فؤاد مرسي
كان الدكتور فؤاد مرسي نسقا متناسقاً وضميرا حيا اصيلا من أعظم المثقفين والمناضلين الشيوعيين الذين دفعوا من حيواتهم مراحل قاسية في السجون نالهم ما نالهم من تعذيب نفسي وبدني في العصرين الملكي والجمهوري، رحل فؤاد مرسي في حادثة طريق عبثية لكنها جاءت في مرحلة كان نفوره من العصر الساداتي في أوجه بعد أن شارك فيه وزيراً حاول من خلال موقعه أن يخدم شعبه الفقير.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الشخصية المصرية
من آثاره غير المعروفة دراسة فريدة عن الشخصية المصرية نشرت في عهد الفكر المعاصر الذي أشير إليه دائماً وسأورد أهم ما فيها.
لاشك في أن هناك ما يمكن أن نسميه الشخصية المصرية لكن ما أبعادها؟!
قضية عويصة، أحاول أن ألقي فيها برأيي عسي الا يكون حجرا ما بين أحجار كريمة وكيفما يكن الرأي في النهاية فإن للشخصية المصرية فيما أري أبعاداً ثلاثة، أولها البعد الطبيعي وثانيها البعد البشري وثالثها البعد الاجتماعي فمصر قطعة معينة من الطبيعة قطعة معطاة كانت ولا تزال مهدا وبيئة لجماعة من البشر، هم المصريون صنعوا بها ومنها وعليها تاريخا مشتركاً بمصالح اقتصادية مشتركة يصقلها مزاج نفسي مشترك تقوم علي لغة مشتركة وثقافة مشتركة وتقاليد وعادات مشتركة ولسنا هنا في وضع يسمح لنا بأن نفيض في بيان أبعاد هذه الشخصية المصرية جميعاً.
وإنما نطمع في أن نلم ألمامة عاجلة بكل من البعد الطبيعي والبعد البشري لنتوقف بعض الوقت عند البعد الاجتماعي.
ما من جماعة بشرية تحمل علي ظاهرها بل وفي باطنها بصمات الطبيعة كما تحملها الجماعة المصرية فالطبيعة التي تحيط بمصر البيئة الطبيعية التي تقوم عليها مصر هي التي منحت مصر شخصيتها الثابتة وهي التي باتحادها مع العمل المصري الخلاق قد صنعت الحقيقة المصرية علي مدار العصور.
وعندما يقول المؤرخ أحمد فخري « لقد استمدت مصر شخصيتها الحقة من شخصية أرضها ونيلها» فذلك قول صحيح فمنذ زمن سحيق فرضت الطبيعة علي الجماعة المصرية أن تتحضر ولم تلبث هذ الجماعة المتحضرة أن أخذت تفرض الحضارة فيما حولها يكفينا هنا ما تشير اليه مواضع كثيرة من التوراة.
فهنا في مصر، برع الانسان في اخضاع الطبيعة - بالعمل، ان العمل الذي يبدأ من استخدام الأدوات التي أوجدتها الطبيعة الي اعداد هذه الأدوات أصلا قد دفع الانسان الي محاولات تكييف مواد الطبيعة أي الي تكييف الطبيعة ذاتها وهذا النشاط العملي هو الذي أدي الي اتقان عمل الايدي ونمي تفكير الانسان وهو الذي حرر الانسان في النهاية من التبعية التامة للطبيعة ومن ثم بدأ الانسان وبدأت معه الحضارة.
والطبيعة في مصر كانت - ولا تزال الي حد بعيد -هي النيل فالارض السهلة والمناخ المعتدل هما من طبيعتنا... لكن النيل الواحد الذي يجري في أرض مصر، من أقصاها الي أدناها بمثابة العمود الفقري في الجسم بفيضانه العالي تارة ومياهه المنخفضة تارة أخري بخيراته السخية عادة وخطر المجاعة الكامن فيه - هذا النيل هو الذي علم الانسان المصري العمل وبالعمل استطاع هذا الانسان المصري أن يخضع النيل. وهذا الصراع بين الانسان والطبيعة كان ولا يزال يدور حول الزراعة أعرق عمل حضاري، يتطلب الاستقرار والسلام، ويعلم الحساب والزمن وبالنسبة للزراعة فإن الميلاد اليومي للشمس والميلاد السنوي للنهر يشكلان في النهاية قسمات الطبيعة المصرية.
يواصل الدكتور فؤاد مرسي دراسته عن مصر وشعبها، يقول انه ازاء خطر عدوان الصحراء الكاملة علي الوادي الأخضر، قد جعل العمل المصري أكثر من العمل في أي جماعة أخري عملا اجتماعيا. واتحاد الجماعة المصرية في النشاط الانتاجي قد ربط الجماعة كلها، وبرزت الحاجة الشديدة إلي أمرين: إلي التعاون بين المصريين وإلي تدخل سلطة مركزية.
لهذا انصهرت الجماعة المصرية منذ وقت مبكر من التاريخ. واصطفت لنفسها فكريات موحدة، فكريات تقدس الطبيعة، الطبيعة الواحدة، حتي في ظل المسيحية، فلقد كانت اليعقوبية عقيدة الطبيعة الواحدة هي المذهب القومي لمصر.
ومنذ زمن سحيق قامت الدولة في مصر، الدولة المركزية الواحدة، التي تؤدي وظيفة اقتصادية حاسمة هي تدبير وتوفير مياه النيل وتأمين الاستخدام المشترك لها في الزراعة بواسطة الري الصناعي عن طريق الترع والقنوات والمنشآت العامة، هذه الدولة المركزية هي التي أتاحت من ثم اتقان وتنمية أعمال الري.
لكنها أفاءت علي مصر أيضا جهاز دولة عريقا. حمل اليها أصالة بيروقراطية يندر أن توجد في جماعة بشرية أخري. فالدولة في مصر، والمركزية في مصر، والبيروقراطية في مصر. لها أصول عميقة الاثر في الشخصية المصرية. وفي كل الجماعات البشرية، تكون الثروة عادة هي مصدر السلطة، أما في مصر، فعادة ما تكون السلطة هي مصدر الثروة.. والخلاصة هي أن الطبيعة، النيل، الزراعة، وإلي حد كبير الدولة المركزية ــ تشكل قسمات حاسمة في الشخصية المصرية، هي العامل الثابت تقريبا في تشكيل هذه الشخصية.
فإخضاع الإنسان المصري للطبيعة المصري حتي في صورة السد العالي لا ينفي أن أولئك البشر مازالوا يعيشون في الطبيعة ذاتها، لم يتحرروا بعد منها، فما زال الإنسان جزءا من الطبيعة، ونتاجا لها، يوجد فيها، ويستمد منها قواه المنتجة وموضوع عمله من أدوات ومواد. وعندئذ تكون هي جسدا للانسان ذاته، جسدا غير عضوي، يكمل بها جسده العضوي. وبعمله فان الإنسان يكسب الطبيعة قدرات لم تكن فيها من قبل.
ومن ثم فإن الإنسان وهو كائن من كائنات الطبيعة يعيد تشكيل الطبيعة ــ بالعمل. انه كائن اجتماعي. فالمجتمع هو الانسان في صراعه مع الطبيعة، وهو الانسان في وحدته مع الطبيعة لكن المجتمع برغم كل ما يتميز به نوعيا يظل جزءا من هذه الطبيعة، ويظل وجود المجتمع جانبا من وجود الطبيعة ومن ثم فإن تاريخ الطبيعة وتاريخ المجتمع يتداخلان. بل ان تقدم البشرية نفسه لايعني في النهاية مزيدا من انفصال الإنسان عن الطبيعة، لكنه يعني في الواقع مزيدا من تداخل الانسان مع الطبيعة.
تقيم مبكر لتجربة القطاع العام
في 1978، كتب الدكتور فؤاد مرسي في ( هذا الانفتاح الاقتصادي ) الصادر عام 1976 " يمكن القول بإن القطاع العام كان ومازال يعاني من ثلاث ظواهر خطرة ، هي الطاقات المعطلة بداخله وضعف إنتاجية العمل وعدم كفاءة قيادته وكل هذا يدفع إلي أن يجري الإنتاج بنسبة عالية من الضياع والتبديد للموارد الإنتاجية المحدودة، وهو ما ينعكس فوراً في صورة تشوه هيكل نفقات الإنتاج ورفع أسعار السلع الصناعية ، سعياً وراء ربح إداري مفتعل لا ربح اقتصادي طبيعي ، مما يسمح بالتشكيك في كفاءة التصنيع وجدوي القطاع العام وفي هذه الظروف ، لابد أن نلحظ حالة من التضخم المكبوت ، حالة فيما مضي دون إنفجار آثاره الفادحة ظاهرة البطالة الكامنة التي تحول دون ارتفاع الأجور ، ورقابة الدولة علي الأسعار . ولهذا فإن أي دعوة لفتح اقتصادنا وتحرير الأسعار كانت دعوة بالغة الخطورة علي الاقتصاد القومي".
- وينتقد فؤاد مرسي البدء بالصناعات الخفيفة مثل الراديو والتليفزيون والسيارات والثلاجات والغسالات الكهربائية وأجهزة تكييف الهواء والأغذية المحفوظة وهي صناعات تخدم الطبقة الوسطي ، ولكن مستلزمات إنتاجها غير متوفرة محليا وهكذا كان السبب الرئيسي في عجز القطاع الصناعي عن تحقيق معدل النمو المستهدف إنما يرجع إلي نمط توزيع الاستثمارات وإلي طبيعة الصناعات التي أختيرت.
- وقد ترتب علي ذلك قيام الوحدات الانتاجية علي غير أساس موضوعي ، والتوسع في إنشاء الوحدات الاقتصادية والمؤسسات العامة ، واختلال حسابات تكلفة الانتاج ، مع الحرص علي تحقيق ربح في نهاية السنة المالية ، مما جعل الأسعار تتحمل أعباء ثقيلة لا مفر منها ، وأفسد كل محاسبة اقتصادية سليمة . وبذلك تم تشويه مفهوم التنمية ذاته.
- لذلك عاد الدكتور فؤاد مرسي بعد 21 سنة من صدور " هذا الانفتاح الاقتصادي " ليقدم رؤية جديدة أكثر دقة في تشخيص واقع القطاع العام في عام 1987 أي منذ 33 سنة من الآن في كتابه " مصير القطاع العام في مصر – دراسة في إخضاع رأسمالية الدولة لرأس المال المحلي والأجنبي". كتب يقول" أصبح القطاع العام يرتبط بأكثر من رباط عضوي مع رأس المال الطفيلي المحلي ورأس المال العالمي . ومن جانب آخر ، فلقد صار هذا القطاع العام مهداً رحبا لولادة وتربية ثم تطوير رأسمالية بيروقراطية عملت وتعمل يداً بيد مع الرأسمالية الطفيلية المحلية ومع الرأسمالية المالية العالمية .
- وفي هذه الظروف فلقد غدا فشل القطاع العام أو بالإحري إفشاله في كثير من الحالات زريعة سهلة للتوسع في عمليات تخريبه وتبرير تصفيته ، بل وذريعة رخيصة للنيل من كل دعاوي الاشتراكية ولإعلاء شأن الرأسمالية في بلادنا".
المصادر
- مدونة جمال الغيطاني