مدونة:تاريخية سفر التكوين.. رؤية سينمائية من مالي

ناصر الرباط.

تاريخية سفر التكوين.. رؤية سينمائية من مالي، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المدونة

سفر التكوين التوراتي واحد من أهم النصوص في تاريخ البشرية وأكثرها تأثيراً، وهو ربما أيضاً من أكثرها إثارة للجدل فهو بالإضافة لكونه السفر المؤسس للكتاب المقدس الذي تعتقده نصف البشرية تقريباً من يهود ومسيحيين بمختلف طوائفهم، قصة متشابكة ومتداخلة، ومركبة من العديد من قصص الخلق السابقة عليها وهو أيضاً بسبب امتداده الزمني وبسبب تنوع التنقيحات والزيادات والشروحات عليه ميزان تاريخي لتطور علاقة البشرية بالخالق لاتعادلها أية قصة أخرى في قوة تأثيرها على المخيلة الانسانية بمختلف اتجاهاتها وعقائدها منذ ظهوره كنص مكتوب حوالي القرن السادس قبل الميلاد وحتى اليوم ومع أن البشرية ككل قد تجاوزت شروحات سفر التكوين لنشوء وتطور الكون من خلال اكتشافاتها الفلكية والكونية والأركيولوجية والبالينتولوجية علم المستحاثات في القرنين الماضيين، فمازال للنص سحره وجاذبيته التي تعتمد أساساً على أبعاده الكونية والماورائية لتركز في نهاية الأمر على مضامينه الأخلاقية والمثلية والتصويرية الأدبية، وكذلك على تأسيسه للأسطورة الجبارة التي تتجلى قوة وسيطرة ونفوذاً عالميين، أقصد بذلك أسطورة الشعب اليهودي كشعب الله المختار الذي عقد مع خالقه عهداً ملزماً منذ عهود الآباء المؤسسين إبراهيم ويعقوب وموسى وحتى اليوم على اعتقادهم واعتقاد العديد من الطوائف المسيحية البروتستانتية خاصة في الولايات المتحدة الأميريكية وبالتالي مازال لسفر التكوين اليوم، أكثر من أية أجزاء أخرى من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، تأثير سياسي ومعنوي وأدبي وفني كبير فهناك ملايين العظات الدينية والخطب السياسية التي اعتمدت على السفر أو على أجزاء منه في تمرير أفكار ومبادئ وآراء كتابها أو مؤسساتها وهناك آلاف الكتب التي شرحت مضمون السفر أو علقت عليه أو استخدمته منطلقاً لسبر نواحٍ مختلفة من التاريخ والعقلية والنفسية البشرية عموماً واليهودية والمسيحية خصوصاً وقد أثرت تلك الأفكار تأثيراً مباشراً وحدياً أحياناً على سيرورة تاريخ البشرية، خصوصاً في لحظات الكوارث الطبيعية أو البشرية عندما استقرأ الملايين من المؤمنين فيما يحصل حولهم ولهم إشارات كونية ودينية أثبتها سفر التكوين، أو في صراعات الأمم قديماً وحديثاً، كما حصل في قرننا هذا في اعتماد دولة اسرائيل على هذا النص المؤسس في تبرير أحقية وتاريخية ادعاءاتها في أرض فلسطين أما فنياً، فللسفر وجود وفعالية لايقاربه فيها أي نص ديني آخر فهناك مئات الآلاف من اللوحات الفنية التي اتخذت من صوره وأقاصيصه على مر العصور مواضيعاً تشكيلية وهناك مثلها عدداً من القصائد والروايات والقصص القصيرة التي استلهمت نصوص السفر في خلقها لعوالمها الروائية الخاصة وحديثاً، في قرننا العشرين، هناك عشرات الأفلام السينمائية والتلفيزيونية التي اقتبست من مادته الروائية أساساً لطروحها الفنية والقصصية واحد من أكثر هذه الطروحات روعة وغرابة وجدةً هو بلا شك الفيلم المالي-الفرنسي المشترك سفر التكوين  Genesis  ولاتعود الغرابة والجدة فقط لكون الفيلم من مالي، البلد الأفريقي الأسود والمسلم بغالبية سكانه، الذي لم يشارك تاريخياً في الإرث التوراتي اللهم إلا من وراء حجاب ومن خلال التأويلات والاقتباسات الإسلامية بل تنبع أساساً من طريقة معالجة حدث توراتي مركزي، قصة الصراع بين الأخوين يعقوب وعيسو، أو الراعي والمزارع، في هذا الفيلم المباشر والغض والمليء بالإشارات والدلالات المهمة خاصة بالنسبة لمتفرج عربي يحمل الهمين الفلسطيني والديمقراطي في القلب والوجدان بعد أن نزعت حقائق العصر وهزائم العرب المتتالية والمخزية وتقاعسهم الفج عن مواكبة تطورات الفكر والمعرفة الراهنين أي إمكانية للاستمرار بالحلم بالعودة أو بالنصر، أو بتحقيق مبدأ حرية التعبير عن الرأي في عالمنا العربي المعاصر والمنهك مخرج الفيلم، شيخ عمر سيسوكو، معروف في الأوساط السينمائية الطليعية منذ منتصف الثمانينات عبر سلسلة من الأفلام التأويلية التي تعتمد القصص والمعتقد الشعبي إطاراً لطرح أفكار كبيرة عن الفقر والاستغلال والنهضة وطبيعة الاستبداد فهو يعالج قضايا سياسية مهمة لأفريقيا الصحراوية معالجة مركزةً ومباشرةً منذ أفلامه الأولى شبه¬الاخبارية المدرسة المالية، الجفاف والهجرة الريفية وأن تكون يافعاً في باموكو، وعبر سلسلة أفلامه الروائية نيامانتون  عن تعليم وصحة الجيل الجديد، و فنزان  عن تحرر المرأة، وغيمبا المستبد  الذي اشتهر من خلاله، والذي نفذه بمناسبة سقوط الدكتاتور المالي موسى تراورة، والذي استعمل فيه إضاءات من الفولكلور الأفريقي ليروي قصة صعود وسقوط مستبد صغير اسمه غيمبا ومع أن فيلم سفر التكوين يتبع نفس الخط السياسي ويحمل نفس الهموم التي حملتها أفلام سيسوكو السابقة فهو قد حقق فيه نقلة نوعية ومعرفية مهمة فهو بدءاً يخرج من الإطار المباشر إلى الإطار العام للتاريخ الإنساني الموشى بالأساطير المؤسسة التي اختزنت فيها البشرية خلاصة تجربتها الطويلة في الصراع في سبيل البقاء والارتقاء، وأهمها طبعاً التوراة، وخاصة سفر التكوين فيها وقد صرح سيسوكو في واحدة من مقابلاته إثر عرض الفيلم في فرنسا بأنه يعتبر التوراة جزءاً من التراث الإنساني المشترك الذي لايخص أمة بعينها أو دين بذاته وهو بالتالي قد قرر استخدام القصص التوراتي والشخصيات المؤسسة لإعادة صياغة قصة الصراع الأزلي بين الأخوة الذي اختزلته التوراة في ثلاثة ملاحم متسلسلة على ثلاثة أجيال اسماعيل واسحق، يعقوب وعيسو، ويوسف واخوته، من أجل نقد الصراع الحديث بين الأخوة الأفارقة، الذين لايدركون عادة أن الروابط بينهم أقوى مما يتوقعون، والذين ينسون أن الخراب الذي يحل ببعضهم نتيجة للصراع بينهم سيعم على الكل  وقد ركز سيسوكو على الجيل المتوسط في السيرة التوراتية، يعقوب وعيسو الفصل ¬ من سفر التكوين، وقدمهما على صورة زعيمين قبليين أفريقيين تقليديين، ياكوبا وعيسو، تتبع سيرتهما في الفيلم سيرة الأخين التوراتيين بمختلف تفاصيلها ضمن محيط أفريقي محض، وتزيد عليها بعض التفاصيل التي تظهر في سفر التكوين في فقرات أخرى تساهم في إلقاء مزيد من الضوء على أسباب ودوافع النزاع بين الأخين، أهمها قصة اغتصاب دينا، أخت يوسف، من قبل سيخيم، ابن هامور في الفصل  من السفر، والانتقام الرهيب الذي نفذه يهودا واخوته، أخوة يوسف الضائع وأبناء ياكوبا، ضد هامور وعشيرته، وقصة سقوط يهودا في الخطيئة عندما سلم ختمه وعصاه وحبله لغانية مقنعة مقابل لقاء جنسي سريع على الطريق، ثم فوجىء بأن هذه الغانية ماهي إلا زوجة أبنائه المتوفين تمارا في الفصل  من السفر وينتهي الفيلم، بتحوير درامي مؤثر على القصة التوراتية، باجتياز يعقوب للاختبار الرهيب الذي فرضه الرب عليه بنجاح وبالتالي بحصوله على اسم اسرائيل من الأصل يسرائيل والذي يعني بالآرامية القديمة وبالعبرية، الذي صارع الرب للدلالة على ذلك النجاح، يتلو ذلك مصالحة رمزية بين اسرائيل وعيسو وهامور، وبعد ذلك، في النهاية، ينطلق يهودا واخوته إلى مصرائيم مصر للاستغاثة بحكامها لمساعدة بني اسحق على الخروج من المجاعة القاسية التي ابتدأت تعصف بقومهم إثر صراعاتهم الغبية التي قضت على محاصيل المزارعين منهم، أي قوم هامور، وقطعان الرعاة، أي قوم يعقوب أي أن الفيلم ينتهي مع بداية الحلقة التالية في السرد التوراتي قصة يوسف ولست هنا بمعرض التعليق المطول على الفيلم كفيلم، ولكني أريد أن أستخدمه كمدخل للتعليق سريعاً، وربما بقدر من المشاكسة، على مدلولات استخدام القصص التوراتي في طرح مشاكل انسانية من خلال الأدوات الفنية المعاصرة، وعلى رأسها طبعاً السينما ولأبدأ من مكان عرض الفيلم في مدينتي بوسطن، فهو قد عرض في اليوم الأخير،  تشرين الثاني، من مهرجان سنوي للسينما اليهودية تنظمه بنجاح شديد الجالية اليهودية في ماساشوستس وقد كانت الصالة مكنظة بالمتفرجين، وغالبيتهم من اليهود الأميريكيين، الذين جاءوا ليشاهدوا كيف يعالج مخرج أفريقي مسلم قصة توراتية تعنيهم مباشرة دينياً وعقائدياً وحتى وجودياً وصفقوا له في نهاية الفيلم، ثم انتظروا التعليق الذي قدمه بعد العرض استاذ أفريقي يعمل في برنامج الدراسات الأفريقية والأفريقية-الأميريكية في جامعة هارفرد، وطرح الكثير منهم أسئلة متعمقة عن مضامين الفيلم وعن عالمية القص التوراتي وملاءمته لطرح مشكلات معاصرة وقد كتب التعليق على الفيلم الذي وزع على الحضور حاخام بحاثة يعمل في معبد اسرائيل في بوسطن وكان تعليقه المختصر محكماً في ملاحظته أن النص التوراتي، مع أنه أساساً نص مقدس، فهو قد طوع لكي يصبح خامة تصنع منها الأجيال المتتابعة لوحات تعكس ظروفها وعقلياتها، مما يدل على عالميته وقد أعجبني في التعليق انفتاحه ومسايرته للزمن، مع أن كاتبه يمثل المؤسسة الدينية أولاً وقبل كل شيء وهو مع ذلك يحاور النص المقدس نفسه من خلال الاستدلال عبر قراءة دقيقة لمكوناته ومفرداته وسياقه على أن شخصيتي عيسو ويعقوب، وعلينا أن نذكر هنا أن يعقوب هو الأب الفعلي والمؤسس لشعب اسرائيل، ليستا حديتين على الدرجة التي تعلمناها أي أن عيسو ليس الشر كله ويعقوب الخير كله، بل هما شخصين معقدين يتراوحان في أفعالهما بين الخير والشر، ككل البشر، ويلعبان بذلك أدواراً متغيرة في ملحمة انسانية نموذجية، على الأقل بالنسبة لعدد كبير من الشعوب التي تؤمن بالعهد القديم هذا هو فعلاً ما تمكن المخرج المالي القدير عمر سيسوكو من تحقيقه فهو قد أخذ قصة دينية ترميزية ذات أصول بدئية تعود على الأغلب للتراث المروي لشعوب منطقة الهلال الخصيب في مرحلة انتقالها من البداوة إلى الاستقرار وطوعها لمتطلبات السينما التي تعتمد على الصورة والسرعة والحبكة الدرامية المبالغ فيها نوعاً ما والأهم من ذلك هو أنه تمكن من أن يجعل القصة نفسها تتخطى حدودها التاريخية والجغرافية وتنطلق لتؤدي دورها في إطار زماني ومكاني جديدين، الإطار الأفريقي الأسود القبلي الذي لايشارك أتباع التوراة الكثير من الأصول الاعتقادية نجاح سيسوكو في صياغته السينمائية لقصة يعقوب وعيسو تجلى أكثر ماتجلى في التلقي الإيجابي للفيلم بين أفراد الجالية اليهودية في بوسطن، والذين ينتمون بغالبيتهم للطوائف المنفتحة وربما للتيارات الليبرالية أو اليسارية فهم كما أسلفت صفقوا طويلاً لهذا الفيلم المقتبس من أقدس كتبهم على يد مخرج لايشاركهم لافي الدين ولافي العرق ولافي اللغة وهذا برأيي دليل سعة أفق وحرية في التعبير حتى في التعامل مع كلي القدسية كيف وصلت إلى هنا؟ لاأعلم تماماً ولكني أظن أنكم تدركون معي الآن أن فيلم سفر التكوين كما عرض في بوسطن وكما تجاوب معه جمهوره، اليهودي بغالبيته، كان فعلاً قوي التأثير على هذا المتفرج العربي وأظنه سيكون بنفس قوة التأثير فيما لو أتيح له أن يعرض في بعض العالم العربي.

الكلمات الدالة: