مدونة:البابا والعرب والذاكرة
البابا والعرب والذاكرة.. ملاحظات حول الوثيقة الڤاتيكانية .. الإشكالية عن الذاكرة والمصالحة، هي مدونة للمعماري ناصر الرباط، أستاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الاسلامية بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المدونة
بالنسبة لمؤسسة محافظة بطبيعتها كالڤاتيكان، لاخلاف على أن الوثيقة الصادرة في شهر ديسمبر عن المجمع العقائدي العالمي (International Theological Commission) المكون من سبعة من أهم كرادلة ومفكري الاتيكان والمعنونة بترجمتي الذاكرة والمصالحة الكنيسة وأخطاء الماضي (Memory and Reconciliation: The Church and the Faults of the Past) مذكرة تاريخية مهمة وشجاعة وقد تبعتها الصلاة العالمية التي أحياها البابا في سانت يتر في مارس المعنونة الاعتراف بذنوب وطلب الصفح (Confession of Sins and Asking for Forgiveness) لكي تؤكد جدية التوجه نحو الاعتراف بأخطاء الكنيسة التاريخية ورغبة البابا يوحنا بولس الثاني بمعالجة هذا الموضوع الشائك والإمساك به من قرنيه كما يقال وهنا لايمكن لأي مراقب معاصر سوى الإعجاب بهذه الخطوات الجريئة والمشبعة إنسانية فعلاً في التعامل مع مواضيع معقدة كالذنب الجماعي التاريخي والذاكرة الجمعية والغفران والمصالحة الحضارية والدينية والتي لاأظن أن أي زعيم آخر، ديني أو سياسي، قد قام بمثلها في أي مكان في عالمنا المعاصر الذي يعج بطالبي الصفح والغفران عن ذنوب اقترفوها هم أو ارتكبتها الجماعات التي يتكلمون باسمها ويمثلونها فهذه الوثيقة صادرة عن واحدة من أعلى السلطات الدينية في العالم منذ القرن الرابع الميلادي وحتى اليوم سلطة مازالت تتمتع بطاعة أكثر من مليون كاثوليكي وباحترام وتقدير مختلف القوى السياسية والدينية في العالم وكما لاحظ العديد من المعلقين العرب والدوليين فوثيقة الاتيكان تتميز عن غيرها من طلبات الصفح والغفران التي شهدناها في الماضي القريب بشموليتها وعالميتها وباعتمادها على نقاش مطول يضع الاعتذار وطلب الغفران في سياق فكري وفلسفي ويقدم له أساساً معنوياً وتاريخياً يتجاوز آنيته ليجعله نموذجاً يحتذى في المستقبل الذي نراه سيتمخض عن أسس أخلاقية جديدة للتعامل بين الشعوب والدول بعد تهافت أو سقوط الأسس المعيارية والأخلاقية والدلوماسية التي حكمت النظام العالمي في القرن الماضي والتي لم تتمكن من تجنيب العالم ويلات حربين عالميتين مدمرتين واستعمار أوروبي شرس وحرب باردة متطاولة ورعب نووي مهيمن والعديد من الحروب المحلية الطاحنة التي قضت على ملايين البؤساء في العالم النامي لأسباب عرقية أو منازعات على قطع أرض صغيرة ولكني كمراقب عربي معني بالحق والعدالة والذاكرة أود أن أطرح للنقاش ثلاث نقاط مهمة جداً أجدها غائبة عن الخطاب البابوي ورد الفعل الإعلامي العربي الذي استجاب لما أمل بوجوده في الخطاب البابوي من دون اطلاع دقيق على نصي الصلاة والوثيقة إلا فيما ندر هذه النقاط الثلاث هي هل حقاً احتوت قائمة الذنوب التي اعترف بها الاتيكان تلك التي استهدفت بشكل أساسي العرب والمسلمين كالحروب الصليبية ومحاكم التفتيش؟ وهل حقاً طلب الاتيكان من العرب والمسلمين الصفح عن تلك الذنوب كما طلب من غيرنا من المتضررين تاريخياً وكما هللت غالبية وسائل الإعلام العربية ؟ إذا كان الاتيكان لم يعترف بتلك الذنوب فهل يوجد مبررات تاريخية وأخلاقية وعقائدية لكي تضم الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في اسبانيا لقائمة الذنوب؟ وهنا المحك ماذا فعلنا نحن العرب بمثقفينا وإعلاميينا وسياسيينا وجماهيرنا لكي نبقي ذكرى تلك الحروب حية من جهة ولكي نقنع البابا والاتيكان بالاعتراف بذنوب الكنيسة تجاه العرب والمسلمين وبالبدء بطي صفحة العداء بين المسيحية الغربية والإسلام العربي التي أضاعت علينا الكثير من فرص التعاون المثمر والبناء؟ وماذا يمكننا أن نفعل في المستقبل؟ بدءاً لابد لنا مع الأسف من ملاحظة أن الوثيقتين كما نشرتا على موقع الانترنت الخاص بالاتيكان (http://www.vatican.va/) لاتحتويان على أي إشارة للعرب أو المسلمين كأصحاب حقوق مهضومة تاريخياً أو للحروب الصليبية أو محاكم التفتيش كذنوب للكنيسة يجب الاعتراف بها وطلب الصفح عنها أسوة بغيرها من الذنوب التاريخية التي شملتها الوثيقة الشجاعة والشاملة تقريباً لكل خطايا الكنيسة التاريخية ولأكن أكثر تحديداً فعلى عكس ما ورد في جرائد عربية مختلفة كالحياة والأهرام مثلاً لايوجد في صلاة مارس المنشورة على الانترنت ولاأعلم إذا كان النص مختلفاً عما ألقي في ساحة سانت يتر يومها أي إشارة للحروب الصليبية أو محاكم التفتيش أو للعرب أو للمسلمين الصلاة تبدأ بالاعتراف بالذنوب بشكل عام من دون تحديد، ثم تخصص معاملة الكنيسة الكاثوليكية للمسيحيين غير الكاثوليك و التمييز ضد واضطهاد بني اسرائيل وهدر كرامة المرأة وعدم احترام حقوق الشعوب والثقافات والتقاليد الدينية وإهمال الحقوق الأساسية للإنسان على أنها ذنوب على الكنيسة الاعتراف بها وطلب الصفح عنها من أولئك الذين تعرضوا للظلم بسببها أو من أحفادهم الأحياء اليوم وأما وثيقة الذاكرة والمصالحة التي توجد على موقع الاتيكان بست لغات راجعت منها الفرنسية والانكليزية فهي أيضاً لاتذكر العرب والمسلمين في أي مكان من صفحاتها الخمس والثلاثين، والفقرة الوحيدة التي تذكر الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والتي كانت على الغالب وراء السراب الذي تعلقت به بعض الصحف العربية فهي في قسم التساؤلات حيث يرد بالحرف بترجمتي إذن يمكننا تحديد بعض التساؤلات هل يمكن تحميل الوجدان المعاصر وزر ظواهر تاريخية معزولة (isolated historical phenomena) كالحروب الصليبية ومحاكم التفتيش؟ أليس سهلاً أن نحكم على الناس الذين عاشوا في الماضي من منظار وجدان اليوم كما فعل الكتاب والفريسيين وفقاً لانجيل متى ، كما لو أن الوجدان الأخلاقي لم يكن مرتبطاً بالزمان؟ ومن ناحية أخرى هل يمكننا نفي حقيقة أن الحكم الأخلاقي ممكن في كل زمان، بناء على الحقيقة البسيطة التي تقول أن حقيقة الله وفروضها الأخلاقية هي دائماً ذات قيمة؟ مهما يكن الموقف من هذه التساؤلات فإننا يجب أن نأخذ موقفاً منها ونفتش عن أجوبة معتمدة على الوحي وعلى الإيمان الحي المتمثل بالكنيسة فالسؤال الأول إذن هو أن نحدد بوضوح ماإذا كانت مسألة طلب الصفح عن أخطاء ماضية، خاصة عندما يكون الطلب موجهاً لمجموعات بشرية معاصرة، تنتمي للآفاق التوراتية والعقائدية للمصالحة مع الرب والجار أي أن الكنيسة الباباوية على أحسن الأحوال مازالت مترددة في الاعتراف بمسؤوليتها ولو نظرياً عن وقائع تاريخية تعتبرها هي معزولة كالحروب الصليبية ومحاكم التفتيش أو بطلب الصفح من أحفاد أولئك الذين اضطهدوا خلالها وعلى رأسهم العرب والمسلمين وهذه نقطة جديرة بالتوقف عندها من منظور الوثيقة نفسها ومن منظور تعريف الكنيسة فيها لاستمراريتها في التاريخ ولمسؤوليتها التي لاتسقط بالتقادم بسبب من كون الكنيسة مجتمعاً حياً يغطي قروناً متطاولة وأن ذاكرتها ليست مكونة فقط من التقاليد التي تعود للحواريين وتكتسب معناها منها في إيمانها وحياتها، وإنما هي غنية أيضاً بتجارب تاريخية متنوعة، إيجابية وسلبية، عاشتها الكنيسة ومما يزيد في مرارة المراقب العربي أن الكنيسة، من منطلق اعترافها بالمسؤولية التاريخية، تسارع للاعتراف بكل خطاياها ضد اليهود على مر العصور، بما فيها المحرقة النازية التي تسميها باسمها العبري الشواه (Shoah) على عكس مايدعيه بعض المعترضين في إسرائيل والوثيقة لاتقف عند إدانة المحرقة كظاهرة تاريخية معزولة، وهو في الحقيقة ماكانته فعلاً بحكم كونها عملاً نازياً لاعلاقة مباشرة للكنيسة به، اللهم إلابحكم المسؤولية الأخلاقية وبحكم كون جزء من الألمان كاثوليكيي المعتقد، وإنما تخطو خطوة كبيرة باتجاه تحقيق المطالب اليهودية الملحة منذ زمن بتصريحها بأن الاضطهاد النازي لليهود قد أمكن تحقيقه بطريقة أسهل بمساعدة من التمييز ضد اليهود المعشعش في قلوب وعقول بعض المسيحيين وتكمل الوثيقة بالإحالة على وثيقة اتيكانية سابقة منشورة في السادس عشر من مارس نحن نتذكر بعض الخواطر عن الشواه (WeRemember: A Reflection on the Shoah)، لكي تستنتج أن هذه الحقيقة وحدها تشكل نداءاً لوجدان كل المسيحيين اليوم لكي يطالبوا بحركة استغفارتشوفه بالعبري كما تقرر الوثيقة أي تشفع العربية وكمحرض للمزيد من الجهد لكي نتحول بتجديد العقل الروم وكذلك للمحافظة على ذاكرة أخلاقية ودينية للجروح التي تعرض لها اليهود أي أن نص وثيقة الذاكرة والمصالحة يحيل إلى نص وثيقة نحن نتذكر لكي يؤكد على أن الكنيسة تعترف بتراكم الذنوب ضد اليهود عن طريق اللاسامية التي مارستها أوروا المسيحية ضدهم على مر العصور والتي لايمكن فصل تأثيرها عن مذابح النازيين ولست هنا بمعرض التعرض لدوافع الكنيسة بالتركيز على ذنوبها ضد اليهود في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ العلاقات بين العرب واسرائيل وفي هذه النقطة الحرجة بالذات حيث يبدو لنا، من خلال السرية المطبقة على طبيعة مباحثات القدس بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل، أننا مقبلون على القبول بتحويل قرية أبو ديس المتواضعة إلى القدس العربية تمهيداً لحل نهائى يحفظ ماء الوجه، فهذا موضوع آخر لايمكننا سوى التكهن بأبعاده في غياب المعلومات الكافية ولكني أرغب في طرح التناقض المتمثل في نفي نص وثيقة الذاكرة والمصالحة الاتيكانية صفة الاستمرارية التاريخية عن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، وبالتالي اسقاط واجب الاعتذار عنهما عن كاهلها، وقبولها بارتباط تاريخي بين ظاهرة مستمرة كمعاداة السامية في أوروا وظاهرة محددة تاريخياً وفكرياً وسياسياً كالنازية في ألمانيا، وبالتالي الاعتذار عن كليهما اعتذاراً مستوفياً وافياً عاد صداه للظهور في نص صلاة الثاني عشر من مارس فهل هناك مايبرر مطالبة الكنيسة بوقفة مماثلة مع الذات بالنسبة للحروب الصليبية ومحاكم التفتيش؟ أظن ذلك، ودليلي نابع من مسؤولية الكنيسة تاريخياً ووجدانياً عن هاتين الظاهرتين التاريخيتين من جهة، وعن آثارهم السلبية المستمرة على العلاقات بين الشرق المسلم والغرب الأوروي من جهة أخرى لايمكن في الحقيقة نفي مسؤولية الكنيسة البابوية ممثلة بشخص البابا نفسه مسؤولية مباشرة عن كلتا الظاهرتين فخطبة البابا أوربان الثاني (Urban II) في مدينة كليرمونت في جنوب فرنسا يوم السابع والعشرين من نومبر عام هي التي أججت مشاعر أوروا ضد الشرق العربي المسلم ووضعتها في سياق ديني استباحت من خلاله الجيوش الصليبية حياة وأرض وحرية ملايين العرب والمسلمين خلال أكثر من مئتي عام أما محاكم التفتيش فهي أيضاً قد بدأت على يد بابا آخر هو البابا غريغوري التاسع (Gregory IX) في بداية القرن الثالث عشر الذي تابع أساساً سياسة سلفه إينوسنت الثالث (Innocent III) القمعية ضد طائفة الكاثار أو الألبيجنسيين الاسم مشتق من مدينة ألبي (Cathars, Albigensians) الذين اعتبروا مارقين عن الدين ولوحقوا وأبيدوا في لانغدوك في جنوب فرنسا ولكن محاكم التفتيش والحملات الصليبية مالبثت أن انتشرت في مختلف تخوم أوروا المسيحية وبمباركة ودعم مباشر من الاتيكان لكي تلاحق كل الأقوام والمجموعات التي اعتبرت خارجة عن الدين المسيحي كما تعرفه الكنيسة من البلطيق إلى البلقان إلى روسيا ومن بعدها إلى اسبانيا حيث بطشت محاكم تفتيشها بالمسلمين الاسبان المور واليهود الاسبان، قبل أن ينتقل هذا التقليد الشنيع مع الفاتحين الاسبان إلى العالم الجديد لكي يطبق ضد حضاراته كالمايا والأزتك بحجة نشر الدين الصحيح والقضاء على البدع والهرطقة وقد استعمل الفاتحون الاسبان الشهيرون من أمثال كورتيز وبيزارو لغة الحروب الصليبية نفسها في حملات الإبادة ضد سكان العالم الجديد البؤساء فالكنيسة إذن مسؤولة مباشرة عن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ولكن هل يمكننا أن نقبل إدعاء وثيقة الذاكرة والمصالحة بأنهما حادثتين معزولتين، أي أن المسؤولية عنهما انتهت بانتهائهما؟ الجواب هنا أيضاً للأسف لا فمحاكم التفتيش استمرت أربع قرون على الأقل وطالت بلداناً مختلفة في أكثر من قارة وقضت على حياة وطمأنينة ملايين البشر، ومازالت من جرائمها أصداء اليوم في زوايا العالم الجديد المنعزلة حيث مازالت حروب الإبادة مستمرة ضد العديد من السكان الأصليين لدول أميركا اللاتينية، خصوصاً أولئك منهم الذين يقيمون في مناطق غنية بالخامات في عمق الأدغال الأمازونية والمرتفعات الآندية والحروب الصليبية انتهت بحد ذاتها في المشرق العربي عام بعد قرنين من التدمير والإرهاب ولكنها استمرت بأشكال أخرى وعلى وتائر أخرى في مناطق مختلفة من مناطق التماس بين العالمين الإسلامي والمسيحي الأوروي وهي مازالت حتى اليوم كامنة في اللاوعي الغربي تطفر إلى السطح في الأوقات العصيبة نتفاً من ذكرياتها حاملة دائماً إشارات دالة ومهددة لايمكن تجاهلها وإلاكيف نفهم إشارات الصرب للصراع المسيحيالمسلم في البلقان في القرن الرابع عشر لتبرير حروب الإبادة التي مارسوها ضد البوسنة وكوسوو في السنوات الثماني الأخيرة؟ بل إذا اقتربنا أكثر من منطقتنا العربية كيف نفهم الكثير من الوقائع الدالة في الفترة الاستعمارية التي أظهرت لنا عداءً صليبياً مستحكماً في نفوس بعض من أهم رموز تلك الفترة فالجنرال غورو، قائد قوات الانتداب الفرنسي في لبنان وسورية، عرج على ضريح صلاح الدين الأيوبي اثر دخوله دمشق وتحداه عبر حاجز القبر قائلاً، ها نحن قد عدنا ياصلاح الدين والجنرال البريطاني الشهير اللنبي فاتح القدس عام اثر انهيار الدفاعات العثمانية أبدى مشاعر مماثلة ونظم دخوله المدينة تنظيماً مراسيمياً حاول فيه إحياء ذكرى دخول الصليبيين قبل أكثر من ثمانمائة سنة وإذا نظرنا في الثقافة التعليمية الأوروية لوجدنا أنها مازالت مشبعة بالإشارات الصليبية ففرنسا مثلاً تدرس طلابها وأنا نفسي كنت واحداً منهم في دمشق مقاطع مستفيضة من أغنية رولان (La chanson de Roland)، تلك الملحمة القروسطية المشبعة بالعداء العنصري للعرب والمسلمين هذه الدلائل غيض من فيض، ويوجد الكثير من معادلاتها عنصريةً وعدوانيةً وسخافةً في عالمينا العربي والإسلامي، وأحياناً أشد وأنكى، يجب التعامل معها بحزم وقلعها من اللاوعي الجماهيري العربي والغربي، كما يفعل اليهود بنجاح اليوم فيما يخص معاداة السامية في الغرب ولايفعلون في مجال العداء العربي اليهودي، على أمل تجاوز الحلقة المفرغة من العداء السافر والمخفي بين طرفي البحر الأبيض المتوسط الذين يجمعهم من التراث والتقاليد الدينية والثقافية أكثر مما يفرقهم في الواقع إن أمكنهم تجاوز رواسب الصراع الديني وهذه برأيي أهم فوائد الاعتذار المرجو الذي لابد وأن تتبعه خطوات أخرى من الطرفين في مراجعة التاريخ وتسليط الأضواء على الذنوب وطلب الصفح المتبادل ولست وحدي الذي يؤكد على الضرر النفسي المستمر لذكرى الحروب الصليبية في عالمنا المعاصر فمعظم الباحثين الغربيين المحدثين يركزون اليوم على هذه النقطة وعلى مسؤولية الكنيسة في إثارة الحروب الصليبية أساساً ومعظمهم أيضاً يؤكدون على أن مشاعر العداوة للغرب المسيحي كانت خافتة أو غير موجودة في الشرق العربي الإسلامي قبل الحروب الصليبية، وأن العدوان الصليبي المتطاول هو الذي أججها ولعل في الفيلم المسلسل الحملات الصليبية (Crusades) الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عام من إخراج وتعليق الممثل الكوميدي المشهور وهاوي التاريخ القروسطي تيري جونس (Terry Jones) لأبلغ دليل على هذا الاتجاه الأكاديمي العام في الغرب لإدانة الحروب الصليبية والاعتراف بوقعها السلبي على الواقع الحاضر وياحبذا لوعرض هذا الفيلم على نطاق واسع في العالم العربي لتثقيف الناشئة وترفيههم في آن كما قصد مخرجه تبقى النقطة الثالثة ماذا فعل العرب وماالذي يمكنهم أن يفعلوه؟ فعلنا القليل المخزي بل وأكثر من ذلك هلل بعض صحافيونا وطبلوا فرحاً بما لم يقع، ولكن ماكانوا يمنون النفس بوقوعه لم بقرأ صحافيونا الوثيقتين على مايبدو ومع ذلك امتشقوا الأقلام ودبجوا المقالات للتهليل لاعتذار وهمي لم تطلقه الكنيسة البابوية وإن كانت قد خطت خطوات مهمة إنسانياً وفكرياً في طريق المصالحة بين الكنيسة وبعض الأقوام والجماعات، وليس معنا نحن للأسف، مع أننا المجموعة الأقرب لها تاريخياً وعقائدياً وجغرافياً لو أعمل المراقب نظره بحياد بل أن فينا من العرب الكاثوليك من يجمعون فيهم الانتمائين الديني للكنيسة الباباوية والوطني لبلادهم العربية وأجداد هؤلاء الكاثوليك العرب هم رواد النهضة العربية في نهاية العرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تلك النهضة التي فقدناها بصعود تيارات التشدد والعسكريتاريا إلى السطح في النصف الثاني من القرن العشرين وماالذي يمكننا أن نفعله اليوم؟ لنا في إسرائيل وفي المنظمات اليهودية العالمية عبر وعبر فإسرائيل حازت على اعتراف الاتيكان الرسمي بها عام على عهد البابا الحالي يوحنا بولس الثاني بعد عقود طويلة من العداء أو اللامبالاة الباباوية وحصلت كذلك على اعتذارات شتى، غير هذه القمة الأخيرة، بلغ بعضها مبلغ الاسفاف في الاعتراف بالذنوب والصفح عن ذنوب الصقت تاريخياً وكنسياً باليهود كشعب وكدين وهذه الاعتذارات، بالإضافة لقيمتها العقائدية والرمزية والأخلاقية والنفسية، ستؤدي لنتائج ملموسة سياسيةً واقتصاديةً مهمة جداً بالنسبة لإسرائيل فهي أولاً ربما ساهمت في تليين موقف الكنيسة الرسمي من احتلال اسرائيل للقدس الشرقية بما فيها من المقدسات المسيحية وضمها للمدينة على أنها العاصمة الأزلية لدولة إسرائيل بما في ذلك الإدعاء من عجرفة بحق المسيحيين والمسلمين على حد سواء وتجاهل لحقوقهم التاريخية والدينية والوجودية فيها السابقة على قيام اسرائيل والممتدة على آلاف السنين من التواجد الحقيقي لاالمتخيل التوراتي وهذه كانت واحدة من المشكلات الشائكة العالقة بين الكنيسة وإسرائيل ويبدو أنها في طريقها إلى الحل أما اقتصادياً فهذه الاعتذارات ستفتح أبواب السياحة الأروبية على مصراعيها أكثر مما كانت مفتوحة بعد سقوط آخر حواجز التحفظ المسيحي على الوجود الإسرائيلي في الأراضي المقدسة الفلسطينية، وستسهل التغلغل الاقتصادي الإسرائيلي في دول العالم الثالث ذات الأغلبية المسيحية كما في أميركا الوسطى وأفريقيا الاستوائية والمحيط الهادي حيث مازال للبابا تأثير كبير على تكوين صورة الآخر في عقلية أتباع الكنيسة وجعله مقبولاً كشريك تجاري أو استثماري أو ثقافي، أكثر مما هي عليه الحال في أوروا المتعلمنة نسبياً ومع ذلك فما زلنا نقرأ عن متشددين يهود في إسرائيل ينددون بالبابا وبزيارته الأخيرة للأراضي المقدسة ويطالبون الاتيكان بمواقف أكثر وضوحاً من إدانة كاملة للمحرقة النازية، كما لو أن الاتيكان كان شريكاً بها، بل ويضغطون على الاتيكان للتنديد بالصمت الذي اعتمده البابا بيوس العاشر حيال المذابح النازية ضد اليهود كما يقررون ويجد الاتيكان نفسه في موقف المدافع أو الصامت على الهجوم الذي لايمكن وصفه بأقل من الصفاقة ويخطئ من يظن أن السياسة خارج هذه الاعتبارات وأن الاعتذارات ذات صفة دينية وأخلاقية فقط فلعبارات البابا دلائل سياسية واضحة كما يظهر من مجموعة خطبه خلال زيارته الأخيرة لمصر والأردن وأراضي السلطة الفلسطينية وإسرائيل والموجودة بكاملها على موقع الإنترنت سالف الذكر والبابا لاعب سياسي محنك، بالإضافة لكونه شخصية أخلاقية ودينية ذات وزن عالمي، وهو يعي أهمية المصالح السياسية ويدرك جيداً أن من رعاياه عرباً كثر وأن مصالح الكنيسة في العالم العربي أهم من أن يفرط بها على مذبح التجاهل والتعنت ورفض الاعتراف بذنوب وقعت ولامجال لنفيها وياحبذا لو تعود الدول العربية، ربما ممثلة بالجامعة العربية أو بمجلس وزراء الخارجية العرب لمتابعة مابدأ به الدكتور جورج جبور، مستشار الرئيس السوري السيد حافظ الأسد سابقاً، الذي أرسل قبل أكثر من ثلاث سنوات رسالة دبلوماسية إلى البابا يوحنابولس الثاني عن طريق سفير الاتيكان في سورية ليجس نبضه فيما يتعلق باستعداد البابا لدفع عملية التقارب الودي بين المسلمين والمسيحيين عن طريق إعلانه على الملأ اعتذار الكنيسة للمسلمين عن الحروب الصليبية بمناسبة الذكرى التسعمائة لسقوط القدس بأيدي الصليببين في الخامس عشر من تموز يوليو وعلى الرغم من رمزية الطلب ورمزية الخطوة نفسها، فقد جاءت الذكرى التسعمائة لسقوط القدس وولت ولم تلق رسالة الدكتور جبور للأسف أية استجابة من أوساط الاتيكان سوى رسالة شكر روتينية على إرسالها أصلاً ولست أظن أني بحاجة هنا لأن أكرر أن الزوبعة التي رافقت زيارة البابا الأخيرة للمنطقة لم تخطو ولاخطوة صغيرة باتجاه الاستجابة لمطلب الاعتذار هذا على صعيد السياسة، وأما على الصعيد العقائدي فلابد لنا من التركيز على دور الكنيسة العربية وكذلك المؤسسات الإسلامية عربية وغيرها في حض الاتيكان على المضي قدماً في خطواته الجريئة للمصالحة وطلب الغفران وعلى تجاوز العقد التاريخية التي ألجمت ألسنة كتاب الوثيقتين ومنعتهم من الاعتراف بذنوب الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ضد العرب والمسلمين ولايبعد أن يتجاوب البابا مع هذه الضغوط من منطلق الاعتراف بالخطاً أو بالتقصير على أقل تقدير وهو رجل القرارات الحاسمة، أفلم يعلن هو نفسه قبل بضع سنوات عن عودة الكنيسة عن إصرارها على خطأ غاليلو بعد أربعة قرون على موته؟ وبالنهاية، فالاعتذار الرسمي عن الحروب الصليبية ضرورة أخلاقية و انسانية أكثر من كونها تصحيح لخطأ تاريخي فقط، لأن ذكرى هذه الحروب، على بعدها وعلى نسيانها الظاهري بين عامة الناس في الغرب وتذكرها المجتزأ والمبتور في العالم الإسلامي مازالت فاعلة في تشكيل آراء الطرفين عن بعضهما البعض وشحنها بحزازات ونعرات العالم في غنى عنها اليوم.