جان-باتيست گروز
جان-باتيست گروز Jean-Baptiste Greuze (و.21 أغسطس 1725-4 مارس 1805) كان مصوراً فرنسيا.
صنع جان-باتيست جروز بفرشاته ما صنعه روسو وديدرو بقلمهما؛ إذ أضفى على ألوانه إشراق العاطفة، وجعل نفسه "آيليز" البرجوازية. فالعاطفة أسعد من التكلف والصقل، وليست ضحلة مثلهما، وعلينا أن نغفر لجروز رؤيته الجوانب السارة من الحياة وتصويرها، وحبه لوثب الأطفال المرح؛ وبراءة البنات الجميلات الهشة، والقناعة المتواضعة لبيوت الطبقة الوسطى. فلولا جروز وشاردان لتوهمنا أن فرنسا كلها كانت منحطة فاسدة، وأن دوباري كانت نموذجها، وأن فينوس ومارس كان ربيها الوحيدين. أما الحقيقة فيه أن الأشراف هم المنحطون، وأن لويس الخامس عشر هو الفاسد، وأن الأرستقراطية والملكية هما اللذان سقطا في الثورة. أما جماهير الشعب-باستثناء رعاع الريف والمدن-فقد احتفظت بالفضائل التي تنقذ أمة من الأمم، وقد صورها جروز وحيا ديدرو شاردان وگروز، لابوشيه وفراگونار باعتبارهما صوت فرنسا وسلامة روحها.
ويروى عن هذا الفنان في شبابه ما يروى عادة من قصص عن شباب الفانين: أراد أن يرسم، فمنعه أبوه ظناً منه بأن هذه الرغبة ليست سوى ستارا للكسل، وكان الغلام يتسلل من فراشه ليلاً ليرسم الصور، فلما وقع بصر أبية على صورة منها لانت قناته فأوفده ليدرس على يد مصور في ليون. ولم يطل رضاء جان-بابتست عما استطاع أن يتعلمه هناك فيم شطر باريس. وعمل فترة في الفقر الذي تمتحن به الموهبة الشابة. وكان محقاً فيما بعد في إبراز الجانب الأفضل في الناس، لأنه وجد كما يجد معظمنا الكثير من العطف مختلطاً بما في الدنيا من عدم مبالاة وانشغال عن الموهبة. وحوالي عام 1754 أشترى جماع للفنون يدعى لاليف دجوللي صورة رسمها جروز تسمى "رب الأسرة" (وقد استعمل ديدرو هذا العنوان ذاته لتمثيليته الثانية عام 1758) وشجعه على مواصلة التصوير. ورأى الفنان الذي كان يعلم التصوير للأسرة المالكة صورة بريشة جروز، فرشحه للأكاديمية. ولكن كل مرشح كان ينتظر منه أن يقدم خلال ستة أشهر رسماً لمشهد من مشاهد التاريخ. ولم تكن هذه المشاهد التاريخية مما يوافق مزاج جروز فترك حقه في الترشيح يسقط، وقبل ما عرضه الأبيه جوجنو من تمويل رحلته إلى روما (1755).
وكان قد بلغ الثلاثين، ولابد أنه أحس قبل ذلك بزمن بسحر الأنثى، أو ليس نصف الفن نتاجاً جانبياً لتلك القوى القاهرة؟ وقد خبرها في روما خبرة أورثته تباريح الجوى. ذلك أنه عهد أليه بتعليم الرسم لليتتيا، ابنة أحد الأدواق، وكانت في ميعة الصبا، فما الذي يستطيعه إلا أن يقع في غرامها؟ وكان مليح الصورة، له شعر مموج ووجه بشوش متورد وكان زميله في الطلب فراگونار يلقبه "الملاك العاشق" أنظر في اللوفر إلى صورته التي رسمها لنفسه في شيخوخته، ثم تخيله وهو في الثلاثين. ولم يكن مناص من أن تلعب ليتتيا حميا الشباب الذي لا يعبأ بالمال، دور إلواز أما هذا الأبيلار، باستثناء الجراحة. ولم يستغل ضعفها، وعرضت عليه الزواج: وكان يهفو إليه، ولكنه أدرك أن زواج فنان فقير بوارثة دوق سيقلب بعد قليل مأساة للفتاة. وإذ كان غير واثق من قدرته على السيطرة على نفسه فقد عقد النية على ألا يراها ثانية. فمرضت، وزارها وسرى عنها، ولكنه عاد إلى تصميمه. ويؤكدون أنه ظل ثلاثة أشهر يلزم فراشه بحمى وهذيان متكرر(56). وفي 1756 قفل إلى باريس دون أن يتأثر إطلاقاً بالفن الكلاسيكي أو الإحياء الكلاسيكي الجديد.
يقول "بعد وصولي إلى باريس اتفق أن مررت-ولا أدري أي قدر دفعني إلى هذا-بشارع سان-جاك، حين لحظت الآنسة بابوتي خلف منضدتها(57)". وكانت گاربييل بابوتي تعمل في مكتبة، وكان ديدرو يشتري كتبها و"يحبها كثيراً" (على حد قوله) قبل ذلك بسنوات. وكانت الآن (1756-57) قد تجاوزت الثلاثين (كما يقول جروز) تخشى أن تظل عانساً: فوجدت جان-بابتست غير ميسور الحال ولكنه حلو. وبعد أن زارها بضع مرات قالت له "يا مسيو جروز، أتتزوجني أن رضيت بك زوجاً؟" وأجاب كما يجيب أي فرنسي مهذب "يا آنسة، ألا يكون أي رجل غاية في السعادة إذا أنفق حياته مع امرأة ساحرة مثلك؟" ولم يفكر في الأمر أكثر من هذا. ولكنها تركت الجيران يفهمون أنه خطيبها. ولم يطاوعه قلبه على تكذيبها، فتزوجها وظلا. سبع سنين ينعمان بقسط معقول من السعادة. وكانت ذات جمال مغرٍ، فاستخدمها راضية موديلاً في كثير من الأوضاع التي لم تكشف عن شيء وإن ألمعت لكل شيء. وأنجبت له في تلك السنين ثلاثة أطفال عاش منهم اثنان كانا إلهاماً لفنه.
ويعرفه العامل بصور الأطفال التي رسمها. وعلينا ألا نتوقع هنا روعة لوحة ڤيلاسكويز "دون بلتازار كارلوس"(68). أو لوحة فان ديك "جيمس الثاني صبياً"(59)، لا بل إنا أحياناً قد نصطدم بما في بنات جروز من غلو وتهافت في العاطفة، كما تشهد بذلك "صورة عذراء" المحفوظة ببرلين، ولكن لم نرفض ما في صورة "البراءة"(60) من خصل متموجة، وخدود متوردة، وعيون فيها الحزن والثقة، أو ما في لوحة "الفلاحة الصغيرة"(61) من بساطة لم يفسدها التبرج؟ كذلك لا نجد تكلفاً في لوحة "الغلام وكتاب الدرس"(62)، فهي تصور أي غلام مل واجباً يبدو له مقطوع الصلة بالحياة. ومن بين 133 لوحة بقيت من رسوم جروز، اختص البناي بست وثلاثين. وقد اشترى يوهان گيورگ فللي، الحفار الألماني نزيل باريس. ما استطاع شراءه من هذه الصور المثالية للطفولة، ورآها "أثمن من أروع صور هذا العهد(63)" ورد جروز هذه التحية بتصويره السكسوني غير الجذاب مثالاً للفحولة. على أن هؤلاء الفتيات يشوبهن التكلف والصنعة إذ يكبرن في فن جروز. مثال ذلك أن "اللبانة(64)" تبدو في أبهى لباس كأنها تتأهب للذهاب إلى المرقص، وصبية "الجرة المكسورة(65)" لا داعي (إلا داعي الجمال) يدعوها للكشف عن حلمة ثديها وهي في طريقها من البئر. ولكن في صورة لصوفي أرنو(66)، وتبدو القبعة ذات الريش، والوقفة الأنيقة، والشفاه القرمزية، كلها طبيعية.
لقد كان جروز أشبه بشاردان صغير فيه مسحة من بوشيه، رجلاً معجباً حقيقة بالفضيلة وبحياة الطبقة الوسطى، ولكنه يكسوها بين الحين والحين إغراءً شهوانياً كان شاردان يتجنبه. وكان في استطاعة جروز إذا نسي أجساد نسائه أن ينشد في صورة أنشودة الحياة العائلية البرجوازية، كما نرى في "عروس القرية(67)" التي ظفرت بأكبر جائزة حين عرضت في آخر أسبوع لصالون 1761، وأصبحت حديث باريس. وأطرها ديدرو لما فيها من "عاطفة حلوة" وأشاد بها "مسرح الإيطاليين" إشادة لم يسبق لها نظير، إذ قدمها في "لوحة حية" على المسرح. وقد وجد الخبراء فيها عيوباً-من ضوء لم يحسن المصور التصرف فيه، إلى ألوان متنافرة، إلى قصور في الرسم والتنفيذ، وضحك الأرستقراطيون على ما فيها من غلو في العاطفة، ولكن جمهور باريس، الذي كان قد عب في الزنا حتى الثمالة، وأبكته في هذه السنة بعينها "جولي" روسو، كان في مزاج يدعوه لاحترام النصائح والتحذيرات الخلقية التي كادت تسمع من فم والد العروس إلى زوجها الموعود. وكانت كل عقيلة من عقائل الطبقة الوسطى عليمة بمشاعر تلك الأم وهي تسلم ابنتها لمشاق الزواج ومخاطره، وكل فلاح كان يشعر بأنه ليس غريباً في ذلك الكوخ الذي تنقر فيه دجاجة وأفراخها الغلة على أرضه أو تشرب في اطمئنان من القدر التي تحت قدم الأب. وأشترى مركيز دمارينيه الصورة لفوره، ودفع الملك فيها بعد ذلك 16.650 جنيهاً ليحول دون بيعها بالخارج. وهي اليوم محفوظة بإحدى حجرات اللوفر التي لا تحظى بزوار كثيرين، وقد أتلفها تغير ألوانها السطحية جداً، وغض الجمهور من قدرها في غمرة تمرد الواقعية والكلبة على العاطفة المتفائلة.
وأحس كل فناني باريس تقريباً بأن جروز حط من شأن الفن لأنه سخره للوعظ من خلال الروايات والقصص بدلاً من كشف الحقيقة والطبائع بنفاذ بصيرة وعدم تحيز. ودافع عنه ديدرو قائلاً إنه "أول فنانينا الذي أضفى الخلق على الفن، وهيأ صوره لتروي قصة(68)" وبلغ به الأمر حد الدهشة والتعجب من المآسي الرقيقة التي رسمها جروس، فصاح في أسى "لذيذة! لذيذة!" حين رأى لوحة "الفتاة الصغيرة تبكي على عصفورها الميت" وكان هو نفسه يدعوا لمواضيع الطبقة الوسطى ومشاعرها في الدراما، فآنس في جروز حليفاً عظيم القيمة وأطره حتى فوق إطرائه شاردان. وغلا جروس في تصديقه، فكرر نفسه كأنه رسول الفضيلة والعاطفة، وأرسل إلى مجلات باريس شروحاً طويلة للدروس الأخلاقية في الصور التي كان ينتجها. وأخيراً استنزف ترحيب جمهور الفن به حتى إبان تسلط العاطفة على مزاج العصر.
وكان خلال فترة السنوات الأثنتي عشرة كلها منذ قبول ترشيحه للأكاديمية قد أهمل أن يقدم لها الصورة التاريخية التي كانت شرطاً للعضوية الكاملة، وكانت الأكاديمية ترى أن الصورة التي ترسم المشاهد المألوفة التي تصف الحياة البيتية أو اليومية تتطلب من الموهبة الناضجة أقل مما يتطلبه التأليف القادر على التخيل، والتمثيل الكفء لمشهد من المشاهد التاريخية، ومن ثم قبلت مصوري مشاهد الحياة اليومية على أنهم "مقبولون Agr(es" فقط، ولكنهم ليسوا بعد صالحين للدرجات أو الكراسي الأكاديمية. وفي 1767 أعلنت الأكاديمية أن صور جروز سيتوقف عرضها في الصالون البينالي حتى يقدم لها صورة تاريخية.
وعليه ففي "29 يوليو 1769" قدم جروز صورة لسبتميوس سفيروس يوبخ ابنه كراكالا لمحاولته اغتياله(69). وأطلع أعضاء الأكاديمية على الصورة، وبعد ساعة أبلغه المدير أنه قبل، ولكنه قال له: "سيدي، لقد قبلت في الأكاديمية مصوراً للمشاهد اليومية. وقد أخذت الأكاديمية في الاعتبار تفوق صورك السابقة، وأغمضت عينها عن الإنتاج الحالي غير الجدير بها ولا بك(70)". وصدم جروز، فدافع عن لوحته، ولكن أحد الأعضاء بين الأخطاء في الرسم. وأحتكم جروز إلى الجمهور في خطاب لصحيفة "الأفان-كورييه" (25 سبتمبر 1769)، وأخفق شرحه في إقناع الراسخين في الفن، وحتى ديدرو سلم بعدالة النقد.
وألمع ديدرو إلى أن قصور اللوحة راجع إلى أن فشل المصور في زواجه شوش ذهنه. واتهم جابرييل بابوتي بأنها تردت إلى درك المرأة المشاكسة المغرورة، فاستنزفت مال زوجها بإسرافها؛ وأرهقته بمضايقاتها؛ وحطمت عزة نفسه بخياناتها المتكررة(71). وقدم جروز نفسه لرئيس الشرطة (11 ديسمبر 1785) شهادة خطية يتهم فيه زوجته باستقبال عشاقها بإصرار في بيته ورغم احتجاجاته. وفي خطاب لاحق اتهمها بسرقة مبالغ كبيرة منه، وبمحاولة "تحطيم رأسي بمبولة(72)". وحصل على انفصال شرعي، وأخذ ابنتيها في حضانته، وترك لها نصف ثروته ومعاشاً سنوياً قدره 1.350 جنيهاً.
وتدهور خلقه إثر هذه اللطمات، فبات يضيق بأي نقد، وفقد كل تواضع في الإشادة بلوحاته. على أن الجمهور وافقه على اعتزازه بنفسه، فأقبل على مرسمه وأثراه بشراء صوره، والنسخ المطبوعة منها. واستثمر هو مكاسبه غي سندات حكومية، ولكن الثورة أطاحت بقيمة هذه السندات، وألقى جروز مملقاً، في حين انهارت سوق صوره الممثلة للسعادة والسلام البيتين نتيجة "لاستغراق فرنسا في العنف الطبقي، والهياج السياسي، ورد فعل الكلاسيكية الجديدة". وأنقذته الحكومة الجديدة إنقاذاً معتدلاً (1792) بمعاش قدره 1.537 جنيهاً، ولكن سرعان ما نفذ هذا المعاش فالتمس سلفة، وجاءت امرأة من الرعاع تدعى إنتيجون لتعيش معه وتعنى بصحته المتدهورة. فلما قضى نحبه (1805) كان العالم كله تقريباً قد نسيه، ولم يرافق جثمانه إلى القبر سوى فنانين اثنين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التأثرات
من ناحية أخرى أنجز غروز لوحات عدة للوجوه التي تظهر تأثره بعدد من الفنانين العظـام أمثال: ميكلانجلو وبوسان Poussin ودافيد David، وقد تطرق سان-أوبان Saint- Aubin إلى تأثير بوسـان في موضـوع لوحة «موت أب وحزن أولاده عليه» المحفوظة في متحف ستراسبورگ Strasbourg، فكان أقرب لبوسان منه إلى الكلاسيكيين الجدد أمثال دافيد وأنغر Ingres.
والحقيقة أن اللوحات ذات الطابع التاريخي التي صورها غروز بين عامي 1767ـ 1769 تمتاز بدقة التصوير وقتامة الألوان، وحيوية الحركة المشفوعة بنوع من التوتر في التعبير، بينما يسيطر المناخ الدرامي على لوحته: «اللعنة الأبوية والابن الضال» 1777ـ 1778 متحف اللوفر.
حظي غروز في حياته بشهرة واسعة ونجاح متألق بفضل لوحاته ولجوئه إلى الصحافة للدعاية لأعماله، ولاسيما لوحته «الجرة المحطمة» المحفوظة في متحف اللوفر، كما شغف البلاط الروسي بأعماله التي أظهرت موهبته المتميزة في تصوير الصور الشخصية (البورتريه) منذ بداية حياته الفنية لذلك انتشرت لوحاته في معظم المتاحف العالمية.
انظر أيضاً
المصادر
ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
| Jean-Baptiste Greuze
]].- Normand, J. B. Greuze (1892).
Emma Barker, Greuze and the Painting of Sentiment (Cambridge: Cambridge University Press, 2005). ISBN 0-521-55508-6.