عبد الرحمن الحامد
عبد الرحمن الحامد، رئيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية، السعودية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رسالة الجمعية للملك عبد الله بن عبد العزيز
- مقالة مفصلة: سيول جدة 2009
"بسم الله الرحمن الرحيم
خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وفقنا الله وإياه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يطيب لجمعية الحقوق المدنية والسياسية أن تشكركم على حرصكم على حماية المال العام وملاحقة الفاسدين والمفسدين، الذين أسهموا في نهب المال العام وضيعوا مقدرات الأمة، وتسببوا في تخلف البلد رغم الموارد والميزانيات العامة الضخمة التي ترصد سنوياً، ولكن مع الأسف الشديد ينتهي بها المطاف في الحسابات السرية في البنوك الأجنبية دون تأثير ملموس يذكر على المواطنين الذين يعانون الفقر المدقع والحرمان من الخدمات الأساسية المتوافرة في البلدان النامية الفقيرة. بل إن الأمر تجاوز كل الحدود حيث تسبب داء الفساد السياسي (الإداري) المزمن إلى القتل الجماعي للمواطنين، فمع الأسف الشديد أضحى الفساد السياسي صبغة غالبة على سلوك بعض الأمراء الذين يحتلون المناصب العليا في الدولة ويتنافسون للاستحواذ على المال العام وتحقيق الثراء غير المشروع، بغض النظر عن الوسيلة حتى لو من خلال المتاجرة بحياة وأعراض الناس ومقدرات البلاد (راجع مقال الصحفي الأمريكي المخضرم سيمور هيرش المعنون "فدية الملك"، مجلة النيويوركر الأسبوعية، عدد 22 أكتوبر 2001م، صفحة 35).
لقد كشفت كارثة جدة عن واقع خطير ومنعطف مصيري تمر به بلادنا، ليس في مدينة جدة فحسب ولكن في بقية المدن والقرى، التي تعاني من غياب أو تهالك البنية التحتية، والتي تنتظر لموسم مطير حتى تبين عيوبها وتظهر سوأتها. لذا فإنه يتوجب علينا-والحال كذلك- اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية والخطوات الاحترازية، حتى لا تقع مأساة أخرى لا قدر الله، تذهب فيها الأنفس الزكية وتتحطم الأسر وتدمر المنازل والممتلكات.
إن كارثة جدة بمثابة ناقوس خطر دق ليوقظنا من غفلتنا لنتنبه للأخطار المحدقة التي تواجه الإنسان في بلادنا، الذي أصبحت حياته رخيصة حيث يتركه المسئولون في أمارة مكة يغرق في مياه الصرف الصحي، على الرغم من ابتلاع عشرات المليارات في عقود لم تنفّذ، والنتيجة هي تلك الصور المرعبة التي بثتها وكالات الأنباء العالمية لأجساد المواطنين الغارقين في مستنقعات الصرف الصحي!!
خادم الحرمين الشريفين،
إن واجبنا الوطني يحتم علينا أن نخاطبكم بكل صراحة وصدق، بعيداً عن لغة المديح والتزلف والنفاق، وبعيداً عن أسلوب التلميح والتورية في حكايات كليلة ودمنة، لاسيما أن الأمر يتعلق بحياة المواطنين التي أصبحت عرضة للمتاجرة، من قبل أمراء الظلام وعصابات السلب والنهب التي يديرونها في الخفاء تحت مسميات مواطنين موظفين في دواوينهم وإمارات المناطق، ليبقى بعض أمراء المناطق حكاماً يتولون الأمور السياسية العليا التي تتعلق بأمور المنطقة، ولكنهم يمتلكون مخططات عقارية في الخفاء، وعقود مقاولات بعشرات المليارات.
وكل ذلك يتم في سريّة تامة بعيداً عن عيون الرقابة، فضلاً عن الملاحقة القضائية التي تبدو مستحيلة. يساعد على هذا الوضع البائس غياب الصحافة الحرة التي تكشف السرقات والمخالفات المالية الخطيرة، بل على العكس تماماً تحولت الصحف التي يشرف عليها بعض أمراء المناطق إلى جوقات لكيل المديح، وإلقاء اللائمة على المواطنين المغلوبين على أمرهم، ومما يدلل على ذلك أن أحد رؤساء تحرير الصحف الموالين للاستبداد، كتب فور غرق جدة مقالاً يضع اللوم فيه على الضحايا الذين لا حول لهم ولا قوة!!. ويندرج في ذلك أن بعض فقهاء السلفية السلطانية أصدروا بياناً يعتبرون ما أصاب جدة ناتجاً عن ذنوب الضحايا، ومن المعلوم أن أكثر الضحايا هم من الفقراء، وكأن الأغنياء وفي مقدمهم أمراء الظلام لا ذنوب لهم!!. إن القاعدة البسيطة في علم الإدارة تقول "إن المسئولية تقاس على قدر الصلاحية (السلطة)"، والقاعدة الأخرى تقول "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، وعليه فإن على أمير المنطقة مسئولية مطلقة لأنه مخول من قبل الملك بصلاحيات واسعة في إدارة شئون المنطقة، فليس له التنصل منها بإلقاء المسئولية على "أمين" البلدية أو مدير الصرف الصحي، فالسلطة تفوض والمسئولية لا تفوض. ومن هذا المنطلق، نرحب باهتمامكم، ورغبتكم في التحقيق والتحري عن المسئول المباشر عن هذه الكارثة، تمهيداً لتقديمهم للمحاكمة والعقاب، وقد سبق ذلك محاولة أخرى قبل بضع سنوات في تأسيس "هيئة حماية النزاهة ومكافحة الفساد"، التي وأدت في مهدها لأسباب لا نعرفها، لكننا نستشعر سلطة أمراء النهب والسلب التي يكرسونها في حماية مصالحهم الخاصة الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العامة. لكن نقول لكم يا خادم الحرمين-منذ البدء بصراحة- إن هذه اللجنة لن يترتب عليها أي شيء ولن يتمخض عنها قرارات حاسمة تقدم المسئول عن الكارثة للمحاكمة، ليرتدع هو وغيره عن الارتزاق على حساب حياة وكرامة المواطنين الذين تم سحقهم والاعتداء السافر على ممتلكاتهم وهضم حقوقهم. أين إذن يكمن الحل؟ ولماذا؟
أولاً: لكي لا يكون المتهم هو الحكم، نعلن تحفظنا المبدئي على نتائج لجنة التحقيق في قضية القتل الجماعي في "تسونامي" جدة: لأنه لا يمكن لأجهزة حكومية برئاسة أمير المنطقة التي وقعت فيها المشكلة أن تتوصل إلى قرار مستقل؟ لا نتحدث عن أمير محدد، ولا عن قضايا شخصية تتعلق بفرد معين، ولكن نتحدث عن قضايا عامة.
1- لقد أضحت ثقافة الفساد في بلادنا هي الصفة السائدة، فلقد أصبحت بيئة العمل في الوزارات والمصالح الحكومية طاردة للموظف النزيه، وجاذبة للعناصر الفاسدة، التي لديها الاستعداد للانخراط في عمل عصابات نهب المال العام، لكن القاسم المشترك في هيكلة مافيا المال العام هو وجود أحد الأمراء الذي يحمي أفراد العصابة، ويقدم لهم الدعم اللوجستي، وهو المستفيد الأول من الغنائم. أسهم في هذا الوضع المحموم سيطرة الأمراء على المناصب العليا فيما يسمى وزارات السيادة وإمارات المناطق، بل وأمتد نفوذهم مؤخراً ليشمل العديد من الوزارات والمصالح الحكومية الأخرى التي كان-إلى وقت قريب-يشغلها مواطنون، مثل وزارة الشئون البلدية والقروية ووزارة التربية والتعليم وجمعية الهلال الأحمر والهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وبعض المحافظات. لكن حتى الوزارات الأخرى التي يرأس هيكلها الإداري أحد المواطنين، تجد أحد الأمراء في المناصب القيادية يدير شبكات الفساد لأن صلاحياته مطلقة وليس عرضة للمراقبة والمحاسبة، لذا نجد أن ذلك الأمير يحرص كل الحرص على توقيع العقود الدسمة، ويحتكر مشاريع المقاولات لشركات معينة هو المالك الفعلي لها، في تضارب صارخ في المصالح.
2- أصبح توارث المناصب في الدولة صفة سائدة، فأسماء الموظفين تتكرر في وزارات معينة، والوزارات يشغلها موظفون وفقاً للمناطق أو العائلات أو القبائل، وبالتالي يصبح المعيار مختلاً حيث لا يعتمد على الكفاءة والنزاهة والجد والأمانة، ولكن على القرابة والولاء، ومدى الاستعداد لتنفيذ رغبات ولي النعمة التي تعني التنازل عن الأمانة، وتقتضي في كثير من الأحيان التضحية بالذمة والضمير. بل إن الأمر المهم بالنسبة لمدير شبكة الفساد هو استعداد هؤلاء المرتزقة للتضحية بسمعتهم وحرياتهم لأجل التغطية على زعيم العصابة، هذه الصفة السائدة في الغالبية العظمى من كبار موظفي الدولة المقربين من صانع القرار الفاسد.
3- ألا يحق لنا إذن أن نحكم أن هذا الجو الموبوء كفيل بطمس الحقيقة وتضييع الحقوق وتضليل العدالة، ناهيك عن كون أمير المنطقة رئيس للجنة، ذا صلاحيات غير متناهية، و هو في دائرة المسئولية،فكيف يحقق في مخالفات إدارية في منطقة هو أميرها ويتولى جميع مقاليد الأمور فيها، وأي مسئول بهذه الكيفية، على تضليل العدالة أقدر.
4- ألا يحتمل أن يكون الأمير نفسه مقصراً؟ فمساءلة كبار المسئولين؛تتطلب إبعادهم عن إدارة التحقيق، وذلك هو أول مؤشر في طريق الإنصاف والعدالة، ونخبركم من الآن-إذا كان التحقيق بهذا المسار- أنهم سوف يضحون بكبش فداء ليبقى كبار الفاسدين، ويستمر مسلسل الكوارث، حتى ترتفع الأصوات مرة أخرى مع وقوع كارثة جديدة. إن تشكيل لجان التحقيق من أجهزة حكومية وبرئاسة أمير المنطقة، الذي هو في دائرة المسئولية، لن يوصل للمذنب الحقيقي الذي تسبب في القتل الجماعي للمواطنين، من أجل ذلك نطالب بأن تكون لجنة تقصي الحقائق من شخصيات خارج الإطار الرسمي قادرة على استجواب كافة المسئولين بما فيهم الأمراء. ثانياً: أسباب انتشار ثقافة الفساد السياسي: الجرثومة الخبيثة التي تهدر مقدرات الأمة وتحطم مقومات الوطن وتحرف المؤسسات الحكومية عن أهدافها وتحرم المواطنين من الخدمات الأساسية وحتى لو أدين أي مسئول مهما كان مركزه، فإنه ليس مسئولا وحده عن ما حدث، بل إن جرثومة الفساد السياسي هي المسئول الأول عن ضياع مقدرات الوطن، وهي السبب الأساسي في معاناة المواطنين، وإليها تعود جميع المشكلات التي تواجه البلاد، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فلقد تسببت هذه الجرثومة الخبيثة في فقر وبطالة المواطنين والخلل في توزيع الثروة، بين أقلية اختطفت البلاد وكدست الثروات لديها وغالبية مسحوقة ومهمشة ومحرومة
تمر سرقة المال العام في بلادنا بمراحل أربع:
المرحلة الأولى، هناك موارد مالية عامة لا تدخل الخزانة العامة مطلقاً، بل تذهب مباشرة لجيوب المستفيدين، على الرغم من أنها ملك للدولة، هذه الأموال من المفترض أن تنفق على مشاريع ذات نفع عام، والمثال الواضح في هذا الشأن هو منح النفط العينية التي تمنح لأفراد الأسرة المالكة ليقوموا ببيعها في الأسواق الدولية، التي تقدر بمئات الملايين من براميل النفط الخام، تباع على سماسرة يمثلون شركات نفط عالمية، دفعتها هذه التجارة الرائجة لتفتح مكاتب لها في البلاد حتى تشتري هذه المنح بأقل من الأسعار السائدة في الأسواق الدولية، فلا غرو إذن أن تنهار أسعار النفط العالمية في أواسط الثمانينات إلى معدلات متدنية، بسبب الجشع والطمع، وطالبت الدولة آنذاك المواطنين بشد الحزام وقلصت النفقات الأساسية، فأصبح المواطنون ضحية من جانبين، نهب مقدراتهم وغرقهم في مديونية عامة لا زالوا يعانون منها.
يدخل في هذا النوع من سرقة المال العام أنواع أخرى، مثل الإعفاءات الضريبية غير المبررة وأذون الاستيراد وتصدير السلع الإستراتيجية الأساسية، والحق الحصري في بيع السلع وتقديم الخدمات، وإقصاء المنافسين من دخول هذه النشاطات.
المرحلة الثانية، هناك موارد مالية تدخل الخزانة العامة لكنها لا تنعكس على الميزانية العامة، ولا أحد يعلم كيف تصرف هذه الموارد وما هو مصيرها، ففي الوقت الذي يقدر إيرادات الدولة السنوي بأكثر من تريليون من الريالات ترصد الدولة أقل من نصف تلك الموارد في الميزانية السنوية، ولكن ما هو مصير المتبقي الذي لم ينفق خلال السنة المالية، ويدعي البعض أنها ذهبت لما يسمى "الاحتياطي الاستراتيجي". ولكن من هي الجهة المسئولة عن إدارة هذه الموارد؟ وما مدى الكفاءة في إدارتها واستثمارها؟ لقد نجحت بعض دول الجوار في تنمية استثماراتها ووضعها في "صناديق الأجيال" المستقبلية التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، ويتوقع بعض الخبراء أن تبقي تلك الدول في حالة الاكتفاء الذاتي فور نضوب الموارد النفطية.
في بلادنا مع الأسف الشديد، هذه الموارد هناك مؤشرات تدل على أنها تمنح للأمراء لإرضائهم عند إعفائهم أو تنازلهم أو إقصائهم من المناصب، وأنها تمنح في عقود إستراتيجية بأرقام فلكية لتحسين أوضاع الأمراء المالية، ومما يؤكد ما ذكرناه ما وثقته النشرات الاقتصادية الدولية التي تتحدث عن زيادة الإنفاق السنوي خارج ما تم تخصيصه في الميزانية، في بعض السنوات المالية وصلت نسبة الزيادة 25% في الإنفاق الفعلي على ما تم تقديره في الميزانية خلال سنوات مالية طبيعية، لم يحدث فيها كوارث طبيعية ولا حروب تسببت في تلك الزيادة الهائلة في الإنفاق غير المجدول في الميزانية.
ولعل هذا يبرر تحفظ الدولة على نشر الحساب الختامي للسنة المالية الذي يعكس الأرقام الحقيقية للإيرادات والنفقات الفعلية التي لا يطّلع عليها إلا أعضاء مجلس الوزراء، هذه السرية التامة تسهم في المزيد من سرقة المال العام واستشراء الفساد الإداري والمالي وعدم استشعار مخاطر هذا المرض السياسي العضال.
المرحلة الثالثة، الاعتداء على المبالغ المرصودة في الميزانية، فلم يكتف أمراء النهب والسلب بالمخصصات الضخمة الممنوحة لهم، التي تفي بحاجيات آلاف الأسر من الطبقة الوسطى، لكنهم دخلوا في مجال التجارة وأصبحوا ينافسون المواطنين في أرزاقهم، فهذا أمير يملك سلسلة مطاعم، وثان يدير أساطيل سيارات النقل والأجرة، وثالث يسيطر على محلات البيع الصغيرة داخل الأحياء، وأمير رابع يبيع المخططات السكنية التي تدر عليه مليارات الريالات.
ولم يكتفوا بكل ذلك، بل دخلوا حقل المقاولات مستفيدين من نفوذهم في الدولة واستطاعتهم الحصول على العقود الحكومية بقوة النظام، فأصبح أحد أمراء السلب والنهب مقاولاً لسكك الحديد وأصبح آخر مقاولا للصرف الصحي وشبكات الطرق، وكل تلك العقود بأرقام فلكية لكنها تمنح لمقاول آخر من الباطن بربع التكلفة، يحصل الأمير على نصيب الأسد من كلفة العقد دون أية مجهود يذكر. ولقد وصل الأمر إلى ذروته حيث أصبحت العقود تنفذ من الباطن من قبل عدة مقاولين، يتعاقبون على نيل العقد، وكل منهم يحصل على حصته دون أن ينفذ المشروع، ومن ثم يمنح لأحد المقاولين لينفذه بسعر التكلفة، ويتم التغاضي عن المواصفات لأن الأمير هو المقاول.
والمثال الواضح في هذا الصدد ترسية مشروع وصلة قصيرة من طريق في مدينة الرياض بمبلغ يفوق 700 مليون ريال ومن ثم منحه من الباطن لمقاول آخر بنصف التكلفة، ومقاول ثالث ورابع لينتهي به المطاف وينفذ بأقل من ثلاثين مليون ريال!!.
ناهيك عن التعويضات ذات الأرقام الفلكية التي يحصل عليها الأمراء التي تفوق كلفة تنفيذ المشروع بأضعاف مضاعفة، ولنا في مشاريع المطارات الإقليمية ومشاريع سكك الحديد والطرق السريعة وشبكات الأنابيب خير برهان، لذا فإن المشروع في الغالب أما أن يعطل أو يلغى ومن ثم يحرم المواطنون من خدمات حيوية بسبب وقوف الأمير حجر عثرة يعترض تنفيذ المشروع.
من نماذج ذلك أنه عندما علم أحد الأمراء نية وزارة النقل تنفيذ طريق سريع في منطقة قفر نائية، طفق زبانيته يضعون السياج والأسلاك الشائكة حتى يحصل سيدهم على مراده من التعويضات الهائلة. وفي الآونة الأخيرة ومع وفرة الميزانية، أصبح الجيل الثاني من الأمراء-كما يقال- يستغل موقعه في الوزارة أو الأمارة أو الدائرة الحكومية ليخترع مشاريع لا نفع منها ولا تحقق الصالح العام، لكنها تحقق الثراء السريع للأمير وبقية أفراد العصابة، أليس من حقنا أن نتساءل عن كيفية صرف ميزانية مصلحة الأرصاد وحماية البيئة، وميزانيات وزارات السيادة، والخطوط السعودية، وهيئة حماية الحياة الفطرية، والرئاسة العامة لرعاية الشباب، وغيرها من الوزارات والمصالح الحكومية، التي تتواتر الأخبار المؤكدة عن تعرضها لعبث الأمراء وأعوانهم.
المرحلة الرابعة، احتكار الأمراء وأعوانهم للسلع الضرورية مثل بيع المياه وصهاريج الصرف الصحي ومخططات الأراضي ووسائل النقل العام، ونحن نعلم أن هذه الشركات تسجل عادة بأسماء مواطنين لكن المالك الفعلي هو الأمراء، لذا فإنه لم يكن محض صدفة أن يكون بعض ملاك هذه الشركات على علاقة وطيدة ببعض أمراء المناطق أو حتى موظفين لديهم في دواوينهم، لذا فإن أسعار تلك الخدمات ليست مبالغاً فيها فحسب بل وهي أيضاً رديئة المواصفات مقارنة بمثيلاتها في الدول الأخرى الغارقة في الفقر والتخلف. إن المطلوب والحال كذلك هو أن تبرم صيغة جديدة لعقد اجتماعي (دستور) بين الشعب والنظام السياسي، يتم فيه التوصل لآلية لتوزيع الدخل بين الشعب والأسرة الحاكمة، وتقنن فيه دخول الأمراء على أن يرفعوا أيديهم عن المناصب التي يتوارثونها كابر عن كابر، ويترك للشعب حق التصرف في الميزانيات الحكومية التي رصدت لخدمته ولتنمية الوطن، ولم توضع ليأخذها أمراء الظلام حتى ينفقوها على متعهم الشخصية.
ثالثاً: تراجع رفاهية المواطن السعودي مقارنة بجيرانه: السبب يعود لاستغلال بعض الأمراء وسياسات التفقير والتجويع والتعطيل تشير العديد من مراكز البحوث الدولية إلى تراجع الدخل الحقيقي للمواطن السعودي بنسبة تقدر بـ50% خلال العشرين سنة الماضية، وتعود الأسباب إلى جمود الدخل الفردي للمواطن السعودي، فيما عدا الزيادات الطفيفة في السنوات الأخيرة، وبطالة الأبناء والبنات الذين هم في سن العمل، والارتفاع الهائل في أسعار السلع الأساسية، وبالتالي تناقصت القوة الشرائية للدخل النقدي المحدود.
إن السبب في الأوضاع المزرية وتردي رفاهية المواطنين يعود في المقام الأول لإخفاق السياسات العليا للدولة، فجمود الدخول يعود لتجاهل النظام السياسي للأوضاع المعيشية للمواطنين، وحتى عندما أفاقت الدولة من سباتها زادت دخول الموظفين مؤخراً بزيادات طفيفة لا تفي باحتياجات الأسر الأساسية، فمتوسط دخل المواطن السعودي أقل من نظرائه في البلدان الخليجية الأخرى. لم تأخذ الدولة-من خلال وزاراتها المختصة- علاج قضية البطالة بشكل جدي، سوى خطوات ترقيعية لرفع الحرج وتبرير الوضع المتردي، فلا زالت الدولة تجلب عمالاً أجانب من الدول الصديقة لتوظفهم على حساب بطالة المواطنين، والأمراء هم أهم من أفشل مشاريع السعودة والإحلال حماية لمصالحهم الشخصية من خلال تدخلهم في القوانين وتعطيل التشريعات وعرقلة المصلحة الوطنية. أنظمة الدولة كذلك تدعم الاحتكار وتعيق المنافسة وتؤيد ابتزاز المواطنين، من خلال منح الأمراء وأعوانهم حق الاستغلال الحصري لنشاطات تتعلق ببيع سلع أساسية، دون أن تحاول كسر الاحتكار وتطبيق قوانين المنافسة وتكافؤ الفرص، ولعل نظام الوكالات التي لم تستطع الدولة التخلي عنه على الرغم من منافاته لشروط منظمة التجارة العالمية أسطع برهان على دعم أنظمة الدولة الرسمية للاستغلال البشع وجشع الأمراء التجار وأعوانهم.
دفع الفقر والعوز الأسر إلى سكنى الكهوف وبطون الأودية وتحت الأشجار في القفار وأسفل الجسور في المدن، لاسيما أن المواطن يبتز من خلال حاجته للخدمات الأساسية كالعلاج والمياه والصرف الصحي التي يتحكم في بيعها بعض الأمراء، خصوصاً بعض أمراء المناطق ذوي الصلاحيات غير المقننة. فلم يكن محض صدفة ما كشفت عنه الإحصاءات الحكومية من قلة امتلاك الأسر السعودية للمنازل، والتي تقدر فقط بـ22% فقط من إجمالي الأسر، أي أن أسرة واحدة فقط من بين كل خمس أسر سعودية تملك المنزل الذي تسكنه، في حين 78% مستأجرون. لكن السؤال المهم هو لماذا هذا الواقع الأليم الذي يعيشه المواطن في هذه البلاد التي تمتلئ خزائنها بالريع النفطي الذي هو ملك لجميع المواطنين؟ الجواب بسيط جداً، إنه السلوك المستغل لمصاصي الدماء من أمراء الطغيان وأعوانهم، فالمواطن يشتري الأرض السكنية بمبالغ خيالية، ويمص دمه مرة أخرى من قبل الأمراء المسيطرين على صناعة الأسمنت ومواد البناء، ناهيك عن سرقة مدخراته من قبل حيل أمراء الظلام الذين عبثوا بسوق الأسهم.
رابعاً: إمارات المناطق ألم تتحول إلى إقطاعيات يمارس فيها الأمراء صلاحيات مطلقة؟: و"السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" أدى حصر تولية المناطق والأقاليم والمحافظات بالأسرة الحاكمة وذوي قرابتها إلى خلل إداري كبير. 1= لقد أصبحت حقاً إمارات المناطق إقطاعيات شبه مستقلة يمارس فيها الأمير صلاحيات مطلقة في اتخاذ كافة القرارات المصيرية فيما يتعلق بشئون المنطقة، ولم يبق سوى أن يضع على حدود الأمارة نقاط جوازات وجمارك تنظم دخول الزوار والقاطنين. هذا الواقع خلق فرصا لدى البعض لأجل استغلالها في تحقيق الثراء غير المشروع، فأصبح أمير المنطقة يشارك أصحاب التجارة في أرزاقهم بالقوة، بل إن بعض أمراء المناطق لا يعطي الإذن بممارسات نشاطات تجارية إلا تحت شرط المشاركة الجائر. أما المشاريع ذات الدخل الهائل فهي ملك حصري للأمير، فشركات المياه والصرف الصحي وسيارات الأجرة تدار من مكتب الأمير، وإن وضعت تحت غطاء مسميات مواطنين، إلا أننا نعلم أنهم تربطهم علاقات مباشرة بأمير المنطقة. ويتملك أمير المنطقة- وكأن ذلك بحكم النظام- جميع أراضي الأمارة البور، بل فوق ذلك أخرجوا الفقراء والمشردين والمعدمين من أعشاشهم وهدموها، من أجل الاستيلاء عليها، لذا فإن جميع المخططات السكنية والتجارية تدار من قبل عقاريين ينوبون عن الأمير في بيع الأراضي، ويتحقق له منها دخل هائل يقدر بعشرات المليارات، بل إن العجيب أن بعض المخططات السكنية لازالت تحمل أسماء بعض أمراء المنطقة السابقين والحاليين،الذين استقطعوها، لقد ازداد جشع بعض أمراء المناطق الساحلية فتجاوز تملك الشواطئ إلى البحر، فقاموا بردم البحر وبيعه على المواطنين، وترتب على ذلك تدمير البيئة البحرية وتحويل الواجهات البحرية لمشاريع وممتلكات خاصة للأمراء ونوابهم. 2= ميزانيات مشاريع المنطقة هي في عداد الملكية الخاصة، يديرها الأمير في الغالب بالشكل الذي يحقق مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة، ولم لا؟ فهذه الميزانيات أليست تستغل في تمويل رحلات الصيد المكلفة، وتدفع تكاليف السفر والاستجمام للأمير وعائلته خارج البلاد، خصوصاً أن بعض أمراء المناطق مقيم بصورة شبه دائمة خارج المملكة، وكأنه لا يأتي إلا إذا كان هناك صفقة (معاملة!) يحتاج إنجازها إلى حضوره، فلا نستغرب أن بعض المناطق تعاني من التخلف وتفتقر للبنية التحتية الأساسية، ويستمر مسلسل معاناة المواطنين وتعرضهم للمخاطر لينعم سمو الأمير وعائلته. 3= إهمال بعض أمراء المناطق أدى إلى تلويث المياه في الواحات الغنية بالمياه الجوفية، وذات التربة الخصبة الملائمة للزراعة، بسبب غياب شبكات الصرف الصحي، فتسبب ذلك بكارثة صحية لا تقل خطورة عن الآثار المدمرة للسيول، فاختلطت مياه الصرف الصحي مع مياه الشرب، وترتب على ذلك تفشي أمراض التهاب الكبد الوبائي في تلك المناطق، وليس محض صدفة أن تسجل منطقة الجوف ومنطقة الهفوف أعلى النسب في تلك الأمراض مقارنة بالمناطق الأخرى بسبب تلوث مياه الشرب. 4= تكسب بعض أمراء المناطق بأية وسيلة، حتى لو أدى ذلك إلى تعريض حياة الإنسان للخطر وتدمير الأرض وتلويث التربة، فوفقاً لمنهجهم كل شيء عرضة للبيع والشراء وقابل للمساومة، والدليل الواضح في هذا الشأن ما حدث قبل عدة سنوات في إحدى الأمارات الجنوبية، حيث يذكر أن أمير المنطقة جلب قطيع أغنام مصابة بحمى الوادي المتصدع من القارة الأفريقية، مستغلاً نفوذه لتجاوز المحاجر الصحية بإدخال الأغنام دون فحصها والتأكد من سلامتها، مما أدى إلى انتشار المرض ووفاة عدد من سكان المنطقة، ونفقت الماشية، وتلوثت التربة الزراعية وسدود المياه، وعوضاً عن تقديم هذا الأمير المتهم للمحاكمة جراء ما يحتمل أنه أقترفه في حق المنطقة، تم الاكتفاء فقط بإعفائه عن منصبه، ولم تصل إلى الجاني يد العدالة ليلقى جزاءه الرادع، ولا زال الأهالي في المنطقة يتطلعون بشوق بالغ لتقديم المتهمين لمحاكمة عادلة تقتص من الظالم وتنصف المظلوم. 5= استمراء بعض أمراء المناطق السلب والنهب بطرق مبتكرة، من خلال فرض إتاوات على المواطنين ورجال الأعمال تحت مبررات واهية، مثل تقديم الصدقات والتنشيط السياحي ومساعدة دور الأيتام ودفع تكاليف حفلات الأمارة، دون مشاركتهم في القرارات المصيرية التي تخص شئون منطقتهم والقضايا التي تتعلق بنشاطاتهم التجارية. وفي الآونة الأخيرة خرج نموذج آخر لسرقة رجال الأعمال ووسيلة فعالة في استغلال المواطنين من خلال إنشاء الجامعات الخاصة، التي يمتلكها أمير المنطقة ويلزم رجال الأعمال في إقطاعيته بدفع تكاليف الجامعة تحت غطاء هدف خدمة العلم النبيل، وتعلن جامعة الأمير أنها مشروع لا يهدف للربح، لكنها لا تقبل إلا الطلاب القادرين على دفع تكاليف الدراسة، واستغل الأمير نفوذه مرة أخرى ليلزم جهات الإقراض الحكومية بتقديم سلف ميسرة للطلاب حتى يتمكنوا من الدراسة، وكل ذلك يتم خدمة للعلم والعلماء!!. بل الأدهى أن أحد أمراء المناطق-كما يشاع- جمع من مواطني منطقته أموالا طائلة بحجة بناء جامعة لهم، لكن على الرغم من مرور عدة سنوات لم ينفذ المشروع، وأستحوذ الأمير على الأموال، وعلى ما يبدو فإن هذا هو الهدف الأساسي من المشروع أصلاً. مع الأسف الشديد، هل أصبحت المهمة الأساسية لبعض أمراء المناطق هي العمل لمصالحهم الشخصية الضيقة، على حساب المصلحة العامة التي هي دائماً الضحية في القرارات غير الموفقة، فالعمل الخيري الذي هو مشروع نبيل يخدم المحرومين والعاجزين، تحول إلى وسيلة بشعة للإثراء الحرام، إذ يلاحظ انتشار العديد من الجمعيات الخيرية التي تحمل أسماء أمراء المناطق، إلا أنها أصبحت وسيلة للثراء غير المشروع، حيث يأمر المسئولون رجال الأعمال العاملين داخل حدود الإقطاعية بالمساهمة جبراً في رأس مال الجمعية التي غالباً يرأس مجلس إدارتها أمير المنطقة. 6= إن المشكلة تكمن في بقاء أمير المنطقة في منصبة عدة عقود دون رقابة أو تقييم أداء ومتابعة منجزات، وتكمن في انحصار مؤهلاته بكونه من الأسرة الحاكمة أو أقاربها، لذا فنحن نطالب أن ينتخب سكان المنطقة الحاكم الإداري لمنطقتهم من عامة الناس، لتسهيل مراقبته ومحاسبته، ونطالب بأن لا تتجاوز فترة ولايته أربع سنوات، وأن لا تجدد إلا مرة واحدة، على أن لا تتجاوز مجموع فترات الولاية ثمان سنوات.
خامساً، غياب الدور الفعّال للسلطة الرابعة: لوسائل الإعلام السعودي دور كبير في تزييف الوعي الشعبي 1= الأصل أن وسائل الإعلام المستقلة والنزيهة تسهم في رفع الوعي الشعبي، وتمثل رقابة على سلوك كبار المسئولين، وتفضح ممارسات الفساد، وتفكك عصابات سرقة المال العام، لأن مرض الفساد السياسي يستشري في السرية التامة والخفاء وغياب الشفافية، لذا لا بد من أن تحرص الدولة على بقاء وسائل الإعلام حرة من تدخلات كبار المسئولين الذين يقلقهم وجود صوت مستقل قادر على النقد. إلا أن المشكلة تكمن في كون وسائل الإعلام لدينا تدار من قبل أجهزة القمع والاستبداد، فرؤساء تحرير الصحف يتم تعيينهم من قبل الأجهزة البوليسية التي تراقب وتتدخل في محتويات المادة الإعلامية والمعلقين والضيوف المشاركين في البرنامج، وتتحكم في وسائل الإعلام من خلال طرق غير مباشرة، مثل تقديم الدعم المادي الهائل خصوصاً للصحف والمجلات، لتتم لها القدرة على السيطرة على ما يعرض في هذه الوسائل الإعلامية، وبالتالي يستمر مسلسل تزييف الوعي الشعبي. 2= هذا بالإضافة إلى تملك الأمراء وأصهارهم لإمبراطوريات إعلامية مرئية ومسموعة ومقروءة تعرض ما يروق لهم، ولا تجرؤ على التلميح فضلاً عن التصريح بانتقاد النظام السياسي، بل إن التوجه الجديد لدى بعض أمراء المناطق هو تأسيس صحف تمجد إنجازات المنطقة وقدرات الأمير الملهم. ومن ما يدل على ذلك ما حدث فور غرق مدينة جدة، فقد طفق رئيس تحرير إحدى الصحف التي يملكها أمير المنطقة المنكوبة يبرر ما حدث بإلقاء اللائمة على المواطنين المغلوبين على أمرهم، وعرفت هذه الظاهرة لدى العديد من المتابعين للشأن السعودي بمتلازمة (الضحية-المذنب)، دون أن يتساءل هذا الصحفي عن كيف ولماذا سكن هؤلاء المواطنون تلك المناطق المهددة بالفيضانات، ومن باعهم ذلك المخطط السكني، وكيف حصلوا على تصاريح البناء!!
سادساً: قراراتكم الإصلاحية تعطل ولا تنفّذ: ألا ينبغي التفتيش عن المستفيد من إعاقة الصالح العام؟: أجل لقد قمتم يا خادم الحرمين فأصدرتم قرارات إصلاحية حاسمة ولكن أغلبها لم ينفذ بصورة فعالة. 1= لقد أصيب المواطنون بخيبة أمل جراء إعاقة العديد من القرارات الملكية التي لو فعّلت لحققت الصالح العام، ففي الوقت الذي يعاني المواطنون-رجالا ونساءا- من البطالة لا زال العديد من الأمراء وأشياعهم يستقدمون عمال أجانب ليفرضوا عليهم الإتاوات الشهرية مما يعيد للأذهان عبودية العصور الغابرة، والمتاجرة بالتأشيرات التي تشبه سوق النخاسة الذي يباع فيه الإنسان ويشترى، فلا يستغرب إذن أن تتفاقم البطالة في صفوف المواطنين، وأن يحرم المواطنون من أبسط حقوقهم في التوظيف والحياة الكريمة. فلقد أعاق أمراء السلب والنهب مشروع السعودة عندما اقترب من نشاطاتهم، واستمروا في حربهم على المواطنين وحرمانهم من دخل مشاريعهم العائلية الصغيرة، فقد رفضوا قرار الملك بسعودة سيارات الأجرة التي يمتلكها أمراء تحت غطاء مواطنين، والظريف-كما يثار-أن الشخص الذي ألغى القرار الملكي هو أحد كبار ملاك شركات الأجرة، ولقد تناسى الناس هذا القطاع وفقدوا الأمل في سعودته، واندفع الشباب نحو الإحباط والبطالة، وتركت الأسر تواجه الفقر والعوز. 2= وعندما أعلنتم يا خادم الحرمين الشريفين تأسيس صندوق مكافحة الفقر، لم يتمخض عنه أية نتائج إيجابية تذكر، وتفاقمت مشكلة الفاقة لدى المواطنين، وازداد عدد الأسر والأيتام والأرامل المعتمدين على الضمان الاجتماعي، الذي يعطى بمنة ويمنع بحجج واهية، ليتم إنفاقه على مشاريع في دول أجنبية، ودفع رسوم الطلاب وتحمل التكاليف المدرسية في الدول الصديقة، ولم لا؟ فكل ذلك يتم تحت شعار خدمة الإنسانية!! وكأن اليتامى والثكلى والأرامل والمطلقات في بلادنا لا ينتمون لسلالة البشر!! 3= بل إن الأدهى والأمر، أنه عندما ناديتم يا خادم الحرمين الشريفين بتشكيل "هيئة حماية النزاهة ومكافحة الفساد" قبل بضع سنوات، إيماناً منكم بضرورة تحسين سجل بلادنا المتردي لدى الهيئات الدولية التي ترصد الشفافية، عطل القرار ولم يتم تشكيل الهيئة حتى الآن، لتحقق بلادنا المزيد من التراجع في معايير الشفافية والنزاهة والكفاءة. 4= وعندما خسر المواطنون مقدراتهم في سوق الأسهم قبل عدة سنوات، وغرق الكثير منهم في ديون كبيرة بسبب التزامهم بدفع قروض البنوك التي سيلت محافظهم دون وجه حق، أعلنت يا خادم الحرمين الشريفين بأنه "لن يخسر أي مواطن بعد اليوم"؟؟!! وصرحت بتأسيس صندوق للتوازن يضمن لصغار المستمرين رؤوس أموالهم حال الخسارة، مما جلب الثقة والطمأنينة لدى الأسر الفقيرة بأن تضع مدخراتها في سوق الأسهم، فتعود الكرة ليخسر المواطنون ما تبقى من مدخراتهم. أليست الأسباب الفعلية في انهيار سوق الأسهم تعود إلى عبث الأمراء؟ خصوصاً أولئك الذين يديرون محافظ من عدة مليارات من الأموال المنهوبة من الميزانية العامة والكسب غير المشروع. وقد استخدم المواطنون مصطلح "الهوامير" تورية لأمراء السلب والنهب الذي سرقوا سوق الأسهم. ومما يدمي القلب أن المسئولين في هيئة سوق المال يعلمون تمام العلم التجاوزات الخطيرة لأولئك الأشخاص، لكنهم لا يستطيعون ملاحقتهم قضائياً، وتستمر خسائر الناس لمدخراتهم، وتغرق الأسر في الديون وينتشر الفقر والعوز والتفكك الأسري وموجات الانتحار في صفوف المفلسين. 5= لازالت مشكلة البطالة النسائية تمثل تحدِيا حقيقيا يواجه الاقتصاد السعودي، حيث تشير بعض التقارير الدولية إلى أن البطالة في صفوف النساء السعوديات بنسبة عالية، وقد تنبهت الجهات المعنية إلى تلك الإشكالية، فوضعت الخطط لحل المعضلة وتسريع توظيف المرأة، وخلق فرص وظيفية ملائمة تراعي وضع النساء السعوديات، فصدرت توجيهات عليا تقضي بفتح فروع نسائية للوزارات والمصالح الحكومية، واتخذت إجراءات لتأنيث بعض الوظائف التي يشغلها أجانب، خصوصاً في محال بيع السلع والملبوسات النسائية، ولكن الموضوع جمد بسبب نفوذ أصحاب الشركات وشركائهم من الأمراء، الذين يقدمون لهم الدعم والمعونة ويشاركونهم الأرباح. جميع تلك القرارات المعطلة ساهمت في تراجع ثقة المواطن في القرارات الحكومية، لأنها تصاغ من قبل جماعات المصالح، فلا زال حاضراً في الأذهان قرار المقام السامي الذي يمنع بيع أطباق التقاط القنوات الفضائية، الذي أدى إلى رفع سعره إلى أضعاف مضاعفة، وخلق سوق سوداء لبيعه وتوزيعه من قبل الأمراء الشباب، الذين شكلوا شبكات لتوريده وبيعه وتوزيعه داخل البلاد. يضاف إلى ذلك بيع شركة الاتصالات للهاتف المتحرك للمواطنين بـعشرة آلاف ريال في أواسط التسعينيات، مما يجسد أبشع صور الاستغلال والابتزاز للمواطنين من قبل الجهات الحكومية، ناهيك عن احتكار الأمراء للسلع الضرورية وتحكمهم في نشاطات القطاع الخاص، مثل سيارات الأجرة وبيع المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي. سابعاً: لا وسيلة مضمونة للتحصين ضد جرثومة الفساد السياسي إلا بالمشاركة الشعبية في القرارات السياسية. منذ حرب الخليج، والاصلاحيون من كافة التيارات والأطياف والمناطق يطالبون بالإصلاح السياسي، الذي من أهم مظاهره التسريع بتشكيل برلمان ينتخب أعضاءه عامة الشعب رجالا ونساءا ليكون جهاز محاسبة ومراقبة لعمل السلطة التنفيذية، ولديه صلاحيات واسعة لمساءلة ومحاسبة الوزراء وكبار المسئولين في الحكومة، كما أنه يسن ويراجع الأنظمة ليتأكد من مناسبتها للصالح العام، كما أنه يحظى بالدعم الشعبي الذي يمكنه من مواجهة عصابات المصالح وبارونات السلب والنهب الذين لديهم القدرة على التأثير في صياغة الأنظمة التي تحمي مصالحهم وتعطل قرارات وطنية تحقق الصالح العام. إن وجود برلمان منتخب يحقق العديد من الأهداف التي من أبرزها: ا= يعزز المشاركة السياسية في أفضل صورها، حيث يشارك المواطنون في صناعة القرارات العليا المتعلقة بصياغة السياسات المختلفة في القضايا السياسية والاقتصادية والعلاقات الخارجية. 2= عجز مجلس الشورى-في صيغته الحالية- عن تحقيق الأهداف المرجوة والمتمثلة في الحفاظ على المال العام ومساءلة الوزراء وكبار الموظفين، وإنه من المؤسف أن يشترط بعض المسئولين السرية واستبعاد الصحفيين من حلقات الاستماع الدورية التي يعقدها مجلس الشورى، بل إن مجلس الشورى مؤخراً بادر من تلقاء نفسه ليقترح بأن تكون جلسات استماع بعض الوزراء سرية، ولا نعلم أية مصلحة تحققها تلك الجلسات السرية التي تحرم الناس من الحقيقة، وعلى كل حال فإن مجلس الشورى لا يمثل الشعب، لكنه يمثل الأمراء الذين اختاروا وعيّنوا أعضاءه، وهو بذلك نسخة مكررة من واقع الوزارات والمصالح الحكومية المزري!! 3= فشل الأجهزة الحكومية التي من المفترض أن تحرس المال العام وتراقب أداء الأجهزة الحكومية، لأن تلك الأجهزة مسلوبة الإرادة وتفتقر للقدرة على القيام بالأعباء المناطة بها، لعجزها عن ملاحقة كبار الفاسدين من لصوص المال العام، وقد ذكر أحد المسئولين في تلك الأجهزة الرقابية "أننا إذا اكتشفنا فساد أحد كبار المسئولين فإننا نخاطب المقام السامي، وبذلك تنتهي مسئولياتنا." فلا غرو إذن أن يستشري الفساد المالي والإداري والاعتداء السافر على المال العام، وتنتشر ثقافة الفساد وتتحول الوزارات والمصالح الحكومية لأوكار تأوي الفاسدين الذين يتفننون في سرقة المال العام بكل يسر وسهولة، وبطرق مفضوحة في استرخاء تام في ظل عجز أجهزة الرقابة التي أصبحت مصدرا للسخرية لدى كبار اللصوص والمحتالين. ألا يحق لنا أن نتساءل هل تستطيع أجهزة الرقابة والمحاسبة الحكومية كبح جماح الفساد الإداري فيما يسمى "وزارات السيادة"؟ هل تستطيع المباحث الإدارية التحقيق في المخالفات المالية في وزارة الداخلية؟ أم هل تستطيع هيئة الرقابة والتحقيق فحص نظامية عقود السلاح ذات الأرقام الفلكية في وزارة الدفاع والطيران؟ وهل يستطيع ديوان المراقبة العامة مراجعة الدفاتر المحاسبية في وزارة الخارجية التي تعاني ممثلياتها وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج من الفوضى العارمة وهدر المال العام والفشل في تقديم أبسط الخدمات للمواطنين؟ 4- إنشاء مجلس نواب يعزز ثقة المواطنين في القرارات التي تصدر عن الدولة لاسيما أن نواب الأمة المنتخبين هم يصوغون الأنظمة والقوانين واللوائح التفصيلية، بعيداً عن أصحاب النفوذ وأباطرة السلب والنهب من أمراء الظلام الذين يعيشون بعقليات الاستبداد المطلق وينظرون إلى الأمور بمنظار القرون الوسطى. 5- إن مشاركة المواطنين من خلال المجالس الشعبية المنتخبة من شأنه أن يجدد الدماء، ويبعث الحياة ويعيد الشباب للنظام السياسي، لكي لا يستمر النظام السياسي في تبني سياسات عديمة الكفاءة ثبت فشلها، تسببت في معاناة المواطنين وفقرهم ومرضهم وجهلهم، وسلبت مقدرات الأمة ودمرت مقوماتها، لكنها لا تحقق إلا مصالح حفنة من النفعيين والمرتزقة واللصوص. 6- إنشاء مجلس نيابي منتخب سيجسد مبدأ فصل السلطات، حيث يضطلع البرلمان بقضايا التشريع التي يقوم بها الآن مجلس الوزراء، الذي يقوم في الوقت نفسه بدور السلطة التنفيذية، ويرأسه الملك الذي تجتمع في شخصه السلطات الثلاث. sopot_
خادم الحرمين الشريفين نخاطبكم وأنتم تعلمون تماماً آليات سرقة المال العام، ولقد أصبح المجتمع يعي حقوقه ويعلم من يبدد مقدراته ويحرمه من حقوقه الأساسية، بل أضحى المواطنون يعلمون كيف تستخدم مشاريع ذات أهمية دينية مبررا للمبالغة في أسعار العقود، مثل توسعة الحرمين الشريفين وطباعة القرآن الكريم، ومشاريع أخرى ذات أهمية إستراتيجية للبلاد كالصحة والتعليم والدفاع والأمن، والتي تمنح دون مناقصة لشركات يملكها أمراء بشكل مباشر، على الرغم أن شركات المقاولات تملكها أسر كواجهات تخفي المالكين الفعليين من أمراء النهب والسلب. نرجو أن لا يكون الهدف من تشكيل لجنة التحقيق هو امتصاص الغضب الشعبي فحسب، ونتطلع إلى إن تكون كارثة جدة فرصة لتصحيح المسار بعلاج جرثومة الفساد السياسي الذي عشعش واستفحل في أجهزة الدولة، وهذا التضافر في الجهود لا يتم إلا من خلال تأكيد المشاركة السياسية لجميع فئات الشعب من خلال انتخاب مجلس للنواب يتابع ويراقب ويقيم أداء الأجهزة الحكومية، ومن خلال التعجيل في إصدار نظام فعّال للجمعيات الأهلية. خادم الحرمين الشريفين هذه فرصة تاريخية للقضاء على ثقافة الفساد، نرجو أن لا تفوت على بلادنا.
وفقكم الله ورعاكم
رئيس جمعية الحقوق المدنية والسياسية في المملكة العربية السعودية"