حديث في الفنون والعلوم
هذا الموضوع مبني على مقالة لابراهيم العريس. |
هل كان صحيحاً ان قراءة جان جاك روسو إعلاناً في صحيفة ذات يوم من العام 1749، هي التي دفعته الى أن يضع واحداً من ابرز كتبه وأكثرها إثارة للجدل؟ هو نفسه قال هذا. وهو نفسه، كما سنرى، شارك في الجدل سلباً وإيجاباً... من حول ذلك الكتاب الذي إذ نقرأه اليوم يصعب علينا ان نصدق للوهلة الأولى انه من كتابة صاحب «العقد الاجتماعي» و «إميل» و «الاعترافات». ذلك ان الكتاب يهاجم وينقض في مبدئه الأساس كل ما قام به روسو في حياته: بخاصة الكتابة في المجالات الفنية والعلمية، علماً أن كلمة علمية تشمل هنا العلوم الإنسانية بالطبع. غير ان إمعان الفكر في الذي يقوله هذا الــكتاب، وعنوانه المعروف هو «خطاب حول الفنون والعلوم» سيقول لنا في نهــاية الأمر، ان الكتاب منسجم اصلاً مع فكر روسو ككل. ذلك الفكر الذي لا بد من ان نذكر ان هيبيي النصف الثاني من القرن العشرين تبنوه تماماً معتبرين روسو الهيبي الأول في التاريخ، وأفكاره حول إعادة الاعتبار الى الطبيعة تبنياً لأفكارهم. فالواقع ان روسو إنما عبّر عن ارتباطه بالطبيعة، على حساب الحضارة في هذا الكتاب الذي نحن في صدده بالتحديد. فبالنسبة إليه لم توجد الحضارة ككل إلا لمحو إنسانية الإنسان والاعتداء على الطبيعة. ويمكن المرء هنا ان يلاحظ ان جان جاك روسو في الأفكار التي عبّر عنها في كتابه هذا، إنما يبدو متجاوزاً للهيبيين من بعيد، إذ نعرف ان هؤلاء لم ينقضوا الفنون ولا العلوم وإن أنحوا باللائمة على الحضارة مستعيدين علاقة الإنسان بالطبيعة. بالنسبة الى الهيبيين يمكن الطبيعة ان تتجاور مع الفن رسماً وموسيقى وغناء وكتابة أدبية وفكرية أيضاً. بل إن الفن شكّل جزءاً اساسياً من حركتهم. اما روسو فإنه، في منظومته الفكرية التي نشير إليها ألغى هذه النشاطات الإبداعية تماماً. ولعل من الأفضل هنا ان نعود الى حكاية الإعلان.
ظهر الإعلان الذي نشير إليه في احد أعداد مجلة «مركور دي فرانس»، وكان فحواه ان اكاديمية ديجون كرست جائزة لا بأس في قيمتها لمن يكتب أفضل دراسة تجيب عن السؤال الآتي: «هل ترون ان الآداب والفنون تساهم في تحسين الأخلاق في المجتمع او في إفسادها؟». وكما يروي لنا روسو، فإنه ما إن قرأ هذا الإعلان، حتى وجد نفسه ينتقل الى عالم آخر تماماً «رأيت لتوّي، وخلال ثوان، عوالم أخرى، وأحسست أنني صرت إنساناً آخر» قال روسو. ومن فوره شرع يدبج الرد على السؤال، ليس طمعاً في الجائزة التي كان هو من نالها على أي حال، بل لأنه قرر «منذ تلك اللحظة بالذات ان أكرس كل فكري وحياتي لبحث هذا الامر» كما أكد... وبالأحرى: من اجل السعي الى تحطيم التأثير الذي مارسته الحضارة على كينونة الإنسان. وهو تأثير كان في رأي روسو، سيئاً للغاية. في العام التالي إذاً، ربح روسو الجائزة وكان البحث الذي قدمه يحمل عنواناً أكثر طولاً هو: «خطاب حول التأثيرات الأخلاقية للفنون والآداب والعلوم في المجتمع». فهل علينا ان نضيف هنا ما يؤكده المؤرخون عادة من ان هذا الكتاب كان هو الذي رسخ لروسو شهرته ومكانته كفيلسوف ومفكر، بعدما كان تعثّر طوال السنوات الفائتة من حياته متأرجحاً بين فشله في ان يصبح موسيقياً، وإخفاقه في ان يتم الاعتراف به بوصفه كاتباً مسرحياً؟
أجل... لقد كان روسو يقترب من الأربعين من عمره حين وضع ذلك النص، الذي نزل عليه مثل إشراقة ربيعية، ودفعه الى إحداث تغيير جذري في حياته، حتى وإن كان هو نفسه سيعود بعد سنوات الى تقويم هذا العمل معتبراً إياه «أقرب الى تفاهة العادية»، بعدما كان في مرحلة سابقة من حياته اعتبره واحداً من أهم ثلاثة مؤلفات وضعها في حياته الى جانب «خطاب حول التفاوت بين البشر» و «إميل». وبهذا التناقض يكون روسو، كما أسلفنا، نظر الى كتابه من وجهتي النظر اللتين جابهتا الكتاب دائماً: وجهة نظر المع ووجهة نظر الضد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المضمون
ولكن قبل ذلك يبقى الكتاب نفسه. فهو كان واحداً من أول تجليات نظرة روسو الى الحضارة على اعتبار انها كانت العامل الأول والأهم في تحطيم الطبيعة وإفساد حياة الكائنات البشرية، في معنى ان تقدّم كل ضروب الفن وكل ضروب العلم لم تكن فيه أية فائدة للبشرية. والدليل على هذا، في رأيه أن «تقدّم المعرفة جعل الحكومات أكثر قوة، ما مكّنها من ان تنكر على الأفراد حريتهم وتسحقها»، كما ان تقدّم الفنون جعل النخب تقوم في المجتمعات فتحتقر العامة، ناهيك بأن التقدم الذي أحرزته الصناعات ولا سيما المعدنية منها كان هو في خلفية سهولة صنع الأسلحة وانتشارها. ويخلص روسو في هذا الكتاب الذي سارت كل فصوله على هذا المنوال من العرض والمحاججة، الى ان التقدّم المادي هو الذي نسف في الحقيقة كل إمكانية لقيام تفاهم حقيقي وصداقة مخلصة بين البشر، بادلاً هذا بكل أنواع الغيرة والخوف والشك. والطريف ان علينا ان نلاحظ هنا ان جان جاك روسو، سبق في منطقه هذا، كتاباً أصدرته مؤسسة فرانكلين الأميركية ذات الارتباط المؤكد بأجهزة الاستخبارات في بلادها، أواسط القرن العشرين وعنوانه «سبعة ضد البشرية». وهو كتاب يقول ان ثمة سبعة من كبار المفكرين في التاريخ الإنساني حققوا في فكرهم وإنجازاتهم من التقدم ما أضر بالإنسانية بدلاً من ان يفيدها. واللافت ان الكتاب لم يذكر بين هؤلاء السبعة، لا مكتشفي الديناميت ولا مخترعي القنبلة الذرية ولا أصحاب مصانع الأسلحة... فمن هم هؤلاء السبعة؟: داروين وگاليليو وكوبرنيك وفرويد وأينشتاين وماركس ناهيك عن روسو نفسه. كيف؟ ببساطة لأن الإنسانية إذ كانت تعيش اوهامها الكبيرة حول نفسها وحول مركزية الكون ونهائية الأحكام والقيم، جاء واحد ليقول ان الأرض تدور حول الشمس وبالتالي لم تعد مقدسة في مركزيتها، والثاني ليقول ان اصل العواطف نزعات جنسية طفولية، والثالث ان الصراعات التي تبدو مقدسة إنما هي طبقية... وهكذا، حتى روسو الذي يتهمه الكتّاب بأنه أكد ان الملكية ليست مقدسة بل ناتجة من جشع اول إنسان وضع سياجاً حول قطعة من الأرض ليقول انها ملكه (العقد الاجتماعي). ترى أفلا تشبه المحاججة الواردة في هذا الكتاب، نظرية روسو حول الطبيعة ونهائيتها في علاقتها بالإنسان، قبل ان تأتي الفنون والعلوم لإفسادها وإفساد حياة الإنسان بالتالي؟
مهما يكن من أمر لا بد لنا من ان نذكر هنا ان جان جاك روسو، وإن كان أصر على التمسك بنظريته الهيبية الطبيعية المبكرة تلك، وإن كان نادى دائماً بالعودة البسيطة إلى الطبيعة، وبإجلال كل ما هو بدائي في الكون على حساب كل ما له ارتباط في الثقافة، لم يبد في كتابه الأساسي الآخر «العقد الاجتماعي» متماسكاً مع أفكاره هذه، إذ ها هو هنا في هذا الكتاب المؤسس في تاريخ الفكر، يقول لنا ان حال الطبيعة يكون ضارياً متوحشاً في غياب القانون أو القيم الأخلاقية... وأنه إذا كان ثمة أناس طيبون صالحون في هذا العالم، فإنما تتأتى طيبتهم ويتأتى صلاحهم من كونهم نتاج الحضور الاجتماعي وضبط العلاقات بين البشر. «في الحالة الطبيعية (يقول روسو) يكون الإنسان في تناحر دائم مع اخيه في الإنسانية. ولأنه سيكون اكثر نجاحاً في مجابهة الأخطار إن هو انضم الى إخوته في البشرية مشكّلين مجتمعاً عريضاً، فمن المؤكد ان تناحر الإنسان مع الإنسان، داخل مثل هذا المجتمع سيكون أقل حيوانية وضراوة». إذاً؟
إن هذا ليس سوى جزء من التناقضات الفكرية التي وسمت حياة جان جاك روسو (1712 - 1778) وأفكاره ومواقفه طوال حياته، هو الذي وضع، في الرد على دالمبير واحداً من اول وأهم الكتب التي تحدثت، مثلاً عن فن التمثيل، ووضع موسوعة موسيقية. على أي حال، لا بأس من ان نشير هنا الى ان نشر كتاب روسو الذي نحن في صدده هنا للمرة الأولى عام حصوله على الجائزة، جعل كثراً يردّون عليه مفنّدين آراءه، ناسفينها من أساسها. وهو رد على معظم هؤلاء فبدا مقنعاً في بعض الأحيان وغير مقنع في احيان اخرى. ومن بين الذين ناقشوه ورد عليهم كان هناك ستانيسلاس ملك بولندا في ذلك الحين، والأب راينال والسيد بورد. وقد حوت معظم ردود روسو على هؤلاء توضيحات بدت احياناً أشبه بتراجع جزئي وتكتيكي عما ورد في حق العلوم والفنون في هذا الكتاب الذي لا يزال له قراؤه المعجبون في أيامنا هذه.
المصادر
- ابراهيم العريس (2010-10-14). "«خطاب حول الفنون والعلوم» لروسو: فيلسوف التنوير مع الطبيعة ضدّ الحضارة". جريدة الحياة اللبنانية.
ملاحظات
وصلات خارجية
- "Discourse on the Arts and Sciences", full text in HTML format, at the Online Library of Liberty.
- The Social Contract & Discourses, 1923 Everyman's Library edition in multiple digital facsimile formats.
http://records.viu.ca/~johnstoi/rousseau/firstdiscourse.htm#t6