محاماة
د. سمية أبوفاطمة دكتوراه في القانون المدني
مهنة المحاماة بين الممارسة الفردية والممارسة الجماعية عبر شركة المحاماة المدنية لقد ظلت المهنة الحرة والممارسة الفردية وجهان لعملة واحدة لفترة طويلة، لكن مع تغير المسرح الاقتصادي العالمي بسبب العولمة وتدويل الخدمات وما أفرزه من تغيرات أدت إلى تحرير التجارة وأسواق رأس المال وزيادة إنتاج الشركات، أصبحنا نلاحظ توأمة جديدة وهي توأمة المهنة الحرة والشركات. كما إن اتفاقية الجات بشقيها السلع والخدمات، وما حملته من انفتاح دولي على الأسواق المحلية، العربية بوجه عام والمصرية بوجه خاص، أدى إلى ضرورة التفكير في آليات متطورة لتعزيز الهياكل الإدارية، والاقتصادية، والمهنية، حتى تواكب التقدم الحاصل، فالاتفاقية تتيح فرصة أكبر للخدمات المهنية والاستشارية المصرية بأنواعها المختلفة النفاذ إلى الأسواق العالمية. وإذا كان النفاذ إلى الأسواق الأفريقية والعربية يعتبر مكسب لقطاع الخدمات المصري، نظراً للتكلفة البسيطة التي يتحملها هذا القطاع في تلك الأسواق، فإن الأمر خلاف ذلك في الأسواق الأوروبية، الأمريكية والآسيوية، لأن المنافسة الحرة التي تعتمد على عنصر الجودة، ترجح كفة الأسواق العالمية وتجعل النظام المصري والعربي عموماً في وضع حرج لا يمكن الخروج منه إلا إذا تم تطوير الآليات المعتمدة وتفعيلها بحسب المقاييس الدولية التي تخضع لها السوق العالمية. ومن ضمن المهن الذي تتأثر لا محالة، مهنة المحاماة باعتبارها جزء من القطاع المهني، والذي يشمله الانفتاح بموجب اتفاقية الجات. وفي إطار ربط اتفاقية الجات بموضوع الدراسة، أرى أن الدعوة إلى إنشاء شركات محاماة مدنية وطنية على مستوى كبير من الكفاءة والإتقان سيدعم قطاع المحاماة وييسر فتحه لأسواق عالمية دون تخوف من المنافسة، وفي مقابل ذلك، لن تتأثر هذه المهنة إن دخلت شركات محاماة قوية إلى أرض مصر لتمارس نشاطها في إطار تبادل الخدمات الحر الذي قررته اتفاقية الجات والذي تعتبر مصر من ضمن الموقعين عليها. إن إنشاء شركات محاماة مدنية قوية ذات هيكل منظم على مستوى عالمي، لن يتأتى إلا بسن قانون ينظم هذه الشركات ويخرج بها من العشوائية، ويجعل لها مكان متميز بين كل الشركات العالمية وهذا ما ينعش الاقتصاد المصري ويعزز مكانته. أمام كل هذه التغييرات والانقلابات التي شهدها عالمنا المعاصر، أصبح لزاماً على المهنة الحرة مواكبة هذا التطور لكي لا يتم استبعادها من مسيرة النهوض، ولهذا فطن الفقه أولاً والقانون بعد ذلك بإيعاز من الفقه، إلى ضرورة خلق إطار قادر على أن تظل المهنة الحرة بموجبه محافظة على خصوصيتها، لكن في ذات الوقت مسايرة للتطور الذي أفرزته العولمة على جميع المستويات. أمام كل ذلك تبنت غالبية الدول فكرة ممارسة هذه المهن الحرة في إطار شركات مدنية مهنية متخصصة، وبالتالي عدم الاكتفاء بالممارسة الفردية التي أضحت غير قادرة على استيعاب كل متطلبات المهنة من جهة والعميل من جهة أخرى، ومتطلبات السوق القانونية من جهة ثالثة. على رأس هذه الدول المتبنية لفكرة إنشاء شركة مدنية متخصصة، فرنسا، حيث استصدرت قانون 879-66 في 29 نوفمبر 1966 والذي سمح لأول مرة في فرنسا لأصحاب بعض المهن الحرة بممارستها بشكل جماعي في إطار شركات مدنية مهنية متخصصة، ولم يكتف المشرع الفرنسي بالنص على الشروط والقواعد العامة التي تسري على كل المهن التي تمارس في إطار شركات، بل نص على ضرورة استصدار مرسوم خاص بكل مهنة على حدة، وعلى سبيل المثال نظم ممارسة مهنة المحاماة في إطار شركة بموجب مرسوم 680-92 في 20 يوليو 1992. وإذا كان القانون الفرنسي قد نظم هذه الشركة بكل تفصيلاتها بدءاً من التكوين ووصولاً إلى الانقضاء ثم المسئولية الخاصة بالشركة المدنية، فإن نظيره المصري اكتفى بمادتين يتيمتين في قانون المحاماة المصري رقم 17 لسنة 1983، نص في الأولى على شكل جديد لممارسة المهنة وهو الممارسة الجماعية عبر شركة المحاماة المدنية حيث نصت المادة الرابعة على أنه: "يمارس المحامي مهنة المحاماة منفرداً أو شريكاً مع غيره من المحامين أو في صورة شركة مدنية للمحاماة". كما نصت المادة الثانية وهي المادة الخامسة من قانون المحاماة المصري على أنه "للمحامين المقبولين أمام محكمة النقض ومحاكم الاستئناف أن يؤسسوا فيها بينهم شركة مدنية للمحاماة يكون لها شخصية معنوية مستقلة ويزاولون المحاماة من خلالها ويجوز أن يشارك فيها المحامون أمام المحاكم الابتدائية. ويجوز أن يكون اسم الشركة مستمداً من اسم أحد المحامين من الشركاء ولو بعد وفاته. ويضع مجلس النقابة نموذجاً للنظام الأساسي لشركات المحامين ويجب تسجيلها بالنقابة العامة بسجل خاص يصدر به قرار من وزير العدل وذلك مع عدم الإخلال بالأحكام المقررة بشأن الشركات المدنية. ويجوز أن "ينص في النظام الأساسي للشركة على أنه في حالة عجز أحد الشركاء أو وفاته واستمرار الشركة بين الشركاء الآخرين أن يستحق هو أو ورثته حصة من صافي دخل الشركة". وعدا هاتين المادتين اليتيمتين، لم يتصدى المشرع المصري لتنظيم هذا النوع من الممارسة بالرغم من وجود شركات فعلية تمارس نشاطها وتخضع في تكوينها إلى القواعد العامة في تكوين الشركات، هذه القواعد لا تكفي وتتعارض في بعض الأحيان مع طبيعة شركة المحاماة المدنية باعتبارها شركة مهنية ذات طبيعة خاصة وبالتالي تحتاج إلى قانون ينظمها لحل كل الإشكاليات التي يمكن أن تعترضها خدمة المتعاملين معها وخدمة لأعضائها من المحامين، مما يساهم في تحقيق الهدف المنشود منها وهو سيادة العدل واسترجاع الحقوق والحريات وإعلاء كلمة القانون. أما المشرع المغربي ، وبعد الدعوات المتلاحقة بضرورة السماح بممارسة مهنة المحاماة في إطار شركة مدنية مهنية ، والدعوة تبعاً لذلك بإنشاء قانون ينظم هذه الشركات ، تمت الاستجابة لذلك ، وبالفعل تم تعديل قانون المحاماة بمثابة ظهير الصادر بتاريخ 15 سبتمبر1993 بالقانون بمثابة ظهير رقم 29.08 الوارد بتاريخ 20 أكتوبر 2008 ، وهكذا نصت المادة 26 من القانون الجديد على أنه "يمكن للمحامي أن يمارس مهنته وحده أو مع غيره من المحامين في نطاق المشاركة ، أو في إطار شركة مدنية مهنية ، أو المساكنة أو بصفته مساعداً. ينظم الإطار القانوني للشركات المدنية المهنية بمقتضى قانون. لا يجوز أن يكون للمحامي أو للمحامين المشاركين إلا مكتب واحد". كما صدر تبعاً لتعديل قانون المحاماة قانون ينظم شركة المحاماة بكل تفصيلاتها ، هو القانون رقم 29.08 في أكتوبر 2008. والهدف من إفراد القانون الفرنسي لقانون مستقل، هو الطبيعة الخاصة لشركة المحاماة المدنية باعتبارها إطار تمارس فيه مهنة حرة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخضع في تنظيمها إلى القواعد العامة فحسب، بل يجب أن يوضع لها قانون خاص ومستقل مع إمكانية الرجوع إلى القواعد العامة في ما خلا منه القانون الخاص من أحكام. أن الهدف من الدعوة إلى ممارسة مهنة المحاماة في إطار شركة مدنية هو تعبير عن الرغبة الملحة لضرورة تنظيم هذا النوع من الممارسة في تشريعاتنا العربية وبالأخص التشريع المغربي والذي يتعين عليه في ظل التطورات الاقتصادية والقانونية أن يساير الركب، حتى لا يفاجئ في يوم من الأيام بغزو لشركات أجنبية على أرضه لتضع نهاية للمكاتب الفردية التي تفتقد إلى معايير المنافسة، وبالتالي حتمية وجود هذا النوع من الشركات خدمة للمهنة أولاً ودرءاً للمنافسة ثانياً، كما يتعين على المشرع المصري أن يستصدر قانون منظم لشركة المحاماة المدنية ولا يكتف بالقواعد العامة في القانون المدني، لأن هذه الشركة تحمل من التفرد ما يجعل وجود قانون خاص ينظمها ضرورة لا محيد عنها. وإذا كان تنظيم شركة المحاماة المدنية بما في ذلك التكوين والإدارة والانقضاء، يجب أن يحظى بأهمية قصوى في التشريعات العربية والمقارنة، فإن المسئولية المدنية لهذه الشركة، هي موضوع لا يقل أهمية عن ما سبقه، لأن المسؤولية المدنية تشكل محور الارتكاز في فلسفة القانون المدني ومكمن الصراع بين الخصوم في جميع النظم القانونية بما في ذلك مسؤولية الشركات المهنية ومن ضمنها مسؤولية شركة المحاماة المدنية، هذه المسؤولية يجب أن تخضع لقواعد خاصة ومتفردة، لأن الطبيعة المهنية هي التي تسبغ عليها هذا التفرد وتجعلها محكومة بقواعد ترعى في المقام الأول حقوق العملاء وتحميهم من تلاعبات المحامين، كما تراعى في مقام آخر المحامين الشركاء فيها وتشجيعهم على الانضمام لهذا النوع من الشركات، فطالما مسؤولية الشركة واضحة ومسؤولية أعضائها منظمة بشكل دقيق، نجد الإقبال على هذه الشركات متزايد، كما ينعدم التخوف سواء من العملاء عن ضياع حقوقهم إذا ثبتت مسؤولية الشركة أو أحد أعضائها أو من المحامين أنفسهم إذا ما تمت مساءلة الشركة. بعد إستعراض ملامح هذه الدراسة بشكل مختصر، خلصت إلى توصيات ومقترحات أوردها كالآتي: [1] ضرورة استصدار المشرع المصري لقانون مستقل ينظم شركة المحاماة المدنية، وعدم الإرتكان لقواعد القانون المدني، لأنها لا تكفي كما سبق تبيان ذلك لتنظيم هذا النوع من الشركات، ثم بعد ذلك استصدار نموذج أساسي للشركة من النقابة يسري على كل الشركات التي هي في طور التكوين ويسري على الشركات الفعلية. [2] عند وضع القانون المنظم لشركة المحاماة المدنية من طرف المشرع المصري، لابد من الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الشركة في كل مراحلها بدءاً من التكوين ومروراً بالإدارة ووصولاً إلى الانقضاء ثم المسؤولية حتى يستجيب هذا القانون لخصوصية شركة المحاماة المدنية. [3] عند صدور القانون المنظم لشركة المحاماة المدنية سواء في مصر ، يتعين إخضاع الشركات الفعلية لهذا القانون وتصحيح أوضاعها حتى نتفادى العشوائية في التنظيم، وحتى لا تستفيد شركات دون أخرى من امتيازات تؤدي إلى ازدواجية في الثواب والعقاب. [4] إخضاع شركات المحاماة المدنية لنظام تأمين إجباري عن المسؤولية الخاصة بها، خصوصاً إذا علمنا الحجم الكبير لتعاملات هذا النوع من الشركات، مما يجعل إجبارية التأمين حماية للغير إذا تعرضت مصالحه للخطر وحماية في الوقت ذاته للشركة من الوقوع في مخاطر الإفلاس إذا ثبتت مسؤوليتها. [5] تفعيل دور النقابة الإيجابي في السهر على رقابة مدى احترام الشركات للقوانين المنظمة ومدى التزام أعضائها بشروط الشراكة في شركة المحاماة المدنية، وهذا الدور لا يشمل فقط الرقابة المستمرة للنقابة والمتمثلة في نقيبها ومجلس إدارتها، بل يشمل السهر على مدى احترام الشركاء للنموذج الذي تصدره النقابة والذي يحتوي على كل تفصيلات الشركة، وذلك قبل البدء في إعطاء الموافقة لهذه الشركات في ممارسة نشاطها. [6] التأكيد في صلب القانون المنظم لشركة المحاماة المدنية على الطابع المهني لهذه الشركات وعلى ضرورة التزام الشركاء بعدم المغالاة في أتعاب القضايا المسلمة لهم، حتى لا تنزلق هذه الشركات في "التجارية"، وليظل الهدف الرئيسي لها هو الممارسة الجماعية لمهنة المحاماة باعتبارها مهنة تسعى إلى تحقيق العدل، السلم، المساواة في الحقوق والواجبات وتسعى إلى تحقيق الربح كهدف غير مباشر. [7] عدم السماح للشخص المعنوي بأن يكون شريك في شركة المحاماة المدنية لأن أساس هذه الشركة هو الممارسة الجماعية لمهنة المحاماة، هذه الممارسة لن تصح إلا من طرف شخص طبيعي، وبالتالي الخروج عن مقتضيات الشركات المدنية العادية والتي تسمح للشخص المعنوي بأن يكون عضواً فيها. [8] التخفيف من نظام الضرائب الذي يسري على الشركات المدنية العادية في حالة تطبيقه على شركة المحاماة المدنية، وكذا التخفيف من الإجراءات والشروط حتى لا يكون هناك عبء على الراغب في تكوين هذا النوع من الشركات، وحتى لا تتربع الممارسة الفردية بما تحمل من نواقص على عرش أشكال ممارسة مهنة المحاماة.