كنيسة فلسطين المارونية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نبذة تاريخية
الكنيسة المارونيّة هي كنيسة شرقيّة أنطاكيّة كاثوليكيّة، استقت روحانيّتها من بطريركيّة أنطاكيا العريقة، حيث تكوّنت أوّل جماعة مسيحيّة خارج الأرض المقدّسة، من أصول وثنيّة وليس فقط من اليهود المهتدين، وبها دعي أتباع المسيح للمرّة الأولى "مسيحيّين" (أعمال 11، 26ب). وفق التقليد، فإنّ سمعان بطرس، الأوّل بين الرسل، الذي أوكله الرب بصورة خاصة خدمة رعاية المؤمنين (يوحنا21: 15 - 17)، هو من أسّسها وسهر عليها، قبل انطلاقه واستشهاده مصلوبًا بالمقلوب في مدينة روما، ولا عجب في أن يتخذ البطريرك الماروني بعد اسمه مباشرة لقب بطرس نسبةً إلى المؤسّس.
لم تتوقّف الكنيسة المارونيّة عند التقليد الأنطاكي السرياني الذي ورثته منذ نشأتها مع القدّيس مار مارون (350 – 410) الذي أتى على ذكره المؤرّخ تيودوريتوس أسقف قورش في كتاب "تاريخ أصفياء الله" (ص 145-146 + 167) والقدّيس يوحنّا فم الذهب بطريرك القسطنطينيّة (347–407) في رسالة إليه سائلًا إيّاه الصلاة لأجله، ومع البطريرك مار يوحنّا مارون (انتُخب بطريركا أوّل عليها عام 685، إثر وفاة البطريرك ثيوفانس في القسطنطينية وشغور الكرسي الأنطاكي، ورقد في الربّ عام 707)، بل طوّرت هذا التقليد الأقرب إلى التقليد الأورشليمي الأصيل، بغنى تراثيّ عظيم، من جيل إلى جيل، تشهد له بنوافيرها الغفيرة وصلواتها العميقة وألحانها التي طالت تراث الشرق والغرب، ممّا لا يسعنا التوقّف عنده في هذا المقال.
الحضور الماروني في الأرض المقدّسة
يستغرب البعض حضورنا الماروني في هذه الأرض الطيّبة، أرض المسيح والعذراء والرسل والآباء، ونرانا مجهولين في نظر الكثيرين، في حين أنّ الوديعة التي يحملها حضورنا هنا، إن أخذنا بعض العمق في التأمّل، لا تقدّر بأيّ ثمن. ظنّ البعض أنّ الموارنة حديثو العهد في فلسطين التاريخيّة، في حين أنّ لهم جذورًا عميقة ضاربة فيها، نستقي بعضًا منها من وثائق تاريخيّة، وبعضاً آخر من تحليلات موضوعيّة سليمة إذ إنّ كثيراً من الوثائق فُقدت، ومن المعلومات ضاعت أو غُيِّبَت في صفحات التاريخ الغابر، ويا حبّذا لو تخرج إلى النور يوماً.
الجذور
في القرن الخامس ميلادي، زارت القدّيستان الشهيرتان مارانا وكيرا، تلميذتا القدّيس مار مارون، القدس، وأتمّتا بها مراسيم العبادة، بعد صوم شاقّ وطويل (ذكره المؤرّخ تيودوريتوس أسقف قورش في كتاب "تاريخ أصفياء الله" ص 231 + 232)، ولا بدّ أنّهما تركتا أثرًا ما في الجماعة المسيحيّة المحليّة هناك، ولربّما أستقطبتا البعض إلى هذه الروحيّة الجديدة الناشئة.
يذكر المؤرّخ ريستيلهيبير (Ristelhueber, R., Les Traditions FrançaisesAu Liban, Paris, 1925 ص58)، الوجود الماروني في القدس، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ويتحدث كذلك المؤرّخ Arce Agustin عن الوجود الماروني في القرن الرابع عشر، وعلاقة الموارنة بالرهبنة الفرنسيسكانيّة، وحكمتهم وأمانتهم للتعليم الصحيح (راجع 1516-1450Arce, Agustin. Maronitas Y Franciscanos En El Libano ص149-269). ويتكلّم المؤرّخ الأرمني عارف العارف، عن موارنة القدس عام 1320أنّهم كانوا من أهم الأعمدة المسيحيّة (العارف، المسيحيّة في القدس، 1951، ص. 149 – 150 )، ويذكر المؤرخ بطرس ضو، الوجود الماروني في القدس، في تلك الحقبة (راجع تاريخ الموارنة الديني والسياسي والحضاري1367 – 1840).
يذكر المؤرّخان إسطفان الدويهي (تاريخ الموارنة طبعة الشرتوني 1890 ص 493) وشبلي (راجع . Mélanges et Documents II, Beyrouth, 1970 ص 127 – 135) الوجود الماروني في الأراضي المقدّسة، وامتلاك الموارنة كنيسة القدّيس جورج، وتَرِد لاحقًا في دفتر T.D. 516 من دفاتر التحرير العثمانيّة المبكّرة (راجع المجلّة الأردنيّة للتاريخ والآثار المجل ّد ٥، العدد ٢٠١١ ،١م ) خانتان مارونيتان، بين نصارى القدس الملكيّين، ممّا يدلّ على وجود ماروني في القدس (راجع أيضا المؤرّخ عارف العارف: العارف، المسيحية في القدس ، ص 148–152 والقضاة، نصارى القدس، ص 130 – 132) في رسالة الأخ غريفون إلى الموارنة بحسب الدكتور متي موسى: "كان الراهب الفلمنكي الأخ غريفون أحد هؤلاء الأخوة الفرنسيسكان البارزين، تلقى غريفون تعليمه في باريس، حيث درس اللاهوت واللغة اليونانية. وعلى غرار العديد من الرهبان الأتقياء، تملكته رغبة شديدة لزيارة الأماكن المقدسة في أورشليم، ممّا دفعه إلى القيام برحلة إلى فلسطين قبيل نهاية سنة 1442. وعاد إلى روما بعد عامين يرافقه وفد ماروني إلى البابا يوجين الرابع. من المرجّح أنّ غاية الوفد كانت الاستعانة بالبابا لتقديم المساعدة إلى الكنيسة المارونية وطائفتها. وقد استجاب البابا كما تمت روايته سابقًا، وعيَّن بطرس دي فيرارا موفدًا له إلى الموارنة والملكيين عام 1444. عاد غريفون إلى فلسطين مع بطرس دي فيرارا عام 1444".
تشير وثائق سجل محكمة القدس الشرعيّة، رقم 331 (الصادرة في نصف جمادي الثانية في 17 أيّار 1849، ص. 81) إلى الوجود الماروني في القدس وتذكر منهم "فرنسيس ولد مخائيل راحيل" و"هيلانة بنت ياقوب راحيل"، وعند اندلاع الحرب عام 1860 في لبنان، أتى الكثير من الموارنة من لبنان إلى القدس، بحثًا عن الأمن والاستقرار، ممّا لحق بهم من قتل وأذى. يُذكر منهم أنطوان بشارة الماروني البيروتي وحبيب الماروني البيروتي والشيخ خطّار بين عبيد بن حاتم البيروتي وميخائيل بن يوسف طنوس الماروني (سجل محكمة القدس الشرعيّة 349، 372، 390).
استقرّ بعض الموارنة في مدينة يافا، منهم الخواجة أسعد الخيّاط والخواجة يوسف الخيّاط (جريدة البشير 17 أيّار 1893)، وقد كان عددهم عام 1847 نحو 700 نسمة (قضاء يافا في العهد العثماني لمحمّد سالم غثيان الطراونة ص 454) ومنهم الخوري سليم أفندي وهو من كبائر الكنيسة المارونيّة (البشير 10 نيسان 1895 ص 1)، وفي القدس توسّعت الجالية المارونيّة، واشترى فيها الخواجة ميخائيل بن رؤوف بن سليمان الماروني، قطعة أرض في الجهة الغربيّة من بيت المقدس (سجل محكمة القدس الشّرعيّة 361)، وعُيّن الخوري لويس الدحداح فيها ليشرف عليها روحيّا (البشير 16 شباط 1889 ص 3)، وسعى البطريرك مار يوحنّا بطرس الحاج في نهاية القرن التاسع عشر إلى إقامة نيابة بطريركيّة مارونيّة فيها، فاشترى قطعة أرض واسعة في "جبل صهيون" قرب برج داود (البشير 10 نيسان 1895 ص 1، 17 نيسان ص 1) من قنصل دولة ألمانيا (الوجود المسيحي في القدس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، الدكتور رؤوف سعد أبو جابر) وتمّ بناؤها وتعيّن عليها المطران الياس الحويّك نائبا بطريركيًّا، وخلفه الخوري يوسف المعلّم (البشير 22 شباط 1897 ص 3) وكانت تتبع الأبرشيّة آنذاك إلى رئيس أساقفة صور وصيدا، المطران بطرس البستاني. لاحقا استُدْعي المطران إلياس الحويّك إلى لبنان عام 1896 وانتُخِب بطريركًا للكنيسة المارونيّة عام 1899. وكان الموارنة قد انفردوا في استقلالهم عن سلطة السلطان العثماني، فلم يكن البطريرك الماروني يُعَيَّن من قبله (للمزيد من التوسّع راجع كتاب نصارى القدس، دراسة في ضوء الوثائق العثمانيّة، الدك. أحمد حامد إبراهيم القضاةـ، وراجع THE MARONITES OF THE HOLY LANDA HISTORICAL OVERVIEWBy Father Louis Wehbe, O.C.S.O.Latroun Monastery, The Holy Land).
الحضور الآني في الأرض المقدّسة
تشير الإحصاءات الأخيرة التي تمّت في 1 أيّار 2014 لمواطني الأراضي المقدّسة في الداخل (فلسطين المحتلّة) إلى الآتي: 8.180 مليون مواطن، عدد اليهود 6.135 مليون (أي 75.0 في المئة) عدد العرب 1.694 مليون (أي 20.7 في المئة)، ضمنهم المسلمون السنّة والدروز والمسيحيّون العرب، كما ينتشر 351 ألفاً من فئات أخرى كالمسيحيّين غير العرب أو العمّال الأجانب الشرعيّين. وفق إحصاء سابق تمّ لمسيحيّي الداخل في 24 كانون الأوّل 2013، تبيّن أنّ المسيحيّين يشكّلون 161 ألف نسمة من مجمل 8 ملايين شخص (أي 2 في المئة)، 127 ألف نسمة منهم هم من المسيحيّين المحلّيين العرب، والباقون (أي نحو 34 ألف نسمة) من المسيحيّين الجدد غير المحليّين.
نسبة الولادات لدى المسيحيّين هي الأقل، وتوازي 1.9 للعائلة، وهذا يعود إلى أسباب عدة، منها رفض كثير من المسيحيّين بأن يترعرع أبناؤهم في ذُلّ وفقر وعوز، ومنها الحال الأمنيّة الصعبة في المنطقة، والقلق الموجود حيال استراتيجيّات يطرحها اليمين المتطرّف، كمشروع "الترانسفير" الذي ينادي بطرد كل من ليس بيهودي من هنا، ونقله إلى مكان آخر، ومنهم من يتخوّفون من التيّارات التي تدعو إلى جعل الدولة فقط لليهود ونقل كل العرب فيها إلى ما تبقّى من فلسطين الجغرافيّة تحت حكم السلطة الفلسطينيّة.
أثبتت الإحصاءات الدوليّة تفوُّقا ملحوظا للمسيحيّين في مجال القبول في الجامعات العليا والنجاح في البكالوريا: فكانت نسبة المقبولين في الجامعات العليا كالآتي: 61 في المئة مسيحيون، 51 في المئة يهود، 45 في المئة دروز، 35 في المئة مسلمون. أمّا نسبة النجاح في البكالوريا فهي كالآتي: 69 في المئة مسيحيّون، 64 في المئة دروز، 61 في المئة يهود، 50 في المئة مسلمون. وهذا مهم لإعطاء شهادة متواضعة لواقعنا في هذه الأرض. عدا ذلك فإنّ المدارس المسيحيّة الأهليّة تتميّز عن سائر المدارس بمستواها الرفيع وبخلقيّاتها، فيتهافت إليها الجميع من مسلمين ودروز بنسب عالية، ومن اليهود أيضا بنسب أقل، وهي شهادة رائعة لاحتضان مدارسنا للجميع من دون تفرقة، وجلبهم إلى قمم التميز في التربية والتعليم؛ هذا عدا المستشفيات المسيحيّة والمآتم والمؤسّسات الخيريّة على أنواعها، التي تتميّز بروحيّة طيّبة ومميّزة في هذه الأرض.
يتميّز مسيحيّو الأراضي المقدسة بفاعليّتهم الإيجابيّة، خصوصاً في مجالات التربية والتعليم والثقافة والأدب والصحافة والفن والحقوق والطّب. يكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، القاضي المتميّز سليم جبران، المولود في قرية الجشّ في الجليل الأعلى، الذي يعمل في محكمة العدل العليا، بأعلى المستويات، وقد حصل منها على شهادة إمتياز شرفيّ منذ زمن قليل، وهو ابن رعيّة مار لويس المارونيّة، حيفا. نذكر أيضا القاضي إيناس سلام رئيس المحكمة المركزيّة في حيفا وضواحيها، التي يخضع لها ما يقارب 300 ألف مواطن. ونذكر الممثّلين يوسف أبو وردة، نورمان عيسى، سهيل حدّاد، مكرم خوري، سليم ضو الذين قدّموا الكثير الكثير. نذكر بعض الأدباء المسيحيّين أيضا كحنّا أبو حنّا وإميل توما والمؤرّخ جوني منصور؛ وغيرهم كثيرين.
الموارنة في الأراضي المقدّسة
يقارب عدد الموارنة في الأراضي المقدّسة الـ 10 آلاف، منهم نحو 7.500 ألف ماروني محلّي: 3500 نسمة في مدينة حيفا، 1800 نسمة في قرية الجش، 1000 نسمة في مدينة الناصرة، 200 نسمة في عسفيا، 500 نسمة في عكّا والمكر، و500 نسمة في القدس. وهناك نحو 2500 ماروني لبناني، ممّن استوطنوا في البلاد في الأعوام 1982 – 2000. لقد مررنا كموارنة محلّيين في ظروف قاسية جدّا، منذ نكبة عام 1948 التي هُجّرت فيها القريتان المارونيّتان، المنصورة وكفر برعم، ولا يسعنا إلاّ أن نذكر الخوري يوسف إسطفان سوسان، الذي واكب قضيّة بلدته كفر برعم واحتمل لذلك المشقّات والمتاعب الكثيرة كفرض الإقامة الجبريّة وغيرها. وخضعت آنذاك قرية الجش ذات الغالبيّة المارونيّة ومسقط والدَي القدّيس بولس الرسول (Eugene Hoade,Guide tothe Holy Land , 1984 ص 772، والقدّيس جيروم في كتابه رجال مشاهير) للحكم العسكري وقُتل فيها من قُتل من الموارنة ومن الطوائف الأخرى، ومنهم من الأقارب المقربين إليّ، إلى أن تدخّل الشمّاس العلاّمة أتناس عقل، عبر علاقة دراسيّة قديمة ربطته بشخص صار له يد في السلطة الجديدة، فمنع سلسلة القتل التي ضربت البلد بأهلها وأوقف خطّة تهجيرهم التي كانت قيد التنفيذ. الجدير ذكره، هو النضال الدائم الذي تمتّع به الموارنة عمومًا والبراعمة خصوصًا عبر الأجيال، في سبيل إستعادة قريتهم المسلوبة، كفر برعم المارونيّة، وقد هُجّروا منها بوعد كاذب بالعودة خلال أسابيع إليها، فالتجأوا إلى قرية الجش التي احتضنتهم تحت كنفها، إلى أن تراهم في موضع "مبكى البراعمة" في بيادر الجش، ينظرون من بعيد بيوتهم تتساقط أمام أعينهم مع كلّ ما فيها من ممتلكات وذكريات، من دون رحمة وأمانة. لا يسعني إلاّ أن أذكر فضل المطران بولس الصيّاح النائب البطريركي العام، وهو الذي عيّن مطرانا على أبرشيّة حيفا والأراضي المقدّسة، وإكسرخسًا على مدينة القدس والأراضي الواقعة تحت السلطة الفلسطينيّة، وإكسرخسًا على أراضي المملكة الأردنيّة الهاشميّة، عام 1996، ومعه بدأت في الأبرشيّة حركة انتعاش عميقة، وحسّ نبض جديد، ومن ثمّ تعيّن بعده المطران الحالي موسى الحاج، على أبرشيّة حيفا والأراضي المقدّسة، ليكمل مسيرة الخدمة بروح رسوليّة ملحوظة ورحابة صدر، فتمّت رتبة إجلاسه في شهر تمّوز 2012 ثمّ سلّمه الكرسي الرسولي مهمّة مدبّر رسولي لأبرشيّة الروم الكاثوليك في عكّا، حيفا وسائر الجليل، بارك الرب أتعاب محبّته.
من ألمع شخصيّات موارنة الأرض المقدّسة، المطران العظيم إلياس فرح. هو الياس بن عبد الله جريس فرح، مولود قرية كفر برعم المهجّرة، عام 1909، أتمّ دراسته المتوسّطة والثانويّة في المعهد الشرقي للجامعة اليسوعيّة في بيروت، التي تكللّت بفوزه بالمرتبة الأولى، في امتحانات البكالوريا، في لبنان، ثمّ أكمل علومه الجامعيّة، في الجامعة اليسوعيّة، فحاز الإجازة في الفلسفة، والإجازة في اللاهوت، ورقّاه المطران عبد الله الخوري الى الدرجة الكهنوتيّة، في 20/4/1935 ومن ثمّ درّس الأدب والفلسفة العربيّة في مدرسة الأخوة المريميّين – جونيه، وفي مدرسة مار يوسف – عينطورة 1935-1939 وعيّنه المطران عمّانوئيل فارس خادمًا لرعيّة الاسكندريّة، في مصر، عام 1940، فلبث فيها الى أن أصدر الكرسي الرسولي قرارًا بتسقيفه على أبرشيّة قبرص، عام 1945 وكانت رسامته الأسقفيّة في 26/10/1954، فشرع بهمّة عظيمة في العمل على تعزيز الحياة المسيحيّة في الرعايا والمدارس والأخويّات والمنظمات، وحض البلديّات على المساهمة في هذه النهضة الروحيّة. أسسّ "فرسان العذراء" للأحداث عام 1958 والطلائع أيضا، وعززّ التعليم الديني في المدارس الخاصّة والرسميّة، وكانت له اليد الطولى في تأسيس "مركز الثقافة الدينيّة" لإعداد معلّمي التعليم المسيحيّ، وأضاف إليه في ما بعد، "مركز التعليم والرسالة" عام ١٩٥٩. شيّد عددًا وافرًا من الكنائس، ورممّ البعض الآخر، وخصوصاً كنيسة السيدة في نيقوسيا وأكمل كنيسة الكرسيّ الأسقفيّ، في قرنة شهوان. وسعى في سبيل حصول الموارنة على مقعدٍ في مجلس النوّاب القبرصيّ. كما شجّع الراهبات الأنطونيّات على فتح رسالة لهنّ في نيقوسيا. وحين قسّمت جزيرة قبرص قطاعين، بذل جهده مع المسؤولين الأتراك، للمحافظة على أملاك الموارنة في القطاع التركيّ. تأسّس في أيّامه مركز مار يوسف الاجتماعيّ (مؤسسة أبي حمد) في حارة صادر (1970) لاحتواء عدد من المشاريع الخيريّة والاجتماعيّة في المنطقة. واهتمّ بمساعدة المنكوبين والمهجّرين، على أثر أحداث 1975، في لبنان، التي بسببها، تشرّد الكثيرون، ودُمّرت منازلهم، ونُهبت مقتنياتهم أو أُتلفت، فأسسّ "الحركة الاجتماعيّة الإنمائيّة" التي كانت تحمّلت، أيضًا العبء الأكبر إثر أحداث 1973. وقد تخلّى المطران فرح لهذه الحركة، عن كرسيّه في أنطلياس، ووضع في تصرّفها ما في الأبرشيّة من طاقات بشريّة وماديّة ومعنويّة، تمكينًا لها من القيام بخدمتها. وخصّه البابا يوحنّا بولس الثاني برسالة معبّرة، حمّله فيها تهانيه وأحرّ دعائه وبركته الرّسوليّة. آمن بدور العلمانييّن، وكان من المشاركين في المجمع الفاتيكانيّ الثاني 1962 - 1965، وكثيراً ما استدعى منهم أصحاب الاختصاص والرأي، يؤازرونه في التصميم، ووضع الخطط العمليّة، ودراسة معالم الخدمات في الأبرشيّة. رأس اللجنة الأسقفيّة للإعلام الكاثوليكيّ، ووضع البرنامج الديني في الإذاعة اللبنانيّة وغيرها. خلّف كتابات فلسفيّة وروحيّة وتعليميّة، منهــا المطبـــوع ككتابــه عن الفارابي (1937) ورسائله الأسقفيّة، وكتابه عن "دور المدرسة في إحياء الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة" (1967) وغيرها، ومنها مخطوط عن جبران خليل جبران (1939) ومجموعة تأبينات ومواعظ ومحاضرات وإرشادات للمتزوّجين الجدد، وغير ذلك، ممّا لا يسمح المجال لذكره بالتفصيل. أسس مدرسة مار يوسف – قرنة شهوان وسان جورج – الزلقا والعديد من المدارس المجانية، وهو من جلب راهبات يسوع ومريم الى لبنان (Jesus and Mary school)، ونرى اليوم ثمار أتعابه، وهو الذي أسّس معهد الثقافة الديني العالي ومركز الدعوات الكهنوتيّة وصندوق الكاهن وغيرها الكثير (راجع أرشيف أبرشيّة أنطلياس، الخوري جان الرامي، مئة وعشرون عاماً من تاريخ مدرسة القديس يوسف في قرنة شهوان (١٨٤٤ - ٢٠٠٤)، ٢٠٠٤ ص ٤١، مقابلة مع المطران الياس فرح حاورته السيّدة ماري غنيمه من كلية العلوم السياسية والإدارية).
زيارة البطريرك الراعي للقدس مع البابا فرانسس 2014
مرّت الأبرشيّة المارونيّة في البلاد بأزمات شاقّة، ذكرتُ منها القليل أعلاه وباقتضاب شديد، ومن لا يعرف قساوة العيش كغرباء في أرض الوطن لمن استطاع البقاء، وكمشتّتين في بلاد الاغتراب لمن هُجّر، من دون أن يكون لهم إلى العودة سبيل. وكم تاقت هذه الجماعة المسيحيّة أن يأتي إليها من ينظر إلى جبروت صمودها وشهادتها بعين تقدير واعتبار. نعم، قد نالت الحروب منّا الكثير، خصوصاً كأقلّيّة مسيحيّة داخل أقليّة عربيّة تحت سقف دولة يهوديّة في تعريف دستورها، وها نحن نلمح على بعد النظر شخصًا عظيمًا يأتي إلينا كأنّه استباق لمجيء الرب! فإنّنا على قلّة عددنا وبؤس ما قد احتملنا، نرانا في لهفة اللقاء مع غبطته، تبارك الربّ به، فهو راعينا وأبونا وبطريرك كنيستنا، لا بل إنّه يحمل الشرق بأسره في قلبه، لا فقط بموارنته ولا فقط بمسيحيّيه، بل بجميع طوائفه وأديانه! ونيافته كاردينالًا يحمل همّ الكنيسة جمعاء في قلبه، والمتأمّل يعلم ما لهذا الرّجل الصالح من نيات الخير وأفعاله، حبانا الرب نعمة الإبصار!
وفي حين أنّ البطاركة الذين يستقبلون قداسة البابا في الأردن وفي الأرض المقدّسة كُثُر، بينهم على الأرجح بطريرك الكلدان من العراق وبطريرك الاقباط الكاثوليك من مصر وبطريرك السريان الكاثوليك وبطريرك الروم الكاثوليك الملكيين من سوريا وبطريرك الأرمن الكاثوليك، وفي حين أن مسلمي فلسطين المحتلّة لهم الإذن بالذهاب للحج إلى مكّة كلّ سنة، نرانا أمام تعدّيات مشينة لشخص البطريرك الماروني، وهو الملزَم قانونيّا زيارة أبرشيّات كنيسته أقلّه مرّة كل 5 سنين، والملزم أدبيّا إستقبال قداسة البابا في نطاقه البطريركي لأنطاكيا وسائر المشرق، والملزم ضميريّا وإنسانيّا أن يخطو صوب أرض المسيح والأنبياء والرسل، ليكون على صورة المسيح، إشعاع محبّة وتضامن وسلام، يعيد بهاء القدس!
له أقول: نحن يا سيّدنا الحبيب ننتظرك، بفارغ الصبر وخالص الحب وشدّة الشوق، وفي هاماتنا فخر في موقفك الجريء، لقد قبلت أن تتحدّى صغار النفوس، الذين أرادوا أن يُبعدوك عن رعيّتك وعن أرضك وعن قدسك وعن واجبات ضميرك ونقاء مسيحيّتك ورقاء رسالتك، أمّا نحن القطيع الصغير فبسعف الشعانين الحبّية نهتف "مبارك الآتي باسم الرب"، نعم زيارتك الروحيّة والرعويّة هي باسم الرب، وقد حاول الكثيرون أن ينالوا منها عن خبث ومكيدة، ليجعلوها باسم سياسات حيطانهم الفاصلة وعقولهم المتحجّرة وشعاراتهم التّكفيريّة، وأنت المنزّه جدّا عن ذيول هذه الشوائب، بل ولأنّك كبير في شخصك، مرموق في هامتك، تراهم يتعدّون عليك ويتطاولون، في حين أنّ بعضهم ينهشون بأرض الأرز الحبيب من وراء كواليس الظلام، ويمتصّون دماء الأمّة باسم الأوطان! أمّا نحن فقد تعلّمنا بربّنا سموّ الغفران، وعظمة الإنسان، لا مواقف النفاق والبهتان، باركنا الربّ بقدومك أيّها الجبّار، وبارك دربك بصلواتنا الوضيعة، ونحن في الانتظار، بشموخ صائب وافتخار!
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المصادر
- مجدي هاشول (2014-05-24). "كنيسة فلسطين المارونية". صحيفة النهار اللبنانية.