مدونة:لطفاً باللباس الرسمي

ناصر الرباط.

لطفاً باللباس الرسمي، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المدونة

توقف كعادته كل يوم قبل أن يخرج، ونظر إلى نفسه في المرآة البيضاوية التي تشغل الركن الأيسر من الشماعة الفستقية اللون قرب باب المنزل ولكنه هذه المرة أطال النظر طالعته عيناه الخضراوان اللتان تشبهان عيني أبيه شبهاً شديداً بنظرتهما المتألقة والفاحصة، بل والثاقبة، التي جعلت العديد من الناس يقرأون فيها مخايل ذكاء شديد حاول كل حياته أن يثبته قولاً وفعلاً اليوم لاحظ أن لمعتهما ازدادت وأما أنفه المعقوف فلايدري ممن ورثه، وخاصة استطالة وتدبب أرنبته التي تميل للأسفل مغطية الجزء الأوسط من شاربيه الكثين اللذين ابيضا قبل الأوان مما أضفى عليه ملامح رزانة محببة لطلابه في الكلية وأما شفتاه المزمومتان وذقنه الصغيرة، التي لاحت أكثر ارتعاشاً اليوم، فما زالا يعطياه ذلك الانطباع بأنهما شفتا وذقن طفل بغض النظر عن بياض شاربيه وسنيّه العديدة ومركزه أما شعره فما زال يثير المشاكل كتلة كثة مستعصية على أي مشط أو فرشاة، تتحد فيها كل الشعرات الفضية المائلة للزرقة على شكل مجموعات ملتفة ومتناثرة في كل اتجاه على كل الأحوال، مازال، كما يقول لنفسه، راضياً عن التعبير العام لوجهه وجه مفكر وجه متفرد ومعبر إلى أقصى درجة، خاصة عندما يكون هدف التعبير السخرية والتندر على ماحوله، أو الترفع والانعزال عنه أما ملابسه اليوم فهي مناسبة تماماً للصورة التي يريد أن يخلفها في أذهان سامعيه الحق أنه لايذكر متى كانت آخر مرة خطط فيها لمظهره بمثل الدقة والحساب الذين صرفهما اليوم ولكنه برر ذلك لنفسه بأن المناسبة مهمة جداً يجب أن يكون أنيقاً أناقة متواضعة ولكن متميزة من دون تكلف أناقة فنان ذواق صرف جل عمره في دراسة وتدريس أصول الفن ونظرياته، وساهم في التعريف بها وشرح تاريخها وتطورها لأجيال عديدة من المؤرخين والمعماريين بدأ بسترته المفضلة الخضراء التي اشتراها من واحد من أعرق محلات لندن عندما كان هناك في رحلة بحث قبل سنوات والتي مازالت تحتفظ بتموجاتها الهادئة والناعمة التي تدل، لكل عين خبيرة، على رقة مادتها، صوف الكشمير وارتدى تحتها بنطالاً سكرياً داكناً يضيق حول قدميه اللتين انتعلتا الحذاء البني الداكن الذي اشتراه مع السترة الخضراء في نفس اليوم والذي استهلك نعله خلال أشهر قليلة لدرجة أن ثقباً كبيراً ظهر في وسط النعل الأيمن وجعل ارتداءه في المطر مستحيلاً مع كل الترقيعات المتكررة، ولو أن السطح الجلدي مازال لامعاً متماسكاً كما لو أنه اشتراه البارحة وهو بالإضافة لذلك قد أصبح بعد المرات العديدة التي لبسه فيها أكثر أحذيته راحة، فهو قد تقولب لكي يتخذ شكل رجله تماماً بما فيها تلك العظمة الغريبة الناتئة من منتصف القوس والتي تسبب له ألماً مزعجاً كلما وقف على رجليه لفترة طويلة، خاصة عندما يلقي محاضراته في الكلية ولكن أهم عنصر في مظهره اليوم، والعنصر الوحيد الذي يعبر فعلاً عن نفسيته وعن تفرده واختلافه عن الرجل العام، فهو كنزته الصوفية الخمرية الغامقة ذات الياقة المثلثية التي لاتحتاج، بل ولاتقبل، رباط عنق يلتف حول رقبته هذه نقطة تافهة ورمزية ولكنها مهمة جداً بالنسبة له وبالنسبة لرؤيته لنفسه في مجتمعه، فهي تدل على استقلاله وتعاليه عن المواضعات المادية المصطنعة التي سيطرت على الناس في هذا الزمن الردئ بحيث نسي الكل حريتهم وعزة نفسهم وتراكضوا خلف المال أو ارتموا تحت أقدام صاحب المال لايهم مازال يقنع نفسه بأنه على صواب، وأن الآخرين هم المخطئين، ولو أنه يعي أن السنين الطويلة التي قضاها مغترباً ربما أنسته كيف تدار الأمور وكيف تبلغ المرامي ولم تغيره السنوات الاثنى عشر التي قضاها مدرساً في الجامعة في دمشق، فما زال متوحداً، مترفعاً، وصريحاً إلى حد القحة، خاصة مع زملائه ورؤسائه يرفض أن يتملق رؤساءه بالكلام المعسول لكي يسهل عليه تسلق سلم الوظيفة الأكاديمية، وينأى بنفسه عن كل الحلقات والتجمعات والشلل التي كان بإمكانها أن تدفعه للأعلى، وعن كل المناسبات الاجتماعية الفارغة التي كان من الممكن أن تمهد له الطريق عند أصحاب الحظوة  وخسر آن في منتصف تلك الفترة، ليس لأنها كانت متكالبة على الجاه والثروة، فهي في الحقيقة كانت أبعد ماتكون عن الطمع والرغبة بالتسلق السريع كانت قانعة راضية عن نفسها وعن خيارها هو وعن فنها وفخارها وسيراميكها، تحاول أن تجد لنفسها اتجاهاً تعبيرياً خاصاً ومميزاً، ولم تكن مهتمة أصلاً بالشهرة والسمعة الفنية وكانت هي الأخرى ذات مبادئ ومثل، مثله بل وأكثر، ولكنها أكثر توازناً وواقعية منه، وأكثر معرفة بالطبيعة البشرية، تلك الكتلة المجهولة والغامضة من النوازع والغرائز والدوافع والأحاسيس التي تنسب إليها كل التصرفات الفردية التي لايوجد لها مبرر منطقي وفكر لنفسه لو كانت آن معه اليوم لكانت فرحته أكبر، لإنها كانت ولابد شعرت بالفخر بما حققه، بل وربما برد الاعتبار، بما أن المناسبة اليوم خاصة ومتميزة فاحتفال اليوم ما هو إلا الإثبات الحي على أن تمسكه بمبادئه ومثابرته على كتابته وبحثه قد أثمرا اعترافاً وتقديراً من نفس المجتمع الأناني والمتكالب على المادة الذي ظن أنه لن يلتفت إلى وجوده أو أفكاره لو أن آن كانت معه اليوم لكانت رافقته إلى الحفل ولكانت شدت من أزره وسكنت من قلقه ولكانت قطفت معه ثمرة جهد اشتركا فيه سوية وإن كانت هي قد ملت الانتظار والتناوب بين يأس مقعد وتعلق بأمل مافتئ يلوح بعيداً وقررت العودة إلى بلادها والعيش بهدوء وسلام كما قالت لو أنها معه اليوم ولكن من يدري ربما كان من الأفضل له أنها تركته فجعلته ينحاز إلى وحدته المطبوعة فيه أصلاً وينزوي عن الحفنة القليلة من الأصدقاء التي كانت ماتزال تخالطهم ويأوي إلى مكتبته ويتفرغ تماماً لأبحاثه مما سمح له بإنجاز كتابه الموسوعي عن الفن والثقافة في اسبانيا في القرون الوسطى لم يكن يتوقع أنه سيحصل على جائزة تقديرية عن عمله الأكاديمي عن التأثير الفني والثقافي المتبادل بين الطرفين المسلم والمسيحي في شبه الجزيرة الأيبيرية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وممن؟ من غرفة التجارة العربية­الاسبانية حديثة التأسيس ولكن قوية التأثير اقتصادياً واجتماعياً وإعلامياً، وعلى رأسها ذلك التاجر المتألق نافذ السطوة وفاحش الثراء، نعمان السيد، القنصل الفخري للمملكة الاسبانية المعتمد لدى الحكومة السورية، الذي استطاع خلال فترة بدت قصيرة أن يغرق السوق بسلعه الاسبانية المتميزة ورخيصة الثمن نسبياً كالزيت والزيتون والسردين والنقولات والفواكه المجففة وأن يحتل مساحة إعلانية هائلة على شاشات التلفزيون ويافطات الشوارع صور جذابة وأغان أليفة تعتادها الأذن بسرعة، مدروسة بذكاء وبعد نظر فأنى ذهب المرء في هذه الأيام لابد وأن يطالع صورة غريبة وأليفة في نفس الوقت فتاة أندلسية رائعة الجمال تمد للرائي بعضاً من منتجات السيد نعمان السيد بدلال وغنج، واقفة على شرفة لطيفة في مبنى جصّي بسيط أبيض وخلفها شباك خشبي مقفص ومدهون بأزرق فاقع، يفترض فيه أن يستحضر للمخيلة بيوت الأندلس، وأصص فخارية تتدلى منها زهور دمشقية حمراء دوماً تذكره بأصص آن التجريبية التي مازالت تحتل زوايا عديدة في منزله وإن كانت ورداتها قد ذبلت منذ زمن طويل وأنى مشى المرء فلابد وأن يسمع بعضاً من المارة، وخاصة الأطفال، يدندنون لأنفسهم بواحدة من تلك الأغاني الدعائية السهلة والقريبة إلى الذوق السائد وإن كانت تحمل في طيات نغماتها بعضاً من موشحات أندلسية تخالطها أصوات جهورة لمغنين إسبان معاصرين يتدفقون بشعر حماسي وإن كان غير مفهوم لمتكلمي العربية ترافقه ضربات سريعة ومتوترة على الغيتار لم يتمالك صاحبنا نفسه من التبسم عندما لاحظ أنه هو نفسه يدندن بواحدة من تلك الغنوات وهو يلقي على وجهه آخر نظرة في المرآة فاستدار سريعاً وخرج من المنزل وأقفل الباب وراءه ونزل حالما وطأت قدماه الشارع طالعته صورة أندلسية مدمشقة لفتاة سمراء واقفة على شاطئ لازوردي تعض على زيتونة سوداء بنهم واضح ملصقة على زجاج دكان أبي أحمد البقال مقابل مدخل عمارته فأدار بصره بسرعة لكي يزيل من ذهنه الأفكار العدوانية التي بدأت بالتسلل إليه عن سوقية محاولات نعمان السيد في الترويج لبضاعته باستعمال مواضيع مغرية وصور ناعمة وأغان رنانة، خاصة وأنه ذاهب لمقابلة الرجل نفسه في مناسبة تحاول أن تبدو عكس ذلك تماماً عالمة وذواقة ومرهفة، تجمع نخبة من أهم شخصيات البلد السياسية والفنية والأكاديمية والتجارية في واحد من أرقى نواديه حاول أن يتجنب التفكير بنعمان السيد ومنصبه الفخري وأمواله وبضائعه وفتياته وإعلاناته وكرشه الممتلئ الذي يتدلى أمامه وسيجاره الكوبي الأسود الطويل الذي يمتد خارجاً من فمه النهم شبراً وأكثر كأنه يحاول من خلال هذين الجرئين الناتئين بفظاظة من منظره الجانبي والمكملين لشخصيته أن يحتل فراغاً أكبر من الفراغ الذي يحتله غيره من عباد الله العاديين إثباتاً لضخامة مركزه وإعلاناً لثروته وأخذته خواطره لزوجة نعمان السيد، أميرة الحكيم، زميلة دراسته منذ الصغر وشريكة مقعده في الصف السادس عندما كانا هما الإثنان يتنافسان على المركز الأول في الصف أميرة الرقيقة الناعمة التي سرعان مانهد صدراها وتدور وركاها في الصف السابع لتصبح بين ليلة وضحاها أكثر بنات المدرسة غنجاً وإغراءاً ولتبتعد عنه وعن طفولته التي استطالت مدداً وعن خجله المتلعثم وعن كتبه ودروسه وحديثه الجدي والممل أميرة التي تحولت بسرعة إلى امرأة جميلة يتنافس على كسب ودها كل الفتيان عريضي الأكتاف في الصفوف العليا، خاصة أولئك الذين كانوا يقودون سياراتهم الخاصة السريعة عندما كان هو وأبناء صفه مازالوا صبياناً نحيلين يذرعون طرقات البلد مشياً على أقدامهم ويحلمون بيوم يمتلكون فيه سيارة لكي تتسابق الجميلات على الركوب معهم أميرة التي تعلمت بسرعة كيف تستغل جمالها وجاذبيتها، تعطيهما لمن يقدم لها الأكثر مما تريد شعبية، مالاً، مناسبات وحفلات، وأخيراً الدخول إلى المحيط الراقي والصعود إلى قمته وكيف تحقق لها ما أرادت؟ بعد أن أنهت دراستها الثانوية تركت أميرة متابعة التحصيل العلمي وحولت نفسها من سمراء فاتنة تميل إلى الامتلاء إلى شقراء مغرية، نحيلة ومتساوقة القد دقيقته تجاوباً مع الذوق السائد طبعاً وشغلت نفسها بكل النشاطات الخيرية وشبه­الثقافية والاجتماعية التي تتيح لها ابراز تألقها وجمالها لمن يمكن أن يقدرهما حق قدرهما وابتدأت صورها تملأ الصفحات الاجتماعية في المجلات الفنية الآنسة أميرة الحكيم في حفل افتتاح معرض الفنان الفلاني؛ الآنسة أميرة الحكيم في أول استعراض للفرقة الموسيقية الفلانية؛ في اليوبيل الذهبي لمحلات التاجر العلاني؛ في حفلة الجمعية الخيرية العلانية؛ في سفارة كذا؛ في قنصلية كذا، وهكذا وكان لابد لها من أن تلتقي عاجلاً أم آجلاً بندٌها في الدعاية لنفسه نعمان السيد، وكان لابد للاثنين من أن يتعارفا من خلال موهبتهما المشتركة، اتقانهما الغريزي للمواضعات الاجتماعية، وأن يعترفا لبعضهما البعض بهدفهما المشترك، الصعود للقمة والثراء العاجل بأي سبيل وقررا توحيد الجهود، هي بجمالها وشقرتها حديثة التخلق وابتسامتها الواسعة وحديثها اللبق، وهو بماله الذي ابتدأ ينمو بسرعة واحتياله المرح وصفقاته المتشعبة وصلاته التي مافتئت تزداد اتساعاً وتزوجا وصارت الآنسة أميرة الحكيم السيدة أميرة السيد واحتفلا بزواجهما في واحد من أفخر فنادق المدينة، وحضرته كل الطبقة المخملية، ونشرت صورهما كل المجلات الاجتماعية ولم يفت واحد من كتٌابها التنويه بالخاتم الماسي السوليتير الهائل والمرصع بالياقوت والزمرد الذي قدمه السيد السيد لعروسه ولابكمية ونوعية باقات الزهور الغريبة والنادرة التي ملأت كل مداخل الفندق وزوايا قاعاته أو كمية ونوعية النجوم والأوسمة والمجوهرات التي رصعت أكتاف العديد من الحاضرين والحاضرات وآذانهن وأعناقهن وصدورهن وأزنادهن وتألقا معاً وسرعان ماأصبحا نجمي الحفلات والاحتفالات المتميزة وراعييها الأوليين فما من مناسبة إلا وهما على رأس قائمة مدعويها وما من حفلة إلا وتجدهما يتصدران طاولتها الرئيسة وما من تقليعة جديدة إلا وتجدهما أول مروجيها وأجرأ محبذيها وكانت آخر صرعة استحدثتها السيدة أميرة هي شراءها لبيت دمشقي قديم وتحويله لقصر غرناطي حديث ومشوه فيه الكثير من انطباعات الملصقات الدعائية السياحية الاسبانية الحديثة، التي يروجها زوجها أيضاً، عما كانته قصور الأندلس والقليل القليل مما كانته حقيقة وطبعاً لم تجد السيدة أميرة لقصرها الفخم اسماً غير قصر الحمراء، ذلك الاسم المبهرج والسياحي والممجوج والمكرر والخطأ تاريخياً فالكل يعرف اليوم أن ذلك اسم مستحدث استعمله ملوك اسبانيا الكاثوليكيون، إيزابيلا وفرديناند، لنعت مدينة بني نصر الملكية المتربعة فوق غرناطة والتي استسلمت لقواتهم عام  ثم صار الاسم في أوروا علماً على حضارة افتتنت بالجمال وبالبذخ وبالتبذير حتى بادت وهي لاهية عن مصيرها، وكرسه الكتاب الرومانتيكيون في القرن التاسع عشر رمزاً لغموض وسحر وجمال الشرق على الرغم من أن غرناطة نفسها تقع، جغرافياً على الأقل، في أقصى الغرب من الغرب وصار قصر أميرة السيد موئل الاحتفالات الأول لكل أبناء الطبقة الغنية الذين استقطبتهم جدته والهالة الفنية والثقافية التي أحاطت به، خاصة بعد أن جادت أقلام الكتاب المأجورين في الإطناب بالذوق الرفيع الذي حوّّّّل هذا البيت الدمشقي العادي إلى فراغ سحري يلج داخله التاريخ المجّمل والعطر والمرهف لعرب الأندلس من دون أن يغادر دمشق ولكن صاحبنا كان له رأي آخر، فكل ما حققته السيدة أميرة هو مسخ معلم معماري دمشقي وإعادة سكبه على شكل قصر خيالي مجهول الهوية المعمارية ينتمي لمدن ديزني أكثر من انتمائه لتاريخ الأندلس ولكنه وعلى الرغم من سمعته كالاختصاصي الأول في الفن الأندلسي لم يجد في مجلات وجرائد البلد من ينشر له نقده سلبي ومثبط للنهضة السياحية والفنية كما ادعوا لايهم ستكون له اليوم فرصة جديدة للحديث عن البيت الغرناطي كما صار يعرف في دمشق من خلال كلمته في الحفل المقام خصيصاً للاحتفاء به في البيت نفسه اليوم ستكون الكلمة له وسار صاحبنا باتجاه البلد القديمة إلى البيت الغرناطي مازال أمامه ساعة من الوقت تتيح له السير بهدوء والتفكير بكلمته التي سيلقيها أمام المحتفلين به من وجهاء المجتمع ووجيهاته لقد صرف في تحضير ماسيقوله اليوم جلّ وقته في الاسبوع الأخير فهذه المناسبة ليست كغيرها هذه مناسبة إثبات الذات بلباقة ودلوماسية، وهي كذلك فرصة لإعلاء شأن الفكر قليلاً بعد أن داسته طويلاً الدعاية والإعلان والصور الصارخة والكلمات الفارغة والمأجورة والمقولات الضحلة على يد النخبة نفسها التي سيواجهها بعد قليل أو على يد طبقة مدعّي الثقافة الطفيليين الذين يعتاشون من فتات أموال النخبة عليه أن يقول كلمته بحنكة وذكاء وأن يبرهن لسامعيه عن تعالي الفكر الحر والنبيل عن المنفعة المادية وعن المهاترات الكلامية الرخيصة من دون أن يهينهم شخصياً أو طبقياً، على الرغم من أنه يدرك، ويدرك كذلك أنهم هم أنفسهم يدركون، أنه يقصدهم بالذات كممولي وداعمي كل ماهو ساذج أو ممجوج أو سطحي في الحياة الفنية والفكرية المعاصرة سيستعمل التاريخ كغطاء وستار يمرر تحته كل انتقاداته سيخبرهم عن الأندلس وكيف تقلصت رقعة الوجود العربي فيها عبر عدة قرون إلى أن استقرت على غرناطة وريفها فقط سيخبرهم عن المدينة الحمراء، كيف نشأت ومن أين نبعت وإلى كم من الجذور الحضارية والمعمارية المختلفة تعود أصولها سيخبرهم عن تكامل الذوق فيها معمارياً وزخرفياً ولونياً، وكيف تنساب العمارة بارتخاء مدروس وآخاذ متداخلة بين الجنائن الغنائة المنسقة بحساسية طبيعية ومتناغمة معها سيخبرهم عن الشعر والموسيقى الذين ترعرعا في تلك البيئة المرهفة الإحساس وأطربا ومازالا يطربان كل متذوقي العربية منذ العصور الوسطى وحتى اليوم سيخبرهم عن دور النخبة الغرناطية في توفير ذلك الجو وإثرائه بمالها ودعمها لكل فنان من أي وسط جاء وإلى أي دين انتمى سيخبرهم عن إسهام تلك النخبة عينها في خلق بعض ذلك الفن والشعر والموسيقى من خلال أفراد أفذاذ نبغوا من لدنها وأعطوا عطاءهم وهم يتنعمون برغد العيش فيها وسيتركهم عند هذه النقطة من دون أي تعليق عن الحاضر لكي يستنتجوا بأنفسهم ما يرمي إليه سيتركهم لكي يروا بأم أعينهم المعادلة المائلة عندما ينظرون إلى حاضرهم وثقافتهم وفنهم ويقارنوا بين النخبة الغرناطية الماضية وبين أنفسهم سيومئ ولن يصرح ولربما نفع الإيماء حيث فشل النقد الصريح ولو أنه يشك وزاد شكه يقيناً عندما رفع رأسه وانتبه إلى أنه كاد أن يبلغ مقصده، فواجهة قصر الحمراء الكبيرة والبيضاء والمهيمنة تبدو في آخر الشارع الذي يسير فيه وانتبه للمرة الأولى أن بشاعتها تزداد كلما اقترب الانسان منها من أول الشارع لايظهر منها سوى حجمها غير المتناسب مع محيطها وبياضها الصارخ المتنافر مع الألوان الترابية الكامدة التي تؤطرها من كل جهة ولكن التنافر يزداد وضوحاً منذ أن يبلغ المرء منتصف المسافة، فمن هنا تظهر القبة المسطحة مجهولة المنشأ التي تتقدم على الباب الخشبي المدهون بالأزرق والمضرب بالمسامير المذهبة وحولها تمتد الشراريف المثلثية المدرّجة والمضحكة على طول إفريز المبنى كما لو أن هذا النادي كان قلعة محصنة ولكنها المخيلة الساذجة التي لاتدرك أن الرمز أقوى تأثيراً من الشئ ذاته وعندما يقترب المرء أكثر يصبح المنظر مضحكاً ومزعجاً بحق، فتلك المساحة البيضاء الحيادية نسبياًَ، على بشاعتها، تختفي تحت خليط متضارب من الألوان والانعكاسات التي ترهق العين من النظر إليها فقط على طول الواجهة، حفرت السيدة أميرة نوافذ صغيرة مقنطرة طبعاً بأقواس على شكل حدوة الفرس، فالمفروض أننا الآن في الأندلس وملأتها بمئات القطع من الزجاج المعشق والملون بألف لون ولون، ولو أن الطاغي فيها هو الأحمر الفاقع والذهبي الجارح والأزرق العميق ولم تكفها هذه السيمفونية النشاذ من الألوان، فأضافت لكل النوافذ سياجات حديدية مشغولة ومدهونة بالأزرق إياه الذي يستعمله زوجها في ملصقاته الدعائية وعلقت عليه الأصص الفخارية البنية التي تُنبت، كما يبدو، وروداً لاستيكية حمراء فاقعة لاتذبل ولاتحتاج إلى سقي وجاءت ثالثة أثافي التضارب اللوني على شكل بواب ضخم الجثة، مفتول العضلات، طويل الشاربين وغامق البشرة، يقف على يمنة الباب وهو يرتدي ملابساً لاشك أنها مستوحاة من صور ان­ليون يروم أو معاصريه من فناني القرن التاسع عشر الاستشراقيين الذين خلقوا من خلال لوحاتهم الموسومة بالواقعية، بيئة شرقية خيالية وغريبة أودعوها كل ماافتقدته حساسيتهم الفنية أوشبقهم الجنسي من لون وبهرج وإغراء سوقي في أوروا المعاصرة والمتزمتة وأكثروا من البهار فتحت عمامة أرجوانية هائلة الحجم تنسدل حتى حاجبيه ارتدى بوابنا قفطاناً فضفاضاً لازوردياً يتضارب لونه بحدة مع الأزرق السائد في الباب خلفه ولبس تحته قميصاً أصفراً، وتمنطق بنطاق أبيض مضرب بالمسامير المذهبة وعلق على جنبه سيفاً مقوساً لاريب في أن السيدة أميرة استعارته من مخلفات استديوهات التلزيون التي أنتجت مؤخراً العديد من المسلسلات التاريخية العربية الساذجة وكأنما لم يكتف البواب بذلك التنافر، فقد بدت من تحت القفطان ساقا بنطال أخضر حريري وفضفاض تضيق نهايتاه فوق مداسين أصفرين فاقعين مما يباع بقروش في سوق الفنا في مراكش كادت أطرافهما أن تنفتق تحت ضغط قدميه الكبيرتين اقترب صاحبنا وهو يحدق بالبواب مذهولاً ومشمئزاً مما يراه من التنافر اللوني، ولم يفته أن يلاحظ أن البواب وهو يفتح له الباب بحركة مسرحية مبالغ فيها كان يرمقه شذراً هو الآخر فعلّل ذلك لنفسه بأن البواب لربما كان يتعجب من تناسق ألوان هندامه كما كان هو يستغرب من تنافر ألوان ثياب البواب فالدنيا أذواق كما يقولون ولكنه لم يعر الأمر كثير التفات ودلف داخلاً لاحظ مباشرة أن مستوى الإضاءة انخفض انخفاضاً شديداً في الداخل عما كانت تسطع به شمس الظهيرة في الخارج وكذلك مستوى الضوضاء فبعد ضجيج المارة وزعيق الباعة وصرير دواليب السيارات والموتورسيكلات والطنابير وهدير الحافلات والشاحنات وعويل زماميرهم في الخارج، التي اختفت بالكلية حال اجتيازه عتبة الباب، طالعت أذناه موسيقى خفيفة فيها وشي من الفلامنكو ولكنها مميعة وخافتة بما فيه الكفاية بحيث لا تلفت السمع إلى وجودها إلا للذي يترصدها ولا تطغى على حديث الداخلين فقال لنفسه هذا دليل ذوق مدروس ولما ابتدأت عيناه بالتعود على ما حوله في بهو الدخول خافت الإضاءة، لاحظ على يمين الداخل لوحة خشبية مزخرفة مركز عليها يافطة مكتوب عليها بخط هندسي عريض عذراً القصر مغلق لأجل مناسبة خاصة حفل غذاء غرفة التجارة العربية­الاسبانية على شرف الدكتور نزار السعيد بمناسبة منحه جائزة الحمراء التقديرية عن كتابه اسبانيا أو الأندلس­ التلاقح الثقافي في شبه الجزيرة الأيبيرية في القرنين الرابع والخامس عشر ووجد ملصقاً على زاوية من اليافطة صورة قديمة له بالأبيض والأسود عندما كان شعره مازال أسوداً وعندما كان مستقبله مازال واعداً واستغرقته خواطر تداعت لذهنه بسبب الصورة ولم ينتبه للنادل الذي كان يقترب منه من الجهة اليسرى حتى صار واقفاً أمامه مباشرة ورفع رأسه عن اللوحة ومازالت على وجهه ابتسامة الرضا عما قرأه والحنين إلى ذكريات الماضي الذي أثارته فيه الصورة ولم يكن مهيئاً على الإطلاق لمواجهة التعبير الهازئ والغاضب في آن الذي واجهه به النادل المسربل بالأسود من تحت ياقته البيضاء المنشاة إلى كعب حذائه، ولالصد الحركة المفاجئة والغريبة التي قام بها النادل إذ أنه فرد يداه ونفش صدره بتحفز وعدوانية في وجهه ليمنعه من الخطو خطوة أخرى إلى الأمام وقبل أن تسنح له الفرصة للتساؤل بادره النادل بسخرية متعالية لوين يا أستاذ؟ أجاب عا الحفلة، ودفع بقدمه نصف خطوة ولكن النادل لم يفسح له المجال وأعاد الاستفهام وهو يرمقه بقرف مبالغ فيه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ليش حضرتك معزوم؟ طبعاً معزوم، ومعي بطاقة الدعوة، أجاب وقد بدأ الغضب المختلط بالتعجب من هذه المقابلة الرعناء يطغى على صوته الذي احتد وعلا وما دام معك بطاقة الدعوة، ماقريت شو مكتوب فيها قبل ماتشرف لعنّا اليوم؟ فزعق فيه لأ، ليش شو مكتوب فيها؟ فهدر النادل مجيباً ورذاذ لعابه يتطاير من شفتيه مكتوب ياأستاذ، لطفاً باللباس الرسمي، وبها المنظر ومن غير رافة مافي دخول عا الحفلة ناصر الرباط كامبردج، ماساشوستس

الكلمات الدالة: