شراء إسرائيل كعكة صفراء من الأرجنتين 1963-1964
قراءة في وثائق أمريكية وبريطانية يوم إشترت إسرائيل " كعكة صفراء" من الأرجنتين
ما بين عامي 1963 و 1964 ، حصلت " إسرائل " من الأرجنتين ، وبموجب صفقة سرية ، على كمية من أكسيد اليورانيوم " الكعكة الصفراء " تراوحت ما بين 80 إلى 100 طنٍ ، لإستخدامها في برنامجها الخاص بإنتاج أسلحة نووية . في صيف عام 2013، رفعت السرية عن مجموعة من الوثائق الأمريكية والبريطانية تروي قصة تلك الصفقة التي كان يشار إليها بشكل عابر مقتضب ، ضمن بعض التقييمات الخاصة بـ " الحالة النووية عبر العالم " و" صادرات الأرجنتين من اليورانيوم" ، الصادرة عن وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية ، الـ " سي آي إيه " .
تسلط مجموعة الوثائق الجديدة الضوء على جوانب من التاريخ النووي الإسرائيلي ، لا تزال غامضة ، وتبين كيف بحثت " إسرائيل " ، بسرية ودأب شديدين ، عن مواد خام لبرنامجها النووي العسكري ، وكيف حاولت ، بإصرار ولهفة ، بناء علاقات مع موردين جدد ، بعينهم ، عقب القيود التي فرضتها فرنسا ، عام 1963 ، على شحنات اليورانيوم التي إعتادت إرسالها إلى مفاعل ديمونة الإسرائيلي ، منذ الإتفاق الخاص بالتعاون النووي ، الفرنسي – الإسرائيلي ، الموقع عام 1957 ، والتي ساعدت فرنسا ، بموجبه ، على بناء هذا المفاعل .
تجدر الإشارة ، بداية ، إلى أن عمر الرغبة الإسرائلية ، في إمتلاك اليورانيوم ، هي من عمر تأسيس الدولة ، بل يمكن القول بإطمئنان أن " الأسرة العلمية الدولية " ، المعنية بالقضايا النووية ، عرفت " إرنست برگمان " ، العالم الإسرائيلي النووي ، عقب أول حرب عربية – إسرائيلية ، وإنشاء " إسرائيل " سنة 1948 ، بإعتباره عالماً لامعاً في الكيمياء العضوية ومديراً لقسم الكيمياء في معهد وايزمان للعلوم، ثم رئيساً للجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية فور إنشائها في عام 1953 . وفي وقت مبكر ، ما بين عامي 1949 ، و 1950 ، بدأت " إسرائيل " عمليات مسح جيولوجي في صحراء النقب الفلسطينية للوقوف على إمكانيات إستخراج اليورانيوم من الفوسفات المتوفر في باطنها ، وكان بيرغمان يعرب دائماً عن ثقته في أن حقول الفوسفات الواسعة في صحراء النقب تحتوي على كميات من اليورانيم الطبيعي القابلة للإستخراج . وخلال سنتين تأسست دائرة للبحث في النظائر المشعة في معهد " ويزمان " ، وأرسلت البعثات العلمية لدراسة الطاقة والكيمياء النوويتين في الخارج ، ومهد الباحثون السبيل أمام عملية إنتاج الماء الثقيل اللازم للتحكم في مسلسل التفاعل النووي ، ووضع وسائل أكثر فاعلية لإستخراج اليورانيوم من فوسفات صحراء النقب. كان " داڤيد بن گوريون " ، أول رئيس وزراء إسرائيلي ، هو المشرف على ذلك كله ، يعاونه " شيمون بيريز " ، وكان وقتها في الثلاثين من عمره ، وقد عينه " بن گوريون " مديراً عاماً لوزارة الدفاع ، في أواخر عام 1953 . كانت لجنة بيرغمان للطاقة الذرية تابعة بشكل مباشر لـ " بيريز " ووزارة الدفاع . وكان " برگمان " وبالإضافة إلى منصبه العلمي في تلك اللجنة ، يقوم أيضاً بمهام المستشار العلمي للوزارة ، وكان مديراً للأبحاث والتخطيط فيها . وخلال النصف الثاني من الخمسينات شيدت بالفعل مصانع تجريبية لإستخراج اليورانيوم من صحراء النقب ، لكن تبين أن التكلفة عالية جداً ، وأن الأجدى والأوفر هو توفير اليورانيوم من مصادر خارجية.
إلى بداية الستينات ،كانت فرنسا هي المصدر الرئيسي لتوفير اليورانيم المطلوب لمفاعل ديمونة النووي الذي شيد سراً بموجب إتفاقية تعاون نووي سرية بين الجانبين . وعندما قررت باريس ، ربيع عام 1963 ، فرض القيود على شحنات اليورانيوم إلى ديمونة ،كان السؤال المطروح داخل أجهزة الإستخبارات ، والدوائر المعنية بالملف النووي الإسرائيلي وقتها ، وخاصة في كل من واشنطن لندن ، هو : إلى من ستتوجه " إسرائيل " من أجل توفير اليورانيوم ؟ . ويوم إكتشفت كندا صفقة الكعكة الصفراء الأرجنتينية ، في نهايات عام 1963 ، كانت لندن أول من علم بالإكتشاف الكندي ، أما واشنطن فقد علمت بدورها من لندن ، وإكتفت بإبداء التشكك في مدى صحة التقرير الكندي ودقته ، لكنها راحت تراجع أوراق الملف النووي الإسرائيلي ، ونرصد الموقف بهدوء وليونة .
في التاسع عشر من مارس عام 1964 ، تلقى " ماكجورج باندي " ، المكلف بشؤون مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض الأمريكي ، مذكرة أعدها " بنجامين ريد " من الخارجية الأمريكية ، بعنوان : " تأكيدات إسرائيلية حول الطاقة النووية " ، وتسجل هذه الوثيقة ، في تتابع زمني ، سلسلة من التطمينات الإسرائيلية حول نواياها السلمية على صعيد طموحاتها النووية ، بناء على طلبات من واشنطن ، وخاصة مع إكتشاف الولايات المتحدة للتعاون النووي الفرنسي – الإسرائيلي الذي أسفر عن بناء مفاعل ديمونة في صحراء النقب الفلسطينية بموجب إتفاقية عام 1957 .
يبدأ الرصد في هذه الوثيقة منذ توقيع " إسرائيل " على إتفاقية أخرى هي " الذرة من أجل السلام " مع الولايات المتحدة في يوليو عام 1955 ، إبان عهد الرئيس الأمريكي الأسبق " آيزنهاور " ، والتي بموجبها ساعدت واشنطن الجانب الإسرائيلي على بناء مفاعل " ناحال روبين " لأبحاث الإستخدامات السلمية للذرة ، بالقرب من تل أبيب ، في مايو عام 1958 . وينتهي هذا الرصد الـ " كورونولوجي " للتطمينات الإسرائيلية بفقرة لافته تشير إلى محادثات أمريكية – إسرائيلية جرت ما بين 19 و 23 فبراير عام 1964 ، حول صفقة صواريخ بالستية أمريكية ( إستراتيجية ) أرادت " إسرائيل " الحصول عليها ، ويبدو أن الجانب الأمريكي ، العارف بالنوايا والطموحات النووية العسكرية الإسرائيلية ، حاول إثناء الجانب الإسرائيلي عن صفقة تلك الصواريخ بإعتبار أنها لا تفيد كثيراً إلا عند تزويدها برؤوس نووية . وقد فوجىء الوفد الأمريكي بـ " ليفي أشكول " ، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها ، ينظر إلى محدثه بذعر ويقول : " لا تحاولوا إقناعنا بشراء رؤوس نووية لتزويد هذه الصواريخ بها " . ويبدو واضحاً أن الجانب الأمريكي كان يدرك أن " ذعر أشكول " ليس حقيقياً ولا يتجاوز دوائر المراوغة ، خاصة وقد ورد في الوثيقة نفسها فقرة تشير إلى لقاء جرى يوم 25 مايو 1963 ، بين جون ماكون ، مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية وقتها ، ودبلوماسي فرنسي يدعى " تشارلز لوسيت " < الذي قرر في اللقاء أن فرنسا أحبطت محاولة إسرائيلية لشراء يورانيوم " بدون ضمانات " من " الگابون " التي كانت مستعمرة فرنسية . وأبلغ " لوسيت " مدير الـ " سي آي إيه " أن مفاعل ديمونة قد تكون له مرافق تجهلها فرنسا رغم أن الفرنسيين هم من ساعدوا في بناء المفاعل > . وقد تزامن إعداد الخارجية الأمريكية للمذكرة ، التي تتناول في تتابع زمني التطمينات الإسرائيلية حول " سلمية " مشروعها النووي ، مع بدء تعامل الخارجية البريطانية ، في مارس عام 1964 ، مع التقرير الإستخباراتي الكندي الذي يؤكد أن "إسرائيل " ، ومع صفقة " الكعكة الصفراء " الأرجنتينية ، أصبح لديها كل المتطلبات الأساسية للبدء في مشروع إنتاج أسلحة نووية .
تشير المراسلات الديبلوماسية ، ضمن وثائق الصفقة الأرجنتينية – الإسرائيلية ، إلى الملابسات التي أحاطت بفرض فرنسا لشروط تقيد شحن اليورانيوم إلى " إسرائيل " . ففي الثامن من يناير عام 1964 ، بعثت السفارة الأمريكية في باريس ، إلى الخارجية في واشنطن ، ببرقية ، عبر قنوات خاصة بالموضوعات الإستخباراتية ، تفيد بأن المسؤولين في السفارة علموا من " جاك مارتن " المعني بالمسائل النووية في الخارجية الفرنسية ، أن " إسرائيل " التي رفضت التوقيع على إتفاق لشراء اليورانيوم بشكل حصري من فرنسا ، وعدم شرائه من أي مصدر آخر ، كانت تبحث عن مصادر أخرى ، وأن الأرجنتين ، وكذلك بلجيكا ، من المصادر المحتملة . وتلمح هذه الوثيقة إلى برقية سابقة كانت السفارة الأمريكية في باريس قد أرسلتها إلى واشنطن في الثاني عشر من نوفمبر 1963 ، تتعلق بالقرار الفرنسي الذي إتخذ في ربيع ذلك العام نفسه ، والخاص بوقف إمداد " إسرائيل " باليورانيوم . ويتبين من وثائق هذا الملف أن مشكلة الكعكة الصفراء التي تسعى إليها " إسرائيل " قد إستمرت مع إستمرار محاولة الأخيرة معرفة الأسباب التي دفعت فرنسا إلى وقف شحنات اليورانيوم إليها . وجاء في رسالة بعثت بها السفارة الأمريكية في باريس ، يوم 26 مارس 1946 ، إلى الخارجية في واشنطن ، أن " جاك مارتن " قال للمسؤولين الأمريكيين أن الفرنسيين أجابوا بأن القيود على شحنات اليورانيوم سوف تستمر إلى أن تكون " إسرائيل " على إستعداد لقصر شرائه على فرنسا ،< وأن تسمح للفرنسيين ببعض سيطرة على الموقف في ديمونة > .
في السياق نفسه ، وفي الحادي عشر من يونيو ( 1964 ) ، تلقت الخارجية البريطانية رسالة من سفارتها في باريس ، تضمنت فحوى لقاء تم ما بين " بيتر رامسبوتان ، كبيير الديبلوماسيين البريطانيين في السفارة ، و " جورج سوتو " من الخارجية الفرنسية . وقد أقر الأخير بأن فرنسا تعتقد أن الإسرائيليين يحاولون التمكن من صناعة قنبلة نووية و < هم في وضع يسمح لهم بذلك إن أرادوا > . في هذه الوثيقة ، ينقل الديبلوماسي البريطاني عن نظيره الفرنسي قوله أن الإتفاق الفرنسي – الإسرائيلي الموقع عام 1957 ، تضمن مطالبة فرنسية بعودة الوقود المستهلك ، في مفاعل ديمونة ، إلى فرنسا ، التي تحتفظ لذلك بسجلات غاية في الدقة ، لكن المشكلة تكمن ، وحسب الديبلوماسي الفرنسي ، في أن صياغات ذلك الإتفاق كانت غير محكمة ، ولم تلزم " إسرائيل " ، بشكل صريح محدد ، بعدم إستخدام يورانيوم غير فرنسي في مفاعل ديمونة ، رغم إعتقاد الجانب الفرنسي أن " روح الإتفاق " تعبر عن هذا " الإلزام " . وهنا تكمن أسباب وقف فرنسا لشحنات اليورانيوم ، ومنع شرائه من مستعمرات فرنسية سابقة ، وذلك من أجل إصلاح ما أفسدته الصياغات غير المحكمة .
في اليوم نفسه ، 11 يونيو (1964 ) أحاط " بيتر رامسبوتان " السفارة الأمريكية في باريس بفحوى حواره مع الدبلوماسي الفرنسي ، وتلقت الخارجية في واشنطن برقية تفيد بذلك من سفارتها في باريس . واللافت في وثيقة هذه البرقية أنها نقلت عن الدبلوماسي البريطاني قوله أن الجانب الفرنسي خلال مباحثات توقيع إتفاق التعاون النووي مع " إسرائيل " عام 1957 ، كان يعي أن هذا الإتفاق ، والذي وقع مع وفد برئاسة شيمون بيريز ، أمين عام " وزارة الدفاع الإسرائيلية وقتها ، هو مساعدة فرنسية لـ " إسرائيل " لـ " بناء قوة رادعة " ، بصرف النظر عن اللغة المستخدمة ، وأن ذكر " الإستخدام السلمي " في الإتفاق الرسمي كان ضرورياً كي تكون فرنسا قادرة على " الإنكار السياسي " . ويلاحظ في رسالة السفارة البريطانية إلى الخارجية في لندن ، ورسالة السفارة الأمريكية إلى الخارجية في واشنطن ، أن الديبلوماسي البريطاني كان محبذا لفكرة إشراك باريس في المعلومات الكندية عن بيع الأرجنتين كعكة صفراء إلى " إسرائيل " على أساس أن فرنسا وعدت بوقف إتفاق التعاون النووي مع إسرائيل بشكل تام إذا ما تأكدت أن إسرائيل تتحايل لإيجاد مصدر آخر ، بديل ، غير فرنسي ، للكعكة الصفراء اللازمة لمفاعل ديمونة . ووفقاً لمرفقات الوثائق يتبين أن العاملين في هيئة الإستخبارات في وزارة الدفاع البريطانية لم يمانعوا في إبلاغ باريس بالمتوفر لديهم من معلومات عن الصفقة الأرجنتينية – الإسرائيلية ، إذا ما وافقت كندا .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجزء الثاني
رغم تصاعد وتيرة الإتصالات الديبلوماسية ما بين واشنطن – باريس ، و لندن – باريس ، بفعل تقرير مارس عام 1964 ، الإستخباراتي الكندي ، حول صفقة الكعكة الصفراء الأرجنتينية إلى " إسرائيل " ، كانت الإستخبارات الأمريكية متشككة في مدى صحة المعلومات الكندية ، وظلت البرقيات المتبادلة بشأنها حريصة على وصفها بأنها " غير مؤكدة " . أما الموقف البريطاني فلم يكن على هذا القدر من التشكك الأمريكي ، لكنه أبدى إهتماماً بفحوى التقرير الكندي ، وسعى إلى التحقق من مصداقيته .
في يوم 29 أبريل ، ربيع عام 1964 ، تلقى " آرثر كيلاس " المستشار بالسفارة البريطانية في تل أبيب ، رسالة من " آلان گوديسون " ، من الإدارة الشرقية بوزارة الخارجية في لندن ، يبلغه فيها بالمعلومات الكندية < غير المؤكدة > التي تفيد بأن إسرائيل والأرجنتين وقعتا على إتفاق تبيع بموجبه الأولى إلى الثانية < كل إنتاجها من اليورانيوم المكثف > ، وأن من المتوقع شحن ما بين 80 إلى 100 طن ، على مدار 33 شهراً و < معنى هذا أن إسرائيل لديها الآن – إفتراضياً – إمدادات غير محدودة من اليورانيوم غير المرتبط بضمانات > .
بدا " گوديسون " على إقتناع بما ورد في التقرير الكندي ، ومتبنياً القول بأن مفاعل ديمونة قد وصل بالفعل إلى مرحلة إنتاجية متقدمة ، مشيراً في هذا السياق إلى معلومات إستخباراتية حديثة لم يكشف عن مصدرها ، وتفيد بأن الإسرائيليين لديهم إمكانيات إعادة معالجة البلوتونيوم و< سيكون لديهم ما يكفي لإنتاج سلاح نووي خلال 20 شهراً . لم يقل " جوديسون " أن لديه ما يثبت أن " إسرائيل " تنتج أسلحة نووية ، لكنه يشير إلى أن < اللهفة الإسرائيلية على إمتلاك هذه الكمية الضخمة من اليورانيوم غير المرتبط بضمانات تنطوي على تحركات شريرة > .
حفلت رسالة " غوديسون " إلى السفارة البريطانية في تل أبيب بالعديد من الملاحظات التي كتبت ، كتعليقات بخط اليد ، من قبل بعض المسؤولين في الخارجية البريطانية ، حول ما جاء في الرسالة من معلومات . مجمل التعليقات يوحي بأن الجهات المعنية بالملف النووي الإسرائيلي ، في كل من لندن وواشنطن ، لم تكن في ذلك الوقت المبكر ، النصف الأول من ستينيات القرن الماضي ، على دراية بمدى التقدم الذي كانت إسرائيل تحققه في سعيها لإمتلاك السلاح النووي . وفي متن الوثيقة يتبين أيضاً أن لندن لم تكن على دراية حتى ذلك الوقت ، بأن التصميم الأساسي لمفاعل ديمونة يحتوي على مصنع لإعادة المعالجة ، بني تحت الأرض منذ بداية التشييد ، وهو ما كشف عنه ، موردخاي فانونو ، الفني النووي الإسرائيلي ، من أصل مغربي ، كاشف الأسرار النووية الإسرائيلية خلال عام 1986 . لكن " جوديسون " وفي كل الأحوال ، كان يقدم في هذه الوثيقة بياناً معلوماتياً حول مسار البرنامج النووي الإسرائيلي ، في ضوء ما تكشف عن صفقة الكعكة الصفراء الأرجنتينية ، طالباً ، على ما يبدو ، المتابعة من السفارة البريطانية في تل أبيب .
ا تكشف الوثائق الكثير عن تلك المتابعة ، ولم يتلق " جوديسون" رداً من " كيلاس " مستشار سفارة بريطانيا في تل أبيب ، سوى في السادس من يوليو ، صيف عام 1964 ، وفيه أبدى الأخير تشككه في ما أشار إليه " جوديسون " عن إحتمال إمتلاك " إسرائيل " لإمكانية تسمح لها بفصل البلوتونيوم . في رسالته قال " كيلاس " أن السفارة البريطانية في تل أبيب لا تملك إدلة على هذه الإحتمالية ، وطلب من " جوديسون " إمداده بتلك الأدلة غير الواضحة في رسالة 29 أبريل . كان إمتلاك " إسرائيل " لإمكانية إعادة المعالجة وفصل اليورانيوم هي درة التاج بين اسرارها النووية التي كشف عنها " فانونو " ، والتي لم تتمكن فرق التفتيش الأمريكية من إكتشافها طوال عام 1969 .
في الثامن عشر من يونيو ( 1964 ) تلقى " جوديسون " رسالة من " كريستوفر أودلاند " المستشار السياسي للسفارة البريطانية لدى الأرجنتين ، تفيد بأنه علم من نظيره في السفارة الكندية بأن المعلومات التي وردت في تقرير إستخبارات إدارة الدفاع الوطني في كندا ، حول الصفقة الأرجنتينية – الإسرائيلية ، لم تكن الأرجنتين مصدرها . وأن المفوضية الوطنية للطاقة النووية في الأرجنتين ، باعت " كعكة صفراء " مماثلة إلى ألمانيا ( الغربية ) ، وأن الصفقة الأخيرة مع " إسرائيل" لم تكن الأولى ، إذ سبق وباعتها " كعكة صفراء " عام 1962 ،علمت بها فرنسا . جاء في هذه الرسالة أيضاً أن كندا كانت قد طلبت من لندن تمرير معلومات الصفقة الأخيرة إلى وكالة الـ " سي آي إيه " لكن التعليقات المتشككة للأخيرة أوجدت الشكوك التي جعلت التقرير الكندي يبدو مبتذلاً .
ما ورد في رسالة السفارة البريطانية في بوينس أيريس دفع الخارجية البريطانية إلى طلب مزيد من المعلومات عن بيع الأرجنتين يورانيوم إلى ألمانيا الغربية ، لإحتمال وجود إعادة تصدير من ألمانيا إلى" إسرائيل " ، في إشارة واضحة إلى أن موضوع ، ودرجة ، التعاون النووي الألماني الغربي – الإسرائيلي ، كان محل تخمينات لسنوات ، دون توفر معلومات حقيقية . طلبت الخارجية البريطانية من سفارتها لدى الأرجنتين السعي وراء مثل هذه المعلومات يوم 22 يونيو ، وفي اليوم نفسه كتب " جوديسون " إلى " أدولاند " يبلغه أنه لاحظ بعض عدم دقة في التقرير الكندي ، وأن الأرجنتين لا يمكن أن تكون قد باعت كل إنتاجها من اليورانيوم المركز إلى " إسرائيل " في الوقت الذي باعت فيه يورانيوم مركز إلى ألمانيا الغربية ، وتحاول بيعه إلى اليابان أيضاً . يطلب " غوديسون " من المستشار السياسي في السفارة البريطانية أن " يفتح إذنيه جيداً " كي يعرف الكميات المباعة من اليورانيوم ، وبشكل محدد .
تكشف الوثائق البريطانية أن لندن ، ومع جىء صيف عام 1964 ، بدت وكأنها على وشك التسليم بعدم دقة التقرير الإستخباراتي الكندي حول صفقة الكعكعة الصفراء الأرجنتينية إلى " إسرائيل " ، وتلقى القسم الشرقي بالخارجية البريطانية ، من هيئية إستخبارات وزارة الدفاع في لندن برقية تشكك في مصدر إستخباراتي بريطاني يفيد بأن واشنطن أصبح لديها معلومات خاصة تؤكد ما جاء في التقرير الكدني . وفي اللحظة التي كان الشك فيها قد بدأ ينتقل إلى لندن ، قررت واشنطن أن تعيد النظر في التقرير الكندي .
في منتصف شهر يوليو ( 1964 ) بعثت الخارجية الأمريكية برقية ، إلى سفارتيها في كل من " إسرائيل " و الأرجنتين ،< حول شراء إسرائيل يورانيوم من الأرجنتين في صفقة تم التوصل إليها يوم 13 نوفمبر 1963 > ، طالبة من السفارتين ، البدء في تجميع وإعداد تقرير شامل ، حددت الأول من سبتمبر موعداً لإستلامه ، على أن يتضمن بشكل محدد معلومات عن الكمية ، التكلفة ، جدول التسليم ، والضمانات التي إرتبطت بالصفقة . لا يتبين من الوثائق إن كانت السفارة الأمريكية في تل أبيب قد إلتزمت بالموعد المحدد ،و تقدمت بالتقرير المطلوب في التكليف بتاريخ 15 يوليو ، لكن الوزارة تلقت ، وفي الثاني من سبتمبر ( 1964 ) ، ما وصف بأنه " تقرير مؤقت " من سفارتها في " بوينس آيرس " يؤكد أن الأرجنتين باعت يورانيوم إلى " إسرائيل " وصادقت على كمية تقدر إجمالياً بـ 100 طن من " الكعكة الصفراء ، بسعر 15 دولاراً للكيلوجرام . < عقود البيع سارية على مدار 3 سنوات ، تبدأ في يناير 1963 ، وتسمح بتمديد الشحن إلى 9 أشهر من إنتهاء تلك الفترة > . وقد أشار التقرير المؤقت للسفارة الأمريكية لدى الأرجنتين ، أن الصفقة تضمنت بيع معدات وماكينات تستخدم في قطاع الطاقة ، وإرتبطت بمرسوم حكومي ( أرجنتيني ) يفيد بأن الصفقة للإستخدام لأغراض الطاقة السلمية بشكل كلي .
في السادس من أكتوبر 1964 ، عام الكعكة الصفراء الأرجنتينية " المباعة إلى " إسرائيل " ، تلقت هيئة الإستخبارات في وزارة الدفاع البريطانية ما يفيد بأن الإستخبارات الأمريكية لم تعد متشككة في التقرير الكندي ، ونقلت إلى الخارجية ما تلقته من معلومات أمريكية تؤكد أن الصفقة تم الإتفاق النهائي عليها بحيث تبدأ ببيع 80 طناً من اليورانيوم المؤكسد إلى " إسرائيل " وأن معظم صادرات اليورانيوم الأرجنتيني التي ستذهب إلى إسرائيل بشكل حصري ، ربما تزيد عن حاجتها لتشغيل مفاعل ديمونة في مجال الأبحاث . تشير رسالة الإستخبارات العسكرية البريطانية ، نقلاً عن تقرير الإستخبارات الأمريكية ، إلى ما يفيد بأن " مصنع قرطبة " المعني بإنتاج اليورانيوم في الأرجنتين ، ينتج من اليورانيوم المركز ما يقدر بـ 60 طناً كل عام ، ومع مجىء عام 1966 لن تكون لدى الأرجنتين صعوبة في الوفاء بعقود لتصدير مائة طن من الكعكة الصفراء . إتفقت الإستخبارات العسكرية البريطانية مع التقديرات الأمريكية ، لكنها أرادت معرفة حجم أو كمية اليورانيوم التي شحنت بالفعل إلى " إسرائيل " .
الجزء الثالث: خاتمة الحكاية
عندما تأكدت واشنطن من صحة التقرير الكندي الخاص ببيع الأرجنتين" كعكة صفراء " إلى إسرائيل ، بدأت تحركاً ، على الصعيد الديبلوماسي ، تميز بنعومة فائقة لا يجد لها الباحث في ملفات الوثائق الأمريكية سابقة في تعامل واشنطن في ملفات نووية ، إلا في تعاملها مع الملف النووي الإسرائيلي . بدأ التحرك اليبلوماسي الأمريكي المغاير برسالة ،في منتصف من يوليو 1964 من الخارجية في واشنطن ، إلى سفارتهاا لدى الأرجنتين ، تطلب منها الإقتراب من المسؤوليين في بيونس أيريس ، بأسرع وقت ممكن < عبر مذكرة هدفها البحث في الضمانات الهامة > التي تتفق مع متطلبات الحد من الإنتشار النووي ، وأن تنقل السفارة إلى الجانب الأرجنتيني ما يفيد بأن بيع يورانيوم بدون ضمانات سوف يمثل أخطر إنتهاكاً للجهود التي بذلتها الولايات المتحدة ، وغيرها من موردين غربيين ، على مدار الـ 10 سنوات ، لضمان إرتباط المساعدات النووية بضمانات ملائمة .
بعد 10 أيام تلقت الخارجية في واشنطن من سفارتها في بيونس أيريس ، ما يفيد بأن المسؤولين في السفارة إلتقوا مع الأدميرال " أوسكار كويهيلالت Oscar A. Quihillalt " ، رئيس المفوضية الوطنية الأرجنتينية للطاقة الذرية ، وقد أخبرهم بأن إتفاقية بيع اليورانيوم المبرمة مع " إسرائيل " أو أي دولة أخرى ، إحتوت على بنود خاصة بضمانات عامة تنص على أن اليورانيوم المباع يجب أن يستخدم سلمياً . وجاء في هذه الرسالة أن الأرجنتين لم تطالب بالحصول على تقارير أو القيام بتفتيش أو ما إلى ذلك من إجراءات تَثَبتٍ ، مماثلة لتلك الواردة في متطلبات الحد من الإنتشار النووي ، التي تشير إليها واشنطن . ولاحظ الأدميرال الأرجنتيني أن تلك المتطلبات الخاصة بضمانات حول اليورانيوم الخام غير عملية ، وأن دولاً أخرى تبيعه بدون ضمانات ، وأنه لايملك معلومات قاطعة حول خطط إستخدام " إسرائيل " لهذا اليورانيوم .
مع مجىء نهاية العام لم تكن واشنطن قد تمكنت من الحصول على رد الفعل المرجو من بيونس أيرس ، ويتبين من الوثائق أن الجانب الأمريكي لم يكن مهتماً بإثارة الأمر مع الجانب الإسرائيلي ، وبدت الخارجية الأمريكية وكأنها توظف عدم إقترابها من تل أبيب ، بشأن الكعكة الصفراء الأرجنتينية ، في دفع الجانب الأرجنتيني إلى الإستجابة لمطالبها الخاصة بنوعية الضمانات المراقفة لبيع اليورانيوم . وفي يوم 30 نوفمبر ، تلقت الخارجية الأمريكية في واشنطن رسالة من سفارتها في بيونس أيريس تفيد بأن الأرجنتيين ، وعلى الرغم من عدم ردهم على المذكرة الأمريكية الخاصة ببحث ضمانات بيع اليورانيوم الأرجنتيني ، إلا أن الخارجية الأرجنتينية بدت وكأنها تدعم قضية الضمانات بسبب مخاطر تخصيب اليورانيم ، وإستجابة لمصالح سياسية داخلية . تضيف الرسالة الأمريكية بأن طلب الضمانات يؤسس لحقيقة أن الأرجنتين أصبحت من بائعي المواد النووية ، وأن من الأفضل ، حسب وجهة نظر السفارة ، أن لا تتقدم واشنطن بطلبات أخرى إلى بيونس أيريس قبل أن يصل الحوار الأرجنتيني الداخلي إلى رؤية واضحة حول القضايا النووية . () قبل أن يطوي عام 1964 أوراقه ويرحل وجد " ألان غوديسون " من الخارجية البريطانية أن الوقت قد حان كي يعرب عن تقديرة للتقييم الإيجابي ، الذي تلقاه حول التقرير الكندي ، من " آر - تروويك " في هيئة الإستخبارات بوزارة الدفاع البريطانية ، فكتب يوم 22 ديسمبر ، ذلك العام ، يقول بأن هذا التقييم الإيجابي هو الذي حفزه على الكتابة إلى " كيلاس " مستشار السفارة البريطانية في تل أبيب ، وأنه يرى أن التحفظات التي كانت للخارجية البريطانية بشأن الموعد المحتمل لإمتلاك " إسرائيل " قنبلة نووية ، لم تعد قائمة و < علينا القبول بنهاية عام 1968 كموعد محتمل > .
في الثالث من فبراير عام 1965 ، علمت الخارجية الأمريكية من سفارتها لدى الأرجنتين أن رئيس المفوضية الوطنية للطاقة الذرية في بوينس أيريس ، قال في رده على الطلبات الأمريكية بشأن الضمانات ، أن صفقة الكعكة الصفراء وقعت مع " إسرائيل " قبل الوصول إلى صيغ نهائية للمعايير والمتطلبات في بنود الضمانات الخاصة ببروتوكولات إتفاقية الحد من الإنتشار النووي و < لهذا تشعر الأرجنتين أن من غير العملي أن تضيف إلى إتفاقيتها مع " إسرائيل " ما يضمن لها التفتيش أو تلقي تقارير حول إستخدمات اليورانيوم المباع > ، وأن مثل هذه المعايير المطابقة لمتطلبات إتفاقية الحد من الإنتشار النووي ، سيتم الإلتزام بها في مبيعات مستقبلية . في صيف العام نفسه ، شهدت السفارة الأمريكية في لندن مناقشات بين مسؤولين من الخارجيتين ، البريطانية والأمريكية . وقد دار الحوار حول معلومات تفيد بأن مشتريات " إسرائيل " من اليورانيوم قد وصلت إلى 190 طناً ، وهذا يفوق بكثير ما يمكن أن تحتاجه لأعمال بحثية . وكان اللافت في هذا الحوار الذي لخصته برقية بتاريخ 2 يونيو ( 1965 ) هو الإشارة إلى تصريح إدلى به ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي قال فيه أن " إسرائيل " لن تكون أول دولة تدخل السلاح النووي إلى الشرق الأوسط ، < ولكن عليها أن تمتلك الإمكانية > .
في خريف العام نفسه كانت السفارة الأمريكية في تل أبيب لا تزال تؤكد عدم إمتلاكها لمعلومات حول مشتريات " إسرائيل من اليورانيوم ، وأن الحصول على مثل هذه معلومات يتطلب إتصالات على مستوى أعلى . في صيف العام التالي ، 1966 ، حاولت الخارجية الأمريكية ، وعبر تعليمات إلى سفيرها في تل أبيب ، " وولوورث باربور" سؤال الحكومة الإسرائيلية عن الكعكة الصفراء الأرجنتينية . البرقية التي تلقاها السفير " باربور " بشأن هذه التعليمات تشير إلى ملاحظات كان قد أبداها دين راسك ، وزير الخارجية الأمريكية ، إلى نظيره الإسرائيلي " أبا إيبان " حول < سياسية الغموض النووي التي تتبعها إسرائيل > وأن هذه السياسة لا تخلق الكثير من الغموض في الإقليم فحسب ، بل في واشنطن أيضاً حول نوايا " إسرائيل النووية ، وإدعاءاتها الخاصة بالإستخدامات السلمية للطاقة الذرية . وجاء في هذه الرسالة أن " إسرائيل " وإذا ما إستمرت في غموضها وتجاهلها تقديم إجابات للأسئلة المتعلقة بالكعكة الصفراء الأرجنتينية ، فعليها أن تتوقع من الولايات المتحدة موقفاً شديد الوضوح ، و< غاية في القسوة إزاء عدم الإنتشار النووي > .
ناقش " باربور " موضوع الكعكة مع " أبا إيبان " وزير الخارجية الإسرائيلي وقتها . وكتب في الأول من يوليو ( 1966 ) إلى الخارجية في واشنطن يبلغها أن الوزير الإسرائيلي وعد بتقديم المعلومات المطلوبة بعد أن يتداول مع " زيفي دينشتاين " ، نائب وزير الدفاع و < صاحب المخزن > ، في إشارة من " إيبان " إلى مفاعل ديمونة وتبعيته السياسية إلى وزارة الدفاع الإسرائيلة.
لا يوجد في الوثائق الأمريكية الخاصة بقضية الكعكة الصفراء الأرجنتينية ، ما يفيد بأن " إيبان " قدم المعلومات التي وعد بها . ولا يوجد في ملفات الوثائق الأمريكية إلا ما يؤكد حقيقة أن ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق " أشكول " ، عن أن إسرائيل < لن تكون أول من يدخل السلاح النووي إلى الشرق الأوسط > ، هذا القول كان أساس نظرية خاصة جداً توصلت إليها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق " ريتشارد نيكسون " ، وصاغها الدكتور هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ، ثم وزير الخارجية الأسبق ، ومفادها أن " الإعلان " هو شرط " الإدخال " وأن عدم إعلان إسرائيل أنها " أدخلت " يعني أنها لا تملك . ولم تواجه " إسرائيل " من واشنطن بما يجبرها على الإنضمام إلى إتفاقية الحد من الإنتشار النووي والتوقيع عليها . ويظل الملف النووي العسكري الإسرائيلي حالة خاصة ، إكتمل وينمو في سرية إسرائيلية بالغة ، وحساسية فائقة في عواصم صناعة القرار . ويلاحظ في الختام أن الحركة الديبلوماسية والإستخباراتية التي نشطت ما بين واشنطن ، لندن ، باريس ، بوينس أيريس ، أوتاوا ، وفي فترة إمتدت من بدايات عام 1964 ، وإلى صيف عام 1966 ، حول شراء "إسرائيل" كعكة صفراء من الأرجنتين ، لم تكن لا وقتها ، ولا في سنوات تالية ، موضع تسريبات ، معتادة في مثل هذه حالات ، إلى صحافة أو أجهزة إعلام ، تحول ما وراء الكواليس من جدل ديبلوماسي وإستخباراتي ، وقضية الكعكة الصفراء ، إلى قضية رأي عام ساخنة ومثيرة كما يحدث في ملفات نووية كثيرة .
الهامش
المصادر
- WILLIAM BURR, AVNER COHEN (2013-07-02). "Israel's Secret Uranium Buy". فورين پوليسي.
- حكايات الوثائق - جمال إدريس