مدونة:استعراض ترومان إشكالية حرية الفرد كما تقدمها هوليوود
بقلم د. ناصر الرباط معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (M.I.T.)
ما معنى أن تكون حياتك مراقبة باستمرار وعلى مدار الساعة؟ هذا هو السؤال العميق والمرعب الذي يحاول المخرج بيتر وير (Peter Weir) أن يسبره ويغوص في متاهاته الوجودية إلى أقصى حد إنساني ممكن في فيلمه الجديد الرائع والمثير والمقلق، "استعراض ترومان" (The Truman Show)>
والمخرج وير قدم لنا في الماضي العديد من الأفلام الممتازة مثل The Year of Living Dangerously, Dead Poets Society, Witness. وفيلمه الجديد هذا عبارة عن قصة "ترومان بيربانك،" (يمثله بأداء ممتاز جيم كاري( شاب في الثلاثينات من عمره يعيش عيشة نموذجية في مدينة نموذجية اسمها "سي هيفن" "Sea Heaven " أي جنة البحر، في جزيرة على ساحل فلوريدا تتمتع بطقس خلاب، خيالي وصافي، وشمس ساحرة وساطعة دوماً، وهو متزوج من شقراء فاتنة ومسايرة، ويعمل في شركة تأمين في مبنى لطيف في المدينة، ويقود سيارة جديدة ومريحة، وله صديق قريب إلى قلبه يقضي معه الساعات الطوال يحلم بالعالم الكبير عبر الجسر الذي يصل الجزيرة ببر الولاية والذي يخاف عبوره لأنه فقد والده في طفولته في حادث مركب شراعي وهو بالتالي لايستطيع السباحة أو ركوب البحر أو حتى القيادة فوق الماء بسبب العقدة التي خلفها في نفسه ذلك الحادث المأساوي، وهو يعي أنه يحيا حياة مملة ورتيبة وخالية من الإثارة، ولكنه يبدو قانعاً بها، راضياً عن تفاهتها وهدوئها، بل ومسروراً من خلوها الغريب من المنغصات الكبيرة التي يقرأ عنها في حياة البشر الآخرين، أو بالأحرى يشاهدها على شاشة التلفزيون الذي يقضي أمامه الساعات الطوال متمتعاً بفرح طفولي ساذج ببرامجه ومسلسلاته المعسلة والزائدة السكارين، كل شئ يبدو طبيعياً ومعقولاً وحتى مريحاً لترومان، على السطح على الأقل، كل شئ ماعدا ذكرى فقده لوالده، وذكرى دافئة أخرى في قلبه لفتاة جميلة حقاً التقاها في المدرسة الثانوية وانجذب إليها، ويبدو أنها انجذبت إليه أيضاً، ولكنها أجبرت إجباراً وبظروف مريبة على الخروج من حياته، بل ومن الجزيرة كلها، لتذهب مع من قدم نفسه على أنه أباها إلى جزيرة يجي على الطرف الآخر للعالم، في حين أقحمت الشقراء ميريل في حياته إقحاماً في نفس الفترة، وانتهت بأن تكون زوجته، كل هذا وترومان غافل عما نعرفه نحن المتفرجون على الفيلم وطاقم الفيلم نفسه الذين يعيشون مع ترومان بل مشاهديه على شاشة التلفزيون ضمن الفيلم، أن حياة ترومان كلها بقضها وقضيضها ماهي إلا مسلسل تلفزيوني طويل، بل "أطول مسلسل تلفزيوني وثائقي في التاريخ" كما يعلن المسلسل عن نفسه ضمن الفيلم، ابتدأ يوم ولادة ترومان ولايخطط له أن ينتهي قبل نهاية حياة ترومان، كل شئ في محيط ترومان صناعي، المدينة، البحر، الشمس، القمر، المطر، كلها مسيرة إلكترونياً داخل قبة جيوديزية هائلة المساحة بنتها الشركة المنتجة في هوليوود، وكل العلاقات مصطنعة ومخرجة، زوجته وصديقه وجيرانه وسكان المدينة وزوارها كلهم ممثلين مأجورين يتبعون السيناريو الدائم من خلال سماعات صغيرة مثبتة في آذانهم تصلهم بمركز المراقبة الهائل وبالمخرج الجبار المهيمن كريستوف، "خالق" الاستعراض كما يقدم نفسه، (يؤدي دوره ببراعة فائقة إد هاريس)، الذي يسيطر على كل شئ ويتابع حياة ترومان الرتيبة والأقل من عادية عبر خمسة آلاف كاميرا مبثوثة في كل زاوية وكل ثقب في محيط ترومان المصنوع، إذا لم يكن بال المتفرج العادي قد تبلبل حتى هذه اللحظة من وطأة الفكرة نفسها أن تكون مراقباً دوماً من غير أن تدري في أدق دقائق حياتك فالآتي بعد أن بدأ ترومان يشك بحقيقة حياته وصدقها سينسف آخر معقل للامبالة التي يمكن أن يظهرها بعض المشاهدين في البدء بحجة أن الموضوع في نهاية الأمر لايعدو كونه فيلماً سينمائياً مخرجاً وممثلاً بذكاء وحنكة، يبدأ الإنفلات يوم يقابل ترومان أباه الذي غرق منذ سنين في الشارع العام في (سي هيفن) مرتدياً حلة مهلهلة على طريقة المشردين، وعندما يقترب الولد من أبيه يظهر شخصان غريبان يجبران الأب على ركوب حافلة انطلقت بسرعة على حين ظهرت فجأة ومن كل اتجاه سيارات وعربات أوقفت ترومان في محاولته اللحاق بالحافلة، ونقضي بقية الفيلم المشوقة عموماً فيما عدا بعض اللحظات العاطفية زيادة عن اللزوم ونحن نتابع ترومان في محاولاته الوجلة والمترددة والمثبطة بل المريعة نفسياً لاكتشاف الحقيقة ومحاولات طاقم المسلسل الفاشلة في النتيجة لتأخير هذا الاكتشاف أو لعرقلته، وفي لحظة الخاتمة المفعمة بالمشاعر والأفكار يجد ترومان نفسه بمواجهة باب يفتح من القبة الجيوديزية الصناعية الزرقاء والمموهة بالغيوم على العالم الخارجي، المجهول والمرعب، ولكنه في نفس الوقت مغر ومشتهى، وهنا يتم التواصل لأول مرة بين "الخالق" و"البطل الساذج"، حين يرن صوت الأول في القبة كلها وفي غرف جلوس متابعي المسلسل في بيوتهم، وفي صالة السينما التي نجلس فيها نحن أيضاً، داعياً ترومان للتوقف والعودة لأن العالم الخارجي قذر ومجرم ولأن ترومان، بحياته البريئة والعادية يجلب الحبور والرضا إلى قلوب الملايين من مشاهديه الذين سيخذلون حقاً لو أنه ترك خشبة المسرح الكبير فعلاً وهنا يدق قلبنا بعنف ونحن نتابع المشاعر المتضاربة وهي تتشكل على وجه ترومان، وتتداعى إلى ذهننا صور حواء وبروميثيوس وإيكاروس وجلجامش وغيرهم من الأبطال الملحميين الذين تحدوا الحدود المفروضة عليهم وخلدوا بسبب من تحديهم لابسبب من نجاحهم فيه، ونتضرع صامتين لترومان أن أقدم واخطِ هذه الخطوة الواحدة التي تفصلك عن العالم الحقيقي بروعته ومأساته، بإنسانيته ووحشيته، ولايخيب ترومان أملنا، وكيف يمكنه ذلك والفيلم في نهاية الأمر إنتاج هوليوودي لايشذ عن النهايات السعيدة، أو على الأقل تلك التي يتطلبها الجمهور. ولكنه لا يتشبه بالأبطال الأسطوريين التراجديين الذين دفعوا حياتهم، أو خلودهم، ثمناً لاندفاعهم، وإنما يبقى محافظاً على حقيقته القرنعشرينية المجبولة بكلام التلفزيون المبستر، وبلاواقعيته الواقعية والملونة بألوان قوس قزح أو بالأحرى بألوان علكة "تشيكلس" ويخطو خطوته، بتردد، بل بتكاسل وتراخي، وهو يردد واحدة من عباراته الجوفاء التي اعتاد ترديدها في الاستعراض يومياً، "إذا لم أتمكن من رؤيتك بعد الآن فعمت مساءاً وطبت ليلاً" إشارة منه إلى أنه غير عائد إلى المسلسل، على خلاف غالبية أفلام هوليوود، يصدمنا هذا الفيلم بفكرته المبتكرة وبحبكته المتينة والفلسفة العميقة التي لابد وأنها وجهت كاتبه "أندرو نيكول" الذي قدم لنا فيلم الخيال العلمي المدهش السنة الماضية "غاتاكا" "Gattaca" هذه الفلسفة تختصر مجموعة من الأسئلة الأزلية التي واجهتها الإنسانية منذ فجرها السحيق، هل هناك خالق يراقب البشرية دائما؟ً هل الإنسان مخير أم مسير؟ هل الحقيقة الإنسانية والوجودية واضحة ومنظمة أم مراوغة وعشوائية؟ هل يمكن للإنسان تحدي قدره والانفلات منه؟ وإذا كان ذلك ممكناً فكيف وبأي ثمن؟ وأجابت البشرية على مر تاريخها على بعض هذه الأسئلة إجابات مختلفة تراوحت بين التأمل العميق والخشوع المطلق أوالاستهتار المأساوي، علي حين ركنت بعضها الآخر إلى خانة المقدس أو السحري أو المجهول أو القابل للإكتشاف بالإيمان أو بالإشراق وفي القرون الأخيرة بالعلم. ولكن الفيلم، بما أنه بنهاية الأمر نتاج وقته وبيئته لايصرف الكثير من الجهد والوقت في معالجة هذه الأسئلة المعضلة، هي هنا معروضة باختصار ومباشرة شديدين، ملبسة لبوس العصر ومحملة همومه الإضافية، وتبقى متاحة لكل من يريد التفكر فيها ولكنها لاتعرقل متعة من يريد من الفيلم فقط المشاهدة والاندهاش، والمتعة متاحة على مستويات مختلفة، فالتمثيل والمناظر ممتازين، وكذلك الحوار وإيقاع الحركة، والغمز في واقع الحياة الأميريكية المعاصرة، باعتمادها على المعلومات والعواطف والدعايات السافرة واللجوجة التي تبث لنا عبر التليفريون، واضح وصريح وحدّي وفكه، ونقد سطحية العلاقات البشرية كما أصبحت اليوم، حيث اختلط النفاق بالصراحة باللامبالة بالمحبة اختلاطاً يصعب تفريقه كما لو أن الأمر كله تمثيل بتمثيل، سافر ومؤلم، وحتى السخرية الكامنة في تدهور صفات البطولة ليحتلها عميل تأمين ساذج وبسيط أمكن خداعه في كل شئ في حياته لثلاثين سنة قاطعة ومباشرة، ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً على الذهن بعد مشاهدة هذا الفيلم المؤثر والجرئ والمبتكر، في عصرنا الحاضر هل يمكن للفرد الأعزل أن يهرب من القوى الكبرى التي تسيطر على حياته، كالتلفزيون وشركات الإعلان وشركات إنتاج الضروريات والكماليات التي سرعان ماتتحول إلى ضروريات، ومتطلبات السوق وأوامر الحكومة ونواهي القوى الإجتماعية، الدينية منها والثقافية والموضوية (من موضة) للأسف، وعلى الرغم من النهاية الإيجابية للفيلم، بل ربما رغماً عنها، يخرج المتفرج بالاستنتاج المعاكس، الهروب مستحيل على الفرد الواحد، وعليه التعامل مع هذه المعطيات بذكاء فردي خارق، وهو بطبيعته نادر، أو بتنظيم إجتماعي وسياسي مقاوم، وهو الخيار الذي يتركه الكثيرون يومياً، ويبقى إنجاز الفيلم السينمائي الرئيسي أنه لم يتوانى عن التلميح، والتصريح أحياناً على حسب مقتضى الحال، إلى هذه النتيجة التراجيدية بطبيعتها من دون أن يلجأ للتصعيد الميلودرامي في الوصول إليها.