مدونة:قراءة نسائية لفيلم رسائل شفهية

ناصر الرباط.

قراءة نسائية لفيلم رسائل شفهية، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المدونة

أثار فيلم المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد، رسائل شفهية، ومازال يثير، العديد من ردود الأفعال المتحمسة على الصعيدين الشعبي والمثقف، فهو مابرح يعرض بإقبال شديد في صالة الكندي بدمشق منذ أكثر من ستة أشهر ، وهذا رقم قياسي بالنسبة لسورية، وقد ناقشه العديد من الكتاب والصحفيين في جرائد ومجلات شتى بالإضافة لذلك فقد نال الفيلم جوائز عدة ، منها الجائزة البرونزية في مهرجان فالانسيا لدول البحر المتوسط لعام ، وجائزتيّ الجمهور الشاب واتحاد النوادي السينمائيةّّ الأوروبية في مهرجان مونيليية لعام ، وجائزة النقاد من مجلة الأوبزرفاتور للعام  أيضا، وهو مرشح للحصول على غيرها ولا غرو فهذا الفيلم المحبوك متميز قصةً وحواراً وتصويراً وتمثيلاً وتنفيذاً، وهو سهل وممتنع في آن، وقادر على شد انتباه مشاهديه وإثارة تفكيرهم وهو يدعو إلى أكثر من قراءة سينمائية أو فنية فقط ويقدم مجالاً خصباً للتأويل على الصعيد الترميزي، حواراً و صورةً، وعلى أكثر من مستوى، تصب كلها في نهاية الأمر في الإتجاه الذي يتوقعه المرء من كل فيلم واثق وهادف النقد الإجتماعي و الثقافي والحضاري يمثّل رسائل شفهية على مستوى القراءة الأولية والبسيطة قصة حب ثلاثية الأطراف بين فتاة قروية حلوة وصديقين جارين لها واحدهما مغرم بها ومتيم، ولكنه عاجز عن التعبير الصحيح والفصيح، وهي له كارهة ولعواطفه رافضة والآخر، صغير وخاضع لوصاية أهله، يرغبها وترغبه سراً ولكنهما كلاهما مكبلين بالقيود السائدة في محيطهم الإجتماعي المباشر وفي موروثهم التقليدي وتتداخل قصة الحب هذه بأبعادها التراجيدية والكوميدية في آن ­ وهذا واحد من أسباب الإقبال الشعبي على الفيلم ­ مع حوادث الحياة في القرية الصغيرة والمعزولة التي ينتمي إليها الجيران الثلاثة وعبر هذا التشابك السردي يتمكن المخرج من إثارة مواضيع جانبية مشبعة بالنقد والسخرية أو الإعجاب والعبرة فيما يتعلق بتفاعل الريف النائي والرازح تحت ثقل جهله وعاداته البالية مع متطلبات العصر التي تقتحم عالمه اقتحاما، ومن أكثر من جبهة واحدة، والتي تفرض نفسها بجبروت على مسيرته الهادئة والساذجة والمستسلمة فالفيلم يبدأ في منزل جد وجدة سلمى، بطلة القصة، عندما تظهر مجموعة مهندسين ومساحين ليخبروهم بأن بيتهم سيهدم لأن سكة القطار ستمر في موقعه ويأتي الشرطي، ممثل السلطة، ليأخذ موافقتهم جبراً و كراهية ولكن الجدين يرسلان سلمى إلى الحانوت ويدخلان إلى منزلهما لكي يموتا مع انفجاره، فيما يبدو كصرخة احتجاج تراجيدية أمام التدخل الغاشم والمتعالي للسلطة ورموزها وأدواتها ومستلزماتها في حياة الناس العاديين والبسطاء الذين لايملكون غير هذه الوسيلة السلبية للمقاومة بعد هذه الإفتتاحية شديدة الوقع والتأثير، يخيل للمتفرج أن الفيلم سينحو منحىً نقدياً سياسياً مباشراً ولكن المخرج، وهو نفسه كاتب القصة وواضع الحوار، سرعان مايلتّف حول هذه الحادثة المأساوية الأبعاد ببراعة وخفة ليضع المتفرج أمام العقدة الرئيسة في فيلمه تفاعلات العلاقة ثلاثية الأطراف بين سلمى واسماعيل وغسان سلمى المنكوبة بموت جديها، والتي تعود للعيش مع أبيها الأرمل، هي محور الأحداث و تؤدي دورها برقة وعذوبة متناهيتين وقدرات تعبيريية ممتازة مع عفوية أصيلة الممثلة الشابة رنا جمول أما جارها الأكبر سناً، اسماعيل ذو الأنف الضخم والمشوه، والعصابي غريب الأطوار، فهو وحيد أمه ووارث أرض أبيه، وهو متيم بها ولكنه لا يستطيع كبح جماح مشاعره أو السيطرة على تصرفاته الخرقاء ليقنعها بحبه ويستميلها إليه ويقوم بتجسيد اسماعيل الممثل القدير والرائع فايز قزق الذي بدأ حياته الفنية كممثل مسرحي ومازال يوجه جّل اهتمامه للمسرح، ولكنه بدوره هذا يقدم أداءاً قّل نظيره في الأوساط السينمائية العربية المعاصرة مما يضعه في خانة واحدة مع عمالقة التراجيكوميديا العالميين بدءاً من شارلي شابلن إلى لويس دو فونيس وستي مارتن وقد تمكن فايز قزق من تسخير صوته و تعبيرات جسده وحركاته السريعة و العصبية لإضفاء طابع خاص ومعقد على شخصية اسماعيل شديدة التوتر وفي لقطة سريعة يهش فيها اسماعيل نحلة ويبعدها عن وجهه، يبلغ أداء فايز قزق التعبيري مستوىً متفرداً قلما شاهدنا مثيلاً له بعد شارلي شابلن في أفلامه الصامتة أو بعد رائد التمثيل الإيمائي الفرنسي مارسيل مارسو ويقوم بدور غسان، الفتى اليافع، ضعيف الشخصية والكسول ظاهراً، قويها والمستهتر الساخر حقيقةً، الممثل الشاب والموهوب رامي رمضان فغسان متخلف في مدرسته ولايتقن جدول الضرب، ووالده يعيره بذلك، والأنكى من هذا كله هو أنه يبول على نفسه في فراشه ليلاً، مما يشكك على الدوام بتجاوزه للطفولة ودخوله لمرحلة الرجولة ويسبب له أزمة نفسية ولكن غساناً يحب سلمى، وهي تبادله الحب، على الرغم من أنه ظاهراً يقوم فقط بدور المرسال، إذ أنه ينقل لسلمى ولع اسماعيل وولهه بها ورغبته بالزواج منها مهما كانت متطلباتها وشروطها وهي تجيب دائما برفض باتٍ وساخر لعروض اسماعيل، متعللةً تارةً بأنفه الكبير وتارةً من دون أي سبب، وتوددٍ مشاكسٍ لغسان نفسه هذه الحبكة توحي مباشرة بالثلاثي الغرامي في رواية سيرانو دي بيرجراك لإدموند روستان التي قدمت على الشاشة الفضية مراتٍ عدة، كان منها مؤخراً فيلم فرنسي من بطولة جيرار دي ارديو حافظ على سياق القصة الأصلي ولغتها وبيئتها، وآخر أميريكي من بطولة ستي مارتن طور الإطار وحافظ على المضمون العام للقصة وإن كان قد نقلها للحاضر الأميريكي المعاش ولكن ثلاثي عبد اللطيف عبد الحميد مختلف تمام الإختلاف عن ثلاثي إدموند روستان ومخرجّي قصته، فسيرانو هو البرناق كبير الأنف القبيح ولكنه في الوقت نفسه البطل الرومانسي والخطيب المفوه والمحب رقيق الإحساس، وهو الذي يوصل لروكسان رسائل صديقه، على حين أن غسان في ثلاثية عبد الحميد هو الجذاب والفعال والحساس والمرسال في آن واحد، واسماعيل هو المدنف، الأبله والمتوتر، البرناق والقبيح معاً وأما سلمى فهي وإن كانت مثل روكسان، الجميلة الحالمة والمتلقية لحب الصديقين، فهي على عكسها أيضاً مقررة ومخططة وفاعلة، بل وحتى متحدية لقدرها وإن كانت نتيجة ذلك التحدي تراجيدية هذه التركيبة الحدّية للطبائع والسلوكيات سمحت للمخرج بالإستخدام الأقصى لتناقض شخصياته الرئيسة الثلاث وتوظيف هذا التناقض قصصياً وسينمائياً بشكل أكمل لخدمة هدفه الأول من فيلمه هذا، وهو ­ على مايبدو لي ­ تمثيل واقع المرأة في مجتمع ريفي سوري محدد، جبال العلويين، والإنطلاق من ذلك الإطار التصويري نحو نقدٍ مركّز وسلس، ومباشر في بعض الأحيان، لاضطهاد المرأة وتسخيرها لقرار الرجل في المجتمع العربي ككل وقد نجح عبد الحميد في استعماله لكل المرمزات المتوافرة له ضمن إطار البيئة الجغرافية والتاريخية التي اختارها، لإسباب ذاتية عاطفية على الأغلب بما أنه هو نفسه ينتمي لجبال الساحل السوري، لكي يوصل مغزاه النقدي على كل الأصعدة ولكل المستويات فمنذ اللقطة الأولى في الفيلم وحتى اللقطة الأخيرة منه تتواصل المواقف وتتصاعد لتسخّر كلها في نهاية الأمر لتصوير واقع سلمى، رمز المرأة، ومشاعرها ورغباتها المكبوتة وتصرفاتها اليومية المتحدية لمحيطها في محاولات نزقة وتلقائية وغير واعية منها لإثبات شخصيتها في وجه معطيات ومواضعات اجتماعية وثقافية غاشمة، كاسحة وقاهرة تكبلها وتسحق فيها برعم التحرر المتفتح بخجل وتردد لتضعها غصباً عنها في موقعها من التراتبية الإجتماعية التقليدية فالفيلم يفتتح بلقطة لسلمى على أرجوحتها أمام منزل جديها وهي تدندن بأغنية لفيروز فيما تصعد الأرجوحة بها وتهبط كاشفةً عن ساقيها بسبب من ثوبها القصير مما يثير امتعاض جدّيها واعتراضهما على استهتارها وتجاوزها للعادات والتقاليد أما هي فلا تعيرهما التفاتاً وتواصل لهوها بسخرية وكبرياء ولكن هذه الشخصية المتفردة والعفوية لن تستطيع الاستمرار طويلاً في محاولاتها المتخبطة والعشوائية لمجابهة واقعها ورفض ضوابطه وتحدي قيمه فهي، بعد موت جدّيها، تسعى لتحقيق ذاتها عن طريق تمسكها بخيارها في الحب، غسان، ودأبها المستمر للوصول إلى هدفها، الزواج منه بأي وسيلة، ولكنها دوماً ترتطم بالعوائق الإجتماعية المحيطة بها فهي تخضع لأبيها الأرمل الذي يجمع في شخصه طرفين متناقضين يمثلان طبيعة السلطة الأبوية التقليدية القاسية والرحيمة في آن واحد، والذي يؤدي دوره بخفة وبراعة وطبيعية فذة المخرج السوري المعروف أسعد فضة وهي تعيش معه في كوخٍ صغيرٍ وفقير محاط ببيتيّ أسرتيّ غسان واسماعيل، مما يضعها دوماً تحت رحمة أنظارهما وأنظار والدتيهما وردود أفعالهما الشفيقة حيناً والمتعجرفة المؤنبة في أحيان أخرى وهي بحكم نشأتها وانعدام ثقافتها وقلة خبرتها في شؤون الحياة لاتعرف كيف تساير العواصف الإجتماعية عندما تهب عليها وكيف تستفيد من الظروف الموأتية عندما تسنح لها، ولذا فهي تفشل عند كل مواجهة، وتنتهي إلى الإستسلام لقدرها والرضوخ لواقعها الذي يمثله قبولها بالزواج من اسماعيل عندما يعجز غسان عن التمرد على رفض أهله لزواجه بها وحتى غسان واسماعيل، طرفا العلاقة الثلاثية المتممين لسلمى، فهما خاضعان لنفس الهيكلية التقليدية قوية السيطرة التي تلغي فردانيتهم وتصهرهم، بغض النظر عن رغباتهم الشخصية، في تراتبية اجتماعية وجنسية وطبقية جامدة ومهينة، وتسيّرهم في اتجاه غير مايريدون ويشتهون في أغلب الأحوال ويكرس المخرج هذه السلطة القدرية المهيمنة في المشهد الأخير من الفيلم عندما يعود غسان إلى قريته بعد غياب طويل ليلتقي بسلمى واسماعيل اللذين أصبحا أبوين لثلاثة أطفال، على حين أنه، أي غسان، قد ترقى اجتماعيآً وأصبح ملازماً في الجيش ويستحق هذا المشهد وصفاً مفصلاً بسبب غناه بالومضات الدرامية الرائعة والمحملة بالمعاني والرموز فغسان الذي انفك عن محيطه التقليدي وانعتق من أساره، قد أصبح رجلاً قوياً، مهيباً، واثقاً من نفسه، ولو أنه، على ما يظهر، لم ينس حبه لسلمى ولاصداقته لاسماعيل أما هذان الاثنان، اللذان بقيا في القرية، فهما يعيشان دورة الحياة الرتيبة فيها ويكافحان من أجل لقمة العيش الصعبة، وقد شاخا شيخوخة مبكرة أفقدتهما رونقهما واستنزفت حيويتهما وعندما يقترب غسان من اسماعيل يظهر الفارق بين الاثنين واضحاً جلياً، عاكساً لكل ما يريد عبد الحميد تمثيله من تفاوت وتعارض بين ظروف حياتيهما، ويأتي تلكؤ اسماعيل في التعرف على صديقه غسان كدليل آخر على كبره في السن وانشغاله بآنية حياته ونسيانه لذكريات صباه ولكنهما يتعانقان بعد ذلك، ويسأل غسان عن سلمى، فيجيبه اسماعيل بأنها في الحقل العالي تحصد القمح ثم يسارع لانتهاز فرصة قدوم غسان ليطلب منه، كما كانت عادته أيام الصبا، التوسط له مع سلمى التي لم تكلمه منذ ثلاثة أيام وعندما يستفهم غسان عن السبب، يجيبه اسماعيل الله يخزي الشيطان، من كام يوم ضربتها كّف، ملّيتلها وجهها دّم ولا يعلق غسان بشيء ولكننا لانملك أن نتساءل، ما الذي حدث؟ كيف تحول اسماعيل من شاب خجول، أبله، متيم بسلمى، لايدري كيف يخاطبها ويطلق رصاصتين فرحاً وابتهاجاً كلما كلمته هي ويصرخ، فليحيا العدل، إلى زوج بطاش قادر على صفعها وإدماء وجهها؟ ولانجد جواباً غير ذلك الذي طرحناه كخلفية عامة لشبكة العلاقات الإجتماعية التي يصورها الفيلم فقد استسلم بطلانا لواقع مجتمعهما وقنعا بدوريهما التقليديين المرسومين لهما الزوج المسيطر، الذي يستعمل الضرب أحياناً لفرض إرادته، والزوجة المضطهدة، التي لاتملك من وسائل الاحتجاج سوى أضعفها وأكثرها سلبية، السكوت أو الحرد ونتطلع بلهفة إلى غسان وهو يتوجه إلى سلمى وكلنا أمل في أنه سيفعل شيئاً مختلفاً، سيتخذ موقفاً معارضاً أو مُديناً، وكيف لا وهو الحبيب السابق والرجل الناضج الذي غادر مجتمعه وعاداته البالية وعاد متشرباً بمبادئ مختلفة تعلمها من المدينة أو من الجيش ولعل سلمى أيضاً تشاركنا هذا الترقب، فهي عندما تشاهد غساناً وهو يقترب منها تنتصب واقفة وترمقه بنظرة مترعة بالحنان واللهفة ويقف الحبيبان السابقان وجهاً لوجه، وكل يحدق في عيني الآخر كأنما ليستشف فيها ظلالاً من الحب الماضي ويتألق وجه سلمى، على الرغم من تورم صدغها واسوداده، وتخلع عن رأسها خمارها وكأنها تحاول أن تكون ثانية الفتاة المنطلقة المتدفقة حيوية، وكأنها أيضاً تهيب بغسان ألايخيب أملها وأن ينتشلها من حاضرها ويبعث فيها ذكرى العواطف التي كانت ولوهلة يحاول المخرج أن يوهمنا أن استعادة ذلك الماضي ممكنة، أو أن القفز فوق الحواجز الإجتماعية وارد، ليعود ويؤكد بقوة وحتمية استحالة ذلك ويقف غسان جامداً مشدوهاً لايعرف كيف يتصرف، فهو أيضاً ابن مجتمعه، وهو هنا للذكرى فقط لالتغيير الحاضر وسرعان ما تدرك سلمى عقم محاولتها استعادة الحلم الذي ولّى من غير أن يتحقق وبحركة نزقة تعيد إحكام ربط خمارها حول شعرها، وتفقد نظرتها دفأها، وتختفي الابتسامة من شفتيها وكأنها تعود إلى واقعها بعد رحلة سريعة في عالم اللاممكن وينتهي الفيلم على صوت غسان وهو يطلب إليها أن تسامح اسماعيل وأن تعود للكلام معه ومع هذه النهاية المعبرة يصل المخرج إلى ذروة نقده لطبيعة العلاقات السائدة بين الرجل والمرأة ورسوخها وتجذرها بحيث أن طلاء المدنية الواهي، الذي يكتسبه المرء من التعامل مع المؤسسات العصرية كالمدرسة والجيش والمواصلات ­ الممثَلة دراماتيكياً بجسر معلق يخترق فضاء حقل اسماعيل بجبروت وتباه ­ لايكفي لكسر سيطرتها وإزالة ترسباتها ولايطرأن على الظن أن المخرج قد وصل إلى هذه النهاية من خلال سرد قصصي لتطور العلاقة بين الأبطال الثلاثة فقط، فهو أيضاً يستعمل واسطة الحلم، موئل الزمن السحري، لسبر أغوار تصور كل من غسان، اسماعيل، وأبي سلمى للمرأة، ورؤية سلمى لنفسها ولصلتها بكل من غسان واسماعيل ويمكننا أن نتبين في أحلام الرجال الثلاثة تمثيلاً متوافقاً مع درجات تصور المرأة في لاوعي الرجل المسلم كما حللتها فاطمة المرنيسي في كتاباتها، والتي تتراوح بين المرأة­اللعبة الجنسية، كما يتخيل غسان سلمى تسبح معه عارية، والمرأة­المشتهاة ولكن المكلفة اقتصادياً، كما يحلم اسماعيل بسلمى وهي تأكل محصوله من البرتقال وثدياها قد تحولا إلى نصفي برتقالة، والمرأة­الزوجة والمأوى، كما يتخيل أبو سلمى نفسه في حفل زفافه على أم اسماعيل، جارته الأرملة التي يكن لها في الحقيقة وداً خجولاً ­ وهو المشهد الذي يظهر فيه عبد اللطيف عبد الحميد كضارب للطبل وأما حلم سلمى فلا يعدو كونه تمثيلاً لرغبتها بالتمتع بصحبة غسان، إذ أنها تشاهد نفسها وهي تسبح لاهية معه ­ ولكن بكامل ثيابها ­ وخشيتها من وصول اسماعيل إليها، حيث أنها تستيقظ فزعة عندما تراه في الحلم وهو يمسكها من الخلف داخل الماء ولست أجد في تخيل سلمى أي تمثيل عام ومعمم للرجل­النموذج كما تراه المرأة، على عكس أحلام الرجال الثلاثة، مما يضعها في موقع إنساني أكثر تفتحاً من ذلك الذي يعيش فيه أولئك الثلاثة وعلى الرغم من أن الهاجس الأول للفيلم يبقى تحليل وضع المرأة في المجتمع العربي وتمثيل استلابها من قبل الرجل، فإن المخرج لايتوانى عن التطرق لمواضيع أخرى إجتماعية وسياسية وحضارية وتناولها بأسلوب نقدي في لقطات مكثفة وشديدة التركيز ولعل أروع هذه المشاهد هي تلك اللحظة التي يسأل فيها الفتى غسان أبيه الرقيب في الجيش وهما واقفان تحت القصف الإسرائيلي أمام بيتهما المعتم في قرية حدودية انتقلت إليها العائلة، ليش يا أبي اليهود مابيطفّوا الأضوية؟ وتنتقل الكاميرا ­ التي يديرها ببراعة وحساسية عبده حمزة ­ إلى الطرف الإسرائيلي لنشاهد مدنهم مُنارة والحياة تجري فيها على عادتها على الرغم من تبادل إطلاق النار هذه اللقطة، كما أخبرني المخرج بنفسه، تلخص رؤيته لواقع الصراع العربي­ الإسرائيلي، ولعلها كذلك تمثل أصدق تمثيل خيبة أمل وإحباط أجيال من الشباب العرب الذين ترعرعوا على خطابات زعمائهم الطنانة ووسائل إعلامهم الرسمية وهي تهدد العدو بالويل والثبور والدمار الماحق وتعد شعوبها بالنصر المبين القادم لامحالة، على حين كانت جيوشهم تُهزم في كل مواجهة مسلحة، ولاتجرؤ ولا لمرة واحدة على الرد على قصف الإسرائيليين المتكرر والوحشي لمواقع مدنية عربية بقصف مماثل وفي النهاية لابد لي من الملاحظة أن عبد اللطيف عبد الحميد وفريقه قد حققوا في هذا الفيلم قفزة نوعية عن فيلمه السابق ليالي ابن آوى  على صعيد حبكة القصة وعمق المضمون وروعة الإخراج والتصوير والتمثيل فعبد الحميد كان قد قدم في فيلمه الأول، الذي لاقى أيضاً استحساناً شعبياً وفاز بعدة جوائز، قصة مشابهة لعائلة من الريف العلوي السوري واستعرض علاقات أفرادها ببعضهم البعض، وخاصة سيادة الأب وسلطته المهيمنة على زوجته وأولاده، وكيفية تضعضع هذه التراتبية الهرمية وانفراط عقد الأسرة بتأثير عوامل داخلية وخارجية أهمها هزيمة  ولكن عبد الحميد اعتمد في ليالي ابن آوى على سرد سينمائي قائم على وحدة الخطاب القصصي وعلى الاستمرار الزمني من دون أن يلجأ لأي من وسائل التداخل السردي كالحلم أو استخدام المرمزات لتكثيف الحدث أو القفز عبر السنين لوصل لحظتين متباعدتين كما فعل في رسائل شفهية ولكن لا بد لي كذلك من الإشارة إلى أن عبد الحميد، على ما يظهر، قد اتخذ لنفسه منذ بداية احترافه للإخراج منهجاً نقدياً ملتزماً بقضايا المرأة العربية ونضالها ­ الذي هو نضال الرجل العربي أيضاً ­ ضد كل أنواع الاضطهاد والقهر وإلغاء الشخصية التي فُرضت وما تزال تُفرض عليها ومن المؤكد أن رسالة عبد الحميد قد استغلقت على بعض جمهوره وعلى العديد من منتقديه، بدليل الإنتقادات السطحية التي وُجهت إلى أفلامه بسبب تصويره لبعض النماذج الإجتماعية السلبية تصويراً واقعياً وجارحاً ولكن يبقى حصول فيلميه على العديد من الجوائز، وخاصة جائزة الاتحاد النسائي بسورية التي فاز بها ليالي ابن آوى عام ، علامة إيجابية أن رسالته النقدية ليست بخافية على إولئك الذين يشاركونه رؤيته وعمله من أجل علاقات أكثر توازناً ومساواة بين شقّي المجتمع العربي برجاله ونسائه كامبريدج، ماساشوستس، تموز يوليو 

الكلمات الدالة: