مدرسة شارتر
أثناء العصور الوسطى العليا، أدارت كاتدرائية شارتر مدرسة كاتدرائية شهيرة ذات تأثير واسع، وكانت مركزاً هاماً للبحث. وقد تطورت وبلغت أوجها في القرنين 11 و12. وكانت فترة انتقالية، في بداية حركة الترجمة إلى اللاتينية ومباشرة قبل انتشار الجامعات القروسطية، التي بدورها تفوقت على مدارس الكاتدرائيات ومدارس الأديرة كأهم هيئات التعليم العالي في الغرب اللاتيني.[1]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مدرسة شارتر
ترى كيف نفسر تلك الثورة الفلسفية العجيبة التي بدأت بأنسلم، وروسلان وأبلار، وبلغت ذروتها في ألبرتس مجنس والقديس تومس أكويناس؟ لقد كان لهذه الثورة، كما هي السادة، كثير من الأسباب: منها أن الشرق اليوناني لم يكن قد تخلى قط عن تراثه الثقافي القديم، بل كانت كتب الفلاسفة الأقدمين تدرس في كل قرن في القسطنطينية، وإنطاكية، والإسكندرية؛ وكان رجال أمثال ميخائيل بسلس Miehael Psellus، ونقفورس بلميدس Nicephorus Blemydes (1197؟-1272)، وجورج پاشيمرز George Pachymeres (1242؟- 1310)، وبارهبريوس Bar Hebareus السوري (1226؟-1282) كان رجال من أمثال هؤلاء مطلعين على مؤلفات أفلاطون وأرسطو بلغتها الأصلية؛ وأخذ المعلمون اليونان يدخلون بلاد الغرب كما أخذت المخططات اليونانية تدخلها تدريجاً. وحتى في تلك البلاد نفسها كان قليل من التراث اليوناني قد بقى بعد العاصفة البربرية؛ فقد بقى الجزء الأكبر من أرغنوق أرسطو في المنطق، ومن كتابي مينوق وتيماوسي لأفلاطون، وكانت الصورة التي رسمها هذا الفيلسوف لإر Er هي التي لونت خيال المسيحيين عن الجحيم. وقد جاءت الموجات المتتابعة من الكتب العربية واليونانية والإسلامية من أفكار جديدة تتحدى الأفكار المسيحية وتختلف عنها اختلافاً يهدد باكتساح لاهوت العالم المسيحي كله إذا لم تنشئ المسيحية لها فلسفة مناهضة لهما. على أن هذه المؤثرات لم نكن تستطيع أن تنشئ تلك الفلسفة المسيحية إذا كان الغرب قد ظل فقيراً كما كان؛ أما الذي جعل لهذه العوامل أثراً فعالاً فهو نمو الثورة حين أخذت الزراعة تعزو القارة الأوربية، وأتسع نطاق التجارة والصناعة، وتكاثرت الأموال وما تؤديه من خدمات. وتعاونت هذه النهضة الاقتصادية مع تحرر المدن ذات الحكم الذاتي، وقيام الجماعات، وإحياء الآداب اللاتينية والقانون الروماني، وتقنين الشريعة الكنيسة، ومجد الفن القوطي، وازدهار الأدب الخيالي، و(علم) الشعراء الغزلين (المرح)، واستيقاظ العلوم، وبعث الفلسفة، وتعاونت هذه كلها على إيجاد (نهضة القرن الثاني عشر).
وجاء في أعقاب ثورة الفراغ، والدرس، والمدارس. وكانت كلمة Scholê تعنى في أول الأمر الفراغ. وكان السكولاستيكوس scholasticus هو المدرس أو الأستاذ، كما كانت عبارة (الفلسفة المدرسية) تعنى الفلسفة التي تدرس في مدارس العصور الوسطى الثانوية أو في الجامعات التي نشأت كثرتها الغالبة من هذه المدارس الثانوية. كذلك كانت (الطريقة المدرسية) هي أسلوب الجدل الفلسفي والعرض الفلسفي الذين يستخدمان في هذه المدارس. وإذا ما استثنينا فصول أبلار التي كانت في باريس أو قريبة منها، فقد كانت مدرسة شارتر أكثر هذه المدارس نشاطاً وأعظمها شهرة؛ ففيها امتزجت الفلسفة بالأدب، وكان في وسع من يتخرج فيها أن يكتب في المسائل الخفية العويصة بالوضوح والظرف اللذين أصبحا من التقاليد المشرفة في فرنسا. وكان أفلاطون، الذي جعل هو أيضاً الفلسفة مفهومة مستساغة، من الفلاسفة المحببين هناك؛ وفيها سوى النزاع القائم بين الواقعيين والقائلين بأن الكليات أن هي إلا الألفاظ وليس لها وجود حقيقي في العقل أو في خراجه، سوى هذا النزاع بقولهم أن الكلمات (الحقيقية) هي بعينها الأفكار الأفلاطونية، أو النماذج الأولى الخلافة التي في عقل الله. وبلغت مدرسة شارتر ذروة نفوذها في عهد برنار أحد مواطنيها (حوالي 1117) وأخيه ثيودريك (حوالي 1114)؛ وكان ثلاثة من خريجيها يسيطرون على ميدان الفلسفة بأوربا الغربية في النصف القرن التالي لحياة أبلار وهم: وليم الكوشي، وجلبرت ده لا بريه، ويوحنا السلزبري.
ويتبين الإنسان اتساع مجال الفلسفة المدرسية بوضوح عجيب في سيرة وليم الكوشي (1080؟- 1154). فقد كان رجلاً ملماً بكتب أبقراط، ولكريشيوس، وحنين بن أسحق، وقسطنطين الأفريقي، بل وحتى دمقريطس نفسه. وقد أفتتن بالنظرية الذرية؛ واستنتج أن جميع أعمال الطبيعة تبدأ في الأصل باجتماع الذرات، ويصدق هذا على أرقى عمليات الجسم البشري وأعظمها خطراً(2). والنفس عنده هي اتحاد العناصر الجوهرية في الفرد مع النفس الكونية أو العنصر الجوهري في العالم(3). ونهج وليم نهج أبلار في إحدى المسائل الخفية الشديدة الخطورة فكتب يقول: "في الألوهية قدرة، وحكمة، وإرادة، وهي التي يسميها القديسيون أقاليم ثلاثة(4)". وهو يفهم القصة القائلة أن حواء خلقت من ضلع آدم فهما يعتمد على المجاز الواسع. وهو يرد بعنف على شخص ما يدعى كورنفيوس Cornifius وغيره من (الكرنفيوسيين) الذين يقامون العلم والفلسفة بحجة أن في الإيمان الساذج ما يكفيهم. "فهم لا يطيقون أن يبحث غيرهم شيئاً ما، ويريدون منا أن نؤمن كما يؤمن السذج والهمج من غير أن نسأل عن السبب، كي يكون لهم رفاق في الجهالة... ولكنا نقول: أن من واجبنا أن نبحث لكل شيء عن علة، فإذا عجزنا عن معرفة تلك العلة وكلنا الأمر إلى... إلى الروح القدس وإلى الإيمان(5)... (ويقولون): لسنا نعرف كيف يكون هذا، ولكننا نعرف أن في قدرة الله أن يفعله... ألا أيها البلهاء المساكين! أن في قدرة الله أن يخلق غراباً من شجرة، ولكن هل فعل الله هذا في يوم من الأيام؟ فعليكم إذن أن تدلوا بعلة لوجود شيء ما بالصورة التي هو عليها، وإلا فامتنعوا عن الاعتقاد بأنه على هذه الصورة...(6) أننا لا تسرنا الكثرة، وإنما تسرنا الغلة المختبرة، ونحن نكد في البحث عن الحقيقة وحدها.
لقد كان هذا القول أكثر مما يطيقه وليم التييري، ولهذا بادر الراهب المتحمس، الذي أغرى القديس برنار بمهاجمة أبلار، بالطعن على هذا الثائر الجديد صاحب النزعة العقلية والتنديد به عند رئيس دير كليرفو اليقظ المترقب. ورجع وليم الكوشي عن إلحاده، ووافق على أن حواء خلقت من ضلع آدم(8)، وهجر الفلسفة لأنها مغامرة لا يتناسب فيها الكسب مع ما يتعرض له صاحبها من أخطار، واشتغل مريباً لهنري بلانتجنت Henry Plantagenet الإنجليزي واختفى أسمه من التاريخ. وكان جلبرت ده لا پوريه Gilbert de la Porrée (1070- 1154) أكثر من وليم توفيقاً في هذا العمل المفعم بالأخطار. فقد تعلم ودرس في شارتر وفي باريس، وصار أسقفاً لپواتييه Potiers ووضع كتاباً ذا ستة مبادئ Liber sex prencepiorium ظل ستة قرون النص الذي يرجع إليه في علم المنطق؛ ولكن التعليق على بؤتيوس قد فهم منه أن طبيعة الله بعيدة عن إدراك العقل البشري بعداً يتحتم معه أن يؤخذ كل قول عنها على أنه تشبيه أو مجاز لا أكثر، ثم أنه أكد وحدة الله تأكيداً يجعل التثليث يبدو وكأنه مجاز لا غير(6). وفي عام 1148 اتهمه القديس برنار بالإلحاد، وأن كان وقتئذ في سن الثانية والسبعين، وحوكم على هذه التهمة في أوكسير Auxerre، وحير معارضيه بما أورده من فروق دقيقة، وعاد إلى موطنه غير مدين. وحوكم مرة أخرى بعد سنة من ذلك الوقت، ورضى أن تحرق بعض فقرات انتزعت من كتبه، ولكنه عاد حراً إلى أبرشيتة؛ ولما طلب إليه أن يناقش آراءه مع برنار رفض الاقتراح وقال: أن هذا القديس يعوزه التبحر في اللاهوت إلى حد لا يستطيع معه فهم آرائه(10)، ويقول عنه يوحنا اللزبري: أن جلبرت "ناضج في الثقافة الحرة نضوجاً لا يفوقه فيه أحد من الناس(11)".
وكان في مقدور يوحنا أن يقول هذا القول عن نفسه، لأنه كان من بين الفلاسفة المدرسيين أوسعهم ثقافة وأكثرهم تهذيباً، وأبلغهم قلماً. وكان مولده في لزبري حوالي عام 1117، وتتلمذ على أبلار في جبل القديس جفيف، وعلى وليام الكوشي في شارتر، وعلى جلبرت ده لابريه في باريس، ثم عاد إلى إنجلترا في عام 1149، وعمل أميناً لاثنين من رؤساء أساقفة كنتر بري هما: ثيوبولد وتومس أبكت، وقام لهما بعدة مهام دبلوماسية، زار فيها إيطاليا ست مرات، وأقام في البلاط البابوي ثماني سنين، وشارك بكت في ألقى في فرنسا، وشاهد مقتله في كتدرائيته، وعين أسقفاً لشارتر في عام 1178، وتوفى في عام 1180. وكانت حياته مليئة بالجلد، متعددة النواحي، عمل فيها هذا الرجل على وضع المنطق تحت مخبار تجارب الحياة ودراسة الفلسفة بتواضع منقطع النظير. ولما تقدمت به السن ورجع إلى آراء المدارس الفلسفية المختلفة أدهشه أن يراها لا تزال تجادل في الفرق بين الاسمية والواقعية: "ليس في مقدور الإنسان أن يتجنب هذه المسألة، ولقد حرم العالم وهو يبحثها، واستغرق بحثها من الوقت أكثر مما أستغرقه القياصرة في فتح العالم وحكمه... وأيا كانت النقطة التي يبدأ منها النقاش، فأنه يعود على الدوام ويرتبط بتلك المسألة، فهي أشبه بجنون روفس Rofus بنيفيا Naevia: "أنه لا يفكر في شيء آخر، ولا يتحدث عن شيء آخر، ولو أن نيفيا لم يوجد لظل روفس أبكم لا يبين"(12).
وحسم يوحنا نفسه الأمر من أيسر السبل حين قال: أن الكلى مدرك عقلي ييسر ربط الصفات المشتركة للكائنات المفردة؛ وكان جون لا أبلار هو الذي أقترح النظرية القائلة أن الكليات توجد في العقل مستقلة عن أفرادها المجسمة المادية.
وألف في تاريخ الفلسفة اليونانية والرومانية كتاباً بلغة لاتينية هي أحسن ما كتب منذ ظهرت رسائل الكوين - ويعد هذا الكتاب شاهداً عجيباً على اتساع الأفق العقلي في العصور الوسطى اتساعاً مطرداً؛ وظهر بعده كتاب متالوجيكون Metalogicon الذي خفف فيه علم المنطق بما أضافه من ترجمة لنفسه، ثم كتاب پوليكراتيكس Polycraticus (1159) الذي وضع له عنوناً ثانوياً غريباً (في حماقات رجال الحاشية وآثار الفلاسفة) De nugis Curialium et vistigüo philosophorum. وكان هذا الكتاب أول مقال في أدب العالم المسيحي عن الفلسفة السياسة. وهو يكشف عن أخطاء الحكومات القائمة في أيامه ورذائلها، ويرسم صورة للدولة المثالية، ويذكر صفات الرجل المثالي، ثم يواسينا بقوله: "كل شيء يشتري علناً، إلا إذا كان تواضع البائع هو الذي يمنع هذا الشراء، أن نار الجشع الدنسة تهدد مذابح الكنائس نفسها... وأن أحبار الكرسي الرسولي نفسه لا يضنون بأيديهم عن أن تدنسها المطايا" بل أنهم في بعض الأوقات يجوسون خلال الأقاليم في عربدة جنونية"(13). وإذا جاز لنا أن نصدق روايته التي نقلنا منها فقرات من قبل فأنه أبلغ البابا هدريان الرابع أن الكنيسة نصيباً موفوراً فيما يسود تلك الأيام من فساد، وأن البابا أجابه بما معناه أن الآدميين سيظلون آدميين مهما كانت أثوابهم؛ ويضيف يوحنا إلى ذلك تلك العبارة الحكومية: "في كل منصب من مناصب بيت الله (الكنيسة) إذا كان بعض رجالها يتكاسلون، فأن غيرهم يضافون إليهم ليؤدوا عملهم. ولقد شاهدت من بين الشمامسة، ورؤساء الشمامسة، والأساقفة، والأحبار من يقومون بما يوجبه عليهم الله بجد وإخلاص يستبين الإنسان معهما أنهم أوتوا من مزايا الإيمان وفضائله أن من عهدوا إليه بحرث أبينا قد أحسنوا كل الإحسان"(14). وهو يرى أن الحكومة المدينة أكثر فساداً من رجال الذين، وأن من الخير لحماية الخلق أن يكون للكنيسة سلطان أخلاقي على جميع العالم ودوله(15).
قالب:Scholasticism وأوسع الفقرات شهرة في كتاب بوليكراتكس هي التي تشير إلى قتل الطغاة: "إذا حاد الأمراء شيئاً فشيئاً عن الطريق الحق، فليس من الخير في شيء أن يطاح بهم كلية على الفور، بل يكفي لومهم على ظلمهم بتعذيرهم والصبر عليهم، حتى يتبين أخيراً أنهم معاندون مصرون على فعل الشر... أما إذا تعارض سلطان الحاكم مع الأوامر الإلهية وأراد أن يحملني على أن أشاركه في حربه على الله، فأني لا أتردد قط في أن أرد عليه بقولي أن الله يجب أن يفضل على كل إنسان على ظهر الأرض أياً كان قدره... وليس قتل المستبد مشروعاً فحسب، بل هو حق وعدل"(16). كانت هذه سورة من جون مهيجة مثيرة، أضاف إليها فقرة أخرى في موضع بعدها من الكتاب نفسه "بشرط ألا يكون القاتل مرتبطاً بالولاء للمستبد"(17). وهي جملة فيها نجاة للمستبدين لأن كل حاكم يلزم رعاياه بأن يقسموا يمين الولاء له. وفي القرن الخامس عشر دافع جان بتي (Jean Petie) عن اغتيال لويس صاحب أورليان بعبارات نقلها عن البوليكراتكس، ولكن مجلس كنستانس تغلب على بتي بحجة أن الملك نفسه لا يحق له أن يدين متهما دون أن يدعوه للمثول أمامه ويحاكمه.
ونحن (المحدثين) لا نستطيع أن نتفق على الدوام مع (المحدثين) في القرن الثاني عشر الذين كان يوحنا واحداً منهم؛ وهو يقول من آن إلى آن كلاماً يبدو لنا أنه هراء، ولكن هراءه نفسه مصوغ في أسلوب من التسامح والظرف لا نكاد نعثر على ما يماثله بعدئذ قبل إرزمس Erasmus. وكان يوحنا أيضاً من الإنسانيين، يحب الحياة أكثر مما يحب الخلود، ويعشق الجمال والرحمة أكثر مما يعشق العقائد التحكمية في أي دين، ويقتبس من الآداب اليونانية - الرومانية القديمة وهو منشرح مغتبط أكثر منه حين يقتبس من صحف الكتاب المقدس. وهو يضع ثبتاً (بالأشياء التي يصح للرجل الحكيم أن يشك فيها dubitabilia، ومنها طبيعة النفس ومنشؤها، وخلق العالم، والعلاقة بين علم الله السابق وحرية الإرادة. ولكنه كان أحصف من أن يندفع إلى الإلحاد، بل كان يسير وسط الجدل القائم في أيامه بحصافة دبلوماسية وسحر خلاب. ولم يكن يرى أن الفلسفة صورة من صور الحرب، بل كان يراها بلسما للسلام، وبقول أن الفلسفة قوة مطلقة معدلة في الأشياء جميعها، وأن من وصل بطريق الفلسفة إلى الإحسان والمحبة فقد بلغ هدفها الحق"(18).
الهامش
- ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
- ^ Natural Philosophy at School and University, (Lecture 18), in Lawrence M. Principe (2002) History of Science: Antiquity to 1700. Teaching Company, Course No. 1200
ببليوگرافيا
- Edouard Jeauneau, Rethinking the School of Chartres Toronto: University of Toronto Press, 2009.
وصلات خارجية
- The School of Chartres in A History of Western Philosophy Vol. II / by Ralph McInerny