ليوبولدو ماريا بانيرو
"لاس بالماس" – جزر الكنارى – أحدى المصحات النفسية ..
هذا هو المكان الذى يعيش فيه الآن الشاعر الأسباني "ليوبولدو ماريا بانيرو" المولود عام 1948، صاحب العشرون ديواناً حتى الآن، و العديد من المقالات في مجالات مختلفة، من السياسة إلى المرض العقلي .. و الذى يتمتع بشهرة لا بأس بها في بلده و العالم على الرغم من غرابة قصائده و جوها المُقبض الصارخ بالسوداوية و رفض العالم الخارجى .. حيث العالم بعين "بانيرو" هو القمر الذى ينزف، و الحديث بين أثنين من الأموات المشتركين بقبر واحد، و السماء التي تمطر طيوراً ميتة في حلكة الليل .. و الذى شدني عنوان ديوانه "الفردوس المفقود – نشيد إلى الشيطان" المُترجم عن دار التكوين السورية بواسطة "مها رفعت عطفة" .. لأدخل في عوالمه القاتمة المليئة بالصور السوداء، حيث يستخدم عفن الأجساد و سلبيات المشاعر المطلقة لتكوين رؤيته الذاتية للعالم من حوله ..
تعتبر غرابة قصائد "بانيرو" هي المفتاح لشخصيته المريضة المعقدة .. حيث تفوح منها رائحةالذاتية و محاولة الظهور بمظهر المختل عقلياً الذى سما عقله ليرى ما لم يسبق لانسان أن يراه، لينظر للعالم من زاوية أشنع من أى رؤية يمكن لانسان رؤيتها .. و على الرغم من أنه ينفى جنونه و ينفى وجود ما نطلق عليه المرض العقلي و النفسي من الأساس، في ذات الوقت يقضى وقته متجولاً بالشوارع أو يزور المكتبات أو يلقى المحاضرات عن الشعر بأحدى الجامعات، حاملاً على ظهره حقيبته الأثيرة التى تمتلئ بدواوين شعر "كيتس" و "ادجار آلان بو" و يعود في نهاية النهار إلى المصحة التى يؤكد طبيبه المعالج أن يمكنه الخروج منها بأى وقت على الرغم من مرضه العقلي ! .. و غالباً ما يعطى الانطباع بأنه شخص عاقل إلا في حالات اكتئابه الشديد، حين يظهر اضطرابه جلياً في صمته الشديد، حكه لوجهه بعصبية، و مرور أصابعه النحيلة على شعره الرمادي .. تصرفات كهذه من شخص ك"بانيرو" تعنى نهاية أى مناقشة ! ..
نشأ "بانيرو" في جو أدبي بحت .. حيث كان والده "ليوبولدو بانيرو" شاعراً معروفاً .. ليترعرع "بانيرو" الأبن وسط أصدقاء والده من الأدباء و الشعراء و المثقفين .. و كان أخيه "خوان لويس" شاعراً أيضاً .. و هذا ما أنطبع على ثقافته بشكل واضح .. حيث يجيد الفرنسية و الايطالية و الأنجليزية إلى جانب لغته الأصلية، الأسبانية ..
ظهر اضطرابه النفسي جلياً بفترة العشرينات .. حيث حاول الانتحار مرتين قبل أن يبلغ الواحدة و العشرين، و منذ محاولة انتحاره الأولى عام 1968 إلى عام 1986 و هو يتنقل بين المصحات النفسية بلا توقف .. و لم يتزوج "بانيرو" اطلاقاً ! ..
كان "بانيرو" نابغة بالنسبة لسنه الصغيرة وقتها .. حيث كان يبهر والديه بنظمه للشعر قبل تعلمه الكتابة من الأصل ! .. و كان أصدقاء العائلة يحضرون شرائط الكاسيت لتسجيل القاؤه الرائع للقصائد ببيت أبيه في "كالي أبيزا" بمدريد .. و لم يتخيل أحداً أن هذا الطفل النابغة سوف ينتهى به الأمر إلى العيش بأحدى المصحات العقلية ! .. حيث يكتب أعماله على آلة كاتبة عتيقة، و تجمع المطبعة أعماله على ورق مهترئ ملئ بثقوب أعقاب السجائر و بقع انسكاب القهوة ..
على الرغم من المآخذ الكثيرة على شعر "بانيرو"، لعنفه الشديد بالتصوير و بصقه على الواقع و عدم مبالاته بأى خطوط حمراء اخلاقياً و عقائدياً .. إلا أن الحالة التى يمثلها جعلت النقاد – و إن اعترضوا على أسلوبه – لا يستطيعون تجاهله اطلاقاً كواحد من أهم الشعراء في تاريخ أسبانيا بشكلٍ عام .. ليعتبرونه واحداً من جيل نجح في كسر حاجز الواقعية الشعرية الأسبانية منذ عقود ..
يظهر عنف الصور و سوداوية الكاتب في قصيدته "الخراب يصنع لي بياتريس" ..
آه ايتها الحياه، أخبريني
أنت، التى لا تنطقين
أخبريني
ما الطريق الذى لا يفضي إلى الروث
و لا تكون فيه النطفة دموعاً
آه، يا بعلزبول !
هي ذي هديتي للذباب
هي ذي حياتي بأكملها
أضحية للذكرى
هكذا تمضى معظم قصائد "بانيرو" التى يكون هو البطل فيها غالباً، أو تكون حواراً مع ذاته أو وصف لنفسه .. و هذا ما عناه البروفيسور "خوان أنطونيو ماسوليفر"، أستاذ النقد الأدبي بجامعة "وستمنستر" بلندن، حين قال أن عيب قصائد "بانيرو" الأهم هو أنها تحوى الكثير من ذات "بانيرو" نفسه .. و هذا يؤكده قول "بانيرو" عن شعره بأنه "شرف للورق الذى يكتب عليه" ! ..
يرى "ماسوليفر" أيضاً أن أحياناً ما يتصنع "بانيرو" الجنون .. و تلك من أكثر المآخذ على "بانيرو" حتى من عشاق كلماته، أنه يدخل نفسه في أعماله بأسلوب حياته البوهيمي الملئ بمزيج غريب من الجنون و شرب الخمر و التدخين بغزارة – مائة سيجارة يومياً ! - و المخدرات، برغبة في تدمير الذات معنوياً و مادياً لا توجد بهذه الصورة إلا عند "ليوبولدو ماريا بانيرو" ! ..