مدونة:صلاح الدين الأيوبي.. البطل بين التاريخ والأسطورة وقوالب ما بعد ­الحداثة

ناصر الرباط.

صلاح الدين الأيوبي.. البطل بين التاريخ والأسطورة وقوالب ما بعد ­الحداثة، قراءة نقدية لكتاب صلاح الدين تأليف طارق علي، للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المدونة

الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، أو صلاح الدين الأيوبي، واحد من شخصيات التاريخ الإسلامي الأكثر شهرة واحتراماً لدرجة أنه يضاهي في منزلته اليوم منزلة المسلمين الأوائل، أصحاب الرسول وقواد الفتوحات الإسلامية الأولى، كخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وهو كذلك شخصية ذات أبعاد عديدة ومتلونة في مخيلة المعجبين به ماضياً وحاضراً لدرجة أنه يؤدي أدواراً مختلفة في أكثر من خطاب قومي وديني وعرقي حديث فهو من وجهة النظر الإسلامية المعاصرة ملك اسلامي مجاهد يعتد به، وهو أيضاً بطل وقائد عظيم دحر الصليبيين والاسماعيليين وأعاد توحيد سورية ومصر تحت راية الشرعية العباسية مؤسساً بذلك مملكة عظيمة خلفها لأولاده وأسرته من بعده وهو من وجهة النظر العربية القومية الما­بعد­نكبة­فلسطين محرر القدس، وفلسطين، أولاً وقبل كل شيء، مما حدا بالكثير من الزعماء العرب المعاصرين للالتفاف بعباءته والتشبه بصورته مباشرة أو مداورة وهو من وجهة النظر الكردية الوطنية الحديثة بطل وطني كردي يجب إعادة تمثل كرديته في الصراع الوطني الكردي المعاصر الذي يحتاج لشخصيات تاريخية تلم شمله وتعطيه امتداداً زمنياً وشعوراً مفاخراً وهو من وجهة النظر الأوروبية المسيحية والكاثوليكية أكثر القواد المسلمين رأفة وفروسية، بل هو واحد من الشخصيات المعيارية في مجال الفروسية والشهامة بسبب من أخلاقه الرفيعة وتأثيرها على معاملته للأصدقاء والأعداء في صراعه مع الصليبيين، مما حدا بمعاصريه وتابعيه من الأوربيين للتغني بمناقبه في الأغاني القروسطية، وإن كانت هناك عدة أصوات قروسطية ومعاصرة لم تنس له أنه دحر جيوش الصليبيين واستعاد القدس، وإن لفترة لم تدم طويلاً بعده، مما حدا بفاتح حديث كالجنرال غورو، قائد قوات الانتداب الفرنسي في لبنان وسورية، للتعريج على ضريحه اثر دخوله دمشق وتحديه عبر حاجز القبر، ها نحن قد عدنا ياصلاح الدين ولكن صلاح الدين لم يكن من ذلك الصنف الذي يحمل ضغينته في قلبه ويجعلها تسيطر على تفكيره، بل على العكس من ذلك كان نموذجاً فذاً للسياسي المحنك الذي استطاع أن يدحر كل التحديات التي واجهته خلال حياة عاصفة أخذته عبر المناصب كلها من ابن والي قلعة بعلبك إلى شحنة دمشق إلى أمير في جيش نور الدين ابن زنكي إلى وزير الخليفة الفاطمي في مصر إلى سلطان المسلمين الأول، وتنقل خلالها فوق مساحة قلب الإسلام كلها من الجزيرة إلى ديار بكر وربيعة ومضر إلى سورية وفلسطين ومصر لذلك ليس من المستغرب في شيء أن ما كتب عن صلاح الدين من تاريخي وروائي وشعري يفوق ما كتب عن الكثير غيره من أبطال العروبة والإسلام في لغات الغرب والشرق بل أن صلاح الدين نفسه كان ولابد واعياً لأهمية الكتابة في تثبيت صورة القائد المجاهد والحاكم العادل ونشرها بين الناس لتمتين مركزه وتخليد ذكره فهو، كما نعلم، قد لم حوله العديد من فصحاء عصره وأمراء بيانه، كالقاضي الفاضل وعماد الدين الاصفهاني وابن شداد وابن جبير، الذين سلوا أقلامهم للتأريخ لتلك الفترة المترعة بالأحداث العظيمة التي كللتها انتصارات صلاح الدين على الصليبيين ودخوله القدس عام  إثر معركة حطين الحاسمة وقد بين لنا البحث الحديث أن صلاح الدين كان وراء هؤلاء الأدباء يحثهم على التأريخ له ولحوادث عصره، طبعاً من وجهة نظره هو أو بالأحرى من منطلق تصويري مثالي للحاكم المسلم يتجاوز كل مايمكن أن ينعكس سلبياً على المؤرخ له وعلى الاتجاه العام للنص أي صناعة صورة البطل والبطولة ولايختلف الأمر كثيراً في الكتابات العربية الحديثة عن صلاح الدين، خاصة وأنها بالإضافة لاعتمادها على المبدأ المثالي التمجيدي إياه، فهي تهدف أيضاً بمجملها لاستخدام عصر صلاح الدين لتذكير العرب المعاصرين ببطولات من سبقوهم في الذود عن أرض العروبة، واستعمال صورته في خلق صورة البطل العربي المعاصر الذي يمكته أن يشحذ الهمم ويرص الصفوف مجدداً في مواجهة العدوان الاستعماري على أرض العروبة، وعلى رأسها طبعاً فلسطين وهكذا نجدنا بمواجهة أكثر من خمسين كتاباً عن صلاح الدين في اللغة العربية وحدها، أغلبها دراسات أكاديمية جافة للإلمام بشخصية البطل وتأريخ جهاده وسياسته وفتوحاته من خلال المصادر المكتوبة، والكثير منها نفثات عاطفية وطنية تروم نفح بصيص أمل بظهور بطل مماثل له يقودنا لخروج مشرف من ورطتنا الحديثة كأمة في مواجهة الابتلاع الاسرائيلي لفلسطين ولكن مع هذا كله مازال صلاح الدين الأيوبي شخصية غامضة في العديد من نواحي حياته وفكره وجهاده، خصوصاً مراهقته ويفاعته وحياته الخاصة وزوجاته وتعامله مع عائلته وأمرائه وشعوره القبلي والعرقي والديني بل أننا في الحقيقة في معظم ماكتب عن صلاح الدين نجدنا دوماً أمام شخصية نمطية مثالية القائد، الفارس، البطل، المتدين، الخاشع، العادل، العالم، السمح، والمجاهد، من دون أي تفاصيل أخرى تشفي غليلنا لمعرفة المزيد عنه كإنسان وكزوج وكأب وكزعيم قبلي وعسكري وكسياسي مع أن المصادر الأولية لاتخلو من إشارات تسمح لنا بالنفوذ عبر هذه الأبعاد النمطية والوصول إلى معرفة أكثر واقعية بعض الشيء، وربما أكثر حميمية، بهذا الإنسان الفذ الذي تجاوز معطيات واقعه وعصره ونسج لنفسه سيرة حياة رائعة مازالت تمنح الكثير من المعنى لمفاهيم العرب والأكراد والمسلمين عن أتفسهم كأمم وعن أراضيهم كأوطان وقد حاول بعض الأدباء والكتاب المحدثين، من عرب وغيرهم، تجاوز ندرة الإشارات الشخصية في المصادر وصياغة أبعاد انسانية لصلاح الدين من نسج الخيال أو على أقل نقدير بمساعدته مع بعض اعتماد على روايات تاريخية أو وضعية كالسيرة التي كتبها أبو شامة في القرن الثالث عشر ميلادي أو كالأغاني الصليبية ونجح بعضهم في خلق صورة مقنعة للانسان صلاح الدين أو لجانب من جوانب حياته المجهولة، وفشل البعض الآخر ولعل صورة صلاح الدين كما تظهر في الملحمة الصليبية (Tales of the Crusades) التي وضعها والتر سكوت (Walter Scott) واحدة من أوائل تلك المحاولات وأكثرها تأثيراً، حتى أنها ظهرت بتصرف في بدايات الروايات العربية التاريخية عندما اقتبسها جرجي جرداق وأعاد صياغتها تحت عنوان صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد وقد تبعه جرجي زيدان بروايته صلاح الدين ومن بعده نجيب الحداد برواية صغيرة نثرية وشعرية بنفس العنوان، وكلاهما تأثرا بنفس المصدر، والتر سكوت وفي عصرنا الراهن، ظهر صلاح الدين أيضاً في محاولات تخيلية روائية وشعرية ومسرحية، مثل عمل عبد الرحمن الشرقاوي صلاح الدين، النسر الأحمر، ومثل عملي عارف تامر، المسرحي والروائي بنفس العنوان سنان وصلاح الدين، اللذين حاول فيهما تامر، مؤرخ الاسماعيليين الأول في سورية، إعادة النظر بالعلاقة بين صلاح الدين وبين شيخ الجبل راشد الدين سنان، زعيم الاسماعيليين الداهية صاحب السمعة الرهيبة في احتراف الاغتيال السياسي وتطويعه لتحقيق مكاسب كبيرة ولكن هذه الأعمال الروائية كلها، على الرغم من اعتمادها على الخيال لسد الثغرات في سيرة صلاح الدين، لم تتجاوز في سردها الأبعاد القيادية والجهادية والسياسية، وأحياناً الغرامية الفجة، في تقديم شخصية صلاح الدين روائياً ولم يحاول أي منها دفع عملية التخيل والسرد باتجاه سبر الغور النفسي والشخصي والفكري في حياة صلاح الدين، اللهم إلا في خلق المواقف الميلودراماتيكية البسيطة من غرام وانتقام ومشاعر وطنية تضحوية فدائية فياضة توضع على ألسنة صلاح الدين ومعاصريه وتبقى ترن في الذهن كعبارات معاصرة لايمكن أن تكون قد صدرت عن تلك الشخصيات في زمانها وفي محيطها أي أن صلاح الدين للآسف لم يقيض له كاتبة كمارغريت يورسنار (Marguerite Yourcenar) التي جبلت من معلومات تاريخية أكثر شحة مما هو متوافر عن صلاح الدين مذكرات خيالية للامبراطور الروماني هادريان في رائعتها (MŽmoires d'Hadrien) غاصت فيها في تلافيف نفسية جديرة بامبراطور روماني مشتت الفكر بين واجباته القيادية ومتعته الشخصية وحبه المثلي المعذب ووعيه لمركزه في التاريخ، أو كأمين معلوف الذي استطاع من خلال المعلومات المتفرقة المبثوثة في المصادر عن الحسن ابن محمد الوزان الغرناطي والفاسي، أو ليون الأفريقي كما عرف في التاريخ الأوروبي، أن يقدم لنا في كتابه المدهش (Leo Africanus) صورة رائعة التعقيد لنموذج انساني حديث ولكنه عميق الغور في التاريخ اللامنتمي، الذي تفرض عليه ظروف حياته التتقل بين الثقافات من دون الارتباط عضوياً بأي منها بشكل تام مما يوفر له امكانية رؤيتها كلها رؤية مقارنة متجردة من دواعي الفخر والتبجيل والتعصب القومي أو الديني أو العرقي بمشاعر ترقب متفائل إذن اخذت بين يدي كتاب طارق علي الجديد (The Book of Saladin)، كتاب صلاح الدين الصادر عن دار Verso في نهاية العام الفائت  والكتاب هو الثاني في رباعية تاريخية يخطط لكتابتها هذا الكاتب البريطاني الباكستاني الأصل لإعادة التفكير بالصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي عبر التاريخ وقد بدأها بكتاب عن الصراع على الأندلس نشر عام  تحت عنوان (Shadows of the Pomegranate Tree) أو  في ظلال الرمان وطارق علي كاتب تقدمي ويساري التفكير له العديد من المؤلفات في تاريخ العالم والعلوم السياسية وكذلك النصوص السينمائية والمسرحية والتليزيونية، وهو قد اشتهر عام  كقائد للحركة الطلابية في بريطانيا خلال ربيع شباب الثمان والستين الذي بزغ واعداً كالمزن بعد موسم قاحل واضمحل تحت ضربات الرأسمالية المتأخرة والسوق الاستهلاكية و، ببساطة، تقدم رواده في العمر وانضمامهم للبرجوازية المرتاحة ولاأعلم أين أصنف طارق علي نفسه في هذا التطور التاريخي المتوقع والمؤسف بالنسبة لجيلي الذي تبع أولئك الرواد وتأثر بفكرهم واحتجاجاتهم، ولكنه، أي طارق علي، قد فقد فجاجته واندفاعه المبدأيين، وربما بعضاً من حدة شبابية ملتزمة، وتبنى شخصية أكثر رزانة وتعمقاً ومداورة ظهرت بأبهى أشكالها من خلال فيلم وثائفي على شكل حوار مع ادوارد سعيد سجله قبل عدة أعوام، لعله الأكثر غوصاً في فكر ادوارد سعيد وشخصيته بأبعادها الانسانية والعاطفية والنفسية ولن أداور كثيراً في ملاحظاتي عن كتاب صلاح الدين، بل سأبادر بالقول أنه، على العموم، رواية فيها من السلبيات بقدر، وربما أكثر قليلاً، مما فيها من الإيجابيات، تاريخياً وروائياًً وسردياً وتحليلياً، وفي الختام، أيدولوجياً ولأشرح ما أقصد الكتاب عبارة عن مذكرات خيالية عن حياة صلاح الدين وغزواته يكتبها كاتب يهودي مصري من الفسطاط أو مصر القديمة جنوب القاهرة الفاطمية اسمه ابن يعقوب ضمه صلاح الدين إلى حاشيته لأجل هذا الغرض وابن يعقوب شخصية، كما يخبرنا طارق علي في مدخل كتابه، مختلقة، وإن كانت ممكنة تاريخياً كما نعرف من سيرة صلاح الدين واعتماده على العديد من المثقفين اليهود وعلى رأسهم الفيلسوف والطبيب الأندلسي الأصل ابن ميمون الذي يظهر في القصة بدوره الحقيقي، أي كطبيب لصلاح الدين وكنجاد أو كبير الحاخامين للطائفة اليهودية في الفسطاط ابن يعقوب هذا يؤدي دورين في رواية طارق علي الدور الأول هو دور الراوي المعاصر للأحداث والمنفصل عنها في آن واحد، والدور الثاني، دور مابعد­حداثي مؤدلج بطريقة تصل حد السذاجة أحياناً، هو دور الحليف اليهودي للمسلمين في صراعهم مع الصليبييين وهذه الصورة اللاتاريخية والمشبعة بالأهداف السياسية المعاصرة، تنبع برأيي من شعور طارق علي، والعديد من المفكرين المهتمين بقضية فلسطيناسرائيل في هذه المرحلة، بضرورة التركيز على التقارب اليهوديالمسلم بمواجهة الغرب الأوروبي والأميريكي، المسيحي ضمناً ولايعدم طارق علي أن يؤكد هذا الانطباع مراراً إذ أنه يضع الكلام المؤدلج على لسان صلاح الدين وعماد الدين الاصفهاني وابن ميمون وابن يعقوب نفسه، الذين يكررون دوماً أن المسلمين واليهود هم أهل الكتاب الحقيقيين وأن المسيحيين هم الذين شذوا عن القاعدة، وأن القدس أو القادسية كما يسميها طارق علي طوال روايته من دون أي مبرر تاريخي أو خيالي هي مدينتهم المشتركة، التي سيستعيدها صلاح الدين لهم جميعاً، وأن المسيحيين الغربيين لايملكون حقاً فيها هذا الكلام لارصيد تاريخي له اللهم إلا في قلوب وآمال المصالحين المعاصرين الذين لايجدون مخرجاً من مأزق فلسطيناسرائيل الحالي، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة القدس العويصة، إلا بالتركيز على ضرورة المشاركة في المدينة المقدسة نفسها بين الاسرائيليين والفلسطينيين ولعل طارق علي يهدف من هذه الصياغة إلى تذكير قراءه من اليهود والمسيحيين بدور المسلمين البطولي في القدس وهنا علينا أن نتذكر أن الكتاب مكتوب بالانجليزية ومنشور في لندن ونيويورك، وهو إذن موجه بالضرورة لجمهور غالبيته من اليهود والمسيحيين ولكن ماهكذا تورد الإبل، خصوصاً أن تاريخية الجهاد الصلاحي في فلسطين واضحة الأبعاد والانتماء إسلامية حصراً لامجال فيها لمشاركة عقائدية متساوية مع اليهود، وإنما هو اعتراف بوضعهم كمحميين في دولة الإسلام, لهم ارتباطات روحية ودينية بالقدس يحترمها الحاكم المسلم بحكم عقيدته وشريعته ولكني لاأريد التركيز طويلاً على تحليل ماهو بنتيجة الأمر رؤية طوباوية للتاريخ واسقاطاته على الحاضر، وإنما أود أن ألتفت إلى كيفية تعامل طارق علي مع التقاطع بين السرد التخيلي والتاريخ نفسه هناك قاعدة عامة في الروايات التاريخية تقضي بأن يحافظ الكاتب على الواقعة التاريخية كما هي من دون تحوير، وأن يضيف عليها من خياله ما يكملها، ويعطيها أبعاداً إنسانية وحياتية ونفسية موضوعة لم تحافظ عليها المصادر التاريخية خلال تسجيلها للواقعة في بداية الأمر لاستكمال الصورة وتعميق الحس بالقصة وهذا مايفعله طارق علي عموماً،مع بعض الهفوات التاريخية الصغيرة التي كان من الممكن تلافيها بقليل من البحث التاريخي، كأن يجعل أبطال قصته يشربون الشاي الأخضر ويدخنون الحشيشة وهما أمران لم يكونا معروفان في ذلك الوقت إذ أن الشاي لم يدخل العالم العربي حتى العصر الحديث والحشيش، وإن كان معروفاً، فهو كان يمضغ ولم يدخن إلا بعد اكتشاف التبغ في القرن السادس عشر ولكنه، في مقاطع أخرى، يقارب النفس التاريخي بحساسية شديدة، خصوصاً في تلك المقاطع التي يسجل فيها الأحاديث بين الشخصيتين المختلقتين الأكثر أهمية في الكتاب ابن يعقوب، وشادي، مرافق صلاح الدين وعمه غير الشرعي الذي يحمل اسم جد صلاح الدين نفسه في تلك المقاطع، تتدفق ذكريات شادي المختلقة عن الحياة في جبال الأكراد وفي أرمينيا وفي بعلبك وفي دمشق، وهي كلها مواقع عاشت فيها العشيرة الأيوبية قبل تسلطن صلاح الدين، شفافة وحساسة وتاريخياً ممكنة وهذه الأحاديث المختلقة بجدارة تضفي على الرواية كلها بعضاً من الملاط السردي اللاصق الضروري لسد العديد من الثغرات عن حياة صلاح الدين قبل ظهوره على الساحتين السياسية والعسكرية وقبل أن يفصل لنفسه صورة الحاكم الجاد والمتدين والمشغول بحكمه دوماً والحال نفسه في قرار طارق علي أن يختلق شخصيات نسائية في ذلك الفضاء الذكوري المطلق الذي يطالعنا في المصادر الإسلامية الوسيطة والذي لادور فيه يذكر للمرأة إلا في بعض النواحي الخيرية، التي ساهمت فيها بعض نساء الطبقة الحاكمة ببعض ثرواتهن في دعم المؤسسة الدينية عن طريق إقامتهن لأوقاف خيرية للصرف على مدرسة أو زاوية أو خانقاه، غالباً من خلال وكيل ومن دون أن يظهرن على الملأ، أو في الزوايا التآمرية المعتمة، حيث نسمع همسات منذرة عن تدخل بعض نساء أو جواري الحكام في الحكم وتلاعبهن برجاله وهنا لايملك القارئ من الإعجاب بقرار طارق علي تجاوز قيود المصادر وإكمال الصورة عن الحياة السلطانية عن طريق تقديم زوجتين متخيلتين للسلطان، حليمة الكردية المشاكسة صعبة الترويض، وجميلة الأميرة اليمنية قوية الشخصية والفيلسوفة السحاقية، وإغناء صورة ابن يعقوب باختلاق زوجة جميلة له، اسمها راشيل، مع أن دورها في القصة جد سطحي ومفتعل ولكن طارق علي يفشل في المحافظة على الجو التاريخي الملائم عندما يترك لخياله العنان في إضافات سردية وفي حشر تصرفات وعبارات لاتمت للعصر بصلة، بل هي في الغالب إرهاصات ما بعد­حداثية لايمكن أن تكون قد صدرت عن نساء عشن ومتن في القرن الثاني عشر ولعل أبرز الأمثلة على ذلك تظهر في تركيز طارق علي على المغري والغريب في الحياة الجنسية في تلك الفترة، حيث تطغى عليه نظرته التحررية مابعد­الحداثية، وعلى الغالب رغبته بالترويج لروايته أيضاً فهو مثلاً يصور عماد الدين الأصفهاني، من دون أي سند تاريخي، كمتصبين أنوف وغندور يقضي وقته في التهكم على كل من حوله وفي مطاردة الصبيان المرد والوقوع في شباكهم أو إيقاعهم في شباكه، مع أن القليل الذي نعرفه عن عماد الدين من خلال تأريخه لنفسه في سياق كتابه الموضوع عن صلاح الدين، البرق الشامي، الذي حفظ لنا منه الزمن جزئين من سبعة أجزاء بالإضافة لمختصره، سنا البرق الشامي الذي وضعه البنداري بعد عشرين سنة من موت استاذه، وترجمات المؤرخين المعاصرين واللاحقين للعماد، لاتشي بشيء من ذلك والحال نفسه في أحاديث الشخصيات النسائية المختلقة، خصوصاً السلطانتين جميلة وحليمة، عن مشاعرهن وميولهن الجنسية حين يضع طارق علي على ألسنتهن رغبات ونزوات لم تجد العبارات الملائمة للتعبير عنها إلا بعد عصر التنوير في أوروبا، والبعض منها حتى أكثر حداثة، بحيث أننا لم نسمع التبريرات التي تقدمها السلطانة جميلة للحب السحاقي إلا في الأدب المثلي في نيويورك ولندن الثمانينات والتسعينات من هذا القرن في هذه المعمعة من الجنس والحب والفلسفة والتأملات والاستطرادات التي تلقي الضوء على جوانب عديدة من شخصيات أغلبها مختلق ماعدا عماد الدين، تبقى هناك شخصية واحدة منغلقة، ومنعزلة، وعصية على الفهم صلاح الدين تفسه حتى في تلك المقاطع التي يعالج فيها طارق علي جوانب من حياة صلاح الدين الجنسية وعلاقاته بزوجتيه جميلة وحليمة، بل وحتى في ذكريات حبه الأول أو ولعه اليائس بمحظية لأبيه، لايمكننا النص من النفاذ إلى دواخل صلاح الدين ومن الاطلاع على مشاعره كمحب أو كزوح غيور أو حتى كممارس للجنس المحلل والمحرم بل أنه يظهر في تلك المواقف كلها كما هو متوقع منه الفحل النمطي الأول، كما هو المحارب الأول والحكيم الأول والسياسي الأول أي أننا نعود مع هذا السرد إلى الصورة النمطية المسطحة المستفحلة في الأيدولوجية الغربية منذ المجابهة الأولى بين الأغريق والفرس، صورة المستبد الشرقي التي حللها ألان غروريشار (Alain Grosrichard) أعمق تحليل في كتابه القيم بنية السراي (Structure du SŽrail) والتي تغطي كل جوانب شخصية ذلك الحاكم الشرقي المستبد حتى في أكثر زواياها خصوصية بحيث لايبين منه الرجل أو الانسان أو الزوج أو الأب أو المحب، بل الحاكم المطلق القوة والصلاحية فقط أي أن كتاب صلاح الدين بنهاية الأمر لم ينجح تماماً في تمكيننا من رؤية صلاح الدين الآخر صلاح الدين الانسان المتقد مشاعر ونزوات ومخاوف وآمال ورغبات، مع أنه نجح في ملء الفضاء حول صلاح الدين بشخصيات ذات أبعاد إنسانية جذابة ولو أن الكثير منها مغرق في ما بعد­حداثته والبعض منها حشو لاضرورة له في القصة ويبقى هناك البعد الآخر المعلن من وراء هذه الرواية العلاقة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي هنا أيضاً نجدنا بمواجة إسقاط لماضٍ ولى على حاضر مختلف جد الاختلاف ومن الغريب أن ادوارد سعيد، وهو الصديق القريب من طارق علي، في تقريظه للرواية المثبت على خلفية الغلاف، يعلق على قوة الرواية الاقناعية في وصفها التاريخي، مع أنه يلاحظ مباشرة إثز ذلك أن السرد ينتمي لزماننا نحن وهو ماأشاركه الرأي فيه، وأزيد أن الوصف التاريخي نفسه ينتمي لزماننا أيضاً، مما يضعف بطبيعة الحال من قوة الرواية الاقناعية في تموضعها التاريخي على عكس ماارتأى ادوارد سعيد ويبقى صلاح الدين، ونبقى نحن القراء معه، بانتظار مارغريت يورسناره أو أمين معلوفه، الذي لعلنا نذكر في الختام بأنه بدأ مشروعه الروائي بكتابه عن الحملات الصليبية من وجهة نظر المؤرخين العرب، وفيه نجد واحدة من أقوى الصور لصلاح الدين كما رآه معاصروه.