سورة المجادلة
[[{{{سابق}}}|→]]
سورة المجادلة [[{{{لاحق}}}|←]] | |
---|---|
الترتيب في القرآن | 58 |
عدد الآيات | 22 |
عدد الكلمات | 475 |
عدد الحروف | 1991 |
الجزء | {{{جزء}}} |
الحزب | {{{حزب}}} |
النزول | مدنية |
نص [[s:
سورة المجادلة| سورة المجادلة]] في معرفة المصادر | |
السورة بالرسم العثماني | |
بوابة القرآن الكريم |
الآية رقم (1)
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير }
عن عائشة قالت: الحمد للّه الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم تكلمه، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ماتقول، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها} إلى آخر الآية "أخرجه البخاري تعليقاً، ورواه النسائي وابن ماجه"وفي رواية عنها أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول اللّه أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها}، قالت: وزوجها أوس بن الصامت "أخرجه ابن أبي حاتم من حديث عائشة رضي اللّه عنها"وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد قال: (لقيتْ امرأةٌ عمر يقال لها خولة بنت ثعلبة وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها، حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز، قال: ويحك وتدري من هذه؟ قال لا، قال: هذه امرأة سمع اللّه شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، واللّه لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصلّيها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها) "أخرجه ابن أبي حاتم" وهو منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب كما قاله ابن كثير"وعن عامر قال: المرأة التي جادلت في زوجها خولة امرأة أوس بن الصامت وأمها معاذة.
الآية رقم (2 : 4)
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور . والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم }
روى الإمام أحمد، عن خولة بنت ثعلبة، قالت: فيّ واللّه وفي أوس بن الصامت أنزل اللّه صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوماً فراجعته بشئ فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، قالت: ثم خرج فلبس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت، قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم اللّه ورسوله فينا بحكمه، قالت فواثبني فامتنعت بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت
أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي اللّه فيه) قالت: فواللّه ما برحت، حتى نزل فيّ قرآن، فتغشى رسول اللّه ماكان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي: (يا خويلة قد أنزل اللّه فيك وفي صاحبك قرآناً) ثم قرأ عليّ {قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى اللّه واللّه يسمع تحاوركما إن اللّه سميع بصير} إلى قوله تعالى{وللكافرين عذاب أليم} قالت، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مريه فليعتق رقبة) قالت، فقلت: يا رسول اللّه ما عنده ما يعتق، قال: (فليصم شهرين متتابعين) قالت، فقلت: واللّه إنه لشيخ كبير ما به من صيام، قال:( فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر) قالت، فقلت: واللّه يا رسول اللّه ما ذاك عنده، قالت، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فإنا سنعينه بفرق من تمر) قالت، فقلت: يا رسول اللّه وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: (قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً) قالت: ففعلت "أخرجه أحمد وأبو داود"هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة، قال ابن عباس: أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقاً، فأتت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه إن أوساً ظاهر مني، وإنا إن افترقنا هلكنا، وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته، وهي تشكو ذلك وتبكي، ولم يكن جاء في ذلك شيء، فأنزل اللّه تعالى: {قد سمع اللّه قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى اللّه} إلى قوله تعالى {وللكافرين عذاب أليم} فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (أتقدر على رقبة تعتقها)؟ قال: لا واللّه يا رسول اللّه ما أقدر عليها، قال، فجمع له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أعتق عتقه، ثم راجع أهله "رواه ابن جرير، قال ابن كثير: وإلى ماذكرناه ذهب ابن عباس والأكثرون".
وقوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً فأرخص اللّه لهذه الأمّة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم، هكذا قال غير واحد من السلف، وقال سعيد بن جبير: كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية فوقّت اللّه الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة "رواه ابن أبي حاتم"، وقوله تعالى: {ما هن أمهاتكم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت عليّ كأُمّي، أو مثل أُمي، أو كظهر أّمي وما أشبه ذلك، لا تصير أُمه بذلك إنما أمه التي ولدته، ولهذا قال تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} أي كلاماً فاحشاً باطلاً، {وإن اللّه لعفو غفور} أي عما كان منكم في حال الجاهلية، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم، كما روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أُختي، فقال: (أُختك هي زوجتك؟) "رواه أبو داود"فهذا إنكار، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه، لأنه لا فرق على الصحيح بين الأُم وبين غيرها من سائر المحارم من أُخت وعمّة وخالة وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} فقال بعض الناس: العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل، وهو اختيار ابن حزم، وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة، وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع، وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة، وعن سعيد بن جبير {ثم يعودون لما قالوا} يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم. وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر. وقال ابن عباس: {من قبل أن يتماسا} والمس النكاح وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان ، وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر، وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول اللّه إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال: (ما حملك على ذلك يرحمك اللّه؟) قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللّه عزَّ وجلَّ) "أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه"وقوله تعالى: {فتحرير رقبة} أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فههنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فحمل الشافعي رحمه اللّه ما أطلق ههنا على ما قيّد هناك لاتحاد الموجب، وهو عتق الرقبة، وقوله تعالى: {ذلكم توعظون به} أي تزجرون به، {واللّه بما تعملون خبير} أي خبير بما يصلحكم {عليم} بأحوالكم، وقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً} قد تقدمت الأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان {ذلك لتؤمنوا باللّه ورسوله} أي شرعنا هذا لهذا، وقوله تعالى: {وتلك حدود اللّه} أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب أليم} أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة.
الآية رقم (5 : 7)
{ إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين . يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد . ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم }
يخبر تعالى عمن شاقوا اللّه ورسوله وعاندوا شرعه {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم، {وقد أنزلنا آيات بينات} أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلا كافر فاجر مكابر، {وللكافرين عذاب أليم} أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع اللّه، والانقياد له والخضوع لديه، ثم قال تعالى: {يوم يبعثهم اللّه جميعاً} وذلك يوم القيامة يجمع اللّه الأولين الآخرين في صعيد واحد {فينبئهم بما عملوا} أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر، {أحصاه اللّه ونسوه} أي ضبطه اللّه وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، {واللّه على كل شيء شهيد} أي لا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى. ثم قال تعالى مخبراً عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا، فقال تعالى: {ألم تر أن اللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة} أي من سر ثلاثة {إلاهو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}، أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضاً مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم اللّه به وسمعه له، كما قال تعالى: {ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم وأن اللّه علام الغيوب}، وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم. بلى ورسلنا لديهم يكتبون}، ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضاً مع علمه محيط بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء، ثم قال تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن اللّه بكل شيء عليم} قال الإمام أحمد: افتتح الآية واختتمها بالعلم.
الآية رقم (8 : 10)
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير. يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون . إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
كان بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن، فإذا رأى ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل اللّه تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه} روي هذا عن مجاهد ومقاتل بن حيان وقوله تعالى: {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} أي يتحدثون فيما بينهم بالإثم وهو ما يختص بهم، {العدوان} وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته، يصرون عليها ويتواصون بها، وقوله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به اللّه}. عن عائشة قالت: دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: وعليكم السام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ياعائشة إن اللّه لا يحب الفحش ولا التفحش) قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(أو سمعت ما أقول وعليكم؟) فأنزل اللّه تعالى: {وأذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به اللّه} "أخرجه ابن أبي حاتم". وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا) وروى ابن جرير، عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي، فسلم عليهم فردوا عليه، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(هل تدرون ما قال؟) قالوا: سلم يا رسول اللّه، قال:(بل قال: سام عليكم) أي تسامون دينكم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ردوه) فردوه عليه، فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(أقلت سام عليكم؟) قال: نعم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك) "أصله في الصحيحين، وهذا الحديث
روي عن عائشة في الصحيح بنحوه"، أي عليك ما قلت.وقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول} أي يفعلون هذا ويقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا اللّه بما نقول له في الباطن لأن اللّه يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبياً حقاً لأوشك اللّه أن يعاجلنا بالعقوبة في الدنيا، فقال اللّه تعالى: {حسبهم جهنم} أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة {يصلونها فبئس المصير}، عن عبد اللّه بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: سام عليك. ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا اللّه بما نقول؟ فنزلت هذه الآية: {وأذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به اللّه ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول * حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} "أخرجه الإمام أحمد". وقال ابن عباس: كان المنافقون يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حيوه: سام عليك، قال اللّه تعالى: {حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}، ثم قال تعالى مؤدباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: {يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، {وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا اللّه الذي إليه تحشرون} أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها، روى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل، فقال: كيف سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:(إن اللّه يدني المؤمن فيضع عليه كتفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أن قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين) "أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة". ثم قال تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً، {من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه {ليحزن الذين آمنوا} أي ليسوءهم وليس ذلك {بضارهم شيئاً إلا بإذن اللّه} ومن أحسّ من ذلك شيئاً فليستعذ باللّه وليتوكل على اللّه، فإنه لا يضره شيء بإذن اللّه، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن، كما روى ابن مسعود، قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه) "أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود".
الآية رقم (11)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير }
يقول تعالى مؤدباً عباده المؤمنين، وآمراً لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجلس: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح اللّه لكم}، وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح:(من بنى للّه مسجداً بنى اللّه له بيتاً في الجنة) قال قتادة نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنّوا بمجالسهم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمرهم اللّه تعالى أن يفسح بعضهم لبعض، وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، فرد النبي صلى اللّه عليه وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم، فشق ذلك على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال لمن حوله من
المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: (قم يا فلان وأنت يا فلان) فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى اللّه عليه وسلم الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ واللّه ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيّهم، فأقامهم، وأجلس من أبطأ عنه، فبلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (رحم اللّه رجلاً يفسح لأخيه) فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم لإخوانهم، ونزلت هذه الآية يوم الجمعة "رواه ابن أبي حاتم". وقد ورد عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا يقم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا) "أخرجه الشيخان وأحمد". وعن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (لايقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح اللّه لكم) "أخرجه الإمام أحمد". وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك محتجاً بحديث:(قوموا إلى سيدكم، ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ومنهم من فصّل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي صلى اللّه عليه وسلم حاكماً في بني قريظة، فرآه مقبلاً قال للمسلمين: (قوموا إلى سيدكم) وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه واللّه أعلم، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.
وفي الحديث المروي في السنن أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس؛ فكان الصحابة رضي اللّه عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي اللّه عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره؛ وبين يديه غالباً عثمان وعلي لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك؛ كما روى مسلم عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) "أخرجه مسلم في صحيحه"، وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات اللّه وسلامه عليهم، وفي الحديث الصحيح: بينا رسول اللّه جالس إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الآخر فجلس وراء الناس، وأدبر الثالث ذاهباً، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ أما الأول فآوى إلى اللّه فآواه اللّه، وأما الثاني فاستحيا، فاستحيا اللّه منه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض اللّه عنه) وروى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن عمرو أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) "أخرجه الإمام أحمد". وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري في قوله تعالى: {إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح اللّه لكم} يعني في مجالس الحرب، قالوا: ومعنى قوله: {وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا} أي انهضوا للقتال، وقال قتادة: {وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا} أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا، وقال مقاتل: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها، وقوله تعالى: {يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات واللّه بما تعملون خبير} أي لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه أن ذلك يكون نقصاً في حقه، بل هو رفعة ورتبة عند اللّه، واللّه تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر اللّه رفع اللّه قدره ونشر ذكره، ولهذا قال تعالى: {يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات واللّه بما تعملون خبير}، أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، روى الإمام أحمد، عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب اللّه، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي اللّه عنه: أما إن نبيكم صلى اللّه عليه وسلم قد قال: (إن اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) "أخرجه أحمد ورواه مسلم من غير وجه عن الزهريّ"، وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري، وللّه الحمد والمنة.
الآية رقم (12 : 13)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم . أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون }
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام، ولهذا قال تعالى: {ذلك خير لكم وأطهر}، ثم قال تعالى: {فإن لم تجدوا} أي إلا من عجز عن ذلك لفقره، {فإن اللّه غفور رحيم} فما أمر بها إلا من قدر عليها، ثم قال تعالى: {ءَأَشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، {فإذ لم تفعلوا وتاب عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا اللّه ورسوله واللّه خبير بما تعملون} فنسخ وجوب ذلك عنهم، وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال مجاهد: نهوا عن مناجاة النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدم ديناراً صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن عشر خصال، ثم أنزلت الرخصة، وقال علي رضي اللّه عنه: آية في كتاب اللّه عزّ وجلَّ لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت، ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} هذه رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد الآية. وقال ابن عباس {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}، وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد اللّه أن يخفف عن نبّيه عليه السلام، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين، وكفوا عن المسألة، فأنزل اللّه بعد هذا: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فوسع اللّه عليهم ولم يضيق، وقال قتادة ومقاتل: سأل الناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم اللّه بهذه الآية، فكان الرجل منهم إِذا كانت له الحاجة إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها، حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل اللّه الرخصة بعد ذلك: {فإن لم تجدوا فإن اللّه غفور رحيم}.
الآية رقم (14 : 19)
{ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون . أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين . لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون . استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }
يقول اللّه تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}، وقال ههنا: {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب اللّه عليهم} يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن، ثم قال تعالى: {ما هم منكم ولامنهم} أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود، ثم قال تعالى: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} يعني المنافقين يحلفون على الكذب، وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذاً باللّه منه، فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا له أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقاً، ولهذا شهد اللّه بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك، ثم قال تعالى: {أعد اللّه لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي أرصد اللّه لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة وهي موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين وغشهم، ولهذا قال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل اللّه} أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم فحصل بهذا صد عن سبيل اللّه لبعض الناس {فلهم عذاب مهين}، أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة، ثم قال تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئاً}، أي لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ثم قال تعالى: {يوم يبعثهم اللّه جميعاً} أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحداً، {فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء} أي يحلفون باللّه عزّ وجلَّ أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند اللّه كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة، ولهذا قال: {ويحسبون أنهم على شيء} أي حلفهم ذلك لربهم عزّ وجلَّ، ثم قال تعالى منكراً عليهم حسبانهم {ألا إنهم هم الكاذبون} فأكد الخبر عنهم بالكذب، روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس حدَّثه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، قد كاد يقلص عنهم الظل، قال:(إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه) فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال:(علام تشتمني أنت وفلان وفلان( نفر دعاهم بأسمائهم قال، فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه، قال: فأنزل اللّه عزّ وجلَّ: {فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون} "أخرجه ابن أبي حاتم ورواه أحمد وابن جرير"، ثم قال تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه} أي استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا اللّه عزّ وجلَّ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه، ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لاتقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية) "أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً". قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة، ثم قال تعالى: {أولئك حزب الشيطان} يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللّه، ثم قال تعالى: {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
الآية رقم (20 : 22)
{ إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين . كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز . لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون }
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحادين للّه ورسوله يعني الذين هم في حد والشرع في حد، أي مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية {أولئك في الأذلين} أي في الأشقياء المبعدين الأذلين في الدنيا والآخرة، {كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي} أي قد حكم وكتب في كتابه الأول، وقدره الذي لايخالف ولايمانع ولايبدل، بأن النصرة له ولكُتُبه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، {وأن العاقبة للمتقين}، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}، وقال ههنا: {كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز} أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه، وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي اللّه بأمره واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} أنزلت هذه الآية {لاتجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر} إلى آخرها، في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي اللّه عنهم: ولم كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، وقيل: في قوله تعالى: {ولو كانوا آباءهم} نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر، {أو أبناءهم} في الصديق، همَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن {أو إخوانهم} في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، {أو عشيرتهم} في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد
ابن عتبة يومئذ، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد اللّه ورسوله، ولو كان أباه أو أخاه فهذا ممن كتب اللّه في قلبه الإيمان، أي كتب له السعادة وقررها في قلبه، وزين الإيمان في بصيرته، قال السدي: {كتب في قلوبهم الإيمان} جعل في قلوبهم الإيمان، وقال ابن عباس {وأيدهم بروح منه} أي قواهم، وقوله تعالى: {ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللّه عنهم ررضوا عنه} كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
وفي قوله تعالى: {رضي اللّه عنهم ورضوا عنه} سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في اللّه تعالى عوضهم اللّه بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم، والفضل العميم، وقوله تعالى: {أولئك حزب اللّه ألا إن حزب اللّه هم المفلحون} أي هؤلاء حزب اللّه أي عباد اللّه وأهل كرامته، وقوله تعالى: {ألا إن حزب اللّه هم المفلحون} تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث: (إن اللّه يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة) فهؤلاء أولياء اللّه تعالى الذين قال اللّه: {أولئك حزب اللّه ألا إن حزب اللّه هم المفلحون} "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقال الحسن، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إليّ: {لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله}) "أخرجه أبو أحمد العسكري".