فهم الجهل

فهم الجهل
Daniel DeNicola Understanding ignorance.jpg
المؤلفدانيال دى‌نيكولا
الناشرMIT Press
تاريخ النشر
2017

فهم الجهل Understanding Ignorance

تأثير الجهل

إذا كانت المعرفة موضوع كبير فالجهل أكبر بكثير، ما يجعله مثيرًا للاهتمام.

ستيورات فيريستن

كل مكان من حولنا يزخر بالجهل، والمخاطرة الحقيقية أن تشك في هذه الفرضية، وإلا صرنا مثلًا يضرب به في هذه الحالة. فإن جهلنا (سواء أكان فرديًا أم جماعيًا) هو بحر شاسع لا يسبر غواره، وما نعرفه ما هو إلا جزيرة صغيرة وغير آمنة. حتى أن شاطئها غير مأمون: عبر التاريخ البشري ومع كل الأبحاث نتأكد أن ما نعرفه أقل مما نعتقد، في الواقع جهلنا واسع بما يتجاوز حساباتنا. كما أن الجهل يدوم، ولا يزال قائم، نشعر أن الأمور هادئة بسبب هشاشتها الظاهرية فقط، وهنا أقتبس من مقالة اوسكار وايلد والتي نقلت عنها كثيرًا "الجهل يشبه الفاكهة الغريبة الحساسة، بمجرد أن تلمسها تزدهر أزهارها، ثم لا تلبث تذبل وتتلاشى مع أول لمسة للتعلم. ولكن حتى مع تلاشيها فالجهل لا يعتريه للخطر، فقط يكون كالأزهار الحساسة لكنه من النوع القوي مثل نبات الكشت السبروتي "Kudzu" فعلى الرغم من انتشار التعليم الإلزامي الشامل وعلى الرغم من الأدوات الجديدة للتعلم والتقدم المعرفي الهائل، والقدرة على حفظ كميات هائلة من المعلومات والوصول إليها ومشاركتها، بكميات وأرقام يحبس الأنفاس، إلا أن الجهل يزدهر.

قد يتساءل المرء لما يبدو الحال على ما هو عليه؟ هل يزدهر الجهل لأننا جاهلون؟ هل نفتقر –ببساطة –إلى المعرفة الكافية –أو المعرفة الصحيحة لجعل الجهل يتراجع؟ لعل استمراره تمثيل لإخفاقنا، أو ضعف مشين في إرادتنا، أو جريرة للكسل المعرفي، وكأن الجهل قذارة العالم التي تأبى على التنظيف بعناد أكبر من جهودنا الدؤوبة لتنظيفه تمامًا، ليظل معنا للأبد! أو الأسوأ من ذلك، هل من الممكن أن يؤدي المزيد من التعلم إلى زيادة جهلنا فعليًا مثل التخلص من وصمة عار تنتشر فقط مع كل محاولة لاستئصالها؟ فقد أصبحت الفكرة كأنها نمط ثابت مبتذل "اكلشيه": كلما علمنا أكثر، كلما عرفنا أننا لا نعرف. هل يعقل أن يكون الابداع بسبب الجهل؟ كل هذه التساؤلات وغيرها من الأسئلة توضح رغبتنا في الحل، ومن المفارقات أنها لا تنتج إلا بسبب الجهل ومن رَحِمه، فالجهل هو المصدر والهدف وراء كل هذه الأسئلة ومثيلاتها. التصور بهذه الطريقة يشي بجلال غامض، حد التسامي، مع ظلمات جهلنا الممتد، والمتراكمة بعضها فوق بعض منذ العصور القديمة، مما يزيد الشكوك في أن المعرفة فعلًا بعيدة المنال، وأنه في نهاية المطاف يصبح التعلم لا طائل من ورائه. وكما في كتاب سحابة الجهل للكاتب المجهول من القرن الرابع عشر: "انتقل الأخرون إلى استسلام شجاع، بالتخلي عن ادعاء المعرفة للبحث عن سموٍ صوفي"، حتى أولئك الذين يؤكدون بكل حزم على قدرة البشرية على المعرفة الأصيلة، هؤلاء الذين يقدسون المعرفة أو الفهم كأعلى منتجات البشرية، ربما لا يزالون يشعرون بالرهبة من حصن الجهل الضخم والمنيع بل والخالد.

الجهل يلتهم كل واحد منا، مهما كان ذكيًا وعلى دراية قوية، فقد أفسده الجهل، فالجهل الشخصي أو الجماعي يؤدي إلى خسائر فادحة كل يوم، تأتي أخبار الصباح بأنباء عن صديق توفى بسبب مرض لا نعرف له علاج، أو بجريمة مروعة تسببت فيها الكنيسة بجهل وضع المسئول عن الأطفال والشاذ جنسيًا، عن الخراب المالي واليأس والغضب الذي يستحوذ على ضحايا كانوا أمنين بعد الاحتيال عليهم في استثمار زائف، أو ذلك السياسي الذي سقط في العار والحسرة له ولعائلته، التي كانت غير معروفة، وكثير من الطيبين والأصدقاء، أو عن شعب ينخرط في الاضطرابات لأنه لا يعرف ما إذا كانت أصواته الانتخابية تحتسب أم لا، أو بألم لهؤلاء الذين فقدوا أعزاء عليهم بسبب كارثة طبيعية كنا نجهل حدوثها، ومصيرهم غير معروف ربما للأبد. جهلنا يثقلنا، يستفزنا، حتى عندما ننسى كلمة السر أو شفرة القفل -إذلال، أو عندما يعرف أقراننا كلمة السر الخاصة بنا، نحن لا نعرف شيئًا مما ينبغي لنا معرفته، أمر مخيف ومقلق، أو عندما يختفي شخص ما ببساطة دونما تفسير، أو عندما يخبرنا الطبيب أن سبب وفاة صديقي لن تعرف أبدًا.

الجهل متورط في كل معاناتنا تقريبًا، يجعلنا فريسة لأخطائنا وحماقتنا، فهو قادر على تهديد كل شيء من حولنا، كل ما نعتبره ذا قيمة، أليس الجهل محنة كئيبة، وبلاء عظيم، ولغز عميق؟

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجهل العام

يخبرونا بأننا نعيش في عصر المعلومات ومجتمع المعرفة، فنحن نحمل أجهزة صغيرة تتيح لنا الوصول إلى مصادر هائلة من المعرفة الإنسانية ومشاركتها بشكل يكاد يكون فوري مع كل الأشخاص حول العالم تقريبًا، لكن هذا العصر أيضًا يطلق عليه "عصر الجهل" فالمفكرون ذائعي الصيت يشجبون "ثقافة الجهل المعاصرة" –خاصة في الولايات المتحدة، على سبيل المثال وليس الحصر، فالتناقض مقلق ومحير في آن واحد، فالجهل يتصدر الأحداث، هذا النوع من الجهل الذي يثير القلق هو ما يمكن تسميته بالجهل العام، والذي أقصد به الجهل المستهجن وواسع الانتشار خاصة فيما يتعلق بالمسائل الحيوية والتي تخص حياة كل فرد منا، الأمية الوظيفية والأمية الحسابية هي أمثلة على ذلك، قد يكون التعليل الأقرب –وليس مبررًا –أن العلة في نقص الفرص التعليمية الجيدة، ولكن قد يكون هذا الكلام بلا عقل عند تطبيقه على البلدان ذات الموارد التعليمية المتميزة، علاوة على ذلك، قد يكون معدل الامية الوظيفية اليوم في أمريكا أعلى مما كان عليه في مستعمرة نيو إنجلاند.2 إن معدلات الأمية الوظيفية والحسابية المرتفعة عار قومي، بلا شك، علاج هذا الجهل هو بالتعليم –باستثناء أن العديد من أنماط الجهل هذه تزدهر برغم سنوات الدراسة بين الطلاب الشباب الذين لم يكملوا تعليمهم –النقص في المعرفة الأساسية ليس أمرًا مفاجئًا أو يدعو للدهشة، بل قد يكون مدعاة للهزل عندما يعلق المعلمين على أخطاء التلاميذ لكن عندما يتعلق الأمر بتعليم البالغين، تتحول الدهشة إلى صدمة وتتحول التسلية إلى مأساة، فسوء الفهم الجسيم للتاريخ، والمفارقات التاريخية الباطلة، والأخطاء الجغرافية المروعة، والبلادة العلمية والأدبية هذه، كما يظهر من الدراسات الاستقصائية بشكل منتظم، أمر محبط للغاية.3 فالجهل السياسي وبخاصة في الديمقراطيات المتقدمة، أمر مقلق بشكل خاص، لقد أبدى الطغاة وغيرهم في الأنظمة الاستبدادية كل التقدير للدوائر الانتخابية المنغمسة في الجهل، فقد لاحظ كلود أدريان هيلفيتيوس، الفيلسوف في القرن الثامن عشر: "لقد اعتبر بعض السياسيين أن الجهل مواتٍ وإيجابي للحفاظ على سلطة الحاكم، بمثابة دعم للتاج وحماية لشخص الأمير، جهل العامة مواتٍ أيضًا للكهنوت."4 على النقيض من ذلك تمامًا فالديموقراطيات –من الناحية النظرية على الأقل –تعتمد في الأساس على المواطن المستنير، لكن لسوء الحظ أصبحت مشكلة الجهل السياسي في الولايات المتحدة خطيرة إلى أن المواطن المستنير المثالي أصبح يبدو بدائيًا. والأمر يتجاوز بكثير عدم معرفه أسماء وفد الكونغرس: ففي دراسة استقصائية أجراها مركز الدستور الوطني، لم يستطع ثلث المجيبين تسميه اي من حقوق التعديل الأول، ولم يتمكن لأغلبية الباقيين من تحديد سوي حرية التعبير؛ 42% يعتقدون ان الدستور ينص صراحة على ان "اللغة الأولي للولايات المتحدة هي الانجليزية"؛ ويعتقد 25% ان الدستور قد نص على أن المسيحية الدين الوطني الرسمي. وفي دراسة استقصائية ثانية، لم يعرف 41% من المجيبين أن هناك ثلاث فروع للحكومة؛ 62% لا يمكنهم تسمية كل منهم؛ و33% لم يتمكنوا من تسمية أيًا منهم. 5

في ظل هذه الاحصائيات الكئيبة، والتعصب والجهل السياسي، يرى بعض العلماء حاجة ملحة لمراجعة النظرية الديمقراطية بناء على ذلك، بل يؤكد البعض أن الرأسمالية تفضل انتشار الجهل بين جمهور المستهلكين، وإذا كان الجهل الشامل بالمسائل السياسية هو "الوضع الطبيعي الجديد" كما يذكر أحد الباحثين السياسيين، فنحن أمام حكومة أصغر حجمًا، وأكثر محلية، واقل أهمية 6 (على اعتبار أنني ألمح إلى أن تخفيض الحكومة وفروعها سوف يقلل من مصالحنا العامة، ومشاكلنا الحياتية).

تعتبر اللغة أقوى وسائل التواصل بين البشر، وهي ساحة أخرى للجهل العام، ففي الولايات المتحدة الامريكية يشعر كثير بالحرج والاستياء لعدم قدرتهم على اتقان لغة ثانية (في الأغلب، بالرغم من سنوات التعليم) بوتيرة مثيرة للقلق، يقترن مع عدم القدرة عداء تجاه الكلام "الأجنبي". كل هذا تمثل في حادث تم الإبلاغ عنه عندما اقترحت طالبة في الثامن تدرس اللغة اللاتينية -من ولاية فيرمونت –أن يكون للولاية شعار لاتيني ذو دلالة تاريخية، موازي للشعار الإنجليزي، ووافق أحد المشرعين على الولاية على تقديم هذا الاقتراح وكان الشعار: (Stella quarta decima fulgeat) بمعنى كأن النجم الرابع عشر المتألق قد أشرق، في إشارة إلى ترتيب الولاية في الانضمام إلى الاتحاد. عندما طرحت فكرتها على مواقع التواصل الاجتماعي أجابها أصدقاؤها: "كنت اعتقد أن فيرمونت أمريكية وليست لاتينية!!" وقال البعض هل توجد أي أماكن لاتينية تستخدم شعارات أمريكية؟ وعلق اخر "لا يمكن هذه أمريكا وليست المكسيك أو أمريكا اللاتينية هم من بحاجة لتعلم لغتنا" و "مستحيل، لقد سئمنا من هذا الهراء، لهم بلادهم ولنا بلادنا" بكل أسف هذه عادة المنشورات المتعصبة،7 البعض لا يميز الجهل تحت قدميه!

تولد المعتقدات الخاطئة شبكات جديدة من الجهل، تتضمن معتقدات خاطئة أخرى وأفعال خاطئة؛ ففي دراسة أجريت عام 2014، على عينة من المواطنين تضم أكثر من 2000 أمريكي، استطلعت آراء المواطنين حول رد فعل الولايات المتحدة المناسب حول النزاع في اوكرانيا8، وقد طلب من المشاركين تحديد الموقع الجغرافي لأوكرانيا على خريطة العالم، على الرغم أن حوالي واحد من بين كل ستة أشخاص يعرف الموقع الصحيح لأوكرانيا، إلا أن متوسط الإجابات حدد الموقع بانحراف 1500 ميل، فقد حدد كثير من المجيبين موقعها في آسيا أو أفريقيا، حتى أن بعضهم ظن أنها تقع في أمريكا اللاتينية أو كندا، على رغم من كل ذلك فإن العلاقة التي تربط بين معرفة الموقع الصحيح واختيار رد الفعل الحكومي المناسب كان مثيرًا للقلق جدًا، فكلما قلة معرفة المجيب بالموقع الجغرافي لأوكرانيا، زادت رغبتهم في تدخل الولايات المتحدة في التدخل في هذا النزاع.

جميع أشكال الجهل خطرة، خاصة عندما تقترن مع الغطرسة والتعصب، كما يقول جوته: "لا شيء أكثر إثارة للخوف من الجهل العملي" فقد يكون مرعبًا بصدق، في عام 2012، أُطلق النار على ستة من السيخ في معبد لهم في ويسكونسن، يعتقد أن المطلق كان من المسلمين –وهذه واحدة من مئات جرائم الكراهية التي وجهت ضد السيخ في الولايات المتحدة منذ 11/9.