جمهورية بو رقرق
جمهورية أبي رقراق كانت وحدة حكومية في غرب المغرب حكمت في القرن السابع عشر. حسب موسوعة بريتانيكا، كانت الجمهورية قاعدة لقطاع الطرق من سلا. تأسست الجمهورية من مدينتي الرباط وسلا.
كان القراصنة الموسومون بالسلاويين في معظمهم إن لم نقل كلهم من الأعلاج المرابطين بسلا لم يكن فيهم أي بحار سلاوي لنزاهة أهل سلا عن اللصوصية البحرية وهي القرصنة.
وقد وصف كثير من المؤرخين البحارة المغاربة بأنهم أقبح من خاض لجج البحار من الأمم والشعوب حتى علق هذا الوهم بأذهان الكثير مع أن ذلك يتنافى مع تطور الأحداث قبل وبعد القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وهو العصر السعدي الذي يمكن أن يعتبر بمثابة حد فاصل في عصر العلائق الطيبة في إفريقيا وأوربا والعصر الذي غمرته الآلة واستغلال الاستعمار الناشئ وهذه الحقيقة تتجلى بوضوح في تاريخ القرصنة بالبحر الأبيض المتوسط فقد حاول مؤرخان اثنان يجمعان بين النزاهة والضلاعة رسم لوحة جلية المعالم عن السمات البارزة التي طبعت نشاط القراصنة الأعلاج وذلك خلال العصور الوسطى وفي غضون فترة قصيرة من العصور الحديثة وهذان المؤرخان هما سيموندي صاحب كتاب (تاريخ الجمهوريات الإيطالية) ولاطري Latrie في مصنفه حول (صلات المسيحيين بالغرب في الشمال الإفريقي) وقد عمد كلاهما إلى دحض الافتراءات المروجة ضد العرب في شأن الفظائع المرتكبة باسم القرصنة البحرية ومما يؤكد ذلك ما رواه المؤرخ بالدوتشي Baldocci Pergolothi من أن المغرب وخاصة سلا – نظرا لضآلة القرصنة – كان الدولة الثانية في حقل التجارة الخارجية العامة والتبادل بين أوربا والعالم العربي وما كانت هذه العلائق لتستقر وتستتب لولا ضمان حظ ولو قليل من السلامة والأمن لاسيما وأن معاهدة أمضيت آنذاك (عام 1323 م) بين تونس واراكون Aragon تعتبر القرصنة نفسها كوسيلة حربية عادية مشروعة وقد لاحظ (لاطري) نفسه أن كثيرا من رجال الملاحة الأسبان والإيطاليين لم يتورعوا عن إدراج النهب في صفقاتهم التجارية.
على أن القرصنة الموصوفة بالعربية أو الإسلامية بالمغرب قد اتسمت أول الأمر بطابع خاص كرد فعل وطني أو سياسي ضد عمليات التعذيب والتحقيق (Inquisition) التي مورست ضد الأندلسيين وضد غزوات الأسبان والبرتغاليين للأراضي الإفريقية وخاصة الجيوب الساحلية المغربية وليس معنى ذلك أن هذه القرصنة لم تنقلب بعد إلى صراع عسكري بما ينطوي عليه من عنوان ونهب.
ولا يمكن أن نفصل تاريخ هذه القرصنة عن حركة الغزو والتمسيح التي نسقت – كما يقول هنري تيراس Terrasse ( في كتابه حول تاريخ المغرب ) – تنسيقا بديعا تحت ظل البابوية حيث أغار الأسبان على شرق المملكة بينما اكتسح البرتغاليون غربها محاولين إقرار حمايتهم على مجموع المغرب ولكن هذه المحاولات ارتطمت بصمود تلقائي تبلور في حركة القرصنة الأندلسية في البحار وفي مقاومة الشعب المغربي في الداخل ومعروف أن الشعب المغربي لم يتوان في خوض كفاح مرير ضد كل المعتدين ولو كانوا من المسلمين لأن صراعه لم يتسم لا بالطابع العنصري و لا بالرغبة في الربح المادي الذي هو شنشنة القراصنة الأقحاح وقد كان حنق الأندلسيين المهجرين إلى منطقة أبي رقراق وغيرها شديدا ضد إسبانيا التي فتكت في ظرف (139) سنة بنحو ثلاثة ملايين من المسلمين واليهود حسب المؤرخ لورانت Lorente في تاريخه النقدي للتعذيب بإسبانيا كما أحرقوا على 1499 م أزيد من مليون مخطوط عربي حسب رواية المؤرخ بيرسكوط Perscott في كتابه حول (فرناندو وإيزابيلا) ولهذا انقلب الأندلسيون المنفيون والمطرودون الذين فقدوا أموالهم وعائلاتهم من جراء هذه الضربات المتوالية إلى مجاهدين كونوا عصابة من القراصنة هاجمت الأساطيل المسيحية في قوة وعنف فتحولت القرصنة البحرية منذ ذاك إلى كفاح وطني وقد أبرز المؤرخ لين بول Lean Pool هذا النوع الجديد من الحرب في كتابه حول (قراصنة إفريقيا).
ومع ذلك أصبحت هذه الأعمال التي كان يرتكبها هؤلاء "القراصنة" مثار قلق بالنسبة للمغرب لاسيما وأن بعض المسؤولية ترجع لأوربا نفسها التي أصبحت تتحدى السلطات المغربية الشرعية فاعترفت لمن يسمون بالقراصنة المغاربة طوال قرنين اثنين بوجود قانوني شبه رسمي وقد كتب (دوكاستر) بحثا قيما حول (تاريخ قرصنة سلا) أكد أن المغرب تمكن من فرض وجوده خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى حد أن الدول المسيحية خطبت وده وحالفته وأدت له جزية ثم علل ذلك بأن أسطولا قرصنيا كان يثير الرعب في المحيط الأطلنطيكي فوجب أن تضمن السفن التجارية المسيحية سلامتها عن طريق المعاهدات والجزيات مع المغرب على أن القرصنة نفسها في حوض أبي رقراق وما والاه كمرسى المهدية هي من آثار الأوربيين أنفسهم لأن ذلك كان مجهولا في المغرب حتى استقر أيام المرينيين وكر قرصني في المعمورة (المهدية) فعظم شأنه واستفحل أمره وكان القائمون عليه أخلاطا من جميع الأمصار فيهم المسيحيون أكثر من المسلمين – كما يقول دوكاستر.
وزاد الأمر استفحالا أن محور التجارة الدولية كان قد انقلب آنذاك من الشرق إلى الغرب على إثر الكشوف البحرية الكبرى حيث أصبح مضيق جبل طارق وهو المركز الاستراتيجي الذي أقامه عبد المؤمن سنة الأخماس (555 هـ) – أقول أصبح المحجة الكبرى فكانت مرسى كل من سلا وتطوان أقرب إلى هذه الطريق الدولية على أن ضعف الدولة وروح التوتر التي كانت تذكي الفئات الأندلسية هي التي حدت كلا من العدوتين بل شقي العدوة الجنوبية (أي القصبة ورباط الفتح) إلى تشكيل (ديوان) أو (مجلس إدارة) من ستة عشر عضوا لمساعدة وال أو قائد منتخب وقد أطلق الأجانب على هذا الديوان اسم "جمهورية" وهو مصطلح غربي دخيل لم تتعرف إليه جماعات الأطلس والجنوب ولا جماعة الأندلسيين التي لم تزد بادرتها هذه على تكوين مجالس لتسيير دولاب الحياة لصالح الفئات المتساكنة كما فعلوا في غرناطة نفسها حيث شكلوا إبان الثورة – آيت الأربعين – على غرار الأطلسين واستغل أهل الدلاء والخضر غيلان هذا الوضع الشاذ لإذكاء نار الشقاق والتطاحن التي استمر أتونها أول الأمر خمس عشرة سنة (1037 هـ - 1051 هـ ) ولعل بعضها قد ورثه المهاجرون الأندلسيون من الخلافات المزمنة التي عرفتها الأندلس منذ العصر الأموي ولم يكن الصراع خاصا بين العدوتين بقدر ما كان أحيانا بين شقي العدوة الجنوبية نفسها وهما القصبة ورباط الفتح فظل السلاويون يمدون القصبة المحاصرة بحرا لأنهم كانوا يجدون في إخوانهم المحصنين في القصبة درعا يدرأ عنهم هجمات الأعداء وخاصة الانجليزوقد أجج الغربيون عوامل التناحر بين العدوتين للاستيلاء على القصبة بدعوى قطع دابر القرصنة من معقلها مدعين أن سلا اقتنصت في ظرف عشرة أعوام أزيد من ألف سفينة مسيحية في حين كانوا يستهدفون تركيز مبادلاتهم التجارية بوضع اليد على مراكز في الشاطئ المغربي للمحيط الأطلنطيكي وقد شعرت المستوطنات الثلاث في العدوتين بالمكيدة الاستعمارية فانصاعت إلى سيادة محمد الحاج الدلاني ممثلا في شخص خليفته قائد سلا الحاج الجنوي ثم ولده الأمير الدلائي عبد الله قائدا أعلى للمنطقة يدعى " أمير سلا " إلى عام (1071 هـ) حيث ثارت العدوتان ضد الدلائيين بانتخاب القائد عبد القادر مرينو على رأس الرباط والحاج محمد فنيش على سلا وهنا انبرى العلويون لجعل حد لهذه الفوضى فاستولى المولى الرشيد على المنطقة عنوة دون إراقة قطرة دم ولا إطلاق رصاصة واحدة لأن الشعب مل هذا الانقسام فانصاع للدولة الفتية فدخلت العدوتان في مرحلة هادئة بعد اضطرابات عارمة تواصلت ويلاتها أزيد من نصف قرن.
وعندما هاجمت سلا اثنتا عشر سفينة فرنسية بقيادة نائب الأميرال ديستري Le Comte d’Estrée وجه المولى الرشيد رسالة (عام 1082 هـ/ 1672 م) (يوجد نصها بخزانة المؤرخ السلاوي ابن علي الدكالي ) يأمره فيها بعدم التفاوض إلا بلسان المدافع (Hesperis, Vol-IX, 1968).
وفي عام (1038 هـ / 1628) أصدر ملك إنجلترا شارل الأول منشورا يحذر أصحاب المراكب الإنجليزية من الاعتداء على أهل سلا وتطوان والجزائر وتونس والضرب على يد المخالفين فتأسست بعد عشر سنوات شركة بارباري Barbary C. الإنجليزية وصادف هذا التاريخ توالي هجرات الأندلسيين إلى المغرب وانتقال بعضهم من مدن داخلية إلى مصبي مرتيل وأبي رقراق وهكذا ازدهرت التجارة الخارجية بمرسى العدوتين حيث وردت عليها عام 1110 هـ / 1698 (أربعون سفينة فرنسية ) واستمرت بها شركات أخرى من (شركة سلا) المؤسسة (عام 1112 هـ / 1700) والواقع أن ميناء سلا أصبح أول ميناء في النصف الأول من القرن الحادي عشر بينما تحول النشاط التجاري في النصف الثاني منه إلى أسفي وكانت العدوتان حافلتين بالتجار الفرنسيين والإنجليز والهولنديين علاوة على سماسرتهم من اليهود فحذا استغلالهم الفاحش للموقف (عام 1082 هـ / 1671) إلى تدخل السلطة العلوية لتعيين وال على العدوتين بجانب قائد المرسى فتزايد عدد السفن الواردة حيث بلغت المراكب الإنجليزية وحدها مائة سفينة سنويا في بعض الفترات ورسوم الجمرك مائتي ألف ليرة ذهبية لاسيما بعد أن اتخذ السلطان محمد بن عبد الله البادرة فأسس بسلا (دار صناعة) جديدة لبناء السفن جلب إليها العتاد من تركيا (عام 1181) هـ كما أنشأ شركات تجارية مشتركة كالتي قامت (عام 1751 هـ) بين المغرب و الدانمرك عززت نشاطها في أبي رقراق مع مينائي أسفي وأكادير وكان هذا النشاط يتعرقل أحيانا بسبب حروب ومشاجرات بين أقطار أوربا كاحتدام الصراع في البحار بين إنجلترا ونابليون على إثر الحصار القاري وترصد السفن الفرنسية للمراكب الإنجليزية في المياه المغربية وظل ازدهار المرسى يتزايد حتى بلغ دخل المبادلات أيام المولى عبد الرحمن عام 1857 ما قيمته 2.294.950 فرنك من الواردات و 1.863.515 من الصادرات و ما بين مليون وأربعة ملايين من قيمة الرسوم الجمركية.
وقد أصبحت العدوتان حاضرتين بارزتين منذ أزيد من ثلاثمائة سنة في ظل الملوك العلويين بإشراف قائدين اثنين مع ثالث مشترك يراقب حركة الميناء وظلت القرصنة في العهدين الرشيدي والإسماعيلي موصولة كحركة دفاعية عن المملكة في البحار دون أي إسهام من سكان العدوتين غير أن المولى محمد بن عبدالله بن إسماعيل ما لبث أن عزز أسطوله بخمسين قطعة يشرف على قيادتها ستون ضابطا يعمل تحت إمرتهم خمسة آلاف بحار وألفان من الرماة معظمهم مواطنون من سلا وباقي الحواضر وعادت (دار الصناعة) بسلا إلى نشاطها في صناعة السفن وكانت قد تأسست في عهد الخليفة يوسف بن يعقوب المريني في باب (المريسة) بسلا وكان أبوسعيد أول من قام ببناء أسطول حربي بها وأضاف لها العلويون أوراشا أخرى قبالة (جامع حسان) بالرباط تزج في المحيط بسفن جهز بعضها بخمسة وأربعين مدفعا وبذلك انصرفت العدوتان عن القرصنة مع الحفاظ على تجارتهما مع أوربا حيث أصبح ميناء أبي رقراق أنشط مراسي المغرب مع مرسى مرتيل بتطوان أما الحاجز الرملي (Barre) الذي أشار إليه صاحب الاستبصار وكان يعوق دخول المراكب إليها فقد اتسع تحت تأثير زلزال وقع في إشبونة عام 1169 هـ / 1753 بعد وفاة المولى إسماعيل بعشرين سنة فأصبح في وسع السفن التي تزيد حمولتها على مائة وخمسين طنا الدخول إلى الميناء فتشكلت آنذاك شركة بربريا للقيام رسميا بصفقاتها وتوافر في المدينتين التجار الإنجليز والفرنسيون والهولنديون مما فسح المجال لتعيين قناصلة أوربيين.
وكان القنصل الفرنسي بوميي Beaumier يلقب مرسى العدوتين بقنطرة المغرب لموقعها على الشاطئ الأطلنطيكي في منتصف الطريق بين مراكش وفاس وقد لاحظ دوازان Doazan هذه الأهمية إذ بالرغم عن الحاجز الرملي (Barre ) فإن البحارة المهرة كانوا يفضلون مرسى العدوتين على مرسى الدارالبيضاء والجديدة وأسفي لسهولة مرابطة السفن آنذاك في أرصفة أبي رقراق والصعوبة الوحيدة التي كانت تعرقل نطور الميزان التجاري في العدوتين هو عدم استقرار لائحة الصادرات بالإضافة إلى قلة اليد العاملة المتخصصة من البحارة ورداءة الأجهزة مما كان يعرض بعض السلع إلى الضياع لاسيما وأن الروح التجارية ونعرة الأرباح كانت تهيمن لدى الأجانب على الصفقات مع الخارج مما دفع السلطان محمدًا بن عبد الله إلى القبض بيد من حديد على التجارة الخارجية والاشتراك مع التجار الأجانب برؤوس أموال لضمان مراقبتهم حفاظا على سمعة المراسي والديوانة المغربية.
وكانت روح التسامح تذكي ملوكنا في تشجيعهم للتبادل الهادئ الوديع حتى ولو بواسطة تجار أجانب يقيمون بمختلف الموانئ غير أن هذه الروح ما لبثت أن انقلبت إلى لوازم معكوسة تحت تأثير سياسة الحيف والاستغلال الأوربية ضد المغرب فلم يسع المولى إسماعيل إلا طرد جميع التجار الأجانب من مراسي المغرب مع تشكيل حامية لأبي رقراق معززة بطبجية من ألفي مدفع مجهزة بستين مهرازا ومائتي مدفع مع برجي (صقالة) و(الصراط) أيام المولى محمد بن عبدالله للحيلولة دون نزول قوات بحرية أجنبية فوق تراب المملكة وانبرى المولى إسماعيل في حركة عارمة حرر فيها طنجة وأصيلا والعرائش والمعمورة من قبضة الغزاة الأوربيين ومنذ العهد الإسماعيلي أصبحت أربعون إلى خمسين سفينة أنجليزية تزور سنويا مرسى أبي رقراق التي احتفظت بنشاطها حتى بعد تأسيس ميناء الصويرة لأن التجار والقناصلة الأجانب ظلوا عالقين بمرسى سلا الأنسب لتجارة الساحل على أن ملوكنا كانوا في حيرة من أمرهم لأنهم كانوا يتمسكون بمبدأ حرية البحار مع ضمان سلامة التجارة الدولية فلم يكن تشكيل مليشية موحدية لمحاربة القرصنة ولا الحصول على جزية في عهد السلطان محمد بن عبد الله لضمان حرية البحار إلا انطلاقا من هذا المبدأ الذي حدا السلطان إلى تقليص نشاط القرصنة وإنشاء أسطول وطني ولو أقل من الأسطول الموحدي لضمان الذب عن المياه والسواحل المغربية بقطع حربية رسمية.
وقد عمد المولى سليمان إلى إقفال مرسى (أنفا) التي أصبحت تسمى منذ المولى محمد بن عبد الله (مرسى الدارالبيضاء) ونقل تجارها إلى ميناء أبي رقراق غير أن اقتصاد المنطقة تقلص بسبب استفحال المجاذبات الدولية وحروب نابليون التي حالت دون وصول السفن الغربية إلى سواحل المغرب وكان الأسطول السليماني المرابط في معظمه بميناء سلا مجهزا بنحو عشرين قطعة اضطر السلطان لأسباب شتى إلى نزع سلاحها من أجل جعل حد للصراع البحري مع أوربا وحاول نابليون آنذاك الضغط على المولى سليمان للانضمام إلى (الحصار القاري) Bloc Continental مهددا تارة باحتلال المغرب وأخرى بالوعد بالمساعدة على تحرير كل من سبتة و مليلية وكان نابليون ينتظر من السلطان مساندته في احتلال مدريد ولكنه صمد في وجه نابليون قائلا في كلمته الخالدة : " إن سبتة ومليلية متاع المغرب لابد من عودتهما إلى المغرب " واتخذ سلطان المغرب نفس الموقف عام 1271 هـ من أمريكا التي طلبت منه الانحياز للدول المحايدة والدخول في الحلف الروسي الأمريكي في (حرب القرم) مقابل إرجاع المدينتين السليبتين سبتة ومليلية فرفض السلطان هذا العرض تضامنا مع الباب العالي بالأستانة كما رفض من قبل مشاركة نابليون في احتلال مدريد عاصمة الأسبان وقد تعزز هذا الضغط الفرنسي على المغرب بقنبلة الأسطول الفرنسي قبل ذلك بثلاث سنوات عام (1268 هـ/ 1851 م) لمدينة سلا بدعوى الثأر لهجوم مراكبها على سفينة فرنسية وتلقت الرباط آنذاك إنذارا بعدم التدخل ولكن مدافع القصبة لم تكن لتتأخر عن نجدة إخوتها بالعدوة الشمالية مما اضطر الأسطول الفرنسي إلى الإقلاع في نفس الليلة وكانت إنجلترا تلعب وراء الستار ضد فرنسا دعما لتجارتها التي بلغت حصة الأسد في العدوتين حيث تكدست واردات أنجليزية من القطنيات والحرائر والصوفيات والفولاذ والنحاس والحديد والسكر والشاي ارتفعت قيمتها من مائة ألف فرنك عام (1266 هـ / 1849 م) إلى 4.158.465 فرنك عام (1274 هـ/ 1857) وقد دخلت إلى الميناء في نفس السنة ست وثمانون سفينة مجموع حمولتها 6.684 طنا أربعون منها فرنسية وإحدى وعشرون برتغالية وثمان عشرة إنجليزية وتسع سفن أسبانية وقد وصف القنصل الفرنسي مرسى العدوتين آنذاك بأنها تشكل مركزا اقتصاديا من الدرجة الأولى وقد دخل في نفس العام عنصر جديد في واردات أبي رقراق هو (البترول) كعنوان على اتجاه المغرب نحو التطور وقد تضاعف عدد البواخر الراسية في الميناء ثلاث مرات (102 بدل 31) في ظرف ربع قرن (بين 1282 و 1309) وهكذا تبلور الاقتصاد السلوي بفضل توفر المنطقة على عناصر الازدهار الزراعي والصناعي معا كزراعة القطن حيث وصف ابن الخطيب مدينة سلا في مقامته (وهي معيار الاختيار) التي رد عليها المؤرخ السلوي اللامع محمد بن علي الدكالي في كتابه (إتحاف الملا) بأنها "معدن القطن والكتان" كما وقع العثور عام (1048 هـ/ 1638) على معدن القصدير قرب سلا على مرحلة من الرباط وهو أجود وأوفر من معدن إنجلترا وقد تم تطوير هذا المنجم عام 1941 في مركز طول دائرته ثمان مراحل تعطي 50 % منها كما تأسست (ملاحات) في المنطقة لإمدادها بما عرف آنذاك بالذهب الأبيض وهو الملح الذي قال عنه قنصل إنجلترا آنذاك بالمغرب بأن أملاحه كافية لاستهلاك مجموع الإنجليز.
أما الغابات فإنها تغطي في زمور والسهول وزعير مساحة قدرها حوالي 250.000 هكتار مربع. وبخصوص الصناعة التقليدية أدرج ماسينيون مدينة سلا في الإحصاء الذي قام به عامي 1923 و 1924 حول حناطي المحترفين والتجار في سبع مدن أسفر تحقيقه عن وجود نسبة من رجال الحرف فبلغ نصف مجموع سكان كل مدينة وكانت الحرف منظمة في سلا وغيرها في شكل حناطي تتمتع بحرية كاملة ونظام دقيق وكانت العدوتان تتكاملان مما أدى إلى إنتاج مشترك جعل منهما أيام المولى عبدالرحمن بن هشام المركز الثالث في ضخامة الإنتاج بعد مراكش وفاس حيث انتجتا معا 840 زربية صدر ثلثها إلى الخارج و63.200 حايك و460.000 سبنية و مآت المنسوجات وستمائة ألف آنية فخارية كل سنة وبلغ عدد مصانع الزرابي بهما خمسين معملا أما ورشة بناء السفن فهي (دار الصناعة) التي أنشأها بسلا المهندس الغرناطي والوزير محمد بن علي بن عبدالله ابن الحاج (عام 714 هـ / 1315) وقد تركز جانب من النشاط التجاري الخارجي السلوي في فندق (سكور) بحومة باب حسين بسلا وهو اسم أطلق على مارستان أبي عنان في طالعة سلا قرب المسجد الأعظم. وفي آخر أيام المولى عبد الرحمن استحالت العدوتان إلى مركز صناعي من الدرجة الأولى حيث بلغ العمال المغاربة في المدينتين أربعة ألاف والصناع ثلاثة آلاف من ستين ألفا من السكان وكان المولى عبد الرحمن قد طور الاقتصاد والفلاحة في مجموع المغرب فبلغت ثروة المغرب في عصره رقما قياسيا وصل إلى أربعين مليون رأس غنم واثني عشر مليون رأس معز وستة ملايين من البقر ولعل تمسك العدوتين بروحهما الوطنية واستماتتهما في الذب عن مصالح البلاد هي التي أدت إلى هذه النتيجة وحدت الأجانب من القناصل والتجار وخاصة القنصل الفرنسي شينيي Chenier والراهب كودار إلى اتهامهم بالتعصب الديني وبالعداء للمسيحيين.
وقد اتهم العلويون دعما للفلاحة والنمو الديموغرافي بالمنطقة بتوفير مياه السقي والشرب حيث نقلوا ماء الفوارات (قرب القنيطرة) إلى سلا ومنها إلى الرباط بعد أن كان عبد المومن بن علي قد أجرى إليهما (عين غبولة) في سرب تحت الأرض وقد ازدهرت الزراعة في حوز سلا الذي كان يحتفل بعادة أندلسية هي العنصرة الواقعة بأن الانقلاب الصيفي يوم 24 يونيه من كل سنة.
وهكذا سجل التاريخ لحاضرة سلا وأهلها امتيازات خاصة في جميع الحقول. ومن رؤساء السلاويين المرموقين علي عواد أيام المولى محمد بن عبد الرحمن وكذلك الريس قنديل علاوة على أمير البحر عبد الله بن عائشة في عهد المولى إسماعيل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مراجع
تاريخ الضعيف ص 177 – تاريخ تطوان – داود ج 2 ص 181
تاريخ تطوان ( محمد داود ج 1 ص 222)
(دوكاستر _ العلويون ج 5 ص 363)
دوكاستر – سلسلة 2 - الفلاليون م 6 ص 99 عام 1960
- ^ Coindreau 2006, p.43-44
- ^ Barnaby Rogerson, « The Sallee Rovers », in travelintelligence.com
- ^ أ ب Maziane 2007, p.116
- ^ (in فرنسية) Leïla Maziane, « Salé au XVIIe siècle, terre d’asile morisque sur le littoral Atlantique marocain », in Cahiers de la Méditerranée, no 79, 2009