محموم لقولبتها وتجديدها وتوسيعها وصيانتها والحفاظ عليها في آن واحد وقد عانت دمشق القديمة الكثير من أولئك الذين استغلوها كفضاء لحياتهم وعملهم ونموهم الاقتصادي من دون أي اعتبار لسنها ومركزها وتراثها، ولكنها عانت أيضاً، وربما بشكل أشد، ممن راموا المحافظة عليها من دون أن يكون لديهم فكرة واضحة أو مخطط متكامل لما أرادوا المحافظة عليه ولست أكتب اليوم بصفتي المهنية كمعمار ومؤرخ للعمارة، وإن كنت استخدم أدواتهما، ولكني أكتب بصفتي الانتمائية الدمشقية وبصفتي الانسانية كمحب للمدينة القديمة قدم الحضارة وكمقدر لروائعها المعمارية والعمرانية والبيئية الهشة، والتي يبدو لي أن معاناتها ازدادت في الفترة الأخيرة على أيدي من انطلقوا أساساً لحمايتها والمحافظة عليها وربما إعادة بعض الهندام والوقار التي فقدته إليها ولست أدعي هنا أن من حاولوا حماية دمشق القديمة كانت لديهم مخططات أخرى تروم عكس ماادعوا، أو أن لدي الوصفة السحرية لتحقيق ماأنتقده، ولكني فقط أقرظ ماأراه ناجحاً وأنبه لما أراه خطأً في مقاربة الموضوع وفي تنفيذه ومتابعته من قبل المؤسسات والدوائر الحكومية المختصة والمسؤولة ومن قبل الأفراد من سكان المدينة وزوارها والمستثمرين في مشاريع سياحية أو صناعية أو تجارية فيها فدمشق القديمة ­­ وهو مصطلح فضفاض لايزيد عمره عن ثلث قرن يستعمل تحديداً للدلالة على المدينة ضمن الأسوار مع بعض الامتدادات المحدودة خارجها وإهمال لبعضها الآخر الذي لايقل عنها أهمية­­ مدينة معترف بأهميتها التاريخية والفنية على مستويات محلية وعربية وعالمية فهي محمية وفق القانون السوري من كل تعد عمراني أو معماري، وإن كانت الاستثناءات التي منحت في السنوات الأخيرة لأسباب سياسية أو محسوبية قد أفرغت القانون من محتواه وهي مدرجة ضمن لائحة اليونسكو ولائحة المدن والعواصم العربية كجزء من التراث الإنساني وإن كانت المساعدات المخصصة لدراستها وحمايتها مازالت في حيز الوعود وهي كانت وماتزال موضوعاً للكثير من مشاريع الترميم والإحياء والاستثمار السياحي والثقافي يعود أولها لفترة الانتداب الفرنسي على سورية ­ على شكل مشروع قدمه أساساً المعماري الفرنسي الراحل ميشيل إيكوشار (Michel ƒcochard) نزيل دمشق ومحبها، ثم طوره وعدله بالمشاركة مع المخطط الياباني بانشويا في الستينات والسبعينات وقد أثارت مقاربات إيكوشار لغطاً في دوائر المهتمين بالمدينة كان باعثه الأساسي اقتراح إيكوشار المحافظة على الأوابد المهمة بتزنيرها بالطرق والمساحات المفتوحة بعد إزالة المباني الأقل أهمية حولها التي شكلت نسيجها العمراني ومحيطها الحيوي والتي أعاقت لقرون إمكانية رؤية تلك الأوابد بكامل إلقها وربما كانت هذه الاعتراضات هي السبب الأول عن عدم تنفيذ أي من المشروعين، وهو ماأعتقده صواباً، فمدينة دمشق كغيرها من مدن الشرق الإسلامي مدينة متكاملة عضوياً لايمكن فصل أوابدها عن محيطها من دون إلحاق أضرار معمارية وعمرانية كبيرة بها على عكس الأسلوب الذي طور منذ عصر النهضة في أوروبا والذي يعتمد على إبراز الأوابد كعقد عمرانية ضمن المدينة بوضعها ضمن مساحات مفتوحة ومتصلة ببعضها البعض وقد قمت مؤخراً بزيارة طويلة لدمشق خرجت منها بانطباعات فيها الكثير من الأسى والقليل من التآسي فالتآسي مبعثه الأساسي هو الاهتمام الإعلامي والحكومي والشعبي الكبير بالمدينة القديمة والمشاعر الفياضة التي يلمسها المرء في الصحافة والإعلام والأدبيات السورية وقد ترجمت بعض هذه المشاعر إلى خطوات عملية، لعل أبرزها إقبال بعض الأثرياء الدمشقيين والعرب والأجانب على شراء البيوت القديمة كبيوت المجلد والمنير وقنصل وترميمها ترميماً ذكياً ورحيماً والانتقال للسكنى بها في حركة معاكسة لحركة هجرة الأربعينيات من هذا القرن عندما غادرت العائلات الثرية بيوتها التقليدية في المدينة للإقامة في الأحياء الجديدة والفسيحة غربيها مما سارع في عملية تدهور النسيج العمراني المهجور ولست أرى أن هناك حلاً أفضل من هذا الحل للمحافظة على هذه البيوت القديمة القليلة التي مازالت قائمة والتي فقدت مبررها الوظيفي بحكم تغير تركيبة العائلة الواسعة فهي لامستقبل لها إلا في تحولها لبيوت القادرين على حمايتها ورعايتها من دون كثير اعتبار للكلفة، فقط لأنهم مغرمون بها جمالياً أو راغبون بالتباهي بها اجتماعياً أما تحويلها لمتاحف أو مرافق عامة، وهو ما اقترحه البعض من منطلق مدني واجتماعي صحيح، فهو مع الأسف حل طوباوي ومجتزأ على أبعد تقدير لأن البيوت أساساً لم تصمم كمتاحف أو مشاغل حرفية ولأن المدينة القديمة ليست بحاجة لهذا العدد الهائل من المتاحف وأما على الصعيد العام، فهناك أيضاً خطوات إيجابية أتت وستؤتي مردوداً على المدى القصير والمتوسط مثل تنظيف ودهان واجهات بعض الحارات المهمة بالأبيض، وتنظيف الحواري والأزقة باستمرار، وإضاءة الأوابد الرئيسية ليلاً في منظر رائع خاصة وأن المدينة تكون في ذلك الوقت هاجعة في النوم مما يتيح للزائر أن يتنقل بهدوء وأن يتأمل بروية ماتمنحه هذه المدينة الرائعة من لوحات جمالية عابقة بالتاريخ ولكن هذه العمليات التجميلية بقيت سطحية أو فردية من دون أن تتطرق للمشاكل العويصة التي تنخر في جسد المدينة والتي يتفاحل أمرها يوماً بعد يوم ليس فقط على صعيد التخريب وإعادة البناء العشوائي اللذين أصابا العديد من مبانيها وأحيائها، خاصة تلك الواقعة خارج الأسوار وعلى طريق التقدم المواصلاتي المتمثل بالطرق المحلقة والجسور المعلقة حول المدينة، كأحياء سوق ساروجة وباب توما والميدان وباب المصلى، ولكن أيضاً على صعيد الاستثمار السياحي والتجاري في قلبها وفي الأحياء الداخلية الخاضعة لقوانين حماية صارمة كما أبلغت من أكثر من طرف معني، كلهم يتذمر من القيود المفروضة عليه في الإشغال والترميم والبناء أو من العمليات السريعة التي تهبط عليهم فجأة والتي لاتبقي ولاتذر في طريقها لتحقيق أهدافها الآنية من تجميل وتعكيز وترميم وفتح طريق أو إبراز منظور مرجو ومن هنا الأسى فالأوابد الرئيسة، وعلى رأسها الجامع الأموي، ولكن كذلك ضريح صلاح الدين والقبة الظاهرية والمدرسة العادلية ومشهد السيدة رقية حديث البنيان وإيرانيّه والكثير غيرها كما حل مؤخراً بمدفن فروخشاه الأيوبي في منطقة مأذنة الحجر، قد أخضعت لعملية إظهار وعملية اتصال بالطرق الرئيسية على نسق مخطط إيكوشار، ولكن من دون مخطط شامل ناظم كما اقترح إيكوشار وبعض المواقع الثانوية من بيوت وحمامات ومدارس صغيرة مثل المدرسة الشادبكية في القنوات التي هي قيد الترميم حالياً قد أخضعت لعمليات تجميل أكثر منها ترميم حقيقية حولتها إلى ترجمات معاصرة لما كانته أصلاً وإن كانت ترجمات محرفة ومزوقة ومزينة ومرخمة بالكثير من الرخام الملون الذي يعطي إنطباع التركيب الأبلق المتناوب بين الأبيض والأسود الذي تميزت به بعض المباني المملوكية في الماضي، والذي يبدو لي أن المرممين المعاصرين يستعملونه كدلالة على تاريخية المبنى من دون أي اعتبار للأصل وقد درجت في السنين الأخيرة عادة تحويل بعض هذه البيوت إلى مقاه ومطاعم ومحلات بيع المصنوعات التقليدية، خاصة في منطقة باب شرقي أو النهاية الشرقية للمدينة ضمن الأسوار والحارات المتفرعة عنها وفي منطقة النوفرة من القيمرية شرقي الجامع الأموي وحوله باتجاه القلعة إلى الغرب وهذا أمر مجد من وجهة نظر استثمارية وسياحية، وإن كان يلزمه التزام أكثر بمبادئ الترميم لكي يصبح إيجابياً من وجهة النظر الآثارية والتاريخية أي أن الوضع اليوم يتمثل أكثر مايتمثل في اعتماد نسخة مبالغ فيها من سلبيات مبدأ إيكوشار عن أهمية الأوابد من دون الاستفادة من إيجابيات مخططه التنظيمي مهما كان بتاراً مما أدى إلى تخبط الجهات المعنية بين أفكار ومبادئ مختلفة سببت هذا الخليط العشوائي من مشاريع الترميم أو إعادة البناء التي لايربطها أي رباط ناظم ولم تساعد الموجة الجديدة من المشاريع الاستثمارية السياحية والترفيهية، ولاتعاقب المدراء على مديرية الآثار والمتاحف أو على وزارتي السياحة والثقافة مع خلفياتهم وآرائهم المختلفة في المحافظة على المدينة القديمة على تأمين أي درجة من الاستقرار والاستمرارية في مقاربة مواضيع الترميم وإعادة البناء وفتح الطرق والساحات وزرع الحدائق والمسؤولية عن هذا الوضع الصعب كما أراها موزعة بين الجهات الحكومية التي فرضت الضوابط والقيود والتي لم تتقدم بأي مخطط متكامل لمستقبل المدينة القديمة وبين السكان والمستثمرين الذين يخربون هذه المدينة إما جهلاً أو قصداً أو بين بين والحق أنه لايمكن معالجة مشاكل دمشق العمرانية أو مسألة الحفاظ على أوابدها على أساس فردي ومنفصل بل لابد لنا من اعتبارها ضمن نسيجها الحيوي والعمل على المحافظة على الاثنين معاً وبالتالي لابد لنا من التوصل إلى قاعدة قانونية وتخطيطية وتنظيمية مرنة في التعامل معها، قاعدة تأخذ بعين الاعتبار احتياجات السكان ،المقيمين والزوار منهم، واحتياجات المباني في الآن نفسه وتحاول الموازنة بينهما من دون ترجيح اعتبار على آخر بطريقة تعسفية أما عن احتياجات المباني، فنحن بحاجة لخبراء في الترميم والصيانة وإعادة البناء التاريخي لكي يدرسوا كل مبنى يلزم ترميمه على حدة، وهذا هو الأمر المتبع في كل مشروع على كل حال، ولاأظن الحال مختلفاً في دمشق اليوم، وإن كانت النتائح المخيبة لأضعف التوقعات والتنفيذ السييء يدفعان المرء للتساؤل عن جدية التحضيرات الفنية ودرجة تأهيل الخبراء المعتمدين ولكن هذا الشق من المعادلة أسهل حلاً من الشق الآخر، أي تقدير وتلبية احتياجات الناس من دون إرهاق النسيج العمراني للمدينة وهنا نحن بحاجة لمشاركة مباشرة وفعالة من الناس أنفسهم الذين سيستخدمون تلك المباني ويعيشون فيها لكن المشكلة التي لاتخفى على أي مراقب معاصر هي انعدام الهيئات المدنية والأهلية المستقلة مادياً وسياسياً وإدارياً والقادرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها في دمشق، وفي كافة المدن العربية، وضعف احساس الفرد بالتالي بانتمائه لمدينته من خلال مشاركته مباشرة في إدارتها والمحافظة عليها فالطريقة الصحيحة للحفاظ على دمشق القديمة إذن مرهونة بتفعيل وتنشيط مشاركة السكان في رسم وتقرير وتنفيذ القاعدة القانونية والتخطيطية لترميم مبانيها والمحافظة عليها كنسيج عمراني متكامل ومتميز، عن طريق مجالس الأحياء أو ماحل محلها، وإزالة العقبات السياسية والاجتماعية التي تعترض طريق هذا التفعيل في الوقت الحاضر والمشكلة الأساسية التي تهدد دمشق القديمة، أو أي مدينة عربية تاريخية، هي، كما بينت في مقالات سابقة، ضعف تواجد المجتمع المدني الذي يكرس إحساس الناس بالإنتماء لمدينتهم ومسؤوليتهم عنها وبداية الحل هو في السعي نحو تأسيسه وتفعيله على أسس دستورية وقانونية واجتماعية محكمة وعلى أساس هذا التنظيم الاجتماعي والسياسي المدني يمكن لمخطط تنظيمي عمراني عام وسياسة ترميمية واعية أن تؤتي ثمارها وأن تستمر من دون تخبط ولادوران ولاتغيير في الاتجاه أو الوتيرة ويمكن للناس، القاطنين منهم والزوار أيضاً، أن يتذوقوا ثمار مشاركتهم الفعالة في اتخاذ القرارات وفي تنفيذها، ويمكنهم بالتالي أن يشعروا بالفخر بمدينتهم وبدورهم في الحفاظ عليها وهذا الشعور، برأيي، هو العماد الأول لأي سياسة ترميمية حكيمة شاملة، وهو الضمان الوحيد لاستمرارها.

الكلمات الدالة: