مدونة:قصور النورمان في صقلية، حلقة مفقودة في العمارة الملكية الإسلامية
قصور النورمان في صقلية، حلقة مفقودة في العمارة الملكية الإسلامية، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المدونة
صقلية، الجزيرة الأكبر في البحر الأبيض المتوسط، قريبة من العرب جغرافياً وتاريخياً وتركيبةً نفسيةً فهي، مع أنها بمثابة الكرة أمام رأس القدم الإيطالية، لاتبعد كثيراً عن سواحل تونس وليبيا وهي، كما تعلمنا جميعاً من دروس التاريخ التمجيدي في مدارسنا، قد خضعت لحكم عربي دام أكثر من قرنين وخلف علامات دالة على وجه البلاد وأسماء غالبية مدنها وقراها ودساكرها، وعلى أخلاق وعادات وأذواق أهلها على بعد المدى وتغير الأحوال ولايفوت الزائر العربي ملاحظة ذلك في غالب مايراه حوله ابتداءاً من الطبيعة المشابهة لطبيعة شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط، خاصة سورية ولبنان وفلسطين من جهة وتونس الخضراء من جهة أخرى، ومروراً بالأكلات الشهية التي تنبئ محتوياتها وتوابلها وطرق طهيها عن نفس عربي وذائقة عربية وإن تغايرت النتائح، وانتهاءاً بالمزاج الصقلي نفسه الذي يتشارك مع مقابلاته العربية في الكثير من معتقداتها وموروثاتها وخرافاتها ويبقى الغائب الأكبر في تراث صقلية العربي هو العمارة فقد اندثرت كل الدور والقصور والحمامات والجوامع التي تخبرنا عنها مصادرنا العربية وشعراء صقلية الوصافين إما بفعل فاعل أو بفعل الزمن والإهمال ونحن اليوم لانجد في طول الجزيرة وعرضها أي مبنى قائم يمكن نسبته بالكامل للفترة العربية، على الرغم من أن الكثير من المباني التالية للحقبة العربية تحمل في واجهاتها ومخططاتها وتفاصيلها ملامح وذكريات معمارية عربية ولعل أكثر الحقب احتواءاً على المسحة المعمارية العربية، ولاغرابة، هي الحقبة التالية عليها، الحقبة النورماندية، على الرغم من أن النورمان هم نفسهم الذين أجلوا العرب عن الجزيرة وقضوا على وجودهم السياسي والاقتصادي فيها في حملة تحمل في طياتها بذور الحملات الصليبية اللاحقة في كل من اسبانيا وبلاد الشام ومع ذلك فقد تميز الحكام النورمان أنفسهم، وخصوصاً روجار الأول وروجار الثاني بتسامحهم مع كل العقائد الدينية، وباعتمادهم على العرب في إدارة شؤون البلاد كما كان عهدهم إبان الحكم العربي، وبإحاطتهم لأنفسهم في بلاطهم بالعديد من العلماء والأدباء والفنانين العرب لعل أشهرهم الشريف الإدريسي الجغرافي المشهور صاحبكتاب نزهة الآفاق في اختراق الآفاق المعروف بكتاب روجيار نسبة لروجار الثاني، وواضع واحدة من أوائل الخرائط للعالم المعروف في وقته وأكثرها دقة ومع أننا لانعرف شيئاً عن الفنانين والمزخرفين والمعماريين العرب الذين خدموا في بلاط الروجارين، فنحن نعرفهم من آثارهم التي تجلت أكثر ما تجلت في عمارة القصور النورماندية، بالإضافة إلى التأثيرات الزخرفية والإنشائية في العمارات الدينية من كنائس وأديرة في مختلف أنحاء الجزيرة قصران في العاصمة باليرمو نفسها يختصران في اسميهما وعمارتهما وموقعيهما وزخرفتهما استمرارية الوجود العربي الفني والمعماري في صقلية بعد زوال الحكم العربي فيها الأول هو قصر العزيزة (La Zisa) والثاني هو قصر القبة (La Cuba) العزيزة قصر بدأه ويليام الأول وأنهاه ويليام الثاني بين عامي و ولم يبق منه اليوم سوى جناحه الرئيسي ذي الطوابق الثلاثة الذي كان محاطاً في الماضي بأجنحة أخرى ثانوية وبالحدائق والمسطحات المائية، كما هي حال غالبية قصور وجواسق اللهو والترفيه الاسلامية التي تميزت بتداخل البناء فيها مع تنظيم الحدائق مما يجعلها أشبه بالطبيعة الريفية من القصور المدنية الراسخة والجافة التي قل ما أمكن تزويدها بالحدائق لضيق الأرض ويتميز قصر العزيزة بشادروانه المرمري الملون الرائع القائم في صدر الإيوان تحت خوذة مقرنصة وملونة، تنداح منه المياه رقراقة دفاقة إلى مجرى رخامي ينتهي إلى سلسلة من الأحواض قبل أن تصب في حوض كبير خارجه وهذا الشادروان هو النموذج الوحيد الباقي من الفترة القروسطية الإسلامية الذي يدلنا على طرائق استعمال الماء في ترطيب وتجميل الفراغات الداخلية في العمارة الملكية الإسلامية ويحيط بالإيوان المركزي قاعتان تفتحان عليه وكذلك الحال بالنسبة للطابقين العلويين إذ تحيط قاعتان في كل طابق بفراغ الإيوان المركزي الذي يمتد ارتفاعه على ارتفاع سائر البناء وتزين الواجهات الخارجية للقصر أقواس مستمرة بعضها مفتوح وبعضها مصمت، تضفي عليه مظهراً هو خليط بين الإسلامي القروسطي والقوطي وكذلك الحال بالنسبة لقصر القبة الذي لم يبق منه أيضاً سوى الجناح الرئيسي، والذي تبين الكتابة العربية الثلثية الخط التي تزنر افريره العالي أنه أيضاً بني للملك ويليام الثاني عام وقد كان هذا الجناح على الغالب مبنياً وسط حوض ماء مستطيل الشكل مما يمنحه صفة الزورق الطافي في البحر والذي تخرج من جوفه المياه على شكل سيالات من بركته المثمنة الأطراف لتغذي ماء الحوضالبحر حوله ويرحج غالبية الدارسين أن القصر اكتسب اسمه من القبة الحجرية أو الآجرية التي كانت تغطي دورقاعته، كما تدلنا بقايا الأقواس الحجرية التي تنبثق من الأطراف العليا لجدران الدورقاعة ولعل القبة المفقودة كانت مدهونة باللون الأحمر الرماني نفسه الذي يغطي قباب كنيستي سان كاتالدو (San Cataldo) الخمسة وسان جيواني ديللي إيرميتي (San Giovanni Degli Ermiti) الثلاثة والتي يجمع الدارسون على نسبتها للتأثيرات العربية على العمارة المسيحية النورماندية وإن كنت أنا أرجح شخصياً، على الأقل في حالة سان جيواني، أن الكنيسة نفسها بنيت أصلاً فوق جامع سابق عليها كما يبدو لي من مخططها الشبيه بمخططات الجوامع الأيوبية السورية المعاصرة لها ولكن أهم مافي القصرين هو أنهما يمثلان حلقة مفقودة في العمارة الملكية العربية الغربية أي في مصر وأفريقيا والأندلس التي لانعرف عنها الكثير في القرنين الحادي والثاني عشر خاصة فالقصرين في الحقيقة من الأمثلة النادرة الكاملة من تلك الحقبة التي لانعثر فيها سوى على بقايا القصور في المواقع الإسلامية الأخرى من مدينة الزهراء في الأندلس إلى قلعة بني حماد وقصر زيري في الجزائر خلافاً لما نعرفه عن القصور المشرقية من قصر البنات في الرقة في سورية إلى قصور الأيوبيين والروم السلاجقة في بلاد الشام والأناضول، إلى لاشكري بازار وغزنة عاصمتي الغزنويين في افغانستان الحالية وقصري القبة والعزيزة هما أقرب الأمثلة في حوزتنا التي تعطي صورة وشكلاً لتلك الأوصاف المبثوثة في صفحات الكتب للقصور الفاطمية في القاهرة التي اختفت بتمامها بعد انهيار الخلافة الفاطمية وحلول الأيوبيين محلها عام وهما، على هذا الأساس، دليلين ماديين ملموسين على استمرارية التواصل الفني والجمالي مابين صقلية وبقية العالم الإسلامي، خصوصاً تونس ومصر الفاطمية، تحت الحكم النورماندي، على الأقل حتى نهاية القرن الثاني عشر أما كيف تم ذلك التواصل فنحن لانملك إلا أن نخمن والأغلب أته تواصل حتمته الحاجة وقرب المسافات و قليل من التشجيع من الحكام النورمان الذين تأثروا شخصياً برفاهية الحضارة العربية وإن كانوا ملتزمين أمام الكرسي البابوي في روما بالعمل على إزالة الإسلام والعرب من صقلية وجنوب إيطاليا، الأمر الذي تسارع تنفيذه خلال مدة حكم ويليام الثاني وخصوصاً خلال حكم فريدريك الثاني ملك صقلية وامبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة الذي لم يمنعه اعجابه بالعرب وبالحضارة الإسلامية واتقانه للغة العربية على مايقال من خلال اتصاله بالسلطان الكامل الأيوبي خلال حملته على الأراضي المقدسة من أن يصادر الأراضي الزراعية العربية في صقلية ويعطيها لأتباعه من اللومبارد والصوابيون مما مهد الطريق أمام إخلاء صقلية من سكانها العرب وهكذا زال الناس وزالت لغتهم وثقافتهم من السطح وإن بقيت آثارهم تدل عليهم حتى في قصور من كانوا سبب زوالهم.